د. أحمد الحطاب - من أسباب فشل المدرسة العمومية

دور المدرسة المتعارف عليه كونيا هو تربية وتهذيب وتكوين وإعداد الأجيال الصاعدة لتحمُّل مسئولية الاندماج في الحياة الاجتماعية والعملية، وكذلك المساهمة في تطوُّر البلاد وتقدمها اقتصاديا، اجتماعيا، ثقافيا، صناعيا، تكنولوجيا… غير أن هذه المدرسة لم تستطع، إلى يومنا هذا، أن تؤدِّيَ هذا الدورَ كما هو مطلوب منها لأسباب مختلفة.

وأسباب فشل المدرسة المغربية في أداء مهامها، على أحسن وجهٍ، كثيرة ومتنوِّعة. منها ما هو مرتبطٌ ببِنية المنظومة التربوية نفسها ومنها ما هو مرتبطٌ بما يجري داخل الأقسام من أساليب بيداغوجية وتربوية ومنها ما هو مرتبطٌ بجودة أداء المدرسين ومنها ما هو مرتبطٌ بتكوينهم ومنها ما هو مرتبطٌ بظروف و وسائل عملهم ومنها ما هو مرتبطٌ بوضعهم الاجتماعي والمادي ومنها ما هو مرتبطٌ بنوعية المضامين والمقررات ومنها ما هو مرتبطٌ بالوضع التَّربوي والنفسي للمتعلمين…

وتداخُلُ هذه الأسباب وعدمُ التَّصدي لها بكيفية شمولية ونَخرُها للمنظومة التَّربوية طيلةَ عقود، جعلوا الإصلاحات المتتالية غير قادرة على استئصال هذه الأسباب من جذورها، وهو الشيء الذي أدَّى إلى مضاعفة الفشل الذي تُعاني منه هذه المنظومة التربوية بكيفية مزمنة.
وفيما يلي، هذه بعض الأسباب التي تُساهم في تفاقم الفشل الذي يكاد يصبح بنيويا structurel :

1.الخلفية النَّظرية للمنظومة التربوية تجاوزها الزمان

بعد حصول المغرب على الاستقلال، كانت السياسة التَّعليمية ترتكز على أربعة مبادئ هي : التَّوحيد، التَّعميم، المَغربة والتَّعريب. وهذا شيء طبيعي ومنطقي لأن البلادَ حديثةُ العهد باستقلالها وتريد أن تكونَ لها منظومة تربوية وطنية مترسِّخة ومتجدِّرة في المجتمع المغربي الذي، بدوره، يريد أن تكونَ المدرسة، كغيرها من المرافق الوطنية، رافعةً من رافعات التنمية الاجتماعية، الاقتصادية والثقافية.
التوحيد unification كان يسعى إلى ترسيخ نمط واحد من التعليم العمومي يساوي بين المغاربة كيفما كان انتمائهم الاجتماعي. التعميم généralisation كان يسعى إلى إيصال المدرسة إلى جميع أنحاء البلاد ليستفيدَ منها كل الأطفال الذين بلغوا سِنَّ التَّمدرس scolarisation بدون استثناء. المَغرَبَةُ marocanisation كانت كانت تسعى إلى تعويض المدرسين الفرنسيين بمدرسين مغاربة. التَّعريب arabisation كان يسعى إلى إحلال اللغة العربية مكانَ اللغة الفرنسية التي كانت تُدرَّس بها، آنذاك، جلُّ المواد المدرسية. لا أريد أن أدخلَ في نقاش يُبيِّن هل نجحت المنظومة التربوية في ترسيخ هذه المبادئ على أرض الواقع لأنه ليس هذا هو موضوع هذه المقالة. لكن، يجب أن لا ننسى أن عدَمَ التَّجسيد الكلي لهذه المبادئ الأربعة على أرض الواقع قد يزيد من تأزيم مشاكل المنظومة التَّربوية. لقد خصَّصتُ لتنزيل هذه المبادئ على أرض الواقع مقالةً خاصة تحت عنوان : مآلُ مُرتكزات السياسة التَّعليمية مباشرةً بعد الاستقلال.

