عبدالرحيم التدلاوي - العلاقه بين الرجل والمرأة في رواية "سمفونية الفوضى" لنعمة ابن حلام.

صدرت رواية "سمفونية الفوضى" لنعمة ابن حلام عن دار الريم للطباعة والنشر في طبعتها الأولى سنة2021،وهيمن الحجم المتوسط في مساحة نصية تبلغ 222 صفحة.
**
تلج المبدعة ابن حلام الرواية من باب الشعر فتقدم لنا عملا وسمته ب"سمفونية الفوضى" مستمدة أحداثه من الواقع بشخصيات تعمل وتفكر وتتصارع.
جل شخصيات هذا العمل معطوبة إما نفسيا أو جسديا أو اجتماعيا أو اقتصاديا وماليا؛ وقد اجتمع كل هذا النقص في شخصية سليمان الذي تمت معاقبته ماديا ومعنويا؛ ماديا بحرمانه من الحركة بعد حادثة سير نجم عنها قعوده على كرسي متحرك، ومعنويا بحرمانه من أبنائه ودفئهم، سواء بموتهم الفعلي أو المعنوي بهجرتهم.
وإذا كان سليمان قد فقد الحركة، فإن ابنيه الأول من زوجة شرعية ما عادت تطيقه، والثاني من زوجته غير الشرعية التي افتقدته ظنا منها أنه مات كما أوهمها بذلك الشخص الذي سعى إلى إدخاله إلى وطنه بشكل غير قانوني، يمكن اعتبارهما قدميه يتحركان به مرة إلى الخارج ومرة إلى الداخل فالقارئ سيلاحظ أن ابنه الشرعي تحرك إلى الخارج مبتعدا بسعيه إلى الانضمام إلى المجاهدين في سوريا بحثا عن هوية دينية بديلة لهويته الاجتماعية الموشومة بالتفكك والفقر والضياع، وأما ابنه غير الشرعي فقد تحرك باتجاه الداخل بحثا عن أبيه وبالتالي عن هويته الضائعة.
وما يزيد الرواية توترا غياب التواصل بين شخصيات العمل، فقد يحدث تواصل مؤقت يعقبه لا تواصل يقود إلى الانفصال. ولعل أبرز مثال لهذا التواصل المنقطع قصة سليمان وكنزة، إذ عاشا حالات من التواصل واللا تواصل طيلة أحداث الرواية؛ هذه القصة التي تعد لحمة الرواية وسداها، ومنها تفرعت باقي الأحداث والقصص.
فما هي تلك القصة؟
تتحدث عن سليمان الرجل المنحدر من أسرة فقيرة والقادم من الصحراء إلى إحدى المدن المغربية حيث عمل في البناء مما أكسبه بنية قوية ثم انتقل بعدها إلى رياضة بناء الأجسام ليكلل مساره بإنشاء ناد رياضي خاص به، ورغم مدخوله المتوسط، فقد جعله يشعر بأهميته واستقلاليته، وقد وقع في حب كنزة المراهقة التي تدرس في الثانوي. تبادلا الحب العفيف، وتواعدا على الزواج ليتدخل أخو كنزة وينصحها بالعدول عن ذلك لتتابع دراستها الجامعية ومنها تلج مجال التدريس، أما سليمان فسيتزوج إحدى رائدات ناديه، لكن هذا الزواج سيفشل نتيجة عوامل متعددة أهمها تدخل حماته وخاصة بعد إسقاط الجنين. وبقي طرفا الحكاية يحملان ذلك الحب الأول الذي سيعود بقوة ويتحقق الزواج، وبعد مسيرة حب جارف ستبدأ المشاكل في الظهور وبخاصة لما سعت كنزة إلى الحمل الذي تعذر عليها، فكان إلى جانب خيانات سليمان، النقطة التي أفاضت الكأس، فكان الطلاق، لتبقى كنزة وحيدة دون زواج فيما تزوج سليمان بربيعة الزوجة الثالثة التي أنجبت له توأما، وسيغادر إلى ديار الغربة في إطار هجرة غير شرعية، وهناك سيقيم علاقة مع هند سينتج عنها حمل غير شرعي يكون نتيجته ابن ضائع لا يعرف هويته، يشبهه في شكله، ويعيش وضعا نفسيا متأزما سيعلن عنه بتمرده على السلطة بمشاركته في المظاهرات العنيفة التي شهدتها فرنسا. في رحلة عودة سليمان السرية إلى المغرب سيتعرض لحادثة سير تقعده الكرسي مدى الحياة، وستذيقه زوجته كل أشكل الإهانات التي لم يكن قادرا على ردها لعجزه الدائم.
فالعلاقة عرفت مدا وجزرا، تواصلا وانفصالا؛ وهذه تيمة مطروقة لكنها معالجة بطريقة مختلفة.
ويظل سليمان محور العمل الروائي، فكل الأحداث ترتبط به، فهو المبتدأ والمنتهى.
ويمكن القول إن جل مادة العمل الروائي أتت من كنزة التي تلعب بشكل ما دور شهرزاد؛ فهي تحكي لاعبةً دور السارد المشارك في الأحداث، ولا تحكي إلا بطلب من سمية التي قدمتها الرواية على أنها روائية تستمد من حكي كنزة مادة روايتها الثانية.
أما باقي الرواية فيمكن القول إنها من خيال سمية الروائية التي قامت بتنظيم فوضى الأحداث وإعادة ترتيبها وفق منطق الرواية.
وهذا الأمر يجرنا للحديث عن الشكل الروائي الذي اعتمدته الرواية. فالبين أنها تلاعبت بأحداث الرواية تقديما وتأخيرا، لكن عمقها يظل كلاسيكيا بمساحيق تقنية حديثة.
فقد تم الاعتماد على الواقعية في الكتابة حيث يمكن أنتعرف القصة بلملمة أجزائها، إضافة إلى أن المدة الزمنية كانت ذات مساحة كبيرة تقارب الثلاثين سنة؛ وهي مساحة تم اعتمادها في الروايات الكلاسيكية، إضافة إلى عنصر التسلسل العائلي حيث نجد الجد فالأب ثم الأبناء، وكأنها شبيهة بروايات بالزاك، بخلاف الرواية الجديدة التي صارت بدورها كلاسيكية فقد اعتمدت على تكثيف الزمن باعتماد اليوم أو الساعة من مثل روايات جيمس جويس وبخاصة في روايته العميقة والمحيرة "يوليسس" التي اعتمدت تيار الوعي، هذه التقنية التي تم توظيفها في رواية "سمفونية الفوضى" بكثافة. والجدير بالذكر، هنا، أن جيمس جويس كان حريصا في كتاباته الأدبية على إبراز الحيوات الداخلية لشخصياته وما يتوالد في نفوسهم من أفكار وهواجس على حساب نقل الحوادث الاجتماعية،بخلاف الروائية التي استعانت بتلك التقنية في قراءة المجتمع والإنسان.
وما يلفت الانتباه هو تلك التلوينات اللغوية التي اعتمدتها الروائية في رصد بعض المواقف أو لحظة استبطان النفس واستكشاف أغوارها، أو حين تضع الأحداث أمام مرآة العقل، دون نسيان كون المبدعة شاعرة ولا يمكنها، والحالة هاته، أن تتملص من حضور اللغة الشعرية التي غمرت العمل من بدايته إلى نهايته. تقول في مفتتح الرواية الصفحة الثالثة:
تكبو الأحلام،
تعشونا أطياف الأوهام.
في فوضى عابثة، تتبعثر أوراق هرمت
وترامت
فوق ركام العمر.
هذه القطعة شعرية لا شك في ذلك، تحمل في طياتها عنصرين على الأقل:
أولهما حضور جزء من العنوان وبخاصة من خلال مفردة فوضى، وتقويها لفظة تبعثر، والأكيد أن الكتابة كانت بمثابة سمفونية تنظم ما تبعثر وتعيد إليه النظام من خلال تجميع تلك الأوراق وترتيبها وفق قانون الرواية ومعيارها.
ثانيهما، أن العمل يستقي بعض عناصره من السيري. والأكيد أن العمل الأول يظل مشدودا إلى سيرة صاحبه، لا يستطيع الفكاك منها إلا ما ندر. وتظل السيرة جزءا من الواقع الذي استلهمت منه حكايتها بأحداثها وزخمها. ص155 حيث تشير الساردة فيها إلى أن ما قامت به كنزة يعد بمثابة عملية تطهيرية تمسح من خلالها أدران الأزمنة والأمكنة، وفي الوقت نفسه تشير إلى أنها بصفتها روائية تجمع المادة وتحرص أن تكون شخصياتها وأحداث روايتها من صميم المجتمع ومن هموم الناس. تلتقط بكاميرا عينها كل ما يقع عليه نظرها، وتسجل في مذكرة، مع اهتمامها بالنبش في النفس الإنسانية في محاولة لاختراق دهاليزها وفهم دوافعها وكوابحها مع بسط كل ذلك بأسلوب فني متميز تعرف كيف توظف فيه اللغة والمصطلحات، إيمانا منها بدور الأدب عموما والرواية خصوصا في تنوير المتلقي وتثقيفه.
هكذا، نجد اللغة الصحافية التي تميل إلى نقل الأحداث بموضوعية كما في الفصل الثاني عشر..
واللغة الشعرية في حديث سليمان مع نفسه في بوح شعري يستجيب للحظة الاعتراف، كما في الصفحة 150 من الفصل العاشر.
واللغة ذات الحمولة الفكرية حين تتحدث كنزة عن الحب وعن بعض الأحداث التي عاشتها وأخضعتها للتشريح الفكري حتى تفهمها وتعي أبعادها ونتائجها ولتصير حكما يستفيد منها الغير. ص 156 على سبيل المثال.
ما يلاحظ هو غياب قاموس اشتغال الشخصيات، فلا نجد مفردات التعليم في لغة كنزة، ولا مفردات الرياضة في كلام سليمان، بالرغم من مساحة حديثهما الكبيرة. لكننا نجد، مقابل ذلك، حديثا عن التعليم في كلام سليمان يبرر به انقطاعه عن الدراسة رادا ذلك إلى عنف المدرسين واستبدادهم. وانقطاعه عن التعليم كان الإعاقة التي أدت إلى طلاقه من كنزة لغياب التفاهم، فلغة الحوار بينهما تعتمد التسلط وبخاصة من جانب سليمان الذي كان يفرض أفكاره ولا يراعي مشاعر زوجته.
تيمة المرأة في الرواية وقضايا أخرى:
تبرز تيمة المرأة في الرواية بشكل جلي وواضح، إذ تشير الساردة لوضعها المزري في الكثير من صفحات الرواية: بنتا وزوجة ومطلقة، بسبب المجتمع الذكوري الذي لا يرحم الأنثى لكونه يتصورها للمتعة ولا حقوق لها؛ لقد توارثت ذاكرة الرجل نظرته إلى المرأة بوصفها كينونة وهوية نظرة دونية، ومارس عليها شتى آليات الإقصاء ووسائل الاستلاب، ، فهو يمتلك حق الزواج بأكثر من واحدة، وله حق تطليقها متى شاء، دون تبعات، أو تحمل للمسؤولية، إذ يظل معفى منها يعيش حياته دون قيد، يسافر في مغامراته الجنسية لأن العرف يقول إن الرجل ملك كل النساء خارج بيته، ومن ثم له الحق أن يعاشرهن بكل حرية، وقد مارس سليمان هذا العرف بمنتهى الصدق الفحولي، وكان ناديه مجال إبراز عضلاته وفحولته، إذ عاش مغامرات كثيرة نتيجة ثقته في نفسه؛ تلك الثقة التي ستقوده إلى تلك الفاتنة هند وهو في المهجر، وكان نعم الفحل الذي وجد ضالته في امرأة شهوانية توازيه في قوة الفراش.
ورغم بضع الومضات المعبرة عن تمرد المرأة، ورفضها لهذا السجن الفكري؛ إلا أنها ظلت تقبع في دائرته الضيقة غير قادرة على قلب الأوضاع وتغيير نمط التفكير. فها هي كنزة وبعد طلاقها تنطلق لاستكشاف العالم صحبة صديقتها الروائية دون أن ينغص سعادتها أحد، ودون أن تطلب موافقة أحد محققة حريتها الفردية لا الجماعية. في حين، انتهت رحلة سليمان، ليصير عالة بعد أن كان فاعلا قويا؛ صار مقعدا كنوع من العقاب الذي لحق به جراء زناه ونتيجة إسقاطه للجنين. ويمتد عقابه ليطال أحد أبنائه التوأم.
والواقع إن "الهيمنة الذكورية" مفهوم يختصر واقعاً قائماً لا يساهم فيه الذكور وحدهم وإنما الإناث أيضاً وبشكل لا واع، إنّه اشتراك الضحية والجلاد في تبنّي التصورات والمقولات التصنيفية ذاتها، ممّا يسمح بالحديث عن إعادة إنتاج الهيمنة والمحافظة عليها بل وتأبيدها. انظر صص 42 و43 و132 و 187 و154على سبيل المثال لا الحصر.
أولت الرواية أهمية خاصة لموضوع الحب ليس اعتباطيا أو جزافيا ومجانيا وإنما لأنه أولا لا يزال من التابوهات المسكوت عنها؛ ثانيا وحيث إنه لا يطرق ويعالج رغم دوره الخطير في حياة الإنسان وعلاقته فإنه يتسبب في مشاكل خطيرة وممتدة، بفعل الفهم المغلوط لطبيعته. {محمد بوحاشي في قراءته للرواية}
كما انفتحت الرواية على قضايا أخرى منها قضية الجهاد وطريقة استقطاب العناصر وبخاصة من الفئات الهشة سريعة الاقتناع، وقضية المظاهرات العنيفة في فرنسا التي شارك فيها أبناء الجالية المغربية التي تعيش التهميش والضياع، الفصل الخامس عشر.فضلا عن تأثير الأفلام المصرية التي كانت تعرضها القناتان المغربيتان في الثمانينيات وبعدها المسلسلات اللاتينية ثم طوفان المسلسلات التركية، الأمر الذي بدأ يهدد الهوية المغربية، ويعمل على مسخها. دون إغفال قضية الانتخابات وما يعتريها من أحداث ص157. أضف إلى ذلك موضوع الشعوذة وصراع الأجيال بين الآباء والأبناء.
التشظي:
تشظت الحكاية حيث جاء آخرها في بدايتها، وتوزعت أحداثها على باقي الفصول، كما تشظت حكاية كنزة في رحلتها العلاجية من الصدمة التي عاشتها نتيجة زواج فاشل، لكنها لم تخلف منه ابنا؛ إذ لو أنجبت من زوجها سليمان لظلت سجينته طول حياتها. وما التشظي إلا تعبير عن الشخصيات المعطوبة؛ فجلها عاشت حياة مضطربة، تغلب عليها التعاسة وتسعى إلى إشباع رغباتها انتقاما من هذا النقص. كما هو الشأن بالنسبة لسليمان الذي أحب كنزة لأنه رأى فيها ما ينقصه؛ التعليم، ثم إنه سعى إليها سعيا ليتزوجها انتقاما منها حين تخلت عنه في بداية حبهما.
شخصيات تعيش نقصها بألم، وتواجه العالم بما استطاعت دون أن تعيد التوازن لنفسها، فلا كنزة تمكنت من الإنجاب؛ ولعله كان في صالحها، ولا سليمان تمكن من الاستمتاع بالدفء الأسري، ولا بقية زوجاته، وحتى منافسه المدعو الحنش الذي تمكن من معاشرة خليلته هند لم يتمكن من أن يعيش حياة هنية بل كانت مضطربة كادت تنتهي بإفلاسه.
البعد الإيروتيكي في الرواية:
لا شك أن قارئ الرواية سيكتشف أنها كانت جريئة في بعض مقاطعها ، وخاصة في وصف اللحظات الحميمية بين سليمان ونسائه. وفي خلوته بعد أن صار لصيق الكرسي ص5 وص 42.

01.jpg

ختاما:
اعتمدت الروائية تقنية السرد المباشر، مبرزة من خلاله المشاعر والخيالات التي تعج بالحركة والتفاعل بين الشخصيات كما استثمرت المونولوج الداخلي في الكثير من المحطات، وكانت تمسك بزمام مهمة السرد، مفسحة المجال لشخصياتها بمشاركتها في الحكي وبخاصة سليمان وكنزة، الشخصيتان المحوريتان في الرواية. فكانت بذلك رواية متعددة الأصوات تحت خيمة صوت الساردة المنظمة للعمل والمتحكمة فيه لغة وسردا، فجميع الشخصيات كانت تتحدث بلغة واحدة رغم اختلاف مستواها التعليمي والطبقي. كما أنها اعتمدت على مستوى اللغة التكثيف والرمز والتشبيهات، مما منح النص الروائي بعدا شعريا يفتح العمل على التأويل المتعدد.
**
1
إضاءة:
يعرف تيار الوعي في الأدب: ب»أنه ذلك الانسياب المتتابع والمتواصل للأفكار، كما يعبر عن سريانها باطنيا وذهنيا؛ حيث يصاحب ذلك العديد من التغييرات والتقلبات والتفاعلية، بالشكل المتواصل للأفكار داخل الذهن» وهو ما عبر عنه وليم جيمس (W.James) في تعريفه لذلك النمط السردي، المستند إلى السمت الانسيابي للنص، ومع الإقرار بأن هذا النمط لا يعد شكلا مستحدثا للسرد الروائي، وإنما وفقه، قدمت بعض الأعمال لفيرجينيا وولف، والبير كامو وفيودوردوستويفسكي وغيرهم؛ غير أنه يتميز بطبيعة خاصة، وكما أوجد جيمس ذلك المصطلح، فقد أوجد معه، دلالته المهمة عندما أقر بأنه يمثل: «جريان الذهن الذي يفترض فيه عدم الانتهاء والاستواء» حيث تكون الجمل فيه مفككة وغير مترابطة؛ لتحدث أثرها في تفجير النص، ومن ثَم تحقق ما يعرف بـ»مواجهة النص بالنص» والتساؤل عن التعارضات والتراتبيات؛ ليتم استنباط التناقضات وعدم الترابط؛ إذ أنه يتخذ من التفكيكية أسلوبا، يمكننا أن نتعرف إليه بوصفه «التيه الفعال والمنهجي» كما ذكر مؤسس النظرية في (هوامش Marges دريدا 1972).
منال رضوان، القدس العربي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى