- تقديم:
إن للخطاب الشعري مقوماته. والكلمة فيه عندما تتصف بالجمالية والشعرية، فإنها تدخل وجدان المتلقي، وتنيره. وتصبح في داخله كالثريا. ومن ثمة يحقق هذا الخطاب تميزه، وفرادته.
إن للكتابة الشعرية سحرها. وعندما يأخذك سحرها، فصعب أن تنفك من هذا السحر، او تبتعد عنه. هذا ما حل بالمبدع عبد الرحيم التدلاوي.. ما كنت أعرفه عنه أنه فارس من فرسان القصة والقصة القصيرة جدا. مهر مطيتهما، وأبدع فيهما. ولكن اليوم يفاجئني بكوني أجد فيه الشاعر الحاذق للكتابة الشعرية. إذ يقدم لنا في هذا العمل الإبداعي (مسالك البوح) شكلا شعريا ذا بناء متنوع، ومعمار مدهش. كل هذا يشكله عبد الرحيم التدلاوي بواسطة اللغة والصورة والخيال.
ومن هنا تصبح الكتابة الشعرية عنده مغامرة، واختراقا للمعاني، وانزياحا إلى الجمالية والفنية. وبالتالي هذه التجربة الشعرية ليست جديدة، ووليدة لحظات. بل هي ناتجة عن مسار ودربة طويلة في كتابة الشعر.
إن هذه الكتابة تمتاز بإشراقها، وبوعيها الفني والجمالي، وتمتاز كذلك ببعديها المعرفي والذوقي.
في كل صفحة من صفحات عمله تبرز اللغة، وتبرز أهميتها. فهي ليست وعاءً للأفكار، ولكن بالإضافة إلى ذلك، هي صوغ فني، وبوح إنساني، ومناجاة في الوجود والروح، والمعاني.
إن الأستاذ عبد الرحيم التدلاوي وفيٌّ لبوحه.. مخلص في أحاسيسه.. بارع في تصويره، مائز في انتقاله في مدارج اللغة والوصف. فجاءت قصائده شطحا عميقا بالفردانية، والوجودية، والتجاذب بين الداخل والخارج، وتقاربا بين البراني والجواني.
إن مجموعته (مسالك البوح) مقام للبوح والمناجاة. ولا يدخل هذا المقام إلا من كابد عشق الشعر، وتمثل رؤياه. فتجعلك هذه الرؤيا تحس بهذه الكتابة، وتحس بقصائدها. بل الأكثر من هذا، أنك تحس بالإبحار فيها كأنك سندباد يبحث عن أرخبيل ترسو فيها أنفاسه. ووقوف القارئ على هذه الاستراحة السندبادية ما هي إلا تلاق بين الشاعر عبد الرحيم التدلاوي والقارئ/ المتلقي. في هذا العمل يقدم عبد الرحيم التدلاوي (مسالك البوح) في خمسة مباحث، هي ( جزيرة النساء- تحت سقف النداء والتمور- أشجان- فتات الكلمات- تراتيل من زمن الوله). وكل مقام يتفتت قصائد عدة تختلف طولا وبناء.
إنه يعرف أنه في هذه المقامات يصبح شاعرا، ليس كلفا، ولكن كالنهر ينساب دافقا. لا يسمع منه إلا خرير.. وهو في هذه الحالة يعرف ما معنى أن يصبح المرء شاعرا.. بوحه يشي بذلك:
معنى أن تكون شاعرا:
معناه..
أن تموت في سن العشرين..
نتيجة جرعة زائدة من الحزن..
معناه..
أن ترفع ريشة الجمال..
فيجندل كالحزن..
معناه..
أن تصدح بالفرح..
فيخذلك صوتك عمدا..
معناه..
أن تصرخ عاليا..
تغري السحاب ببكارة الكلمات..
لكن الشاعر يصبح منبعا للأحزان والمرارة، حين يدرك أنه في تحوله وصيرورته شاعرا قد أضاع الإنسان. هذا الإنسان الذي نقل إلى الشاعر احزانه، وأقامت فيه لا ترحل رغم جعله الكلمات مجاذيف يهرب بها في زبد الكلمات، ومنعرجات الأمنيات.
وإذا ما توقفنا إلى بنية عمله الإبداعي، نجده مناجاة وبوحا في بنية القصيدة العربية الحداثية، المعروفة بقصيدة النثر ومن ثمة يتوافق عبد الرحيم التدلاوي مع الاتجاه الحداثي في كتابة القصيدة بناء وفنية وإيقاعا داخليا وهو بذلك قد تحرر من قيود الشعر التقليدية وهذا التحرر تجلى في الرؤيا، والتناول والعرض.
إن الشعر في كتابة عبد الرحيم التدلاوي قبض على الشعر، وانسجامية في معايشته، رغم أن الكلمات في كتابته لماحة، موحية، غمازة، تحتمل دلالات. وتحمل معنى. وهذا كله يشكل بوحه ومناجاته، ويبني تجربته الشعرية. ومن هنا يصبح الكشف عنها يتطلب القلب والعقل، والحواس كلها. لأن لغتها لغة الحواس وليست فوقها. فلغته حبلى بالتضمينات والإشارات والتلميحات التي تجعل التأويل متنوعا ودفاقا. ومن ثمة تتحول قصائده إلى فلاشات – كما يسميها- أو ومضات..
ورد الليل
في الصباح الباكر
نبات واخز
بل أكثر من ذلك، تتحول إلى توقيعات فنية...
لا تعبث مع الزمن، سخريته مرة
بل تتلون أحيانا فتصبح هايكو...
أنت وردة
وقبلاتي ندى
تتفتحين
يفوح عطرك
إن لغة عمله الشعري تعج بالإيحاءات، والبوح والمناجاة، والتي لا تقتل المعنى، أو تدفع بالدلالة إلى الموت. ولكن تتحول هذه اللغة إلى دهشة، ومغامرة يحس بهما القارئ/ المتلقي، فتنفجر فيه اللذة والمتعة القرائية.
وعندما نعبر البهو إلى النص المتن- كما يقول بورخيس- نجد لغة تعكس البوح الجمالي والاستعاري. فنحس كمتلقين بتلاحم العناصر المكونة لبنية القصائد، وتجاوز فني لاعتيادية اللغة. ومن هنا نجد أن هذه اللغة الموظفة تتداخل فيما بينها، وتتحول في نفس الوقت إلى نغمة واحدة، ساحرة تحمل شوقه وحسه، ورؤياه وتصوراته.
إن قصائد عبد الرحيم التدلاوي بوح وكشق، وإفضاء، وتعرية لأحوال. إنها تعالق روحي وكشف عن الإنساني الحالم، المهووس بالمقامات والارتقاء إلى معارج الجمال، والإبحار في أسفار الذات، فينتج عن ذلك مزج بين الشاعرية والعرفان، وبين البوح والسمو في معارج الذات.
فطوبى للمبدع عبد الرحيم التدلاوي بهذا العطاء المتميز، وبهذا السفر الجميل في الشعر وفي الكلمة الجميلة، والذي سيعطي ولا محالة متعة فنية ولذة قرائية كبرى...
محمد داني
16/06/2023
الدار البيضاء- المغرب
إن للخطاب الشعري مقوماته. والكلمة فيه عندما تتصف بالجمالية والشعرية، فإنها تدخل وجدان المتلقي، وتنيره. وتصبح في داخله كالثريا. ومن ثمة يحقق هذا الخطاب تميزه، وفرادته.
إن للكتابة الشعرية سحرها. وعندما يأخذك سحرها، فصعب أن تنفك من هذا السحر، او تبتعد عنه. هذا ما حل بالمبدع عبد الرحيم التدلاوي.. ما كنت أعرفه عنه أنه فارس من فرسان القصة والقصة القصيرة جدا. مهر مطيتهما، وأبدع فيهما. ولكن اليوم يفاجئني بكوني أجد فيه الشاعر الحاذق للكتابة الشعرية. إذ يقدم لنا في هذا العمل الإبداعي (مسالك البوح) شكلا شعريا ذا بناء متنوع، ومعمار مدهش. كل هذا يشكله عبد الرحيم التدلاوي بواسطة اللغة والصورة والخيال.
ومن هنا تصبح الكتابة الشعرية عنده مغامرة، واختراقا للمعاني، وانزياحا إلى الجمالية والفنية. وبالتالي هذه التجربة الشعرية ليست جديدة، ووليدة لحظات. بل هي ناتجة عن مسار ودربة طويلة في كتابة الشعر.
إن هذه الكتابة تمتاز بإشراقها، وبوعيها الفني والجمالي، وتمتاز كذلك ببعديها المعرفي والذوقي.
في كل صفحة من صفحات عمله تبرز اللغة، وتبرز أهميتها. فهي ليست وعاءً للأفكار، ولكن بالإضافة إلى ذلك، هي صوغ فني، وبوح إنساني، ومناجاة في الوجود والروح، والمعاني.
إن الأستاذ عبد الرحيم التدلاوي وفيٌّ لبوحه.. مخلص في أحاسيسه.. بارع في تصويره، مائز في انتقاله في مدارج اللغة والوصف. فجاءت قصائده شطحا عميقا بالفردانية، والوجودية، والتجاذب بين الداخل والخارج، وتقاربا بين البراني والجواني.