ما أريد إيثارةَ الانتباه إليه هو أن المعرفة التي كانت تنقلها المدرسةُ إلى المتعلِّمين كانت معرفةً ضروريةً لتكوين الأطر التي كانت البلادُ في حاجة ماسة إليهم. وخصوصا أنه في تلك الفترة، لا وجودَ لشبكات التواصل الاجتماعي ولا لتكنولوجيات التعليم والتَّعلُّم، كما هو الشأن اليوم، والتي تضع شتى أنواع المعارف رهن إشارة مَن يرغب في الاستفادة منها. ولهذا، إذا كانت المدرسة في الماضي هي الوحيدة التي تنقل المعرفةَ للوافدين عليها، فهذه المعرفة متوفِّرة اليوم في الشبكات المذكورة. إذن، ما الذي يجب أن يتغيَّرَ؟
الذي يجب أن يتغيَّرَ هو الهدف من تبليغ المعرفة transmission des connaissances للمتعلمين. تبليغ المعرفة، اليوم، لا يجب، على الإطلاق، أن يكونَ هدفُه هو شحنُ أدمغة bourrer les crânes المتعلمين بمعارف قد يُرهقهم حِفظُها. المعرفة، إن كانت ذات أهمية، يجب أن تكونَ دعامةً لبناء شخصية personnalité المتعلمين وتفتُّحهم épanouissement وتحرُّرهم émancipation الفكري والاجتماعي. ليس المهم هو حِفظُ هذه المعارف عن ظهر قلب apprendre par coeur. المهم هو تعلُّم البحث عنها والوقوف على أهميتها فكريا، علميا، اجتماعيا، اقتصاديا، ثقافيا… والتَّمكُّن من الوصول إليها كلما دعت الضرورةُ إلى ذلك. وكل هذه الاعتبارات تستدعي إعادةَ النظر في الخلفية النظرية للمنظومة التربوية! أي، ماذا نريد؟ هل نريد رؤوسا جيِّدةَ التَّركيب des têtes bien faites أم رؤوسا مشحونة بمعارف جافة لا تصلح إلا للامتحانات!

2.موتُ التَّفاعلُ الذي كان قائما في الماضي بين المدرسة والمجتمع

انعزلت المدرسة عن المجتمع إلى درجة أنها أصبحت حاليا عبارةً عن جسم غريب يتحمَّله المجتمع غصبا عنه. عادةً، المدرسة هي التي تُنتِج المجتمعَ والمجتمع هو الذي يُنتِج المدرسةَ. أو بعبارة أخرى، المدرسة صورة لمجتمعها والمجتمع صورة لمدرسته. في غياب هذا التَّرابط، تصبح المدرسة عبارةً عن معمل usine يُنتِج أشخاصا مُنمَّطين individus stéréotypés، وأكثر من هذا، غرباء عن محيطهم الاجتماعي والاقتصادي. في غياب التًَّفاعل القائم عادةً بين المدرسة والمجتمع، يصيب هذه الأخيرةَ الجمودُ immobilisme والركودُ stagnation والانزواء isolement على نفسِها. والغريب في الأمر، أن ما يُنفقُه المغاربة على المنظومة التربوية غير متوازن مع ما تُفرزُه المدرسة من نتائج هزيلة. إن لم تستجب المدرسة لتطلُّعات المجتمع، فهي غولٌ يلتهم الأموالَ ويُنتِج الأهوالَ. وكل منظومة تربوية أصابها الجمودُ والركودُ والانزواء، تصبح، كما سبق الذكرُ، جسما غريبا يتحمَّله المجتمع غصبا عنه.

