ها أنت الآن ترحلُ عنا. سأتذكر قصيدة محمود درويش "عائد الى يافا" التي رثى فيها أبا علي اياد، وسأضمن منها الأسطر:
هو الآن يرحل عنا ويسكن يافا
ويعرفها حجراً حجراً، ولا شيء يشبهه
والأغاني تقلده، تقلده موعدها الاخضرا
سأتذكر القصيدة، لأنك أنت من يافا، ولأن محمود درويش هو الشاعر الوحيد الذي تعرفه على ما أظن، فقد اصغيت اليه مراراً يقرأ شعره من على فضائية الشام وفضائية الجزيرة وفضائية فلسطين، وصرخت علي لأشاهده واصغي اليه أيضاً.
وربما الآن لا اصغي الى حديثك عن يافا، وستغيب عني تفاصيل المدينة التي عشت انت فيها، وكانت لك فيها ذكريات. المدينة التي ولدت فيها.
لم تغب يافا، طيلة ثمانية وخمسين عاماً، عن ذاكرتك. لم تغب منذ لحظة الخروج في العام 1948، يوم اخترق رصاص اليهود جسدك اليافع، وظل دمك ينزف حتى وصلت الى نابلس، ومنذ ذلك اليوم ما زال الجرح طرياً، وظل الدم ينزف. الآن سأفتقد مرجعية حين اريد ان أتأكد من معلومات وأنا أذكر يافا.
سأتذكر أنك زرت يافا، بعد العام 1967، مراراً، وانك رأيت شوارعها وميناءها وبيت أبيك، بيتك، وانك استعدت طفولتك وفتوات شبابك. بنى أبوك البيت من عرق جبينه. كدّ وكدّ وكدّت أمك معه، وكانا يصحوان مبكراً: هي تخبز طحين الكعك، وانت، مع ابيك، تذهبان الى الفرن، لتبيعا الكعك في شوارع يافا وأمام بوابات مدارسها، ولم تكد العائلة تفرح بالمنزل الجديد، في الحي الجديد، حتى بدأت هجرة تشاهد الآن مثلها.
والآن ما عدت اصغي الى حديثك عن ذكرياتك، ذكريات الطفولة والشباب الشقي هناك. وربما أنسى بعض مفردات عبرية تعلمتها منك انت الذي تعلم اللغة العبرية من بعض اصدقائك اليهود، هؤلاء الذين عدت والتقيت بهم بعد العام .1967 هل تذكر ما قالته لك (شوشانا):
التشتكني من عيني/ التشتكني من شفتي
كاخاه عوسيم بتل أبيب
كاخاه عوسيم بيروشلايم
وستلتقي من جديد بابناء العمومة. ستلتقي بهم بعد هزيمة العام 1967، وستعملون معاً، من جديد. ستعمل ساكتاً في شركة (ايجد). هل أجبرتك لقمة العيش، مثل الآلاف، على ان تعملوا معاً مع من طردوكم من مدنكم وقراكم؟ هل أذلتكم لقمة العيش، وعرفتم ان الفضيلة، كما كتب غسان كنفاني، هي الاستمرار في الحياة، وان لا فضيلة قبلها؟
الآن، في ساعات المساء، حيث كنت اعودك، لن اصغي الى صوتك الهادر، كنت أراك وحيداً امام شاشة التلفاز، تتركك زوجتك تزور الجيران وتتابع أنت الاخبار: من المنار الى الجزيرة الى فلسطين الى الشام، وتعيد على مسامعي الاخبار كلها. تشتم الأنظمة العربية كلها وتشتم أيضاً ابناء العمومة، فمنذ العام 1948 وانت تحلم بالعودة الى يافا. لا الحكام العرب أعادوك اليها، ولا البندقية التي تسلمتها في العام 1967 تقاتل فيها اعادتك لا الوعود نفعت ولا البندقية. وفي مساء اليوم الذي سبق اليوم الذي غادرت فيه هذه الفانية، هذه الدنيا شتمت وشتمت. زرتك لعشر دقائق، وكان (الروموت كونترول) بيدك، تبدل المحطات وترى اللجوء، في لبنان، اللجوء الذي جربته في العام .1948 ومثلما أقمتم لاجئين في المدارس والخيام ترى اللبنانيين الآن يمرون بالتجربة نفسها. في اليوم الذي مت فيه، قيل لي، انك كنت أمام شاشة التلفاز والروموت كونترول بيدك.
أنت الآن ترحل عنا، ترحل الى يافا فمن يدري!؟ وأنا أسأل: هل ثمة سور بناه الاسرائيليون، باطن الارض، ليمنعوا موتانا من العودة الى حيث ولدوا؟ ربما فابناء العمومة مثل قراقوش. طار له باز فقال: اقفلوا باب النصر وباب زويلة، فان الباز لا يجد له موضعاً يطير منه!! وربما قال الاسرائيليون ما قاله قراقوش: انهم يعرفون أن أرواح الموتى تغدو فراشات، وان أرواح الفلسطينيين حين تصعد الى بارئها. وتغدو فراشات، ستظل تحوم صوب يافا وحيفا وبقية مدن فلسطين وقراها. آه كم قراقوش في هذه الدنيا!
أنت الآن ترحل عنا، وربما يجب الا نذكر سوى محاسن موتانا، ربما يجب ان نقول فقط: نم قرير العين ان كنت تستطيع، فأنت ونحن أيضاً لم ننم قريري العين منذ صحونا على هذه الفانية، منذ غادرت بيتك الاول، بيت يافا، وانت لم تنم قرير العين. هل أقول انك الآن ارتحت؟ لا أظن ذلك، فبعد ثلاثة أيام من دفنك في حضن امك: الصغرى والكبرى، حاصر الاسرائيليون المكان الذي دفنت فيه، حاصروه واخذوا يهدمون ويهدمون. لم يكتفوا بطردك من يافا. ها هم يهدمون المباني القريبة من المقبرة. وانت الآن ترحل عنا، ولا شيء يشبهك، والأغاني تقلدك موعدها الأخضرا.. ها أنت تسكن يافا وترحل!!
[HEADING=1]عادل الاسطة[/HEADING]
2006-07-23
هو الآن يرحل عنا ويسكن يافا
ويعرفها حجراً حجراً، ولا شيء يشبهه
والأغاني تقلده، تقلده موعدها الاخضرا
سأتذكر القصيدة، لأنك أنت من يافا، ولأن محمود درويش هو الشاعر الوحيد الذي تعرفه على ما أظن، فقد اصغيت اليه مراراً يقرأ شعره من على فضائية الشام وفضائية الجزيرة وفضائية فلسطين، وصرخت علي لأشاهده واصغي اليه أيضاً.
وربما الآن لا اصغي الى حديثك عن يافا، وستغيب عني تفاصيل المدينة التي عشت انت فيها، وكانت لك فيها ذكريات. المدينة التي ولدت فيها.
لم تغب يافا، طيلة ثمانية وخمسين عاماً، عن ذاكرتك. لم تغب منذ لحظة الخروج في العام 1948، يوم اخترق رصاص اليهود جسدك اليافع، وظل دمك ينزف حتى وصلت الى نابلس، ومنذ ذلك اليوم ما زال الجرح طرياً، وظل الدم ينزف. الآن سأفتقد مرجعية حين اريد ان أتأكد من معلومات وأنا أذكر يافا.
سأتذكر أنك زرت يافا، بعد العام 1967، مراراً، وانك رأيت شوارعها وميناءها وبيت أبيك، بيتك، وانك استعدت طفولتك وفتوات شبابك. بنى أبوك البيت من عرق جبينه. كدّ وكدّ وكدّت أمك معه، وكانا يصحوان مبكراً: هي تخبز طحين الكعك، وانت، مع ابيك، تذهبان الى الفرن، لتبيعا الكعك في شوارع يافا وأمام بوابات مدارسها، ولم تكد العائلة تفرح بالمنزل الجديد، في الحي الجديد، حتى بدأت هجرة تشاهد الآن مثلها.
والآن ما عدت اصغي الى حديثك عن ذكرياتك، ذكريات الطفولة والشباب الشقي هناك. وربما أنسى بعض مفردات عبرية تعلمتها منك انت الذي تعلم اللغة العبرية من بعض اصدقائك اليهود، هؤلاء الذين عدت والتقيت بهم بعد العام .1967 هل تذكر ما قالته لك (شوشانا):
التشتكني من عيني/ التشتكني من شفتي
كاخاه عوسيم بتل أبيب
كاخاه عوسيم بيروشلايم
وستلتقي من جديد بابناء العمومة. ستلتقي بهم بعد هزيمة العام 1967، وستعملون معاً، من جديد. ستعمل ساكتاً في شركة (ايجد). هل أجبرتك لقمة العيش، مثل الآلاف، على ان تعملوا معاً مع من طردوكم من مدنكم وقراكم؟ هل أذلتكم لقمة العيش، وعرفتم ان الفضيلة، كما كتب غسان كنفاني، هي الاستمرار في الحياة، وان لا فضيلة قبلها؟
الآن، في ساعات المساء، حيث كنت اعودك، لن اصغي الى صوتك الهادر، كنت أراك وحيداً امام شاشة التلفاز، تتركك زوجتك تزور الجيران وتتابع أنت الاخبار: من المنار الى الجزيرة الى فلسطين الى الشام، وتعيد على مسامعي الاخبار كلها. تشتم الأنظمة العربية كلها وتشتم أيضاً ابناء العمومة، فمنذ العام 1948 وانت تحلم بالعودة الى يافا. لا الحكام العرب أعادوك اليها، ولا البندقية التي تسلمتها في العام 1967 تقاتل فيها اعادتك لا الوعود نفعت ولا البندقية. وفي مساء اليوم الذي سبق اليوم الذي غادرت فيه هذه الفانية، هذه الدنيا شتمت وشتمت. زرتك لعشر دقائق، وكان (الروموت كونترول) بيدك، تبدل المحطات وترى اللجوء، في لبنان، اللجوء الذي جربته في العام .1948 ومثلما أقمتم لاجئين في المدارس والخيام ترى اللبنانيين الآن يمرون بالتجربة نفسها. في اليوم الذي مت فيه، قيل لي، انك كنت أمام شاشة التلفاز والروموت كونترول بيدك.
أنت الآن ترحل عنا، ترحل الى يافا فمن يدري!؟ وأنا أسأل: هل ثمة سور بناه الاسرائيليون، باطن الارض، ليمنعوا موتانا من العودة الى حيث ولدوا؟ ربما فابناء العمومة مثل قراقوش. طار له باز فقال: اقفلوا باب النصر وباب زويلة، فان الباز لا يجد له موضعاً يطير منه!! وربما قال الاسرائيليون ما قاله قراقوش: انهم يعرفون أن أرواح الموتى تغدو فراشات، وان أرواح الفلسطينيين حين تصعد الى بارئها. وتغدو فراشات، ستظل تحوم صوب يافا وحيفا وبقية مدن فلسطين وقراها. آه كم قراقوش في هذه الدنيا!
أنت الآن ترحل عنا، وربما يجب الا نذكر سوى محاسن موتانا، ربما يجب ان نقول فقط: نم قرير العين ان كنت تستطيع، فأنت ونحن أيضاً لم ننم قريري العين منذ صحونا على هذه الفانية، منذ غادرت بيتك الاول، بيت يافا، وانت لم تنم قرير العين. هل أقول انك الآن ارتحت؟ لا أظن ذلك، فبعد ثلاثة أيام من دفنك في حضن امك: الصغرى والكبرى، حاصر الاسرائيليون المكان الذي دفنت فيه، حاصروه واخذوا يهدمون ويهدمون. لم يكتفوا بطردك من يافا. ها هم يهدمون المباني القريبة من المقبرة. وانت الآن ترحل عنا، ولا شيء يشبهك، والأغاني تقلدك موعدها الأخضرا.. ها أنت تسكن يافا وترحل!!
[HEADING=1]عادل الاسطة[/HEADING]
2006-07-23