ظلَّتْ حكايات »ألف ليلة وليلة« نصاً مفتوحاً، بمعنى أنه غير مكتمل اكتمالاً نهائياً، وقابلاً للإضافات المستمرة، والحذف، وإعادة الصياغة والتوجيه، على مر القرون، ذلك إنه نص جماعي هجين مصادره من ثقافات متعددة، وقادر على استقبال المزيد من عناصر هذه الهجنة لتعزيز هويته الثقافية والفنية المفتوحة، ذلك أنه نص نشأ أساساً من تداخل الثقافات والجغرافيا الفنية والاجتماعية التي تتلاقح في متونه مواصلاً رحلة سلالية تتسع خريطتها في تقدمها من الشرق حتى الغرب. فمنذ مصادر الحكاية المركزية الأولى ذات الجذور الهندية فالفارسية الممزوجة بجرعة هنلستية في القرن السابع الميلادي، اتجهت جغرافيا الحكايات نحو وادي الرافدين، وتمركزت على نحو خاص في بغداد ذات الهوية العباسية التي احتفظت بشيء من بلاغة أدبية عربية تعود للقرن التاسع حتى العاشر والحادي عشر الميلاديين، وعبرت من آسيا إلى أفريقيا العربية، بوصولها إلى وادي النيل لتضفي على هذه المرحلة على النص نكهة أقرب إلى الشعبية لغة ووقائع وشخصيات مستمدَّة من أجواء مصر المملوكية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلادي.
لكن عبور الحكايات نحو أوروبا لم يخلُ من إضافات وصفت بأنها منتحلة! في الوقت الذي بقيت فيه ما يفترض إنها حكايات أصلية، مجهولة المؤلف ومتعددة المصادر والثقافات.
فالنص الذي ذكره المسعودي (957 م) في «مروج الذهب» هو بالتأكيد ليس النص الذي نقرأه الآن.
فقد قام الفرنسي انطوان غالان بترجمة حكايات »ألف ليلة وليلة« قبل أكثر من قرن من نشر المستشرق الألماني ماكس هابشت (1775 – 1839 م) أول نص عربي «لألف ليلة وليلة» في أوروبا.
لذلك بقيت المصادر العربية الأصلية لبعض الحكايات غامضة لوقت طويل، وكان اللافت أنَّ ثمة ست عشرة حكاية في كتاب غالان، لم ترد في نشرة «هابشت» ولا في أي مدوَّنة عربية معروفة في ذلك الوقت، وهو ما دفع المختص في دراسة المصادر الأصلية للحكايات الدكتور محسن مهدي في كتابه عن الأصول العربية لألف ليلة وليلة إلى التشكيك بصحة انتماء تلك القصص الست عشرة لألف ليلة وليلة، بل إنها وصفها بالملفقة «وليس لها أية قيمة! إذ لا دليل على أن لها مصادر عربية»
بيد أن مخطوطة متأخرة، تعود للقرن الثامن عشر، اكتشفها الفرنسي جيروم لانتان في مكتبة الفاتيكان عام 1993. كشفت الحلقة المفقودة في الليالي العربية بين الشرق والغرب. وبين العصور العباسية والعصور المتأخرة. وهي تمثل الجرعة الأخرى في السردية النمطية للحكايات القابلة لاستقبال مزيد من الرواة والشخصيات ولكن بشروطها الصعبة وسحريتها الغامضة. وتكشف المخطوطة كذلك للمرة الأولى عن الاسم الكامل للحكواتي السوري: «أنطوان يوسف حنا دياب»
هذه المخطوطة النادرة كان قد أهدى نسختها الوحيدة قسٌّ حلبي إلى مكتبة الفاتيكان عام 1926، وصدر بالفرنسية عام 2015 عند دار »سندباد-آكت سود« وقامت الفرنسية ذات الأصول السورية الحلبية أيضاً «بولي فحمة» بتحقيقه وترجمته بالاشتراك مع «برنار هيبرغي» بينما نشرت المخطوطة بنصها العربي الأصلي هذا العام 2017 بعنوان: «حنا دياب: من حلب إلى باريس» عن (دار الجمل/بيروت) بتحقيق محمد مصطفى الجاروش وصفاء أبو شهلا جبران.
السوري حنا دياب إذن الذي رأى فيه بورخيس بأنه »المؤلف الخفي« والغامض لحكايات غالان هو المصدر العربي المغمور لتلك الحكايات الست عشرة المضافة في كتاب غالان، وأشهرها «علي بابا» و»علاء الدين والمصباح« وفي هذه المرحلة تبرز الشخصية السردية «مرجانة» في مقابل الشخصية السردية التقليدية شهرزاد، وهكذا دخلت أنثى أخرى راوية للحكايات. لكنَّ الراوي في كلتا الحالتين ذكر، على الأرجح، تخفى في شخصية أنثى!
قد لا يكون دياب المؤلف الأصلي لتلك الحكايات، فهو يقول في كتابه إنه روى لغالان قصصاً يعرفها. مما يشير إلى أنها كانت متداولة شفاهيا في سوريا وفي حلب تحديداً، وإن لم يكن هناك أي أثر مكتوب قبل ما دوَّنه غالان في ترجمته للحكايات الستة عشرة المضافة. لكننا بالتأكيد إزاء أقدم مصدر معروف لهذه الحكايات حتى الآن.
في رحلته التي خصص لها كتابه، يكشف دياب عن لقاءاته المتكررة بغالان في باريس، وتزويده بالحكايات. ويصف غالان بأنه رجل عجوز يبحث عن تتمة لحكايات ألف ليلة وليلة. كان غالان في منتصف العقد السادس من عمره. أما دياب نفسه فقد كان شاباً في العشرين.
يوميات غالان نفسه وتحديداً تلك الواقعة ما بين آذار 1709 وكانون الثاني 1710، وهي فترة وجود دياب في باريس. نشرت كملحق في الكتاب بترجمة شكير نصر الدين وهي تكشف أن الراوي الأصلي للحكايات المضافة على الليالي في ترجمة غالان هو حنا دياب، وإن المستشرق الفرنسي قام بترجمتها بعد أن سمع بعضها من الراوي شفاهاً أو تسلم بعضها الآخر منه مخطوطة كاملة. فدوِّن في يومياته ملخصات لتلك القصص التي سمعها شفاهياً، ومن الواضح من الاختزال في تلك التلخيصات أنه دوَّنها على عجل خشية النسيان على أن يعود لها لاحقاً. لكنَّ اللافت أن قصة «علاء الدين والمصباح السحري» سلَّمها له دياب مخطوطة، وقام غالان بترجمتها بعد سنة من ذلك!
إذ يكتب الأخير في يومياته بتاريخ 10 يناير 1710 ما يلي: «أنجزتُ ترجمة الجزء العاشر من ألف ليلة وليلة عن النص العربي الذي وصلني على يد حنَّا أو جان الدّيبي الذي جاء به السيد لوكا إلى فرنسا عند عودته من رحلته الأخيرة إلى الشرق. كنت قد بدأت هذه الترجمة شهر نوفمبر ولم أكن أشتغل عليها سوى في المساء»
لكن ما تلك الرحلة إلى الشرق التي يتحدث عنها غالان وما هي خلفية هذا الرجل الذي صحبه معه الرحالة المستكشف الباحث عن النفائس؟
كان بول لوكا أحد مبعوثي لويس الرابع عشر الذين أرسلهم لجمع التحف النفيسة من مجوهرات ومخطوطات، ولقى آثارية، من الشرق ويبدو أن التحفة الأغلى التي جلبها معه كان ذلك الماروني من حلب. هذا الحكواتي السوري الذي قفز لنا فجأة، من تاريخ مطمور، كما لو أنه شخصية من شخصيات ألف ليلة وليلة.
تبدأ المذكرات، التي فقدت خمس أوراق من مستهلها، من ذهاب حنّا لأحد الأديرة المارونية لكي يترهبن، لكنه سرعان ما شعر بنفور من حياة الأكليروس في اللحظة التي ارتدى فيها ثياب الرهبان. فهو لم يخلق للعزلة والاعتكاف والزهد، لكنه مخلوق للانفلات والمغامرة وحياة الاستكشاف. من هنا كان لقاؤه ببول لوكا مصيرياً، فالرحالة الفرنسية يعاني من مشكلة اللغة، فطلب من الماروني الحلبي أن يكون مترجماً له في رحلاته مع وعد بأن يجد له مكاناً للعمل في قسم الكتب العربية بالمكتبة الملكية باريس، حيث نفهم أنه كان يجيد القراءة والكتابة بالعربية والفرنسية. وهنا استشعر حنَّا الذي ترك الدير لكي (يسوح في الدنيا وبتفرَّج) أنه وجد بوصلته وشراعه وهكذا التقى الحكواتي السوري بالرحالة الفرنسي يجمعهما الشغف بالمغامرة، فعبرا معاً إلى «جسر الشغور» في أدلب فطرابلس فصيدا بلبنان. حيث تبدأ من هناك رحلته إلى أوربا التي يرويها لنا بسرد يجمع بين التشويق والمغامرة، وهو ما يؤكد أنَّ إسهامه في رواية أو كتابة النصوص لغالان أساسي وحقيقي، فالكتاب ينطوي على خبرة حكواتية ومهارة في السرد وأصوله، وقدرة تعبيرية والإمساك بالحدث رغم تشعباته، كما أن استخدام اللهجة العامية، بل قُلْ «اللغة الهجينة» بين الفصحى والعامية المحلية، العربية والوافدة، في كتابة المذكرات سمة أخرى تمنح الكتاب أهميته، لكن أية عامية استخدمها؟ إنها ليست مجرد «لهجة» مدينته، أو طائفته، لكنها لغة عصره المفتوح على قواميس عدّة كما على ولاءات واستقطابات وصراعات شتى، ذلك أن الرحلة نفسها وإن هيمنت على روايتها لغة وسيطة بين العامية والفصحى، إلا أنها جمعت في هجنتها الثقافية لغات السفر والعصر كلها من عربية إلى عامية سورية، تشمل الحلبية والشامية والبيروتية، إلى التركية والفرنسية والإيطالية. مما أسهم في جعل الشخصيات تتحرك في زمنها وثقافة عصرها تماماً، حتى لتشعر وأنت تقرأها بأنك تعود شعورياً وتذوقاً إلى زمن كتابتها، وهي تمثل بهذا المعنى صورة نموذجية للأدب الشعبي في تلك الفترة، تنعكس فيها تفاصيل ممتعة من لهجات، وعادات وأزياء ونمط معيشة، ومطابخ، في نص أدبي مشحون ببلاغة الحياة، وليس بالمعرفة، ويصدر عن الثقافة العضوية، لا الذهنية. إضافة إلى البراعة التصويرية للمؤلف ودقته المدهشة في استعادة التفاصيل رغم مرور أكثر من نصف قرن عليها. فهو يتذكر لون القميص والقنباز وحتى الزنَّار والْمَدَاس! التي ارتداها أول مرة عند محاولة ترهبنه الفاشلة. قبل أن يفرَّ منها فراراً بعيداً في رحلة سندبادية مثيرة، لينجز لنا عملاً لافتاً تمتزج فيه الفكاهة بالمأساة، في تكوين تناظري مبني بعناية وحيثما اقتضى الحال. بل أن حياته وأسفاره، بالتحديد، ما بين أهوال البر وأنواء البحر والقراصنة والرياح تشبه إلى حد بعيد تلك المغامرات السندبادية المأثورة، حيث يصادف الأهوال في البحر والغرائب والعجائب في البر، ويروي عن احتيال باحتيال مضاد، بنزعة الشطارة والعيارة المعهودة في الحكايات الأثيرة في النص… الخ.. ولذا يبدو استنتاج التقديم، بأن في القصص التي رواها دياب لغالان شيئاً من حياته، لهو شيء معقولٌ، إذ تظهر لنا المذكرات حنا الشاب قلقاً محتجاً على مصيره باحثاً عن حياة بديلة في مكان آخر دائماً. ليس المكان بالمعنى الجغرافي فحسب، وإنما بمعنى «اليوتوبيا» التي لا يسعها أي مكان محدَّد.
هذه المذكرات كتبها دياب بعد مرور أربعة وخمسين عاماً، حين كان في الخامسة والسبعين، ولذا فهي ليست تدويناً لحالة راهنة، وإنما تظهير لتجربة مستبطنة، انتقلت من زمنها التاريخي الجماعي لتحل في الزمن الفني الشخصي، إنه العجوز الذي يروي عن الفتى وكأن كلاً منهما شخصية أخرى، وهكذا يخرج الفن من الذاتي إلى الموضوعي الشامل، وتنزع التجربة المعاشة نحو التحليل الشفَّاف. ومن هنا تتوافر في الكتاب عناصر لأنواع وأجناس أدبية عدة: السيرة، والرواية، وأدب الرحلات، والأدب الشعبي إضافة إلى كونها وثيقة نادرة عن تواريخ شخصية وجماعية مجهولة. ورغم هذا التعدّد الأجناسي للأنواع الأدبية، فإنَّ أهم سمة واضحة تجعل النص مزيجاً للأجناس هو استجابته النقدية السلسة لكل من فنِّ الرواية وأدب الرحلات، فنحن هنا، إزاء رواية حقيقية يعود زمن كتابتها إلى منتصف القرن الثامن عشر، وهي أقدم رواية عربية بمعنى ما، ونحن هنا نتحدث عن تدوين رحلة لباريس قبل رحلة رفاعة الطهطاوي بأكثر من قرن! لكنها رحلة تجربة وحياة وانتباه الى تفاصيل دقيقة عن الأمكنة والأشخاص، وليست كتابة معرفة ومثاقفة، فكتاب الطهطاوي متكلف في بلاغته، ومصنوع بمنهجية صارمة، بينما هنا تلقائية عامية متدفقة، تهرب باستمرار من مركزية الحدث إلى جماليات الحبكة، تستجيب لاغواءات السرد المتداخل. كاشفة ومكتشفة للحياة، من بلاط لويس الرابع عشر، إلى قاع اليوميات للمهاجرين والمواطنين في باريس. بتشويق قصصي وموهبة سردية تجمع بين تلقائية الفطرة وبراعة الصنعة، وتختلط فيها الخرافة بالواقع.
كما تقدم لنا فصول الرحلة تفاصيلَ مجهولةً عن أجواء الحياة في حوض المتوسط وبلاد الشام وأوروبا (فرنسا إيطاليا) أوائل القرن الثامن عشر، إنها أشبه برحلة فينيقية أخرى، يرويها لنا قدموس سوري آخر. وثمة سحر مختلط بالواقعي تقع عليه أو يقع عليك وأنت تقرأ، حتى كأنك تتجول في عوالم القرن الثامن عشر، وثمة نور مختلف يشعُّ من تلك الفترة التي وصفت بتسرع وتجنٍّ بالفترة المظلمة.
حياة بين الشرق والغرب في القرن الثامن عشر، حيث الاستشراق آثاري حفري، بعد الاستكشاف الجغرافي، وحيث التنقيب حضاري وليس تاريخياً من معالمه المطمورة، فهو يتجه للبحث عن اللقى، والمسكوكات، وحتى المخطوطات التي تبدو أحياناً أقرب للأثار والكنوز المطمورة منها إلى الكتب المنشورة.