3.المدرسة والبيت وسطان أساسيان للتنشئة الاجتماعية ولتحضير وبناء مستقبل المتعلِّمين

في الماضي، كانت المدرسةُ والأسرةُ تتعاونان، عن قُربٍ، لضمان تَنشئةٍ اجتماعيةٍ للمتعلمين تتماشى مع ما يتطلَّبه المجتمعُ من قيمٍ وأخلاق وسلوكات ومواطنة… كان هذا التعاون ممكِنا نظرا للمكانة الرفيعة التي كان يحظى بها المدرسُ في المجتمع. كان هذا الأخيرُ، إلى جانب دورِه في التَّعليم والتَّعلُّم، مربِّيا بما للكلمة من معنى. كان له حضورٌ وازنٌ، بالطبع داخل القسم والمدرسة، لكن كذلك خارجَ المدرسة وخصوصا في علاقاته مع الأسر. اليوم، اضمحلَّ الجِسرُ الرابط بين المدرس والأسر و تلاشت، بجكم اضمحلال هذا الجسر، التَّنشئة الاجتماعية للمتعلمين. لقد تخلَّت المدرسةُ عن هذا الدور وتركته للصدفة والظروف تتجكَّم فيه. اليوم، المدرسة ركَّزت اهتمامَها على تبليغ المعرفة لكن على حساب بناء شخصية المتعلمين. التنشئة الاجتماعية ليست فقط إغناء الرصيد المعرفي للمتعلمين. إنها، أولا وقبل كل شيء، أخلاقٌ وسلوكٌ وفكرٌ وتكيُّفٌ مع الظروف والواقع واندماجٌ في الحياة الاجتماعية والعملية وتفتُّحٌ وتنويرٌ وتوعية conscientisation…

4.مدرسة التَّعلُّم قبل التعليم

يجب أن يُدركَ الجميعُ، وبصفة نهائية، أن المتعلِّمَ هو الذي يتعلَّم والمدرس ليس إلا وسيلة لتسهيلِ هذا التَّعلُّم. التَّعلُّم ينطلق من المتعلِّم. ولهذا، من المهم بمكان أن تتوفَّرَ لدى المتعلِّم الرغبةُ في التَّعلُّم le plaisir d'apprendre. وهذه الرغبة، المدرس هو الذي يوفِّرها بنوعية تعامله المهني مع المتعلمين. ولهذا، يجب أن تُعتَبَرَ المدرسةُ وسطا يتعلَّم فيه المتعلِّم كيف يتعلَّم وليس آلةً ميكانيكيةً لحشو رؤوس المتعلمين بمعارف غالبا ما تكون بعيدة عن ما يجري في محيطهم الاجتماعي، الاقتصادي والبيئي. والتعلُّم apprentissage يعني أن تعتني المدرسة ببناء شخصية المتعلِّم (تربيته)، أي أن تكرِّس جهودَها ليتعلَّم، أولا وقبل كل شيءٍ، ما هي المواطنة وحب الوطن وما هي المسئولية التي يجب أن يتربَّى عليها المتعلِّمُ، مند نعومة الأظافر، وأن يستقل بذاته تدريجيا وأن تكون له القدرة على التكيُّف مع ما يجري في محيطه وأن يتعوَّدَ على الفكر النقدي esprit critique ومتفتِّحا épanoui ومتحررا فكريا émancipé intellectuellement ومبدعا créatif ومتعودا على حل المشكلات hanitué à la résolution des problèmes، الخ. أي أن يتوفَّرَ على كل ما يجعل منه فعلا رافعةً مستقبليةً للتنمية levier potentiel du développement ومُنْتِجا لقيمات مُضافة producteur de valeurs ajoutées، الخ.

