يأتي ديوان «عين نحات أعمى» الصادر عن دار النهضة العربية في لبنان للشاعر المغربي محمد العناز مخادعا في بناء المعنى، وفي فلسفة النهايات المفتوحة، ليدخلنا إلى عالم الدهشة الذي يمتح من ذخيرة البصر، والبصيرة، والعمى التام للوجود انطلاقا من متن شعري يتوق إلى معانقة الخطأ الأول للإنسانية، وتأسيس كينونة الكلمة.
إن شعرية الديوان تتماهى مع الإنساني فينا بوصفها شعرية سؤال ينفتح على ما طرحه الرسام الفرنسي غوغان «من نحن؟ من أين جئنا؟ وإلى أين ذاهبون؟». إنه نفق فلسفة عين الشاعر محمد العناز المليئة بحفريات أركيولوجية خارج حدود العين البشرية التي تصاغ وفق رؤية جمالية تسائل ماهية البصر والبصيرة فينا تتحول معها العين إلى أداة للتفكير في كينونتنا؛ ذلك أن الزمنية التي رصدها الشاعر في ديوانه تتعدد والرؤيات المفارقة التي تحيلنا إلى ملحمة الخليقة بأزمنتها داخل السفينة، والخطيئة، والتيه والعزلة، والحب، والمعنى، والموت، والإبداع.. صانعا كيانات إنسانية صادمة للعين، على الرغم من أنها تستطيع أن توقف الإحساس بما هو ألق انطلاقا من سؤال الأنا وهناك، وما يصاحبهما من ألم في هذه الرحلة منسجما مع مقولة هادغر الذي اعتبر «البدايات أهم من حدث الاكتمال».
زمن السفينة
تبدأ رحلة الكينونة بـ«تَصْديرٌ يُشْبِهُ فَلْسَفَةَ العَيْنِ» للشاعر يأتي على شكل ربان سفينة الدهشة:
«فِـي البَدْءِ كُنْتُ عَيْنًا، تُدْرِكُ نَفْسَهَا، وَحِينَمَا تَفَتَّقَتْ طُوفَانًا جَارِفًا، غَرِقَ العَالَـمُ، وَفِـي سَفِينَةِ نُوحَ الـمُثْقَلَةِ بِالذَّنْبِ، كَانَتْ وِلاَدَتِـي بِعَيْنَيْنِ رَمَادِيَّـتَيْنِ، تُشْبِهَانِ الأَرْضَ الـمَحْرُوقَةَ. صِرْتُ ثُقُوبًا تَتَجَسَّسُ عَلَى خَطَايَايَ، وَبِـهِمَّةٍ ثَابِتَةً رُحْتُ أَجُوبُ سَطْحَ السَّفِينَةِ، أَقْرَأُ كَفَّ الـمَاءِ، أَرَى غَيْبَهُ، وَبِعَيْنَـيَّ السَّاهِيَــتَــيْـنِ، بَارَكْتُ تَصَدُّعَاتِ ظِلِّي». وهنا السفر في عوالم سفينة الشاعر لا بد من التوقف عند تجربتين رائدتين رصدتا موضوع السفينة «نوح»، ويتعلق الأمر بكل من الشاعرين أمل دنقل وأدونيس. إنها سفينة حمل إشكالات الرفض والامتناع والإيمان أمام
واقع النكسة التي مزقت الوطن العربي وعاصر مرارتها الشاعران اللذان جعلا من السفينة نوعا من أنواع السقوط للخروج من إسار الهزيمة العربية. يقول أمل دنقل: «ها هم الحكماء يفرّونَ نحو السفينة المغنّونَ – سائسَ خيلِ الأميرِ- المرابون/ قاضي القضاةِ وملوكُهُ/ حامل السيف ـ راقصة المعبد/ (ابتهجت عندما انتشلت شعرها المستعار)/ جباةُ الضرائب – مستورد شحنات السلاحِ/ عشيق الأميرة في سمتهِ الأنثوي الصبوح!/ جاء طوفان نوحْ/ ها هم الجبناء يفرّون نحو السفينهْ». أما أدونيس فيقول: «وأنتِ يا فُلكَ نوحٍ، هل اطمأنّت أشرعتُك؟