عملات معدنية لعصور سحيقة، وحجر لوجه ملك قديم في الطريق بين كسروان وصيدا.
ومن الإسكندرية إلى طرابلس الغرب، يتبع هذ القدموس السوري المتأخر مسار الهجرة المسيحية من بلاد الشام بسبب الاضطهاد العثماني. وفي مصر يشتري لوكا نسخة نادرة من سفر التكوين من التوراة مكتوبة بالخط السرنجيلي القديم، لقاء مبلغ أربعين قرشاً! ومومياء فرعونية من فلاح مصري بـ 250 قرشاً. ولكن أهمية حكايات ألف ليلة وليلة. لا تقدر بثمن، وها هي تعود، لكنها مخطوطة مسروقة أخرى، فنسختها في الفاتيكان وطبعتها الأولى ليست بلغتها الأصلية.
ومن صيدا إلى قبرص ينتبه دياب إلى تلاصق الجامع بالكنيسة، وإلى انتصاب تماثيل القديسين المسيحين في الجامع الإسلامي. حتى لتشعر أحياناً من تلك المشاهدات اليومية التي يوردها عن التفاعل والتناقض الإسلامي المسيحي في قبرص أن لحظتنا الراهنة لا تكاد تنقطع عن تلك اللحظة (القبرصية) الملتبسة في أوائل القرن الثامن عشر.
وحين يصل فرنسا يصطحبه بول لوكا لمقابلة لويس الرابع عشر، لكن ليس بوصفه اكتشافاً لثقافة شرقية، بل وهو يحمل بيده قفصاً فيه حيوانات غريبة من الشرق، لكن مظهر حنا، حتى وإن كان مسيحياً ويتكلم الفرنسية، كان بالنسبة لبلاط الملك وحاشيته وعائلته، مشهداً غرائبياً بل أكثر غرابة من تلك الحيوانات التي يحملها معه في القفص.
الاستشراق لا يعود هنا كما في رواية كونراد »قلب الظلام« وإنما في نوع من الرق المنمق، فقد كان حنا ضحية وعود سرابية حيث تم افراغ محتوياته الثقافية الشفاهية وتدوينها بينما بقي هو لثلاثة قرون رهين الغموض والمجهولية قبل أن يكشف نشر هذه المخطوطة تلك الحكاية المثيرة. وتحت وطأة هذا الخداع يعبر حنا عن ضجره من باريسَ! ويعود نداء السفر ليدعوه نحو أمكنة أخرى، هكذا تخلى عن معلمه بول لوكا عندما حانت له فرصة لرحلة أخرى مع رحالة آخر. خاصة وان لوكا لم ينفذ وعده بتعيينه في قسم الكتب العربية في المكتبة الملكية بباريس. فعاد حنا من باريس إلى مسقط رأسه في رحلة عكسية لا تقل إثارة وشعرية، راضياً من الغنيمة بالإياب! الغنيمة المتأخرة في هذه التجربة المثيرة التي يدونها في كتابه.
وعلى نمط «ألف ليلة وليلة» فإن قصته الإطارية المركزية تندرج داخلها حكايات وأقاصيص لآخرين يصادفهم في الأمكنة المتعددة التي يمر بها أو يمكث فيها لفترة. فهو البطل/ الراوي/ المؤلف/ السارد. إضافة إلى حكايات تجمع الخرافة بالواقع من أزمنة شتى تتحرك مع روايته عن رحلته في موازاة زمنية لافتة. قصص عن إكسير الحياة الذي يمنح أعماراً، وأخرى عن السحر الذي يُذهب الشرور ويجلب السرور الخ، قصص عن الموتى الذين يعودون للحياة، ومفارقات في العلاقة التقليدية بين الملوك والرعية.
هذا العمل النادر يمكن أن نسميه كشفاً عن المساهمة السورية المجهولة في «ألف ليلة وليلة» وهي تنبثق من مكان مجهول من الشرق الهند وبلاد فارس، مكوثاً في بغداد العباسية، وصولاً إلى مصر المملوكية وها هي سوريا العثمانية تواصل التدفق السردي للنص الذي لا يكاد يكتمل.
وهنا أشير إلى مخطوطة أخرى لسوري آخر (حمويٌّ هذه المرة) وهي بين يدي قيد التحقيق الآن، تحتوي على روايات أخرى لعدد من قصص «ألف ليلة وليلة» بسرد مختلف تماماً عن الأثر المتداول حالياً، كما إنها تحتوي على بعض الأشعار المجهولة الواردة في »ألف ليلة وليلة« منسوبة إلى شعراء معروفين ينتمون إلى الحقبة التي عاش فيها حنا دياب أو قبلها بقليل، وإذا ما صحت نسبة تلك الأبيات إلى شعرائها، فإننا أمام مصادر جديدة تكشف بتحديد دقيق الزمن الذي كتبت به تلك الحكايات المتأخرة من قصص «ألف ليلة وليلة»
لا يغير كتاب «حنا دياب من حلب إلى باريس» مسار الاتجاهات السائدة في الدراسات النقدية المتعلقة بألف ليلة وليلة ومصادرها الحقيقية والملتبسة فحسب، بل إنه يستدعي كذلك، إعادة النظر في تاريخ السرد والرواية في الأدب العربي.
فنحن أمام نص شفاهي/ مكتوب، ومن هنا أهميته في كونه وثيقة تجمع التعبير بدقة لافتة عن الخصائص الاجتماعية غير المرئية لذلك العصر وعن طبيعة اللغة اليومية المستخدمة التي لا نملك تسجيلات صوتية عنها! ليأتي كتاب حنا كأنه شريط صوتي لأصوات ونبرات القرن الثامن عشر.
محمد مظلوم
لكن عبور الحكايات نحو أوروبا لم يخلُ من إضافات وصفت بأنها منتحلة! في الوقت الذي بقيت فيه ما يفترض إنها حكايات أصلية، مجهولة المؤلف ومتعددة المصادر والثقافات.
فالنص الذي ذكره المسعودي (957 م) في «مروج الذهب» هو بالتأكيد ليس النص الذي نقرأه الآن.
فقد قام الفرنسي انطوان غالان بترجمة حكايات »ألف ليلة وليلة« قبل أكثر من قرن من نشر المستشرق الألماني ماكس هابشت (1775 – 1839 م) أول نص عربي «لألف ليلة وليلة» في أوروبا.
لذلك بقيت المصادر العربية الأصلية لبعض الحكايات غامضة لوقت طويل، وكان اللافت أنَّ ثمة ست عشرة حكاية في كتاب غالان، لم ترد في نشرة «هابشت» ولا في أي مدوَّنة عربية معروفة في ذلك الوقت، وهو ما دفع المختص في دراسة المصادر الأصلية للحكايات الدكتور محسن مهدي في كتابه عن الأصول العربية لألف ليلة وليلة إلى التشكيك بصحة انتماء تلك القصص الست عشرة لألف ليلة وليلة، بل إنها وصفها بالملفقة «وليس لها أية قيمة! إذ لا دليل على أن لها مصادر عربية»
بيد أن مخطوطة متأخرة، تعود للقرن الثامن عشر، اكتشفها الفرنسي جيروم لانتان في مكتبة الفاتيكان عام 1993. كشفت الحلقة المفقودة في الليالي العربية بين الشرق والغرب. وبين العصور العباسية والعصور المتأخرة. وهي تمثل الجرعة الأخرى في السردية النمطية للحكايات القابلة لاستقبال مزيد من الرواة والشخصيات ولكن بشروطها الصعبة وسحريتها الغامضة. وتكشف المخطوطة كذلك للمرة الأولى عن الاسم الكامل للحكواتي السوري: «أنطوان يوسف حنا دياب»
هذه المخطوطة النادرة كان قد أهدى نسختها الوحيدة قسٌّ حلبي إلى مكتبة الفاتيكان عام 1926، وصدر بالفرنسية عام 2015 عند دار »سندباد-آكت سود« وقامت الفرنسية ذات الأصول السورية الحلبية أيضاً «بولي فحمة» بتحقيقه وترجمته بالاشتراك مع «برنار هيبرغي» بينما نشرت المخطوطة بنصها العربي الأصلي هذا العام 2017 بعنوان: «حنا دياب: من حلب إلى باريس» عن (دار الجمل/بيروت) بتحقيق محمد مصطفى الجاروش وصفاء أبو شهلا جبران.
السوري حنا دياب إذن الذي رأى فيه بورخيس بأنه »المؤلف الخفي« والغامض لحكايات غالان هو المصدر العربي المغمور لتلك الحكايات الست عشرة المضافة في كتاب غالان، وأشهرها «علي بابا» و»علاء الدين والمصباح« وفي هذه المرحلة تبرز الشخصية السردية «مرجانة» في مقابل الشخصية السردية التقليدية شهرزاد، وهكذا دخلت أنثى أخرى راوية للحكايات. لكنَّ الراوي في كلتا الحالتين ذكر، على الأرجح، تخفى في شخصية أنثى!
قد لا يكون دياب المؤلف الأصلي لتلك الحكايات، فهو يقول في كتابه إنه روى لغالان قصصاً يعرفها. مما يشير إلى أنها كانت متداولة شفاهيا في سوريا وفي حلب تحديداً، وإن لم يكن هناك أي أثر مكتوب قبل ما دوَّنه غالان في ترجمته للحكايات الستة عشرة المضافة. لكننا بالتأكيد إزاء أقدم مصدر معروف لهذه الحكايات حتى الآن.
في رحلته التي خصص لها كتابه، يكشف دياب عن لقاءاته المتكررة بغالان في باريس، وتزويده بالحكايات. ويصف غالان بأنه رجل عجوز يبحث عن تتمة لحكايات ألف ليلة وليلة. كان غالان في منتصف العقد السادس من عمره. أما دياب نفسه فقد كان شاباً في العشرين.
يوميات غالان نفسه وتحديداً تلك الواقعة ما بين آذار 1709 وكانون الثاني 1710، وهي فترة وجود دياب في باريس. نشرت كملحق في الكتاب بترجمة شكير نصر الدين وهي تكشف أن الراوي الأصلي للحكايات المضافة على الليالي في ترجمة غالان هو حنا دياب، وإن المستشرق الفرنسي قام بترجمتها بعد أن سمع بعضها من الراوي شفاهاً أو تسلم بعضها الآخر منه مخطوطة كاملة. فدوِّن في يومياته ملخصات لتلك القصص التي سمعها شفاهياً، ومن الواضح من الاختزال في تلك التلخيصات أنه دوَّنها على عجل خشية النسيان على أن يعود لها لاحقاً. لكنَّ اللافت أن قصة «علاء الدين والمصباح السحري» سلَّمها له دياب مخطوطة، وقام غالان بترجمتها بعد سنة من ذلك!
إذ يكتب الأخير في يومياته بتاريخ 10 يناير 1710 ما يلي: «أنجزتُ ترجمة الجزء العاشر من ألف ليلة وليلة عن النص العربي الذي وصلني على يد حنَّا أو جان الدّيبي الذي جاء به السيد لوكا إلى فرنسا عند عودته من رحلته الأخيرة إلى الشرق. كنت قد بدأت هذه الترجمة شهر نوفمبر ولم أكن أشتغل عليها سوى في المساء»
لكن ما تلك الرحلة إلى الشرق التي يتحدث عنها غالان وما هي خلفية هذا الرجل الذي صحبه معه الرحالة المستكشف الباحث عن النفائس؟
كان بول لوكا أحد مبعوثي لويس الرابع عشر الذين أرسلهم لجمع التحف النفيسة من مجوهرات ومخطوطات، ولقى آثارية، من الشرق ويبدو أن التحفة الأغلى التي جلبها معه كان ذلك الماروني من حلب. هذا الحكواتي السوري الذي قفز لنا فجأة، من تاريخ مطمور، كما لو أنه شخصية من شخصيات ألف ليلة وليلة.
تبدأ المذكرات، التي فقدت خمس أوراق من مستهلها، من ذهاب حنّا لأحد الأديرة المارونية لكي يترهبن، لكنه سرعان ما شعر بنفور من حياة الأكليروس في اللحظة التي ارتدى فيها ثياب الرهبان. فهو لم يخلق للعزلة والاعتكاف والزهد، لكنه مخلوق للانفلات والمغامرة وحياة الاستكشاف. من هنا كان لقاؤه ببول لوكا مصيرياً، فالرحالة الفرنسية يعاني من مشكلة اللغة، فطلب من الماروني الحلبي أن يكون مترجماً له في رحلاته مع وعد بأن يجد له مكاناً للعمل في قسم الكتب العربية بالمكتبة الملكية باريس، حيث نفهم أنه كان يجيد القراءة والكتابة بالعربية والفرنسية. وهنا استشعر حنَّا الذي ترك الدير لكي (يسوح في الدنيا وبتفرَّج) أنه وجد بوصلته وشراعه وهكذا التقى الحكواتي السوري بالرحالة الفرنسي يجمعهما الشغف بالمغامرة، فعبرا معاً إلى «جسر الشغور» في أدلب فطرابلس فصيدا بلبنان. حيث تبدأ من هناك رحلته إلى أوربا التي يرويها لنا بسرد يجمع بين التشويق والمغامرة، وهو ما يؤكد أنَّ إسهامه في رواية أو كتابة النصوص لغالان أساسي وحقيقي، فالكتاب ينطوي على خبرة حكواتية ومهارة في السرد وأصوله، وقدرة تعبيرية والإمساك بالحدث رغم تشعباته، كما أن استخدام اللهجة العامية، بل قُلْ «اللغة الهجينة» بين الفصحى والعامية المحلية، العربية والوافدة، في كتابة المذكرات سمة أخرى تمنح الكتاب أهميته، لكن أية عامية استخدمها؟ إنها ليست مجرد «لهجة» مدينته، أو طائفته، لكنها لغة عصره المفتوح على قواميس عدّة كما على ولاءات واستقطابات وصراعات شتى، ذلك أن الرحلة نفسها وإن هيمنت على روايتها لغة وسيطة بين العامية والفصحى، إلا أنها جمعت في هجنتها الثقافية لغات السفر والعصر كلها من عربية إلى عامية سورية، تشمل الحلبية والشامية والبيروتية، إلى التركية والفرنسية والإيطالية. مما أسهم في جعل الشخصيات تتحرك في زمنها وثقافة عصرها تماماً، حتى لتشعر وأنت تقرأها بأنك تعود شعورياً وتذوقاً إلى زمن كتابتها، وهي تمثل بهذا المعنى صورة نموذجية للأدب الشعبي في تلك الفترة، تنعكس فيها تفاصيل ممتعة من لهجات، وعادات وأزياء ونمط معيشة، ومطابخ، في نص أدبي مشحون ببلاغة الحياة، وليس بالمعرفة، ويصدر عن الثقافة العضوية، لا الذهنية. إضافة إلى البراعة التصويرية للمؤلف ودقته المدهشة في استعادة التفاصيل رغم مرور أكثر من نصف قرن عليها. فهو يتذكر لون القميص والقنباز وحتى الزنَّار والْمَدَاس! التي ارتداها أول مرة عند محاولة ترهبنه الفاشلة. قبل أن يفرَّ منها فراراً بعيداً في رحلة سندبادية مثيرة، لينجز لنا عملاً لافتاً تمتزج فيه الفكاهة بالمأساة، في تكوين تناظري مبني بعناية وحيثما اقتضى الحال. بل أن حياته وأسفاره، بالتحديد، ما بين أهوال البر وأنواء البحر والقراصنة والرياح تشبه إلى حد بعيد تلك المغامرات السندبادية المأثورة، حيث يصادف الأهوال في البحر والغرائب والعجائب في البر، ويروي عن احتيال باحتيال مضاد، بنزعة الشطارة والعيارة المعهودة في الحكايات الأثيرة في النص… الخ.. ولذا يبدو استنتاج التقديم، بأن في القصص التي رواها دياب لغالان شيئاً من حياته، لهو شيء معقولٌ، إذ تظهر لنا المذكرات حنا الشاب قلقاً محتجاً على مصيره باحثاً عن حياة بديلة في مكان آخر دائماً. ليس المكان بالمعنى الجغرافي فحسب، وإنما بمعنى «اليوتوبيا» التي لا يسعها أي مكان محدَّد.
هذه المذكرات كتبها دياب بعد مرور أربعة وخمسين عاماً، حين كان في الخامسة والسبعين، ولذا فهي ليست تدويناً لحالة راهنة، وإنما تظهير لتجربة مستبطنة، انتقلت من زمنها التاريخي الجماعي لتحل في الزمن الفني الشخصي، إنه العجوز الذي يروي عن الفتى وكأن كلاً منهما شخصية أخرى، وهكذا يخرج الفن من الذاتي إلى الموضوعي الشامل، وتنزع التجربة المعاشة نحو التحليل الشفَّاف. ومن هنا تتوافر في الكتاب عناصر لأنواع وأجناس أدبية عدة: السيرة، والرواية، وأدب الرحلات، والأدب الشعبي إضافة إلى كونها وثيقة نادرة عن تواريخ شخصية وجماعية مجهولة. ورغم هذا التعدّد الأجناسي للأنواع الأدبية، فإنَّ أهم سمة واضحة تجعل النص مزيجاً للأجناس هو استجابته النقدية السلسة لكل من فنِّ الرواية وأدب الرحلات، فنحن هنا، إزاء رواية حقيقية يعود زمن كتابتها إلى منتصف القرن الثامن عشر، وهي أقدم رواية عربية بمعنى ما، ونحن هنا نتحدث عن تدوين رحلة لباريس قبل رحلة رفاعة الطهطاوي بأكثر من قرن! لكنها رحلة تجربة وحياة وانتباه الى تفاصيل دقيقة عن الأمكنة والأشخاص، وليست كتابة معرفة ومثاقفة، فكتاب الطهطاوي متكلف في بلاغته، ومصنوع بمنهجية صارمة، بينما هنا تلقائية عامية متدفقة، تهرب باستمرار من مركزية الحدث إلى جماليات الحبكة، تستجيب لاغواءات السرد المتداخل. كاشفة ومكتشفة للحياة، من بلاط لويس الرابع عشر، إلى قاع اليوميات للمهاجرين والمواطنين في باريس. بتشويق قصصي وموهبة سردية تجمع بين تلقائية الفطرة وبراعة الصنعة، وتختلط فيها الخرافة بالواقع.
كما تقدم لنا فصول الرحلة تفاصيلَ مجهولةً عن أجواء الحياة في حوض المتوسط وبلاد الشام وأوروبا (فرنسا إيطاليا) أوائل القرن الثامن عشر، إنها أشبه برحلة فينيقية أخرى، يرويها لنا قدموس سوري آخر. وثمة سحر مختلط بالواقعي تقع عليه أو يقع عليك وأنت تقرأ، حتى كأنك تتجول في عوالم القرن الثامن عشر، وثمة نور مختلف يشعُّ من تلك الفترة التي وصفت بتسرع وتجنٍّ بالفترة المظلمة.
حياة بين الشرق والغرب في القرن الثامن عشر، حيث الاستشراق آثاري حفري، بعد الاستكشاف الجغرافي، وحيث التنقيب حضاري وليس تاريخياً من معالمه المطمورة، فهو يتجه للبحث عن اللقى، والمسكوكات، وحتى المخطوطات التي تبدو أحياناً أقرب للأثار والكنوز المطمورة منها إلى الكتب المنشورة.
عملات معدنية لعصور سحيقة، وحجر لوجه ملك قديم في الطريق بين كسروان وصيدا.
ومن الإسكندرية إلى طرابلس الغرب، يتبع هذ القدموس السوري المتأخر مسار الهجرة المسيحية من بلاد الشام بسبب الاضطهاد العثماني. وفي مصر يشتري لوكا نسخة نادرة من سفر التكوين من التوراة مكتوبة بالخط السرنجيلي القديم، لقاء مبلغ أربعين قرشاً! ومومياء فرعونية من فلاح مصري بـ 250 قرشاً. ولكن أهمية حكايات ألف ليلة وليلة. لا تقدر بثمن، وها هي تعود، لكنها مخطوطة مسروقة أخرى، فنسختها في الفاتيكان وطبعتها الأولى ليست بلغتها الأصلية.
ومن صيدا إلى قبرص ينتبه دياب إلى تلاصق الجامع بالكنيسة، وإلى انتصاب تماثيل القديسين المسيحين في الجامع الإسلامي. حتى لتشعر أحياناً من تلك المشاهدات اليومية التي يوردها عن التفاعل والتناقض الإسلامي المسيحي في قبرص أن لحظتنا الراهنة لا تكاد تنقطع عن تلك اللحظة (القبرصية) الملتبسة في أوائل القرن الثامن عشر.
وحين يصل فرنسا يصطحبه بول لوكا لمقابلة لويس الرابع عشر، لكن ليس بوصفه اكتشافاً لثقافة شرقية، بل وهو يحمل بيده قفصاً فيه حيوانات غريبة من الشرق، لكن مظهر حنا، حتى وإن كان مسيحياً ويتكلم الفرنسية، كان بالنسبة لبلاط الملك وحاشيته وعائلته، مشهداً غرائبياً بل أكثر غرابة من تلك الحيوانات التي يحملها معه في القفص.
الاستشراق لا يعود هنا كما في رواية كونراد »قلب الظلام« وإنما في نوع من الرق المنمق، فقد كان حنا ضحية وعود سرابية حيث تم افراغ محتوياته الثقافية الشفاهية وتدوينها بينما بقي هو لثلاثة قرون رهين الغموض والمجهولية قبل أن يكشف نشر هذه المخطوطة تلك الحكاية المثيرة. وتحت وطأة هذا الخداع يعبر حنا عن ضجره من باريسَ! ويعود نداء السفر ليدعوه نحو أمكنة أخرى، هكذا تخلى عن معلمه بول لوكا عندما حانت له فرصة لرحلة أخرى مع رحالة آخر. خاصة وان لوكا لم ينفذ وعده بتعيينه في قسم الكتب العربية في المكتبة الملكية بباريس. فعاد حنا من باريس إلى مسقط رأسه في رحلة عكسية لا تقل إثارة وشعرية، راضياً من الغنيمة بالإياب! الغنيمة المتأخرة في هذه التجربة المثيرة التي يدونها في كتابه.
وعلى نمط «ألف ليلة وليلة» فإن قصته الإطارية المركزية تندرج داخلها حكايات وأقاصيص لآخرين يصادفهم في الأمكنة المتعددة التي يمر بها أو يمكث فيها لفترة. فهو البطل/ الراوي/ المؤلف/ السارد. إضافة إلى حكايات تجمع الخرافة بالواقع من أزمنة شتى تتحرك مع روايته عن رحلته في موازاة زمنية لافتة. قصص عن إكسير الحياة الذي يمنح أعماراً، وأخرى عن السحر الذي يُذهب الشرور ويجلب السرور الخ، قصص عن الموتى الذين يعودون للحياة، ومفارقات في العلاقة التقليدية بين الملوك والرعية.
هذا العمل النادر يمكن أن نسميه كشفاً عن المساهمة السورية المجهولة في «ألف ليلة وليلة» وهي تنبثق من مكان مجهول من الشرق الهند وبلاد فارس، مكوثاً في بغداد العباسية، وصولاً إلى مصر المملوكية وها هي سوريا العثمانية تواصل التدفق السردي للنص الذي لا يكاد يكتمل.
وهنا أشير إلى مخطوطة أخرى لسوري آخر (حمويٌّ هذه المرة) وهي بين يدي قيد التحقيق الآن، تحتوي على روايات أخرى لعدد من قصص «ألف ليلة وليلة» بسرد مختلف تماماً عن الأثر المتداول حالياً، كما إنها تحتوي على بعض الأشعار المجهولة الواردة في »ألف ليلة وليلة« منسوبة إلى شعراء معروفين ينتمون إلى الحقبة التي عاش فيها حنا دياب أو قبلها بقليل، وإذا ما صحت نسبة تلك الأبيات إلى شعرائها، فإننا أمام مصادر جديدة تكشف بتحديد دقيق الزمن الذي كتبت به تلك الحكايات المتأخرة من قصص «ألف ليلة وليلة»
لا يغير كتاب «حنا دياب من حلب إلى باريس» مسار الاتجاهات السائدة في الدراسات النقدية المتعلقة بألف ليلة وليلة ومصادرها الحقيقية والملتبسة فحسب، بل إنه يستدعي كذلك، إعادة النظر في تاريخ السرد والرواية في الأدب العربي.
فنحن أمام نص شفاهي/ مكتوب، ومن هنا أهميته في كونه وثيقة تجمع التعبير بدقة لافتة عن الخصائص الاجتماعية غير المرئية لذلك العصر وعن طبيعة اللغة اليومية المستخدمة التي لا نملك تسجيلات صوتية عنها! ليأتي كتاب حنا كأنه شريط صوتي لأصوات ونبرات القرن الثامن عشر.
محمد مظلوم