1
زيارة كوخ مارتن هيدغر في قلب الغابة السوداء بألمانيا، من أجمل هدايا الشعر. ذلك ما كنت أتمناه منذ عهد بعيد. ثم حان الوقت، وحدث ما لم أكن أتخيّل تحقيقه. كثيراً ما تهيأتُ لهذه الزيارة، خاصة بعد أن كنت زرتُ، في التسعينيات من القرن الماضي، غرفة هلدرلين في بيت النجار إرنست زيمير بمدينة توبينغن. هلدرلين وهيدغر كأنهما أخوان عثر كل منهما على أخيه بعد أكثر من قرن. وأنا تتبعت أثرهما منذ نهاية الستينيات. لم أستعجل شيئاً منذ تلك السنوات، التي لم يبق منها سوى الرماد. قراأتٌ وتخيلاتٌ صاحبتها لأقترب من هذا الباحث عن العزلة في كوخ، متشبثاً بالإقامة في مسقط الرأس، بعيداً عن صخب فرايبورج وعالم التقنية.
حان وقت زيارة الكوخ مع مناسبة المشاركة في مهرجان هاوزاخ الدولي للشعر. حيث شاركت في إحياء أمسيته الافتتاحية، مساء الجمعة، العاشر من شهر يوليو من هذه السنة 2015، إلى جانب كل من أدونيس ويواخيم سارتوريوس. نحن الثلاثة في احتفال شعري لتكريم اللغة العربية من طرف الشاعر خوصي أوليفر. إنه الألماني من أبوين إسبانيين، وبالضبط من مالقة الأندلسية. يحمل في أحشائه حباً للعرب وشعرهم. كان يحلم بإقامة هذه الأمسية، وها قد تمت في أرقى صورة. وهجٌ شعري امتزج بأداء مقاطع موسيقية لشوبان على البيانو من أداء فرانك غوليشيفسكي، ثم اختتم الأمسية عازف السكسوفون هايدن خيشولم بمعزوفة لشوبان أيضاً، جمع فيها بين العزف الغربي وتهدج صوت كاهن من كهّان الزن.
أمسية لتكريم العربية في مهرجان ألماني، في زمن أصبح في الألمان يخافون حتى من ذكر اسم العرب. لكن القاعة غصت بجمهور من المدينة، الموجودة في الغابة السوداء، ومن وافدين عليها من مدن مجاورة، بل حتى من ستراسبورج، الفرنسية على حدود ألمانيا. جمهور متحفز للإنصات، وصمت مدهش يسود القاعة. لحظة شعرية بالعربية والألمانية. صاحبني في القراءة الممثل ستيفان فانكورا، وقرأ فؤاد آل عواد قصائد أدونيس بالألمانية، فيما كانت قراءة سارتوريوس بالألمانية ممتزجة بقراءة أدونيس لبعض قصائده بالعربية. سارتوريوس، المولود في تونس، يظل من أقرب الشعراء الألمان إلى الشعراء العرب والعالم العربي وثقافته.
2
في صباح الجمعة زارَنا خوصي أوليفر نحن الإثنين، أدونيس وأنا، في الفندق ليعبّر لنا عن فرحه بقدومنا. وأثناء جلستنا، حول كأس شاي، سألت خوصي عما إذا كانت هناك إمكانية للقيام بجولة في الغابة السوداء، بقصد التعرف على بعض معالمها الطبيعية. وعندما أجاب بالإيجاب أوضحت رغبتي أكثر، وخصصت له المكان المقصود، كوخ مارتن هيدغر في الغابة السوداء. أجاب على الفور، نعم، هذا ممكن جداً. أختي فيكتوريا، قال، هي التي ستتكلف بنقلكم إلى هناك وستزورون الكوخ. على التو حضرت فيكتوريا. سيدة تبدو عليها علامات الضيافة والكرم. وبابتسامة عميقة هزّت رأسها موافقة، وقالت لنا «سيكون يوم الغد صباحاً مناسباً للزيارة».
جاء صباح السبت قبل موعده. استيقظتُ وفي عيني بقية من بريق الأمسية الشعرية. بخفة هيأتُ نفسي ونزلت إلى المطعم، حيث وجدت أدونيس وسارتوريوس وفؤاد آل عواد وصديقته يتناولون الفطور. أخذنا الحديث من الأمسية الشعرية إلى الرحلة المنتظرة. وقبل أن أنتهي من تناول الفطور حضرت فيكتوريا بابتسامتها وباستعدادها الحيوي. وحوالي العاشرة كنا ركبنا السيارتين، فيكتوريا وأدونيس وأنا في سيارة رباعية الدفع، ولانا وسارتوريوس وفؤاد في سيارة صغيرة.
بين هاوزاخ وتودناوبيرج مسافة ثمانين كيلومتراً. سنعبر فرايبورغ ونتجه نحو الجنوب، قالت لنا فيكتوريا. في جامعة فرايبورغ درس هيدغر وحصل سنة 1913 على رتبة دكتور في الفلسفة، وخطا خطواته الأولى في التدريس. وبعد أن قضى خمس سنوات (1923ـ1928) أستاذاً للتعليم العالي في جامعة ماربورغ، عاد إلى فرايبورغ التي عين فيها أستاذاً رسمياً، خلفاً لصديقه هوسرل الذي اقترحه ليدرس في كرسيه. وفي السنة ذاتها نشر كتاب «الكينونة والزمان»، بمساعدة من هوسرل، ثم انتخب بشبه إجماع في 21 أبريل 1933، عميداً للكلية. وتوالت الوقائع في فترة انتمائه إلى الحزب النازي، لكنه قدم استقالته من العمادة عام 1934، بعد سنة واحدة من تحمل مسؤوليتها. وتفاصيل الوقائع هي ما كشفت عنه «الدفاتر السوداء» لهيدغر التي نشرت سنة 2014، وتتضمن مقاطع معادية للسامية نشرت منذ نهاية 2013.
3
قبل مغادرة الفندق، سأل أدونيس سارتوريوس عما إذا كان يعتقد حقاً أن هيدغر كان نازياً ولاسامياً، فلم يتردد سارتوريوس في تأكيد ذلك. عندها كان السؤال عن دلالة الزيارة التي قام بها بول تسيلان لهيدغر في كوخه سنة 1967. وخلال الرحلة لم نكد نتوقف نحن الثلاثة، فيكتوريا وأدونيس وأنا، عن تبادل الحديث في الموضوعين معاً. فيكتوريا تنبهنا، من حين لآخر، على المناطق التي نقطعها أو تشير بيدها إلى وسط مدينة فرايبورغ، حيث توجد الجامعة التي درس هيدغر فيها واشتغل. كنت أغفو قليلاً أو أتخيل، ونحن نقطع شوارع فرايبورغ، كيف كان هيدغر يعيش في هذه المدينة، وأين كانت له فيها أماكن مفضلة، خارج الجامعة والبيت. لكني كنت أتخيله وهو جالس في قاعة بالجامعة يلقي درساً أو محاضرة في موضوع هلدرلين والشعر.
طيلة الطريق كانت أشجار الغابة السوداء تحيط بنا من كل جانب. أشجار الزان والأرز والسنديان والجوز سامقة بشكل غير عادي، كأنما هي أعمدة ترفع السماء إلى أعلى فأعلى. طول الأشجار قد يصل إلى خمسين متراً، مع رشاقة بادية في أشجار الأرز. بين مساحات وأخرى من الأشجار توجد فراغات معشوشبة، وفي وسطها أو أطرافها بيوت خشبية مع كثرة الزهور والورود في الشرفات بألوانها المتقدة والمشعة من بعيد. بنايات فرايبورغ، التي تمكنت من مشاهدتها من خلف زجاج السيارة، لا تختلف عن البنايات في ميونيخ أو برلين أو حتى بون. والأخرى، التي يظهر عليها أنها تعود لما بعد الحرب الثانية ودمار ألمانيا، هي نفسها هنا وهناك في جهات ومدن متعددة، حيث يغلب عليها التقشف في التزيين وذات أشكال مستطيلة شبه موحدة. ألوان جدران البيوت القديمة بيضاء مع استعمال الخشب كهيكل، إضافة إلى الأبواب والنوافذ وأرضية البيوت. أما في البيوت الحديثة فإن ألوان الجدران غالباً ما تكون زاهية وشديدة الاختلاف. أحببت منها الأصفر والوردي والزيتي. ويسود الأبيض جدران بنايات موزعة بين المدن والقرى.
4
طريق كثيرة المنعرجات. وأنا يستغرقني التأمل والتخيل في آن. ثم تعلن فيكتوريا عن قربنا من تودناو. وبدلا من متابعة السير على الطريق الرئيسة، انحرفت نحو طريق صغرى باتجاه اليسار. «من هنا، نتابع السير» قالت. أخذنا نصعد ونعبر المنعرجات والمروج والأشجار الباسقة، حتى انتهي بنا السير إلى مدخل تودناوبيرغ. على لوحة بيضاء كبيرة الحجم كتبت عبارة الترحيب بالزوار في القرية، ويزين اللون الأخضر أسفلها. هذه تودناوبيرغ، إذن. سألت فيكتوريا نحات خشب يصنع فطريات، رمز القرية، فدلها على الطريق. ثم بعد بضع دقائق كنا أمام امرأة ورجل يشتغلان بتقسيم ألواح الخشب. حفيدا فلاح كان يتردد عليه هيدغر. سألتهما فيكتوريا عن الكوخ فأشارا بيديهما نحو الأعلى، وطلبا منها أن تركن السيارة في جهة الظل قرب مخزنين كبيرين. كذلك فعلت، وتبعتها صديقة فؤاد آل عواد.
نزلنا من السيارة وشرعنا نحدق في الكوخ الموجود أمامنا في أعلى المنحدر. أشار علينا الرجل بالتوجه يساراً للاطلاع على لوحة تعريفية بالمكان، وأخبرنا أن الطريق المعبدة هي طريق الجولة المؤدية إلى الكوخ، طولها حوالي ستة كيلومترات. اتجهنا نحو اللوحة، فأخذ سارتوريوس في قراءة فقرة معناها أن هيدغر كان يوزع نسخاً من كتابه «الكينونة والزمان» على بعض سكان القرية ويطلب منهم أن يقرأوه. ولكنهم لم يكونوا يفهمون شيئاً مما يقرؤون. في اللوحة صور هيدغر بلباس سكان القرية مع زوجته وبعض أصدقائه وأبنائه. بادرنا، نحن الثلاثة، أدونيس وسارتوريوس وأنا، إلى أخذ صورة تذكارية، وعدنا من جديد إلى مكان ركن السيارة.
لم نتأخر عن الانطلاق، نصعد المنحدر وسط الأعشاب، في خط مستقيم، نحو الكوخ. اعتقدت في البداية أن الصعود لا يتطلب مجهوداً جسدياً مضنياً. لكن الواقع كان بخلاف ذلك. في منتصف المنحدر توقفت، أنفاسي تتهدج ودقات القلب تتسارع. ثم استأنفت الصعود، اقتناعاً مني بأني أقوم برياضة مفيدة للقلب، ولكني عجزت للمرة الثانية. وبعد لحظة قصيرة وقفت. وعاودت الصعود فيما لانا تشد بيدي، تساعدني على الوصول إلى الحافة. كنت أنظر إلى الأرض وأخطو صاعداً في صمت، حتى وصلت. وبتلقائية جلست على الأرض، أمام منظر المنحدر والقرية وما يحيط بها من أشجار الغابة، أو ما يصلني من خوار بقرات لا أراها.
5
في لمح البصر تزاحم في ذهني ما كنت قرأته لهيدغر عن الوجود الأصيل، عن المكان والسكن، وعن مسقط الرأس. لكنني فضلت مواصلة الصعود حتى وضعت يدي اليسرى على جدار الكوخ الخشبي، وأنا أتنفس بقوة شديدة. حدقت في بياض الجدارين الظاهرين، وفي أخضر الباب والنوافذ بإطارات ذات لون أزرق غامق. ثم جمعت ما بقي من قواي وتوجهت نحو درجات عتبة الكوخ المغلق. تخبر ورقة تعريفية، حصلنا عليها لاحقاً، بأن الكوخ لا يزال في ملكية الأحفاد، وترجو من الزائرين احترام الحياة الخاصة للعائلة. قعدت فوق الدرجة الأولى للعتبة. ها أنا هنا. الجلوس فوق العتبة يكفي. صور للذكرى. جاء أدونيس وأخذنا صورة مشتركة، ثم لحق بنا فؤاد آل عواد، فيما فضل سارتوريوس البقاء في أسفل السفح والجلوس فوق كرسي أمام منظر القرية.
بني هذه الكوخ سنة 1922، حيث غالباً ما كان هيدغر يلجأ إلى العزلة والتأمل في الكينونة ومعنى الكينونة. فهو كان يرى أن العزلة تساعد على «إلقاء الوجود كاملاً في القرب الواسع لجوهر جميع الأشياء». ولم يأت اختيار المكان لبناء الكوخ من الحب الشديد للغابة السوداء فقط، بل إن ما قوّم المكان، في الغابة السوداء، كما وصفه، في كتابات عديدة، هي سلطته «سلطة أن تجلب إلى الأشياء الأرضَ والسماءَ، الإلهيين والفانين في بساطتهم. هذه السلطة هي التي وضعت البيت على سفح الجبل، في مأمن من الريح وقبالة منتصف النهار بين المروج وبالقرب من المنبع».
الكوخ واختيار مكانه لهما دلالة السكن في أرض مسقط الرأس والكتابة بلغة مسقط الرأس. ومن دلالاته الأشد حضوراً في كتابات هيدغر هو هذا التربيع: الأرض والسماء، الإلهيون (أو السماويون) والفانون، الذي يعطي للسكن معناه الوجودي. ففي هذا الكوخ كتب جزء من كتاب «الكينونة والزمان»، وانتهى منه في 8 أبريل من عام 1926 كما كتب عدة أعمال.
تذكرت زيارة جان بوفري لهيدغر في هذا الكوخ أول مرة في خريف 1945، السنة التي حاكمت فيها سلطات الاحتلال الفرنسي هيدغر وأصدرت حكمها عليه بالمنع من التدريس في جامعة فرايبورغ من 1945 حتى 1951، بعد أن كان النازيون، قبل الفرنسيين، منعوه سنة 1944 من التدريس. ثم ترددت داخلي أصداء الحديث بيننا، نحن الثلاثة، عن الزيارة التي كان قام بها بول تسيلان لهيدغر في 25 يوليو من سنة 1967، على إثر حرب الستة أيام، ولا أحد يعرف ما الذي كان دار بالضبط بينهما. ما نعرف ينحصر في خبر الزيارة الذي كتبه تسيلان عنها في رسالة إلى زوجته جيزيل، مؤرخة في 2 غشت، أو ما رواه رولان دو مورا أن تسيلان كتب في الدفتر الذهبي للكوخ: «في كتاب الكوخ، مع نظرة على نجمة النافورة، مع أمل في كلمة تأتي إلى القلب»، أو القصيدة التي نستشف منها الكلمات ذاتها لما أورده رولان دو مورا.
6
زيارة هذا الكوخ سميتها حجّاً، وهي الكلمة المستعملة من طرف أغلب الزائرين. لم يكن القصد من الحجّ تباهياً بالوصول إلى الكوخ، ولا من أجل نيل بركة هيدغر. ثمة جانب آخر أتعلق به على الدوام، هو سلطة الأمكنة، من نواح مختلفة. أنا محب للأمكنة، وهي عندما ترتبط باسم شاعر أو متصوف أو فيلسوف أو فنان فإن الأمر يحمل دلالات لا حد لها.
كنت أرغب في معرفة خصوصية المكان وطبيعة الكوخ. وعندما وصلت وجدتني أمام الاختيار ذاته لكتاب وفنانين ومتصوفة. وتذكرت على التو مقام ومزار المتصوف المغربي مولاي عبد السلام بن مشيش، في جبل العلم بشمال المغرب. هناك وهنا سلطة المكان وبساطة البناء. وهو ما يساعد على العزلة والتأمل. لن أسقط في شرك إلغاء الفروقات الضرورية بين الشخصيتين، ولن أقارن بينهما. فأنا أرى دائماً أن المقارنة تكون بين الصغار، أما المقارنة بين الكبار فهي تفتقد كل معنى. كنت أرغب في الزيارة وأنا أعرف مدى الانتقادات الموجهة منذ التسعينيات لهيدغر.
نسيت لبرهة مسألة انتماء هيدغر للنازية وموقفه من اللاسامية. ذلك أنني لم أتحمس قط للأحكام المتداولة. شخصياً لا يقنعني الرأي السائد عن زيارة بول تسيلان باعتبارها كانت مناسبة لطرح السؤال بخصوص ما قيل عن لاسامية هيدغر. حقاً، زار بول تسيلان هيدغر بعد حرب 1967، لكن ما هو منطقي هو أن يكون الحديث الذي دار بينهما يتعلق بالشعر، ولم يكن ليكون إلا كلام المريد للشيخ. والمناسبة ليست للإفاضة في هذا الموضوع الشائك. كما أنني لن أضيف شيئا إلى ما قيل عن الانتماء إلى النازية.
هناك، عند الكوخ، استبدت بي أفكار وتأملات أخرى، في مقدمتها علاقة هيدغر بهلدرلين، أو علاقته بالشعر إجمالاً، شعر ريلكه وتراكل وشتيفان جورج وروني شار، وباللغة ومسقط الرأس، من خلال الشعر. لا شك أن مكانة هلدرلين ظلت هي الأكثر تأثيراً في فكره. ففي شعر هلدرلين وقع هيدغر على مصدر الموجهات الكبرى لفكره: فكرة الوطن (الموطن، مسقط الرأس) وفكرة اللغة. لقد كان هيدغر تعرف أول مرة على شعر هلدرلين سنة 1908، سنة قبل حصوله على الباكلوريا، ولم يكتب عنه للمرة الأولى إلا سنة 1935، ثم تلتها دروس ومحاضرات في 1939 و 1940 وامتدت حتى 1945. أكبر فيلسوف غربي في القرن العشرين يقرأ شاعراً ويعنى بالشعر، هي الخصيصة التي حولت النظر إلى كل من الفلسفة والشعر في الدراسات الغربية، وخاصة في فرنسا السبعينيات من القرن الماضي. ذلك ما جعلني أتعلق أكثر بهيدغر وفكره. وما كنت أجده منعشاً في القراءة لديه هو أنه يلحّ على أن «ينصت» إلى ما تقوله القصيدة بدلاً من اتباع مسار التأويل. لهذا كتب «الخطوة الأخيرة..لكل تأويل تتمثل في الاختفاء مع جميع هذه الإضاأت أمام الحضور الخالص للقصيدة».
7
على سفح المنحدر جلست هنيهة، فيما كان الآخرون ينزلون صوب مكان ركن السيارة. لم أنتبه كثيراً لنزولهم. كنت مأخوذاً بفكرة مسقط الرأس التي كتبها هلدرلين في مطولاته، ومن بينها قصيدة «العودة» الشهيرة. وهي الفكرة ذاتها التي تشبث بها هيدغر، وبسببها تخلى عن تلبية طلب الالتحاق بالعمل كأستاذ جامعي في كل من جامعتي ميونيخ وبرلين للعمل فيهما، مفضلا البقاء في مكان مسقط رأسه، الغابة السوداء. إنه اختيار الإقامة في حضن هذا التربيع، بين السماء والأرض، بين السماويين والفانين.
هذه الفكرة المحورية في فلسفته ليست بسيطة كما قد تبدو عند النظرة الأولى. فتأسيس الشعراء للإقامة على الأرض، كما يذكر هلدرلين، تخضع لشروط. لذلك يكتب هيدغر في قراءته لقصيدة «ذكريات» بأن «من بين الشروط التي على الشاعر أن ينفذها من أجل الوصول إلى أن يكون في بيته حسبما ينفرد به هو أن يسافر إلى الخارج». فالسفر بعيداً عن الوطن ضرورة على الشاعر أن يحترمها من أجل العودة إلى البيت والإقامة حسبما ينفرد من تاريخ وتراث. فكرة كثيراً ما كانت تدفعني إلى التأمل في وضعية الشعراء والكتاب والفنانين العرب، في العصر الحديث. بين الإقامة في مسقط الرأس والسفر من أجل العودة، أو السفر بدون عودة، أسئلة لا تتوقف عن الثقافة والزمن.
بسرعة خاطفة كانت الأفكار تتوارد على ذهني. ولأن وقت الزيارة كان محدوداً، فقد انتبهت إلى شرودي ولحقت بالآخرين، وأنا أنزل المنحدر بعناء أقل من عناء الصعود. أنزل وأتابع التفكير، عبر حوار باطني مع نفسي. اتضح لي أني كنت مهتماً على الدوام بقراأت هيدغر للشعر ونيتشه، بالدرجة الأولى. كما تذكرت الوجودية التي كنا تلقيناها عن طريق جان بول سارتر، وكان استفاد فيها من هيدغر، فيلسوف الكينونة. أما ما كان أثارني لدى هيدغر، في مسألة الكينونة، فهو التفكير في الموت والعدم كطريق للتفكير في الحياة والوجود. كان ذلك مدهشاً بالنسبة لي، أنا الذي تعودتُ على الانشغال بواقع الموت وأظل أعتبره سرّ كل ما هو موجود في الحياة. وبذلك كنت أنظر إلى الشعر كمعبر للوجود الأصيل، الذي لا يختفي فيه القلق ولا يتوقف استدعاء المجهول.
8
ذلك هو الحج إلى كوخ هيدغر، في تودناوبيرغ، في قلب الغابة السوداء. حج للتأمل وربط الصلة بسؤال معنى الموت والحياة، بسؤال معنى الشعر والسكن واللغة، في زمن لم نعد نعرف فيه ما المقصود من كلمة المعنى في ثقافتنا العربية اليوم. كان حجاً جماعياً، وكان كل واحد منا، أدونيس وسارتوريوس وأنا، نعيد طرح الأسئلة. وفي كلماتنا ما نشترك فيه، بين ثقافتين، عربية وغربية، وبين مكانين، غير متكافئين، في صياغة فكرة جديدة ومبدعة عن الشعر وضرورته، «لأنه يجب أن نفهم جوهر اللغة انطلاقاً من جوهر الشعر”.
زيارة كوخ مارتن هيدغر في قلب الغابة السوداء بألمانيا، من أجمل هدايا الشعر. ذلك ما كنت أتمناه منذ عهد بعيد. ثم حان الوقت، وحدث ما لم أكن أتخيّل تحقيقه. كثيراً ما تهيأتُ لهذه الزيارة، خاصة بعد أن كنت زرتُ، في التسعينيات من القرن الماضي، غرفة هلدرلين في بيت النجار إرنست زيمير بمدينة توبينغن. هلدرلين وهيدغر كأنهما أخوان عثر كل منهما على أخيه بعد أكثر من قرن. وأنا تتبعت أثرهما منذ نهاية الستينيات. لم أستعجل شيئاً منذ تلك السنوات، التي لم يبق منها سوى الرماد. قراأتٌ وتخيلاتٌ صاحبتها لأقترب من هذا الباحث عن العزلة في كوخ، متشبثاً بالإقامة في مسقط الرأس، بعيداً عن صخب فرايبورج وعالم التقنية.
حان وقت زيارة الكوخ مع مناسبة المشاركة في مهرجان هاوزاخ الدولي للشعر. حيث شاركت في إحياء أمسيته الافتتاحية، مساء الجمعة، العاشر من شهر يوليو من هذه السنة 2015، إلى جانب كل من أدونيس ويواخيم سارتوريوس. نحن الثلاثة في احتفال شعري لتكريم اللغة العربية من طرف الشاعر خوصي أوليفر. إنه الألماني من أبوين إسبانيين، وبالضبط من مالقة الأندلسية. يحمل في أحشائه حباً للعرب وشعرهم. كان يحلم بإقامة هذه الأمسية، وها قد تمت في أرقى صورة. وهجٌ شعري امتزج بأداء مقاطع موسيقية لشوبان على البيانو من أداء فرانك غوليشيفسكي، ثم اختتم الأمسية عازف السكسوفون هايدن خيشولم بمعزوفة لشوبان أيضاً، جمع فيها بين العزف الغربي وتهدج صوت كاهن من كهّان الزن.
أمسية لتكريم العربية في مهرجان ألماني، في زمن أصبح في الألمان يخافون حتى من ذكر اسم العرب. لكن القاعة غصت بجمهور من المدينة، الموجودة في الغابة السوداء، ومن وافدين عليها من مدن مجاورة، بل حتى من ستراسبورج، الفرنسية على حدود ألمانيا. جمهور متحفز للإنصات، وصمت مدهش يسود القاعة. لحظة شعرية بالعربية والألمانية. صاحبني في القراءة الممثل ستيفان فانكورا، وقرأ فؤاد آل عواد قصائد أدونيس بالألمانية، فيما كانت قراءة سارتوريوس بالألمانية ممتزجة بقراءة أدونيس لبعض قصائده بالعربية. سارتوريوس، المولود في تونس، يظل من أقرب الشعراء الألمان إلى الشعراء العرب والعالم العربي وثقافته.
2
في صباح الجمعة زارَنا خوصي أوليفر نحن الإثنين، أدونيس وأنا، في الفندق ليعبّر لنا عن فرحه بقدومنا. وأثناء جلستنا، حول كأس شاي، سألت خوصي عما إذا كانت هناك إمكانية للقيام بجولة في الغابة السوداء، بقصد التعرف على بعض معالمها الطبيعية. وعندما أجاب بالإيجاب أوضحت رغبتي أكثر، وخصصت له المكان المقصود، كوخ مارتن هيدغر في الغابة السوداء. أجاب على الفور، نعم، هذا ممكن جداً. أختي فيكتوريا، قال، هي التي ستتكلف بنقلكم إلى هناك وستزورون الكوخ. على التو حضرت فيكتوريا. سيدة تبدو عليها علامات الضيافة والكرم. وبابتسامة عميقة هزّت رأسها موافقة، وقالت لنا «سيكون يوم الغد صباحاً مناسباً للزيارة».
جاء صباح السبت قبل موعده. استيقظتُ وفي عيني بقية من بريق الأمسية الشعرية. بخفة هيأتُ نفسي ونزلت إلى المطعم، حيث وجدت أدونيس وسارتوريوس وفؤاد آل عواد وصديقته يتناولون الفطور. أخذنا الحديث من الأمسية الشعرية إلى الرحلة المنتظرة. وقبل أن أنتهي من تناول الفطور حضرت فيكتوريا بابتسامتها وباستعدادها الحيوي. وحوالي العاشرة كنا ركبنا السيارتين، فيكتوريا وأدونيس وأنا في سيارة رباعية الدفع، ولانا وسارتوريوس وفؤاد في سيارة صغيرة.
بين هاوزاخ وتودناوبيرج مسافة ثمانين كيلومتراً. سنعبر فرايبورغ ونتجه نحو الجنوب، قالت لنا فيكتوريا. في جامعة فرايبورغ درس هيدغر وحصل سنة 1913 على رتبة دكتور في الفلسفة، وخطا خطواته الأولى في التدريس. وبعد أن قضى خمس سنوات (1923ـ1928) أستاذاً للتعليم العالي في جامعة ماربورغ، عاد إلى فرايبورغ التي عين فيها أستاذاً رسمياً، خلفاً لصديقه هوسرل الذي اقترحه ليدرس في كرسيه. وفي السنة ذاتها نشر كتاب «الكينونة والزمان»، بمساعدة من هوسرل، ثم انتخب بشبه إجماع في 21 أبريل 1933، عميداً للكلية. وتوالت الوقائع في فترة انتمائه إلى الحزب النازي، لكنه قدم استقالته من العمادة عام 1934، بعد سنة واحدة من تحمل مسؤوليتها. وتفاصيل الوقائع هي ما كشفت عنه «الدفاتر السوداء» لهيدغر التي نشرت سنة 2014، وتتضمن مقاطع معادية للسامية نشرت منذ نهاية 2013.
3
قبل مغادرة الفندق، سأل أدونيس سارتوريوس عما إذا كان يعتقد حقاً أن هيدغر كان نازياً ولاسامياً، فلم يتردد سارتوريوس في تأكيد ذلك. عندها كان السؤال عن دلالة الزيارة التي قام بها بول تسيلان لهيدغر في كوخه سنة 1967. وخلال الرحلة لم نكد نتوقف نحن الثلاثة، فيكتوريا وأدونيس وأنا، عن تبادل الحديث في الموضوعين معاً. فيكتوريا تنبهنا، من حين لآخر، على المناطق التي نقطعها أو تشير بيدها إلى وسط مدينة فرايبورغ، حيث توجد الجامعة التي درس هيدغر فيها واشتغل. كنت أغفو قليلاً أو أتخيل، ونحن نقطع شوارع فرايبورغ، كيف كان هيدغر يعيش في هذه المدينة، وأين كانت له فيها أماكن مفضلة، خارج الجامعة والبيت. لكني كنت أتخيله وهو جالس في قاعة بالجامعة يلقي درساً أو محاضرة في موضوع هلدرلين والشعر.
طيلة الطريق كانت أشجار الغابة السوداء تحيط بنا من كل جانب. أشجار الزان والأرز والسنديان والجوز سامقة بشكل غير عادي، كأنما هي أعمدة ترفع السماء إلى أعلى فأعلى. طول الأشجار قد يصل إلى خمسين متراً، مع رشاقة بادية في أشجار الأرز. بين مساحات وأخرى من الأشجار توجد فراغات معشوشبة، وفي وسطها أو أطرافها بيوت خشبية مع كثرة الزهور والورود في الشرفات بألوانها المتقدة والمشعة من بعيد. بنايات فرايبورغ، التي تمكنت من مشاهدتها من خلف زجاج السيارة، لا تختلف عن البنايات في ميونيخ أو برلين أو حتى بون. والأخرى، التي يظهر عليها أنها تعود لما بعد الحرب الثانية ودمار ألمانيا، هي نفسها هنا وهناك في جهات ومدن متعددة، حيث يغلب عليها التقشف في التزيين وذات أشكال مستطيلة شبه موحدة. ألوان جدران البيوت القديمة بيضاء مع استعمال الخشب كهيكل، إضافة إلى الأبواب والنوافذ وأرضية البيوت. أما في البيوت الحديثة فإن ألوان الجدران غالباً ما تكون زاهية وشديدة الاختلاف. أحببت منها الأصفر والوردي والزيتي. ويسود الأبيض جدران بنايات موزعة بين المدن والقرى.
4
طريق كثيرة المنعرجات. وأنا يستغرقني التأمل والتخيل في آن. ثم تعلن فيكتوريا عن قربنا من تودناو. وبدلا من متابعة السير على الطريق الرئيسة، انحرفت نحو طريق صغرى باتجاه اليسار. «من هنا، نتابع السير» قالت. أخذنا نصعد ونعبر المنعرجات والمروج والأشجار الباسقة، حتى انتهي بنا السير إلى مدخل تودناوبيرغ. على لوحة بيضاء كبيرة الحجم كتبت عبارة الترحيب بالزوار في القرية، ويزين اللون الأخضر أسفلها. هذه تودناوبيرغ، إذن. سألت فيكتوريا نحات خشب يصنع فطريات، رمز القرية، فدلها على الطريق. ثم بعد بضع دقائق كنا أمام امرأة ورجل يشتغلان بتقسيم ألواح الخشب. حفيدا فلاح كان يتردد عليه هيدغر. سألتهما فيكتوريا عن الكوخ فأشارا بيديهما نحو الأعلى، وطلبا منها أن تركن السيارة في جهة الظل قرب مخزنين كبيرين. كذلك فعلت، وتبعتها صديقة فؤاد آل عواد.
نزلنا من السيارة وشرعنا نحدق في الكوخ الموجود أمامنا في أعلى المنحدر. أشار علينا الرجل بالتوجه يساراً للاطلاع على لوحة تعريفية بالمكان، وأخبرنا أن الطريق المعبدة هي طريق الجولة المؤدية إلى الكوخ، طولها حوالي ستة كيلومترات. اتجهنا نحو اللوحة، فأخذ سارتوريوس في قراءة فقرة معناها أن هيدغر كان يوزع نسخاً من كتابه «الكينونة والزمان» على بعض سكان القرية ويطلب منهم أن يقرأوه. ولكنهم لم يكونوا يفهمون شيئاً مما يقرؤون. في اللوحة صور هيدغر بلباس سكان القرية مع زوجته وبعض أصدقائه وأبنائه. بادرنا، نحن الثلاثة، أدونيس وسارتوريوس وأنا، إلى أخذ صورة تذكارية، وعدنا من جديد إلى مكان ركن السيارة.
لم نتأخر عن الانطلاق، نصعد المنحدر وسط الأعشاب، في خط مستقيم، نحو الكوخ. اعتقدت في البداية أن الصعود لا يتطلب مجهوداً جسدياً مضنياً. لكن الواقع كان بخلاف ذلك. في منتصف المنحدر توقفت، أنفاسي تتهدج ودقات القلب تتسارع. ثم استأنفت الصعود، اقتناعاً مني بأني أقوم برياضة مفيدة للقلب، ولكني عجزت للمرة الثانية. وبعد لحظة قصيرة وقفت. وعاودت الصعود فيما لانا تشد بيدي، تساعدني على الوصول إلى الحافة. كنت أنظر إلى الأرض وأخطو صاعداً في صمت، حتى وصلت. وبتلقائية جلست على الأرض، أمام منظر المنحدر والقرية وما يحيط بها من أشجار الغابة، أو ما يصلني من خوار بقرات لا أراها.
5
في لمح البصر تزاحم في ذهني ما كنت قرأته لهيدغر عن الوجود الأصيل، عن المكان والسكن، وعن مسقط الرأس. لكنني فضلت مواصلة الصعود حتى وضعت يدي اليسرى على جدار الكوخ الخشبي، وأنا أتنفس بقوة شديدة. حدقت في بياض الجدارين الظاهرين، وفي أخضر الباب والنوافذ بإطارات ذات لون أزرق غامق. ثم جمعت ما بقي من قواي وتوجهت نحو درجات عتبة الكوخ المغلق. تخبر ورقة تعريفية، حصلنا عليها لاحقاً، بأن الكوخ لا يزال في ملكية الأحفاد، وترجو من الزائرين احترام الحياة الخاصة للعائلة. قعدت فوق الدرجة الأولى للعتبة. ها أنا هنا. الجلوس فوق العتبة يكفي. صور للذكرى. جاء أدونيس وأخذنا صورة مشتركة، ثم لحق بنا فؤاد آل عواد، فيما فضل سارتوريوس البقاء في أسفل السفح والجلوس فوق كرسي أمام منظر القرية.
بني هذه الكوخ سنة 1922، حيث غالباً ما كان هيدغر يلجأ إلى العزلة والتأمل في الكينونة ومعنى الكينونة. فهو كان يرى أن العزلة تساعد على «إلقاء الوجود كاملاً في القرب الواسع لجوهر جميع الأشياء». ولم يأت اختيار المكان لبناء الكوخ من الحب الشديد للغابة السوداء فقط، بل إن ما قوّم المكان، في الغابة السوداء، كما وصفه، في كتابات عديدة، هي سلطته «سلطة أن تجلب إلى الأشياء الأرضَ والسماءَ، الإلهيين والفانين في بساطتهم. هذه السلطة هي التي وضعت البيت على سفح الجبل، في مأمن من الريح وقبالة منتصف النهار بين المروج وبالقرب من المنبع».
الكوخ واختيار مكانه لهما دلالة السكن في أرض مسقط الرأس والكتابة بلغة مسقط الرأس. ومن دلالاته الأشد حضوراً في كتابات هيدغر هو هذا التربيع: الأرض والسماء، الإلهيون (أو السماويون) والفانون، الذي يعطي للسكن معناه الوجودي. ففي هذا الكوخ كتب جزء من كتاب «الكينونة والزمان»، وانتهى منه في 8 أبريل من عام 1926 كما كتب عدة أعمال.
تذكرت زيارة جان بوفري لهيدغر في هذا الكوخ أول مرة في خريف 1945، السنة التي حاكمت فيها سلطات الاحتلال الفرنسي هيدغر وأصدرت حكمها عليه بالمنع من التدريس في جامعة فرايبورغ من 1945 حتى 1951، بعد أن كان النازيون، قبل الفرنسيين، منعوه سنة 1944 من التدريس. ثم ترددت داخلي أصداء الحديث بيننا، نحن الثلاثة، عن الزيارة التي كان قام بها بول تسيلان لهيدغر في 25 يوليو من سنة 1967، على إثر حرب الستة أيام، ولا أحد يعرف ما الذي كان دار بالضبط بينهما. ما نعرف ينحصر في خبر الزيارة الذي كتبه تسيلان عنها في رسالة إلى زوجته جيزيل، مؤرخة في 2 غشت، أو ما رواه رولان دو مورا أن تسيلان كتب في الدفتر الذهبي للكوخ: «في كتاب الكوخ، مع نظرة على نجمة النافورة، مع أمل في كلمة تأتي إلى القلب»، أو القصيدة التي نستشف منها الكلمات ذاتها لما أورده رولان دو مورا.
6
زيارة هذا الكوخ سميتها حجّاً، وهي الكلمة المستعملة من طرف أغلب الزائرين. لم يكن القصد من الحجّ تباهياً بالوصول إلى الكوخ، ولا من أجل نيل بركة هيدغر. ثمة جانب آخر أتعلق به على الدوام، هو سلطة الأمكنة، من نواح مختلفة. أنا محب للأمكنة، وهي عندما ترتبط باسم شاعر أو متصوف أو فيلسوف أو فنان فإن الأمر يحمل دلالات لا حد لها.
كنت أرغب في معرفة خصوصية المكان وطبيعة الكوخ. وعندما وصلت وجدتني أمام الاختيار ذاته لكتاب وفنانين ومتصوفة. وتذكرت على التو مقام ومزار المتصوف المغربي مولاي عبد السلام بن مشيش، في جبل العلم بشمال المغرب. هناك وهنا سلطة المكان وبساطة البناء. وهو ما يساعد على العزلة والتأمل. لن أسقط في شرك إلغاء الفروقات الضرورية بين الشخصيتين، ولن أقارن بينهما. فأنا أرى دائماً أن المقارنة تكون بين الصغار، أما المقارنة بين الكبار فهي تفتقد كل معنى. كنت أرغب في الزيارة وأنا أعرف مدى الانتقادات الموجهة منذ التسعينيات لهيدغر.
نسيت لبرهة مسألة انتماء هيدغر للنازية وموقفه من اللاسامية. ذلك أنني لم أتحمس قط للأحكام المتداولة. شخصياً لا يقنعني الرأي السائد عن زيارة بول تسيلان باعتبارها كانت مناسبة لطرح السؤال بخصوص ما قيل عن لاسامية هيدغر. حقاً، زار بول تسيلان هيدغر بعد حرب 1967، لكن ما هو منطقي هو أن يكون الحديث الذي دار بينهما يتعلق بالشعر، ولم يكن ليكون إلا كلام المريد للشيخ. والمناسبة ليست للإفاضة في هذا الموضوع الشائك. كما أنني لن أضيف شيئا إلى ما قيل عن الانتماء إلى النازية.
هناك، عند الكوخ، استبدت بي أفكار وتأملات أخرى، في مقدمتها علاقة هيدغر بهلدرلين، أو علاقته بالشعر إجمالاً، شعر ريلكه وتراكل وشتيفان جورج وروني شار، وباللغة ومسقط الرأس، من خلال الشعر. لا شك أن مكانة هلدرلين ظلت هي الأكثر تأثيراً في فكره. ففي شعر هلدرلين وقع هيدغر على مصدر الموجهات الكبرى لفكره: فكرة الوطن (الموطن، مسقط الرأس) وفكرة اللغة. لقد كان هيدغر تعرف أول مرة على شعر هلدرلين سنة 1908، سنة قبل حصوله على الباكلوريا، ولم يكتب عنه للمرة الأولى إلا سنة 1935، ثم تلتها دروس ومحاضرات في 1939 و 1940 وامتدت حتى 1945. أكبر فيلسوف غربي في القرن العشرين يقرأ شاعراً ويعنى بالشعر، هي الخصيصة التي حولت النظر إلى كل من الفلسفة والشعر في الدراسات الغربية، وخاصة في فرنسا السبعينيات من القرن الماضي. ذلك ما جعلني أتعلق أكثر بهيدغر وفكره. وما كنت أجده منعشاً في القراءة لديه هو أنه يلحّ على أن «ينصت» إلى ما تقوله القصيدة بدلاً من اتباع مسار التأويل. لهذا كتب «الخطوة الأخيرة..لكل تأويل تتمثل في الاختفاء مع جميع هذه الإضاأت أمام الحضور الخالص للقصيدة».
7
على سفح المنحدر جلست هنيهة، فيما كان الآخرون ينزلون صوب مكان ركن السيارة. لم أنتبه كثيراً لنزولهم. كنت مأخوذاً بفكرة مسقط الرأس التي كتبها هلدرلين في مطولاته، ومن بينها قصيدة «العودة» الشهيرة. وهي الفكرة ذاتها التي تشبث بها هيدغر، وبسببها تخلى عن تلبية طلب الالتحاق بالعمل كأستاذ جامعي في كل من جامعتي ميونيخ وبرلين للعمل فيهما، مفضلا البقاء في مكان مسقط رأسه، الغابة السوداء. إنه اختيار الإقامة في حضن هذا التربيع، بين السماء والأرض، بين السماويين والفانين.
هذه الفكرة المحورية في فلسفته ليست بسيطة كما قد تبدو عند النظرة الأولى. فتأسيس الشعراء للإقامة على الأرض، كما يذكر هلدرلين، تخضع لشروط. لذلك يكتب هيدغر في قراءته لقصيدة «ذكريات» بأن «من بين الشروط التي على الشاعر أن ينفذها من أجل الوصول إلى أن يكون في بيته حسبما ينفرد به هو أن يسافر إلى الخارج». فالسفر بعيداً عن الوطن ضرورة على الشاعر أن يحترمها من أجل العودة إلى البيت والإقامة حسبما ينفرد من تاريخ وتراث. فكرة كثيراً ما كانت تدفعني إلى التأمل في وضعية الشعراء والكتاب والفنانين العرب، في العصر الحديث. بين الإقامة في مسقط الرأس والسفر من أجل العودة، أو السفر بدون عودة، أسئلة لا تتوقف عن الثقافة والزمن.
بسرعة خاطفة كانت الأفكار تتوارد على ذهني. ولأن وقت الزيارة كان محدوداً، فقد انتبهت إلى شرودي ولحقت بالآخرين، وأنا أنزل المنحدر بعناء أقل من عناء الصعود. أنزل وأتابع التفكير، عبر حوار باطني مع نفسي. اتضح لي أني كنت مهتماً على الدوام بقراأت هيدغر للشعر ونيتشه، بالدرجة الأولى. كما تذكرت الوجودية التي كنا تلقيناها عن طريق جان بول سارتر، وكان استفاد فيها من هيدغر، فيلسوف الكينونة. أما ما كان أثارني لدى هيدغر، في مسألة الكينونة، فهو التفكير في الموت والعدم كطريق للتفكير في الحياة والوجود. كان ذلك مدهشاً بالنسبة لي، أنا الذي تعودتُ على الانشغال بواقع الموت وأظل أعتبره سرّ كل ما هو موجود في الحياة. وبذلك كنت أنظر إلى الشعر كمعبر للوجود الأصيل، الذي لا يختفي فيه القلق ولا يتوقف استدعاء المجهول.
8
ذلك هو الحج إلى كوخ هيدغر، في تودناوبيرغ، في قلب الغابة السوداء. حج للتأمل وربط الصلة بسؤال معنى الموت والحياة، بسؤال معنى الشعر والسكن واللغة، في زمن لم نعد نعرف فيه ما المقصود من كلمة المعنى في ثقافتنا العربية اليوم. كان حجاً جماعياً، وكان كل واحد منا، أدونيس وسارتوريوس وأنا، نعيد طرح الأسئلة. وفي كلماتنا ما نشترك فيه، بين ثقافتين، عربية وغربية، وبين مكانين، غير متكافئين، في صياغة فكرة جديدة ومبدعة عن الشعر وضرورته، «لأنه يجب أن نفهم جوهر اللغة انطلاقاً من جوهر الشعر”.