وإلى أين تُبحرين؟»؛ فزمن السفينة يجعل الذات تكتمل انطلاقا من تاريخية الصراع الوجداني الداخلي الذي يشيده الشاعر والعالم وما يحيط به من عوالم؛ بحيث يصبح الشعر- هنا- كاشفا عن تمثل عميق لسؤال الوجود، وتصير بموجب هذا الكينونة مساءلة للارتقاء إلى مكاشفة دهشة جذور الآتي العميق فينا باعتباره تمثيلا للمطلق والشمولي، وهو أهم خاصية يتميز بها الشعر، كما يذهب إلى ذلك شيلنغ. يقول الشاعر العناز: «لَسْتُ مُسْتَعْجِلاً/ رُوزَنَامَةُ الأَشْيَاءِ مُكْتَظَّةٌ بِظِلاَلِ الصُّوَرْ/ وَبَعْضُ بَقَايَا الـمَاءْ/ فَلاَ يُـمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كَفَنِـي/ جَاهِزاً بِـمَا فِيهِ الكِفَايَهْ/ وَشَاهِدَةُ قَبْرِي مَازَالَتْ هُنَا بَيْنَ يَدَيْ/ نَـحـَّاتٍ أَعْمَى». نلمس من خلال هذه القصيدة أن الشاعر يعيش مغامرة أنطولوجية انطلاقا من خاصية جمالية يربط فيها بين العمى والنحت، وبما يحمله هذا الربط من تناقضات على مستوى المعنى، وتجاوره بالزمكانية؛ فالشعر يحضر عنده بوصفه فعلا تحرريا من سلطة الأشياء، ليصل بنا إلى طبيعة الشعر الأساس المتمثلة في إمكانات بعث ما بدواخلنا من رغبات دائمة الحضور عبر التساؤل المفضي إلى فك شيفرة الكائن والعالم كما يقول أكسيس كاربل: «لا يستطيع الرجل تغيير نفسه بدون ألم، فهو نفسه الرخام، وهو نفسه النحات»؛ فالعمى يصاحب النحات منذ البداية، ويصير معه العالم الشعري مطية لتشكيل فوهة الولادة الثانية على متن صليب السفينة، ويترجمها العبور بوصفه سفرا لتشكيل منظومة لتفسير العالم، والإقامة في كل ثيماته المتناقضة؛ فالعبور إلى الذات بكل ما يحيل إليه من إشكالات، سواء أتعلقت بالسفينة أو الرؤى المصاحبة لها من أفكار وفلسفات يقول عنها سارتر: «من لا يجدّف هو الوحيد الذي بإمكانه أرجحة القارب»، وبالتالي فالشاعر كان غارقا في تفكيره، أما زمن السفينة فهو لا يتوقف عن جريانه حتى في بحور التيه، وكان عليه إيجاد معادلة شعرية، بين ملحمة الطوفان والخليقة بواسطة تكثيف الرؤية، وتحفيزها عند المتلقي؛ ذلك أن زمن السفينة هو زمن مغامر، ومتحول، ومتجدد الرؤى كالموج بما يتفرد به من طاقات على مستوى الإيحاء، ومدلولاته الفلسفية العميقة في تشكيل وعينا الأول في صياغة وعلاقته بملحمة الوجود. إنها عبقرية المكان في الشعر العربي المعاصر بوصفه عنصرا جوهريا، ومفتاحا يسعفنا في كشف الدلالة وسؤال الدهشة فيه.