5.أكبر إنزلاق في المنظومة التربوية : الفشل المدرسي

مفهوم الفشل المدرسي échec scolaire يجب أن يختفي نهائيا من قاموس المنظومة التربوية، على الأقل في مرحلة التعليم الأساسي. لأنه في الوقت الراهن، المدرسة متناقضة مع دستور البلاد الذي كرس مفهوم تكافؤ الفرص، أي أن المدرسة خُلقت من أجل نجاح الجميع وليس من أجل تكريس مفهوم الانتقائية sélectivité. أكثر من هذا، الفشلُ المدرسي أصبح سِلعةً يُتاجِر بها بعض المدرسين سامحهم الله. وما يُسميه البعضُ فشلاً مدرسياً لحاجات في نفس يعقوب، هو في الحقيقة تفاوتٌ في القدرة على التَّعلُّم différences des capacités d'apprentissage. وأسبابُ تفاوتِ القدرة على التَّعلُّم كثيرة أخصُّ منها بالذكر الظروف الاجتماعية والاقتصادية للمتعلمين. للتَّصدي لهذا التَّفاوت، كان ويكون من المفروض أن تقومَ المدرسة بتذويبه من خلال ما يجب أن يبدلَه المدرسون من جُهدٍ داخل الأقسام. لكن لا أحد يبدل هذا الجهد. ما يحدث هو استغلالُ هذا التَّفاوت من طرف بعض المدرسين لحثِّ المتعلمين على الخضوع لدروس خصوصية مؤدى عنها.

6.تكوين المدرسين هو حجرُ الزاوية في أداء المنظومة التربوية مهامها بجودةٍ عالية

يجب أن يُعاد النظر في تكوين المدرسين بكيفية جذرية. وفي هذا الصدد، يجب أن لا يبقى المدرسُ عبارةً عن واسطة تنقل المعرفة من الكتب المدرسية إلى المتعلمين. وأن لا يُعتبرَ المدرسُ كمالك للمعرفة لأنه بكل بساطة ليس هو الذي أنتجها. بل يجب أن يُعتَبَرَ كمتعاملٍ مع هذه المعرفة بطريقة تجعل نقلَها إلى المتعلمين سهلا ومفيدا. بالطبع ومما لا شك فيه، يجب أن يكون متمكنا من مادة تدريسه لكن ليس لتراكم معارفها لدى المتعلم، ولكن لتساهم في بناء شخصيته ومستقبله. ولهذا، فعلى المدرس أن يعتنيَ، أولا وقبل كل شيء، بهذا البناء. وفي هذا الصدد، فلن يكفيه أن يكون متمكِّنا من مادة تدريسه. فعليه أن ِيكون مسهِّلاً facilitateur، مُرشدا guide، موجِّها orientateur، منشِّطا activateur، مربِّيا éducateur، مساعِدا assistant، مصاحِبا accompagnateur، محفِّزا motivateur، منظِّما organisateur، الخ. كل هذه الضفات يجب أن تكونَ مُتصمَّنةً في تكوين المدرسين. ولهذا، فتكوين هؤلاء المدرسين يجب أن يكون من مستوى عالي تأخذ فيه علوم التربية حيزا مهما : بيداغوجيا، ديداكتيك، فلسفة وسوسيولوجيا التربية، تاريخ العلوم، إبيستيمولوجيا، علم النفس التربوي، اقتصاد التربية، الخ. إضافة إلى الإلمام بالسياسات التربوية والقوانين المنظمة لها وعلم التواصل science de la communication ولغة التدريس langue d'enseignement، الخ. إلى حد الآن، تكوين المدرسين لا يحظى بما يستحقه من اهتمام.

7.جودة المنظومة التربوية لها علاقة وطيدة بالعناية بالمدرسين

وهذه العناية يجب أن تشملَ على الخصوص وضعَه الاجتماعي والمادي. ما نلاحظه اليوم، هو أن المدرسَ لم تعد له تلك المكانة التي كان يحظى بها في المجتمع من حيث الاحترام respect والتقدير estime considération والتثمين valorisation. وهذا الاحترام والتقدير ناتجان عن كونه كان يُساهم فعليا، كما سبق الذكرُ، في التَّنشئة الاجتماعية للمتعلمين. ولعل خير وسيلة لاسترداد هذا الاعتبار تكمن في إعادة النظر في وضعه المادي. يجب أن يكون مرتَّب المدرس من أعلى مُرتَّبات الدولة لأن العديد من الدراسات بينتْ بوضوح أن البلدان التي يتقاضى مدرسوها مرتَّبات عالية، تكون منظوماتها التربوية ذات جودة عالية وتحصل على أعلى النتائج في البرنامج الدولي لتقييم مكتسبات التلاميذ PISA. فرنسا التي مُرتَّبات مدرسيها ضعيفة بالمقارنة مع دول أوروبية أخرى، مُرتَّبة وراء البلدان الاسكندنافية pays scandinaves وألمانيا Allemagne ولكسمبورغ Luxembourg والمملكة المتحدة Royaume uni، الخ.

8.ما هو مهمٌّ في أداء المنظومة التربوية لمهامها : بناءُ مستقبل المتعلِّمين أم استعلاءُ بعض المفتِّشين وبعض رؤساء المؤسسات التعليمية؟

بعض المفتشين وبعض رؤساء المؤسسات التعليمية، سامحهم الله، يتعاملون مع المدرسين والمتعلمين باستعلاءٍ وكبرياء ويعتبرون أنفسَهم أسيادَ العارفين. أنا شخصيا، حينما أسمع هذه الكلمة، "مفتش"، وحتى باللغة الفرنسية inspecteur، أحِس بنوع من الاشمئزاز لأنها ليست في محلها عندما يتعلق الأمر بالتعليم. فبمجرد ما تُسْمَعُ، تذكِّر ب"تَبوليسيتْ والحضيان". وهذا هو ما يحدث فعلا عندما يدخل بعضُ المفتشين إلى قسمٍ من الأقسام. يدخل بفكرة أنه الشرطي المتعالي على المعلِّم أو الأستاذ وأن هذا الأخير متَّهمٌ حتى تثبتَ براءتُه، بمعنى إنه هو العارف والمعلم أقل منه عرفانا. ولهذا، نرى بعضَ المفتشين يحضرون الدروس ويغادرون القسم دون أن يتناقشوا مع المعني بالأمر. لأنهم يعتبرون النقاش مع هذا المعني بالأمر تنقيص وحط من قيمتهم. بينما الغاية من التفتيش ليس هو القمع والاستبداد، بل النصح والمساعدة والتنوير والإضافة في جو يجعل مَن خضع للتفتيش مطمئنا ومتقبلا للملاحظات. ولهذا، يُلاحظُ أن تقاريرَ بعض المفتشين ليست محاضرَ لمجريات الدرس ولكن انتقاما من المعلم الذي أبان عن كفاءته أمام مفتش أبان عن جهله. ولهذا، أصبحت بعض التقارير عبارة عن إنشاء للحط من قيمة المدرسين عوضَ أن تكونَ نُصحا وتكميلا للنقائص التي لا ينجو منها أمهر المدرسين. أما بعض رؤساء المؤسسات التعليمية، فعوض أن يكونوا من الداعمين لإنجاح المهام السامية لمؤسساتهم، فإنهم يتصرفون مع المدرسين والمتعلمين بعجرفة وجبروت يجعلونهم يحسون بأن هناك رئيسا ومرؤوسا.

9.المتعلِّم هو المُسخَّر للتَّعليم و ليس العكس

عادةً، التَّعليم هو الذي يجب أن يتكيَّفَ مع الوضع النفسي والاجتماعي للمتعلِّم وليس العكس. لأن الطفلَ، عندما يذهب إلى المدرسة، فإن هدفَه الأول و الأخير هو أن يتعلَّمَ ليفهمَ apprendre pour comprendre. وكي يتعلَّم ويفهم، يجب أن يجدَ مُتعةً فيما هو بصدد تعلُّمِه. وكي يجد مُتعةً فيما هو بصدد تعلُّمِه، يجب أن تُعطى قيمةٌ لشخصِه نفسيا واجتماعيا. وهنا بيتُ القصيد.