إن مجموعته (مسالك البوح) مقام للبوح والمناجاة. ولا يدخل هذا المقام إلا من كابد عشق الشعر، وتمثل رؤياه. فتجعلك هذه الرؤيا تحس بهذه الكتابة، وتحس بقصائدها. بل الأكثر من هذا، أنك تحس بالإبحار فيها كأنك سندباد يبحث عن أرخبيل ترسو فيها أنفاسه. ووقوف القارئ على هذه الاستراحة السندبادية ما هي إلا تلاق بين الشاعر عبد الرحيم التدلاوي والقارئ/ المتلقي. في هذا العمل يقدم عبد الرحيم التدلاوي (مسالك البوح) في خمسة مباحث، هي ( جزيرة النساء- تحت سقف النداء والتمور- أشجان- فتات الكلمات- تراتيل من زمن الوله). وكل مقام يتفتت قصائد عدة تختلف طولا وبناء.
إنه يعرف أنه في هذه المقامات يصبح شاعرا، ليس كلفا، ولكن كالنهر ينساب دافقا. لا يسمع منه إلا خرير.. وهو في هذه الحالة يعرف ما معنى أن يصبح المرء شاعرا.. بوحه يشي بذلك:
معنى أن تكون شاعرا:
معناه..
أن تموت في سن العشرين..
نتيجة جرعة زائدة من الحزن..
معناه..
أن ترفع ريشة الجمال..
فيجندل كالحزن..
معناه..
أن تصدح بالفرح..
فيخذلك صوتك عمدا..
معناه..
أن تصرخ عاليا..
تغري السحاب ببكارة الكلمات..
لكن الشاعر يصبح منبعا للأحزان والمرارة، حين يدرك أنه في تحوله وصيرورته شاعرا قد أضاع الإنسان. هذا الإنسان الذي نقل إلى الشاعر احزانه، وأقامت فيه لا ترحل رغم جعله الكلمات مجاذيف يهرب بها في زبد الكلمات، ومنعرجات الأمنيات.
وإذا ما توقفنا إلى بنية عمله الإبداعي، نجده مناجاة وبوحا في بنية القصيدة العربية الحداثية، المعروفة بقصيدة النثر ومن ثمة يتوافق عبد الرحيم التدلاوي مع الاتجاه الحداثي في كتابة القصيدة بناء وفنية وإيقاعا داخليا وهو بذلك قد تحرر من قيود الشعر التقليدية وهذا التحرر تجلى في الرؤيا، والتناول والعرض.
إن الشعر في كتابة عبد الرحيم التدلاوي قبض على الشعر، وانسجامية في معايشته، رغم أن الكلمات في كتابته لماحة، موحية، غمازة، تحتمل دلالات. وتحمل معنى. وهذا كله يشكل بوحه ومناجاته، ويبني تجربته الشعرية. ومن هنا يصبح الكشف عنها يتطلب القلب والعقل، والحواس كلها. لأن لغتها لغة الحواس وليست فوقها. فلغته حبلى بالتضمينات والإشارات والتلميحات التي تجعل التأويل متنوعا ودفاقا. ومن ثمة تتحول قصائده إلى فلاشات – كما يسميها- أو ومضات..
ورد الليل
في الصباح الباكر
نبات واخز
بل أكثر من ذلك، تتحول إلى توقيعات فنية...
لا تعبث مع الزمن، سخريته مرة
بل تتلون أحيانا فتصبح هايكو...
أنت وردة
وقبلاتي ندى
تتفتحين
يفوح عطرك
إن لغة عمله الشعري تعج بالإيحاءات، والبوح والمناجاة، والتي لا تقتل المعنى، أو تدفع بالدلالة إلى الموت. ولكن تتحول هذه اللغة إلى دهشة، ومغامرة يحس بهما القارئ/ المتلقي، فتنفجر فيه اللذة والمتعة القرائية.
وعندما نعبر البهو إلى النص المتن- كما يقول بورخيس- نجد لغة تعكس البوح الجمالي والاستعاري. فنحس كمتلقين بتلاحم العناصر المكونة لبنية القصائد، وتجاوز فني لاعتيادية اللغة. ومن هنا نجد أن هذه اللغة الموظفة تتداخل فيما بينها، وتتحول في نفس الوقت إلى نغمة واحدة، ساحرة تحمل شوقه وحسه، ورؤياه وتصوراته.
إن قصائد عبد الرحيم التدلاوي بوح وكشق، وإفضاء، وتعرية لأحوال. إنها تعالق روحي وكشف عن الإنساني الحالم، المهووس بالمقامات والارتقاء إلى معارج الجمال، والإبحار في أسفار الذات، فينتج عن ذلك مزج بين الشاعرية والعرفان، وبين البوح والسمو في معارج الذات.
فطوبى للمبدع عبد الرحيم التدلاوي بهذا العطاء المتميز، وبهذا السفر الجميل في الشعر وفي الكلمة الجميلة، والذي سيعطي ولا محالة متعة فنية ولذة قرائية كبرى...
محمد داني
16/06/2023
الدار البيضاء- المغرب