زمن الخطيئة
«أَنَا عَيْنُ الـخَطِيئَةِ، أَحْمِلُ وَهْمَ الـحَقِيقَةِ، فَلاَ تُصَدِّقُونِـي مَهْمَا قُلْتُ، لِأَنّـِي أَتَوَهَّمُ دَوْماً أَشْيَاءَ لَـمْ تَكُنْ، وَقَدْ وُلِدْتُ مِنْ لَعْنَةِ سَفِينَةِ نُوحَ، أَنْقَذَتْنِـي مِنَ الطُّوفَانِ لِكَيْ تُسَلِّمَنِـي إِلَـى مَا هُوَ أَقْسَى مِنْهُ، لَكِنَّنِـي عَلِقْتُ بَيْنَ مَوْجَتَيْنِ، فَضَلَّتْ الحَيَاةُ طَرِيقَهَا إِلَـى الحَيَاةِ». تسكن في عين الشاعر محمد العناز أسئلة وجودية، وتناقضات الإحساس بالانتماء، والمنفى، والتخلي؛ فالخطيئة عنده حية تفيض بالرؤى الصاخبة والدلالات المتوالدة، وتنبني على دقة ملاحظة المعرفة التي تفكك الأشياء ثم تعيد إشكالها انطلاقا من رؤية تخييلية مفارقة للعالم؛ بحيث يرى الشاعر أن الخطأ ليس شرا، بل هو مدخل أصيل لفهم صيرورة الكائن البشري حول منطق التلاشي، وبالتالي يصبح هذا الكائن تائها بين الكمال وجنة الجريمة والعقاب؛ فالشاعر يعالج هذا القصور الأنطلوجي بإعادة صياغة مفاهيم خاصة حول ماهية كينونتنا انطلاقا من الرغبة في جعلها تسترفد من روافد مختلفة من فلسفته الوجودية؛ فهو يعري إدراك وجوده – كما يقول خليل حاوي – ببوح خاص يتغيا التخلص من ذنب الخطيئة الأولى فينا بوصفها إشكالية لوجوده على سفينة الوجود، من دون إرادته، ومحاولة إكمال كينونته عن طريق ترميم ذاته بأسئلة الوجود كما قال ألبير كامو: «أطلق على نفسي الحرب، وأدمر ذاتي، وأولد من جديد، وهذا كل شيء». يقول الشاعر العناز: «أَنَا الشَّاهِدُ الوَحِيدُ/ عَلَى سَكْتَةِ القَلْبِ الَّتِـي/ أَصَابَتِ الـمَوْتَ/ حِينَ أَمْتَطِي سَفِينَةَ نُوح/ مِنْ دُونَ أَنْ أَكْتَرِثَ بِصِحَّةِ الوَقَائِعِ».
زمن التيه
«الزَّوْبَعَةُ الَّتِـي تُطِلُّ مِنْ نَافِذَتِـي/ تُقَمِّطُنِـي/ فِـي فِرَاشِ الذِّكْرَى/ وَالزَّمَنُ الـمُتَحَوِّلُ/ يَصْنَعُنِـي سَرَابًا-/ وَهْمـا/ كُلَّمَا نَأَيْتُ عَنْ جَسَدِي/ رَأَيْتُ خَلَاصِي». يحاول الشاعر أن يجعل الزمن مشوشا من خلال تفتيت الكينونة، وفك رموزها، ووضع علامات فارقة في جسد الوعي الشقي بجريان هذا الزمن فينا بهدف إعادة تشكيل عملية الفهم، وتأمين رؤية استكشافية لمساحات أرواحنا المتعبة في مرايا مقعرة؛ فهذا الزمن الصاخب بأمكنة التيه فينا على مستوى سفر الاحتراق الاغترابي في الزمان والمكان يسيطر على كينونتنا، ويقبض عليها الشاعر محمد العناز من جمر الجراح الداخلية لعالم لم يتشكل بدواخلنا بعد، ليتماهى فيه مع حيرة إميل سيوران: «كل تناقضاتي تأتي مما يلي: لا أحد يستطيع أن يحب الحياة مثلي، وأن يحس في وقت واحد، وبطريقة غير متقطعة تقريبا إحساساً بعدم الانتماء، وبالمنفى والتخلي. أنا مثل إنسان أكول يفقد شهية الأكل بسبب طول تفكيره في الجوع».
زمن الإبداع
تَرَقُّبٌ:/عَيْنِـي تُـخَادِعُ عَيْنِـي، / كَأَنَّنِـي أَرَاهَا تَـمْشِي / يَدُهُ فِـي يَدِهَا، / تُقْنِعُنِـي / بَأَنَّ الَّذِي أَرَى/ لَيْسَ مُـجَرَّدَ/ تَوَهُّمٍ- / حُلْمُ يَقَظَةٍ / كَيْ لَا تَنْفَجِرَ». يبدع الشاعر محمد العناز في ديوانه زمنا إبداعيا خاصا به. إنه زمن متحول مشاكس يثير قصائده، وينفتح على التجدد المرتبط بكينونة التيه عاملا على تكيثف الرؤى وتحويلها إلى محفزات لفعل القراءة عند المتلقي؛ فيؤثر بذلك على الزمن النفسي للشاعر خاصة عندما تتغير ملامحه بعلامات تتصل بالموت، والغياب، فيلجأ إلى فتح باب السؤال الوجودي على مصراعيه في النص الشعري غير ملزم بإيقاع واحد في كل قصائده. فتصبح جمالية النص شعري- هنا- مبنية على الاختلاف في بينة التحليل الزمني التي تتأسس في السماحة الفاصلة بين التفكيك والتأويل كما يشير إلى ذلك لامارتين: «يرد الإنسان أن يرتقي إلى مصدره». وبالتالي تمنحنا جمالية هذا الإبداع الشعري نمذجة لسؤال الكينونة وفق نسق فلسفي لميلاد جحيم من مقامات السؤال ومقامات الرؤيا؛ بحيث تجعل من الاختراق الشعري يتشكل في طريق السفر، والعبور إلى الانتصار، ومن ثم إلى محنة الإحساس بالتضاؤل القاسي الذي يعاني منه الإنسان؛ فيعيد بذلك الخطاب الشعري الاعتبار للإصغاء إلى الذات المعذبة بواسطة سلطة إبداع القلق الذي يصوغ سجلات الكون الغامضة. وتسمح- بموجب هذه الصياغة الجمالية- للآخر التعايش مع هذه المقامات والرؤى من خلال سلطة الشعر، وعالمه المتدفق الذي لا ينفصل عن العالم المعاش أو الافتراضي الذي يخترقنا كل يوم.
زمن المعنى
«القَصِيدَةُ مَقْبَرَةُ الـمَعْنَى/ وَالشَّاعِرُ حَفَّارُ قُبُورٍ/ وَفِي الأُمْسِيَاتِ/ تُنْصَبُ وَلاَئِمُ الرِّثَاءِ».
«القَصِيدَةُ تَغْتَالُ حُلْمَ الـمَعْنَـى/ بِـمُسَدَّسٍ خَشَبِـيٍّ/ وَتُسَامِرُ الـمَوْتَى/ لِتُضْرِمَ النَّارَ/ فِـي قُبُورِ الـحَيَاةِ..». نلاحظ من خلال هذين المقطعين الشعريين أن الشاعر يحمل تساؤلا حتميا بين ذاته المتأملة لجريان الزمن فينا، والكينونة الضائعة فينا عبر مر العصور، ليكشف المتن الشعري عن الينابيع الأولى لخاصية الغرق التي رصدتها تردداته بين الذات والموضوع من خلال نبوءة كينونتنا بواسطة مجموعة من الدلالات والقرائن؛ فالإنسان يحتاج لمتن يغرس فيه جذوره، وتتأصل فيه هويته، ومن ثم يأخذ مسار المعنى بالكيان والهوية في مساحة فيزيقية بزمنية المعنى؛ الشيء الذي يدفعنا للتماهي مع الشاعر محمد العناز في طرحه الفلسفي للكينونة. تتأسس استراتيجية الكتابة الشعرية عند محمد العناز على الفضول الكينوني للجسد، والذاكرة، والروح، وتسعى لإذكاء نار الصراع الوجودي للأشياء العابرة فينا من خلال خلخلة مفاهيم الإصغاء للذات بتوازنات أسئلة الاختلاق في وميض الذاكرة الخصبة لإبداع القلق فينا.
وتتغيا إعادة تشكيل هذا القلق الوجودي انطلاقا من الوجود والعدم بدلالاتهما الشعرية، ويتحول معها الشاعر إلى خيميائي جديد ينبهنا إلى فك شيفرة إلينابيع السرية للحيرة والسؤال فينا، وإلى التشويش الجميل على الحقيقة حينما تنتهي كل الأعذار الكاذبة للجرح المنفرد والمختبئ بدواخلنا؛ فيكاشفنا بكتابة شعرية موشومة بالجرح السري؛ بحيث تخترقنا من الداخل، وتجعلنا في سره العالم العجائبي ورؤاه اللامرئية لعالم آخر يشبهنا، ويفصل الهوة بين القراءة والكتابة، ويحدث تماهيا شعريا بين القارئ والشعر.
إن هذا الجرح السري الذي كتبه جون جينية في كتابه عن ألبرتو جياكوميتي: «.. نفكر بجنون، في كون حيث الإنسان بدل من أن يوجه فعله، ليس فقط عن طريق رفض كل فعل يوجه نحو ذلك الظاهري والمرئي، بل من خلال الشعري، كفاية لاكتشاف ذلك المكان السري داخل نفوسنا»؛ فالرؤية الشعرية عند العناز تجريدية بالزمن لا تحاكيه على نحو ما ذهب إليه فلاسفة اليونان من إقرار مبدأ المحاكاة، بل تمنح المستحيل هوية للوجود، وتجعل الكينونة متبصرة، وواعية، وحيوية بتمردها كما يقول كامو: «بالتمرد يولد الوعي».
٭ ناقد مغربي
القدس العربي
إن شعرية الديوان تتماهى مع الإنساني فينا بوصفها شعرية سؤال ينفتح على ما طرحه الرسام الفرنسي غوغان «من نحن؟ من أين جئنا؟ وإلى أين ذاهبون؟». إنه نفق فلسفة عين الشاعر محمد العناز المليئة بحفريات أركيولوجية خارج حدود العين البشرية التي تصاغ وفق رؤية جمالية تسائل ماهية البصر والبصيرة فينا تتحول معها العين إلى أداة للتفكير في كينونتنا؛ ذلك أن الزمنية التي رصدها الشاعر في ديوانه تتعدد والرؤيات المفارقة التي تحيلنا إلى ملحمة الخليقة بأزمنتها داخل السفينة، والخطيئة، والتيه والعزلة، والحب، والمعنى، والموت، والإبداع.. صانعا كيانات إنسانية صادمة للعين، على الرغم من أنها تستطيع أن توقف الإحساس بما هو ألق انطلاقا من سؤال الأنا وهناك، وما يصاحبهما من ألم في هذه الرحلة منسجما مع مقولة هادغر الذي اعتبر «البدايات أهم من حدث الاكتمال».
زمن السفينة
تبدأ رحلة الكينونة بـ«تَصْديرٌ يُشْبِهُ فَلْسَفَةَ العَيْنِ» للشاعر يأتي على شكل ربان سفينة الدهشة:
«فِـي البَدْءِ كُنْتُ عَيْنًا، تُدْرِكُ نَفْسَهَا، وَحِينَمَا تَفَتَّقَتْ طُوفَانًا جَارِفًا، غَرِقَ العَالَـمُ، وَفِـي سَفِينَةِ نُوحَ الـمُثْقَلَةِ بِالذَّنْبِ، كَانَتْ وِلاَدَتِـي بِعَيْنَيْنِ رَمَادِيَّـتَيْنِ، تُشْبِهَانِ الأَرْضَ الـمَحْرُوقَةَ. صِرْتُ ثُقُوبًا تَتَجَسَّسُ عَلَى خَطَايَايَ، وَبِـهِمَّةٍ ثَابِتَةً رُحْتُ أَجُوبُ سَطْحَ السَّفِينَةِ، أَقْرَأُ كَفَّ الـمَاءِ، أَرَى غَيْبَهُ، وَبِعَيْنَـيَّ السَّاهِيَــتَــيْـنِ، بَارَكْتُ تَصَدُّعَاتِ ظِلِّي». وهنا السفر في عوالم سفينة الشاعر لا بد من التوقف عند تجربتين رائدتين رصدتا موضوع السفينة «نوح»، ويتعلق الأمر بكل من الشاعرين أمل دنقل وأدونيس. إنها سفينة حمل إشكالات الرفض والامتناع والإيمان أمام
واقع النكسة التي مزقت الوطن العربي وعاصر مرارتها الشاعران اللذان جعلا من السفينة نوعا من أنواع السقوط للخروج من إسار الهزيمة العربية. يقول أمل دنقل: «ها هم الحكماء يفرّونَ نحو السفينة المغنّونَ – سائسَ خيلِ الأميرِ- المرابون/ قاضي القضاةِ وملوكُهُ/ حامل السيف ـ راقصة المعبد/ (ابتهجت عندما انتشلت شعرها المستعار)/ جباةُ الضرائب – مستورد شحنات السلاحِ/ عشيق الأميرة في سمتهِ الأنثوي الصبوح!/ جاء طوفان نوحْ/ ها هم الجبناء يفرّون نحو السفينهْ». أما أدونيس فيقول: «وأنتِ يا فُلكَ نوحٍ، هل اطمأنّت أشرعتُك؟
وإلى أين تُبحرين؟»؛ فزمن السفينة يجعل الذات تكتمل انطلاقا من تاريخية الصراع الوجداني الداخلي الذي يشيده الشاعر والعالم وما يحيط به من عوالم؛ بحيث يصبح الشعر- هنا- كاشفا عن تمثل عميق لسؤال الوجود، وتصير بموجب هذا الكينونة مساءلة للارتقاء إلى مكاشفة دهشة جذور الآتي العميق فينا باعتباره تمثيلا للمطلق والشمولي، وهو أهم خاصية يتميز بها الشعر، كما يذهب إلى ذلك شيلنغ. يقول الشاعر العناز: «لَسْتُ مُسْتَعْجِلاً/ رُوزَنَامَةُ الأَشْيَاءِ مُكْتَظَّةٌ بِظِلاَلِ الصُّوَرْ/ وَبَعْضُ بَقَايَا الـمَاءْ/ فَلاَ يُـمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كَفَنِـي/ جَاهِزاً بِـمَا فِيهِ الكِفَايَهْ/ وَشَاهِدَةُ قَبْرِي مَازَالَتْ هُنَا بَيْنَ يَدَيْ/ نَـحـَّاتٍ أَعْمَى». نلمس من خلال هذه القصيدة أن الشاعر يعيش مغامرة أنطولوجية انطلاقا من خاصية جمالية يربط فيها بين العمى والنحت، وبما يحمله هذا الربط من تناقضات على مستوى المعنى، وتجاوره بالزمكانية؛ فالشعر يحضر عنده بوصفه فعلا تحرريا من سلطة الأشياء، ليصل بنا إلى طبيعة الشعر الأساس المتمثلة في إمكانات بعث ما بدواخلنا من رغبات دائمة الحضور عبر التساؤل المفضي إلى فك شيفرة الكائن والعالم كما يقول أكسيس كاربل: «لا يستطيع الرجل تغيير نفسه بدون ألم، فهو نفسه الرخام، وهو نفسه النحات»؛ فالعمى يصاحب النحات منذ البداية، ويصير معه العالم الشعري مطية لتشكيل فوهة الولادة الثانية على متن صليب السفينة، ويترجمها العبور بوصفه سفرا لتشكيل منظومة لتفسير العالم، والإقامة في كل ثيماته المتناقضة؛ فالعبور إلى الذات بكل ما يحيل إليه من إشكالات، سواء أتعلقت بالسفينة أو الرؤى المصاحبة لها من أفكار وفلسفات يقول عنها سارتر: «من لا يجدّف هو الوحيد الذي بإمكانه أرجحة القارب»، وبالتالي فالشاعر كان غارقا في تفكيره، أما زمن السفينة فهو لا يتوقف عن جريانه حتى في بحور التيه، وكان عليه إيجاد معادلة شعرية، بين ملحمة الطوفان والخليقة بواسطة تكثيف الرؤية، وتحفيزها عند المتلقي؛ ذلك أن زمن السفينة هو زمن مغامر، ومتحول، ومتجدد الرؤى كالموج بما يتفرد به من طاقات على مستوى الإيحاء، ومدلولاته الفلسفية العميقة في تشكيل وعينا الأول في صياغة وعلاقته بملحمة الوجود. إنها عبقرية المكان في الشعر العربي المعاصر بوصفه عنصرا جوهريا، ومفتاحا يسعفنا في كشف الدلالة وسؤال الدهشة فيه.
زمن الخطيئة
«أَنَا عَيْنُ الـخَطِيئَةِ، أَحْمِلُ وَهْمَ الـحَقِيقَةِ، فَلاَ تُصَدِّقُونِـي مَهْمَا قُلْتُ، لِأَنّـِي أَتَوَهَّمُ دَوْماً أَشْيَاءَ لَـمْ تَكُنْ، وَقَدْ وُلِدْتُ مِنْ لَعْنَةِ سَفِينَةِ نُوحَ، أَنْقَذَتْنِـي مِنَ الطُّوفَانِ لِكَيْ تُسَلِّمَنِـي إِلَـى مَا هُوَ أَقْسَى مِنْهُ، لَكِنَّنِـي عَلِقْتُ بَيْنَ مَوْجَتَيْنِ، فَضَلَّتْ الحَيَاةُ طَرِيقَهَا إِلَـى الحَيَاةِ». تسكن في عين الشاعر محمد العناز أسئلة وجودية، وتناقضات الإحساس بالانتماء، والمنفى، والتخلي؛ فالخطيئة عنده حية تفيض بالرؤى الصاخبة والدلالات المتوالدة، وتنبني على دقة ملاحظة المعرفة التي تفكك الأشياء ثم تعيد إشكالها انطلاقا من رؤية تخييلية مفارقة للعالم؛ بحيث يرى الشاعر أن الخطأ ليس شرا، بل هو مدخل أصيل لفهم صيرورة الكائن البشري حول منطق التلاشي، وبالتالي يصبح هذا الكائن تائها بين الكمال وجنة الجريمة والعقاب؛ فالشاعر يعالج هذا القصور الأنطلوجي بإعادة صياغة مفاهيم خاصة حول ماهية كينونتنا انطلاقا من الرغبة في جعلها تسترفد من روافد مختلفة من فلسفته الوجودية؛ فهو يعري إدراك وجوده – كما يقول خليل حاوي – ببوح خاص يتغيا التخلص من ذنب الخطيئة الأولى فينا بوصفها إشكالية لوجوده على سفينة الوجود، من دون إرادته، ومحاولة إكمال كينونته عن طريق ترميم ذاته بأسئلة الوجود كما قال ألبير كامو: «أطلق على نفسي الحرب، وأدمر ذاتي، وأولد من جديد، وهذا كل شيء». يقول الشاعر العناز: «أَنَا الشَّاهِدُ الوَحِيدُ/ عَلَى سَكْتَةِ القَلْبِ الَّتِـي/ أَصَابَتِ الـمَوْتَ/ حِينَ أَمْتَطِي سَفِينَةَ نُوح/ مِنْ دُونَ أَنْ أَكْتَرِثَ بِصِحَّةِ الوَقَائِعِ».
زمن التيه
«الزَّوْبَعَةُ الَّتِـي تُطِلُّ مِنْ نَافِذَتِـي/ تُقَمِّطُنِـي/ فِـي فِرَاشِ الذِّكْرَى/ وَالزَّمَنُ الـمُتَحَوِّلُ/ يَصْنَعُنِـي سَرَابًا-/ وَهْمـا/ كُلَّمَا نَأَيْتُ عَنْ جَسَدِي/ رَأَيْتُ خَلَاصِي». يحاول الشاعر أن يجعل الزمن مشوشا من خلال تفتيت الكينونة، وفك رموزها، ووضع علامات فارقة في جسد الوعي الشقي بجريان هذا الزمن فينا بهدف إعادة تشكيل عملية الفهم، وتأمين رؤية استكشافية لمساحات أرواحنا المتعبة في مرايا مقعرة؛ فهذا الزمن الصاخب بأمكنة التيه فينا على مستوى سفر الاحتراق الاغترابي في الزمان والمكان يسيطر على كينونتنا، ويقبض عليها الشاعر محمد العناز من جمر الجراح الداخلية لعالم لم يتشكل بدواخلنا بعد، ليتماهى فيه مع حيرة إميل سيوران: «كل تناقضاتي تأتي مما يلي: لا أحد يستطيع أن يحب الحياة مثلي، وأن يحس في وقت واحد، وبطريقة غير متقطعة تقريبا إحساساً بعدم الانتماء، وبالمنفى والتخلي. أنا مثل إنسان أكول يفقد شهية الأكل بسبب طول تفكيره في الجوع».
زمن الإبداع
تَرَقُّبٌ:/عَيْنِـي تُـخَادِعُ عَيْنِـي، / كَأَنَّنِـي أَرَاهَا تَـمْشِي / يَدُهُ فِـي يَدِهَا، / تُقْنِعُنِـي / بَأَنَّ الَّذِي أَرَى/ لَيْسَ مُـجَرَّدَ/ تَوَهُّمٍ- / حُلْمُ يَقَظَةٍ / كَيْ لَا تَنْفَجِرَ». يبدع الشاعر محمد العناز في ديوانه زمنا إبداعيا خاصا به. إنه زمن متحول مشاكس يثير قصائده، وينفتح على التجدد المرتبط بكينونة التيه عاملا على تكيثف الرؤى وتحويلها إلى محفزات لفعل القراءة عند المتلقي؛ فيؤثر بذلك على الزمن النفسي للشاعر خاصة عندما تتغير ملامحه بعلامات تتصل بالموت، والغياب، فيلجأ إلى فتح باب السؤال الوجودي على مصراعيه في النص الشعري غير ملزم بإيقاع واحد في كل قصائده. فتصبح جمالية النص شعري- هنا- مبنية على الاختلاف في بينة التحليل الزمني التي تتأسس في السماحة الفاصلة بين التفكيك والتأويل كما يشير إلى ذلك لامارتين: «يرد الإنسان أن يرتقي إلى مصدره». وبالتالي تمنحنا جمالية هذا الإبداع الشعري نمذجة لسؤال الكينونة وفق نسق فلسفي لميلاد جحيم من مقامات السؤال ومقامات الرؤيا؛ بحيث تجعل من الاختراق الشعري يتشكل في طريق السفر، والعبور إلى الانتصار، ومن ثم إلى محنة الإحساس بالتضاؤل القاسي الذي يعاني منه الإنسان؛ فيعيد بذلك الخطاب الشعري الاعتبار للإصغاء إلى الذات المعذبة بواسطة سلطة إبداع القلق الذي يصوغ سجلات الكون الغامضة. وتسمح- بموجب هذه الصياغة الجمالية- للآخر التعايش مع هذه المقامات والرؤى من خلال سلطة الشعر، وعالمه المتدفق الذي لا ينفصل عن العالم المعاش أو الافتراضي الذي يخترقنا كل يوم.
زمن المعنى
«القَصِيدَةُ مَقْبَرَةُ الـمَعْنَى/ وَالشَّاعِرُ حَفَّارُ قُبُورٍ/ وَفِي الأُمْسِيَاتِ/ تُنْصَبُ وَلاَئِمُ الرِّثَاءِ».
«القَصِيدَةُ تَغْتَالُ حُلْمَ الـمَعْنَـى/ بِـمُسَدَّسٍ خَشَبِـيٍّ/ وَتُسَامِرُ الـمَوْتَى/ لِتُضْرِمَ النَّارَ/ فِـي قُبُورِ الـحَيَاةِ..». نلاحظ من خلال هذين المقطعين الشعريين أن الشاعر يحمل تساؤلا حتميا بين ذاته المتأملة لجريان الزمن فينا، والكينونة الضائعة فينا عبر مر العصور، ليكشف المتن الشعري عن الينابيع الأولى لخاصية الغرق التي رصدتها تردداته بين الذات والموضوع من خلال نبوءة كينونتنا بواسطة مجموعة من الدلالات والقرائن؛ فالإنسان يحتاج لمتن يغرس فيه جذوره، وتتأصل فيه هويته، ومن ثم يأخذ مسار المعنى بالكيان والهوية في مساحة فيزيقية بزمنية المعنى؛ الشيء الذي يدفعنا للتماهي مع الشاعر محمد العناز في طرحه الفلسفي للكينونة. تتأسس استراتيجية الكتابة الشعرية عند محمد العناز على الفضول الكينوني للجسد، والذاكرة، والروح، وتسعى لإذكاء نار الصراع الوجودي للأشياء العابرة فينا من خلال خلخلة مفاهيم الإصغاء للذات بتوازنات أسئلة الاختلاق في وميض الذاكرة الخصبة لإبداع القلق فينا.
وتتغيا إعادة تشكيل هذا القلق الوجودي انطلاقا من الوجود والعدم بدلالاتهما الشعرية، ويتحول معها الشاعر إلى خيميائي جديد ينبهنا إلى فك شيفرة إلينابيع السرية للحيرة والسؤال فينا، وإلى التشويش الجميل على الحقيقة حينما تنتهي كل الأعذار الكاذبة للجرح المنفرد والمختبئ بدواخلنا؛ فيكاشفنا بكتابة شعرية موشومة بالجرح السري؛ بحيث تخترقنا من الداخل، وتجعلنا في سره العالم العجائبي ورؤاه اللامرئية لعالم آخر يشبهنا، ويفصل الهوة بين القراءة والكتابة، ويحدث تماهيا شعريا بين القارئ والشعر.
إن هذا الجرح السري الذي كتبه جون جينية في كتابه عن ألبرتو جياكوميتي: «.. نفكر بجنون، في كون حيث الإنسان بدل من أن يوجه فعله، ليس فقط عن طريق رفض كل فعل يوجه نحو ذلك الظاهري والمرئي، بل من خلال الشعري، كفاية لاكتشاف ذلك المكان السري داخل نفوسنا»؛ فالرؤية الشعرية عند العناز تجريدية بالزمن لا تحاكيه على نحو ما ذهب إليه فلاسفة اليونان من إقرار مبدأ المحاكاة، بل تمنح المستحيل هوية للوجود، وتجعل الكينونة متبصرة، وواعية، وحيوية بتمردها كما يقول كامو: «بالتمرد يولد الوعي».
٭ ناقد مغربي
القدس العربي