فعندما يذهب الطفلُ إلى المدرسة، فإنه لا يذهب إليها بدماغٍ فارغة أو بدماغٍ بِكر مستعد لتلقِّي كل أنواع المعارف المدرسية. إن هذا الطفل، عندما يتردَّدُ على المدرسة، فإنه يكون قد كوَّن مسبقا نظرةً عن العالم المحيط به، أو بعبارة أخرى، هذا الطفلُ يدرك العالمَ المحيطَ به بطريقة تخصُّه هو. و في غالب الأحيان، تكون هذه النظرةُ مقترْنةً باللعب أو بكل ما له علاقة بهدا اللعب.
بكل أسف، المدرسة لا تُعيرُ أي اهتمام لهذه النظرة التي كوَّنها الطفلُ عن العالم المحيط به أثناء طفولته. بل المدرسةُ تعتبر الطفلَ ناضجا لتلقِّي معارفها بدون عناء. في الحقيقة، المدرسة لا تقوم بأي شيءٍ سوى أنها تضع معارفَها فوق معارف الطفل التي هي تلقائية spontanées ولكن، في نفس الوقت، عنيدة tenaces. معارف الطفل التلقائية هي التي يعتمد عليها هذا الطفلُ للتَّعامل مع العالم المحيط به. والمدرسة، عوضَ أن تسعى لتعويض معارف الطفل التلقائية بمعارفها المنظمة، من خلال أساليب بيداغوجية ونفسية ملائمة، فإنها تُحدِثُ عند هذا الطفل صراعا conflit بين هذين النوعين من المعارف. وفي آخِرِ المطاف، ليست المدرسة هي المتضرٍّرة من هذا الصراع، لكن الطفل الذي قد يجرُّ وراءه معارفَه التلقائية على امتداد مدة طويلة.
فهل المتعلِّم هو الذي يجب أن يكونَ مسخَّراً للتَّعليم أم التَّعليم هو الذي يجب أن يكونَ مسخَّراً للمتعلِّم؟ المدرسة اختارت البديلَ الأول!

10.الحِفظ و ما أدراك ما الحِفظ!

غريب أمر منظومتنا التَّربوبة التي تُنفَق الأموالَ الطائلةَ من أجل تحويل المتعلمين إلى آلات للحفظ والاستظهار. وكأن القائمين على هذه المنظومة التَّربوية ليسوا على علمٍ بأن الحفظَ وحده لا فائدة منه. بل إنه يكبح الطاقات الفكرية والنقدية. فما هو مهمٌّ ومفيد بالنسبة للطفل الذي يتردَّدُ على المدرسة؟ هل اعتمادُه فقط وحصريا على ملكة الحفظ ليتعلَّم أم على ملكات التفكير والنقد والاستقراء والاستنتاج والمقارنة والبَرهنة والتَّجريب… ليتعلَّمَ كيف يتعلَّم؟ وما هو كذلك مهمٌّ بالنسبة للطفل الذي يتردَّد على المدرسة؟ هل حِفظُه للدروس عن ظهر قلبٍ تحت الضغط sous pression والإكراه contrainte ثم نسيانُها بمجرد زوال هذين الضغط والإكراه؟ أم فَهمُ هذه الدروس واستبطان ما تنقله من مفاهيم ومعارف، والقدرة على الربط فيما بينها فكريا كلما دعت الضرورة إلى ذلك؟ ثم ما هو مفيد بالنسبة للطفل الذي يتردَّد على المدرسة؟ هل الحفظ والاستظهارُ سيساعدان الطفلَ على بناء شخصيته؟ أم بناء شخصيته يحتاج إلى إعمال ملكاته الفكرية ليجعلَه هذا البناءُ قادرا على الربط بين ما يتلقاه من معارف وما يجري في حياته اليومية الاجتماعية من أحداثٍ وظواهر؟ المدرسة اختارت ما يُبرِّرُ ويرسِّخ وجودَها : شحنُ دماغ الطفل بالمعارف الجافة وإرغامُه على حِفظها، في غالب الأحيان، تحت الإكراه و الضغط
.
هذه فقط نماذج من أسباب فشل المدرسة في أداء مهامها. أما الباقي، فحدِّث ولا حرج! وفشل المدرسة هو، في نفس الوقت، فشل المنظومة التَّربوية!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى