12-
قالت "أمي": أحضر لك "أبوك" حزمة "شيتات"[67] من السينما، تكفي لتغطية جدران غرفتك إن رغبت، وسيكون ذلك مؤقتاً، حيث الطلاء لا ينفع مع جدران متداعية، حيطانها من الطابوق الأحمر.. وجدت الأمر يروق لي وقررت العمل وحديّ. دون ان اجعلها تشاركني، اذ أتعبها الحَمل، وبالكاد تجرّ خطواتها، لم تكاسل لحظة عن مهام البيت، من طبخ، وغسيل ملابس، ولم تكن ترضى منيمساعدتها في شؤون البيت، بدت سعيدة بالاستقلال في بيتها، وبحبَلِها أيضاً، عندما ترسم البسمة على الأم يمتلئ كل البيت بالبهجة كأنما نسيم يملأ الصدر بالهواء الطيب!! كانت حزمة ثقيلة من المطبوعات، لأنها من ورق خاص فيه نسبة كبيرة من النسيج والنايلون، لتقاوم أشعة الشمس المباشرة، وبقية الأحوال الجوية. أول الامر نشرتها على أرضية الغرفة الفارغة، إلا من كرسي قديم وجدته متروكاً في البيت قبل الانتقال إليه، احتفظت به بعد أن حشت لي "امي" وسادة من القطن، ليكون لينّا. بقيت استخدمته حتى بعد أن توفرتلي منضدة من الخشب، قد وعدتني بها، ووجدتها تصلح لأن أضع عليها اغراضي المكتبية، المذياع، وبجانبهما ملزمة الأوراق، كانت "امي" تعتقد أنى استخدم آلة الكتابة بغرض اللعب[68] ، ولم تسألني يوماً ان كنت احتاج الى شريط حبر طباعي، من أجل ذلك.
وقبل أن اثبت الصور على الحائط لتغطية العيوب، عزلت ذوات الحجم الصغير التي يتراوح ابعادها "متر X نصف" بحسب توازن الألوان وحسب مع ما أحبت من وجوه ابطالي، وتم توزيعها من أعلى الحائط حتى اسفله. ثم أحضرت المقص لقص قطع الكرتون لتجعل رأس المسمار لا يفلت الصورة بعد تثبيتها بالمسامير والمطرقة، هذا ما كنت أراه يفعله المرحوم "ناجي الأعرج" عندما يثبّت تلك المنشورات على واجهة السينما، كان يبدل الاعلان عن الفيلم الجديد نهاية يوم كل جمعة، حيث كنت أَصحب "عمي علي" خصوصا بعد أن أكمل الخدمة العسكرية الإلزامية، والذي أُلزِمَ بوظيفة فاحص تذاكر الدخول لقاعة الدرجة الثانية "ام الستين "، مع شقيقة الأكبر عمي "جاسم الطويل" والذي لم يترك مهمته منذ افتتاح السينما عند بوابة الدخول الى قاعة الدرجة الأولى "ام التسعين"[69] مهما تغيرت الأحوال، ولم يتبدل. حتى بعد أن ترك "أبي" العمل فيها كمحاسب، مُؤثرا العمل في مطعم يملكه.وبقيّ ان الجمهور لم يعد يحرص على متابعة الأفلام في صالة العرض كما كان في السابق. حيث اخذ التلفزيون يغزو البيوت ويترك مساحة بينه وبين تلك الالتزامات.
وبعد أن أكملت وبدت الغرفة كأنها مضاءة، وحائطها يعكس الوانا بهيجة، كنت متحسباً لدخول "أبي" إلى الغرفة، وتعمدت ان تكون صور الواجهة "افلام" الكاوبوي، وافلام المطاردات البوليسية ابطالها يحملون مسدسات. أما الصور التي اخترتها لتكون خلف الباب، فجعلتها تزخر بأفلام الغرام، والقبل، وقد استبعدتصور السيقان العارية، والصدور المكشوفة وصارت الغرفة مليئة بالألوان، والوجوه، والخطوط، وكلما نظرت الى فليم اعجبني من تلك الأفلام، أتذكر موسيقاه التصويرية، المعظم منها شاهدته أكثر من مرة، ومازلت تهدر في ذهني، موسيقى رائقة كانت تجعلني أحلّق في عوالم بعيدة عن كل توتر. كنت انظر الى الصور باستمتاع، موازناً بين الفلم الذي أحبّه، والفلم الذي أجهله. لم أستطع إغلاق الفتحة العالية التي كان يأتي منها الضوء والهواء، صنعت لها بوابة مبسطة من الخشب الخفيف، قطعة قابلة للحركة أستخدمها ساعة أريد لتبديل الهواء أو لدخول الضوء..
ثم أنزلت من السقف سلكاً كهربائيا، وعلقت فيه مصباحاً، جعل لي الغرفة مضاءة ليلاً، وأخذت الأشياء في الغرفة تتخذ طابع الخصوصية، فلم يدخل الغرفة "أبي" لأي سبب كان، وبقي كعهدي به لا يكلمني إلا بشأن هام. كأن الهوة التي بيننا تتسع، اذ ينبغي عليّ استحصال موافقته قبل كل شيء، وقد لا أستطيع الذهاب الى مكان دون علمه، حتى انه لا يكلفني بالتسوق كبقية أقراني من الاولاد، يتسوق بنفسه كل حاجيات البيت. ويرسلها حتى باب البيت مع أيّ حوذي يعرف البيت، بعد أن يعطيه أجرته كاملة، تعودنا كل صباح. أن يطرق بابنا- ويسلمنا أحدهم ما أرسله "أبي" من السوق. ولكني كنت أكثر حرصاً على المواظبة بالذهاب إلى المكتبة العامة، إذ كنت أشعر بأن هذا الحق الوحيد الذي لا أتمنى الحرمان منه. كما حرمت من اللقاء بـ"صفاء"، وغيتاره. كأنما زادني ذلك على اصراري التمسك بالقراءة. ولم أفُرّط بذلك المتنفس، لي وقت محدد، لا يتجاوز الساعتين، وأعود بعده.. تعمق شعوري ببؤس اهتمامات زملائي، وجيرتي..
***** ***** *****
صوت آلة الكمان يخترق نافذتي منذ الصباح الباكر، هادئ مسترسل، يرسل نغماته بحنين الى فضاء تغطيه الشجيرات الوارفة. كنت اصغي اليه، وأتمنى ان يكون عندي مثله. نغمته تريد أن تأخذني حيث تشاء. لم أجرؤ على الصعود فوق منضدة الكتابة والنظر الى العازف من خلال الفتحة العالية، خاصة بعد أن سمعت معها صوت "أبي" يسعل في الغرفة المجاورة التي اختارتها "أمي" لتكون مطبخاً. لحظت من شباكها الذي لا يحوي على زجاج، قد وضع إبريق الشاي على الموقد، استعداداً للخروج إلى مشواره اليومي.. لمأستطع تتبع النغمة التي أخذت طريقها إلى كل حواسي، وصارت تفور في داخلي. وبقيت "اشبه بالفأرة في احدى قصص الأطفال يقودها يجتذبها الناي السحري". كأنما آلة الكمان تجتذبني، وما أن سمعت خروج ابي، بإغلاق الباب الخارجية خلفه كي لا يتأخر عن مواعيده، وبقفزة واحدة حتى صار الفضاء أمامي مفتوحاً. بعد ان رفعت القطعة التي تغلقه لأروي فضولي. كان بيتنا الجديد قديماً، ولم يكن مستوى ارتفاع ارضه في مستوى حديقة جارنا "ميخائيل"، ولم أستطع ان امدّ بصري داخلها، حديقة مليئة بأشجار الحمضيات دائمة الخضرة، تشابك اغصانها حجبت عني رؤية العازف. لم اشأ ان أبقى معلقا فوق منضدة الكتابة، ونزلت منها.
فتاتان إحداهما "كرستين" شقيقة ماجد والأخرى لم أعرفها تتناوب معها على العزفبشعر أشقر. كانتا تتناوبانالعزف على آلة الكمان، بسرعة فائقة ويظهر لسامعهما أن المقطوعة يعزفها عازف واحد، السرعة في تلقفهما آلة كمان في زمن ضيقّ واكمال العزف واحدة الى الأخرى، كان واحداً من بين الدروس المهمة كدرسٍ متقدمٍ من دروس تقنية الكمان، والذي لا يقدر على مجاراته إلا العازفون الماهرون. كانتا تتضاحكان، وكانت ضحكتهما، ما يكمل اللحن من عذوبة، ومن كمال، وإبداع. كنت موقناً بأن اية واحدة منهن لو نظرت نحوّ الكوة التي أتطلع منها، فأنها لن ترياني وخاصة كريستين" التي تعاني من مشكلة في نظرها.اذ حملت على عينيها نظارة سميكة تنزلق بثقلها على انفها بين الحين والحين، فتنزل ثم ترفعها بعجالة. أما الفتاة الثانية التي بصحبتها جعلتني أدقق النظر إليها. ذات شعر أشقر. كانا شلالين من الضحكات الانيقة تتابعان ببهجة متراقصة مع النسيم الذي أخذ يهبّ على نقياً من خلال الكوّة التي أقف عندها، واتابع فوق منضدتي. كانتا تجيدان العزف بجمال يتحدى بعضه البعض.. كأنما لمعان الشعر الذهبي يومض بألق الصباح الطيب، والتناغم السحري. تحفزت لأن أتحدى وأرى الوجه. أول مرة في حياتي كنت اجرؤ مترقبا رؤية وجه تلك الفتاة، وماذا عساه ان يحمل من قسمات مع هذا الشعر المهيب... بقيت انتظر وفي لحظة غفلة مني التفت نحوي. التقت النظرات، دونما رفض او تمنع كأنها ارادت ان تقترب لتقرأ عينها عيني.. كأنما صادتني حيث لم أكن أعلم بأن وجهها يحمل كل جمال العالم. وجه آسر فاتن. أيقظ فيّ إحساس العصفور الذي يكتشف بأنه يمتلك جناحين ولابد أن يطير بهما.. بقيت أحدق في قسماتها. حدقتُ لأول مرة في مساحة أشعرتني أن هناك عالما آخر من الليونة الطيّب، لم أكتشفه بعد، بقيت واقفا أرنو إلى طلّة محياها، وكأنها أقرب اليّ من كل هذه المسافات.. (امرأة لا تشبهُ إلا بعضها، صقيلةُ القدّ، ممشوقة القوام، مضيئة الوجه)..كأنها لمعة ماء رقراق تنساب عذوبة، تشرقُ، تحيي. وجهٌ جاذبٌ جعلني أرتجف كما وتر انهمر عليه قوس الكمان واثق، جعلني أقول لها دون تمهل:- "الله ما أجملك"!كأنها استقبلت مني، التفتت صوبي تاركة آلة الكمان، في حضن صاحبتها، لم تسلم بخفر حواء وحيائها، ولم تحوّل نظرها عني، أشرق وجهها بابتسامة مديدة، طيّبة. كأنها قالت "هذا الرجل يناسبني". لاحظت "كرستين" ذلك الانجذاب، فاختصرت لها هامسة.
- انتبهي جارنا مسلم.. اسمهُ "محمد"!.
***** ***** *****
ذكرت صديقة "أمي": - (كنت في الثانية من عمرك، ولا أظنكتتذكر أيام كنا نسكن بيت الحاجة "خجّه"، كان كبيرا، ويحوي على أكثر من عشر غرف في الطابق الأرضي، وأربع غرف كبيرة في الطابق العلوي، كل واحدة بحمام مستقل، وكانت أحداها لكم، وكان عندكم فيها تلفاز صغير بالأبيض والأسود، مصري الصنع ماركته نصر، وقتها كان من النادر ان تجد مثله في بيت، ولا يقدر معظم الناس على شرائه. كانت "أمك".. كل يوم مساءً تشغله لنا حتى عودة "أبيك" من عمله، ثم ترجعه إلى مكانه في دولاب الملابس.. بعد تلك السهرات نعود إلى غرفنا في الطابق الأرضي، لننام.. كنت الاعبك لعبة البلورة المسحورة، يومها كانت مسلسلا مصريا تحمل هذا الاسم، يعرضها لنا "التلفزيون" كانت امك خير جارتي، وما زلت أحبها كثيرا، حيث ساعدتني في دروسيكما علمتني الخياطة، على "الباترون"[70]، لولاها لما كنت الخياطة الماهرة،ما شاء الله ها قد أصبحت رجلاً)!..
***** ***** *****
(أكد "هيرودتس" في هامش لإحدى كتبه، انه لم ينس انكساره امام مجموعة من الكتب المتراصّة التي جهل لغة أهلها، كتب مخفية، اثارته، ولم يستطع قراءتها، بالرغم انها كانت تحوي على إشارة - "غالبا ما يخون العقلاء التاريخ")..
***** ***** *****
... كانتا في كل مرة تستطلعان محتويات الغرفة عبر فتحة الهواء، التي تطلّ على حديقتهم. تحضران ساعة الظهيرة حيث لم تكن أشعة الشمس مباشرة، حيث المكان الذي تقف فيه الفتاتان تظلله شجرتان من أشجار الزيتون العالية، والمتشابكة مع بعضها إضافة الى ظلّ النخلات. كنت على يقين بأنني لست فارس أحلام أية واحدة منهن. ولم يكن سوى الفضول الذي يدفعهما الي، وكذلك ثمة مزحة كانت مخبأة بينهما لم تبتعد عن ذهني، ويعلمان جيدا مثلما اعلم ذلك من المستحيل، وسوف لن يكون توافق سوى متعة تبادل الكلام، وحسب.
يطلان بالتناوب الى داخل الغرفة وكأنهما مبهورتان بصور الأفلام التي كانت تغطي الجدران. روائح طيبة أخذت تتسرّب اليّ مع الضوء. عيناي منجذبتان الى عينيها كأنما كنت لا أرى سواهما. سألتني: عمّا يعجبني في موسيقى "جايكوفسكي"، و"بيتهوفن"، و"موزارت"، "فيفالدي"، "سلكبرت"، كانت تلفظ الأسماء بطريقة واضحة كأنما كل حرف يتراقص به لسانها. وكانت كلما ذكرت اسماً أَتَشجّعُ علىأن أذكره لها كاملا: - (Pyotr Ilyich Tchaikovsky)، (Ludwig van Beethoven)، (Wolfgang Amadeus Mozart)، (Antonio Vivaldi)، (Franz Schubert).. أكملتُ بفخرٍ؛ سَبقَ أن هوَستُ بهم قبل أن اسمع مؤلفاتهم. سبق ان قرأت عنهم كثيراً، لكني لم أستمع لنماذج من مقطوعاتهم الشهيرة، تضحك، وبصوتها الرخيم، المتباهي، تُدندن بثقة ما تحفظ من موسيقاهم، وتستعرض طبقات صوتها كما تتدرج مغنية "أوبرا" دفق موجات أوتار حنجرتها، واثقة كل الثقة من حلاوة صوت لن تصل اليه الا آلة موسيقية، يديرها عازف متمرس.. لم أخف عنها اعجابي بما قدمته، ورحت أغدق على مسامعهما كلّ صدقي واعجابي. قالت "كرستين":-"درسنا الموسيقى سويا في ديرٍ واحدٍ.. من الخامسة حتى سنتنا العاشرة".. واليوم تُدرِّس فيه بدرجة أستاذة !
وضعت سبابتها على فم "كرستين".. كأنها أرادتها أن تتمهّل في كلامها.. كانت تمدّ رأسها فيدخل إليّ عطرها الذي جعلني لا أعرف كيف أتصرّف أمامَ ملاك له حلاوة عينين لامعتين بإشراق عذب، وشفتين كرزيتين متلألئتين كأنهما جلّ ما يشتهيه الانسان، حاجبان تناسقا كمفتاح موسيقي خطه رب النغم بيديه العظيمتين، مع أنف أقنى كأنه لملكة جمال من "هوليود". كأني في حلم سيتبدد عاجلاً، وفعلا كانت ضيفة بوجهها الصافي البشرة، الهادئ الأسارير، البسّامُ كنبع ماء يفيضُ على عشب أخضر، زاهٍ. (تنهدت قائلا: ما أسمك؟ قالت: "غرفتك الصغيرة متميزة".. "لن أخبرك اسمي، لكونه مكتوب أمامك على إحدى الصور".. "سررت كثيراً بالتعرف إليك" -"قضينا ظهيرة ممتعة معاً.. لنا عودة اخرى لاحقا")..
ابتعدت "كرستين" عنها، ولكنها مدّت كفها الي، ثم مددت بجذعي نحوها كي تصل كفي كفها، تلامست اناملنا اولاً، ثم تصافحت الراح بالراح. تيارٌ سرى من يديها الى كل جسدي. برغم قصر مدة المصافحة، كأنما لم تلمس أصابعي أصابع فتاة من قبل.. (حتىسُلَّت يديها من يدي كأنها سلّتْ من كليّ)[71]..
لا أعرف لم أردتُ أن أخبرها باني أوشكت أن أنجز مسودة رواية بوليسية، وسأعيد كتابتها لأظهرها بطلة فيها، واني رأيتها كما فراشة تطير بألوان مبهجة، عند نافذتي.. شيئاً فشيئاً ابتعدت عني الأسماء، لم تعلمني اسمها لكني حتما سأجد بين الأسماء اسماً ينطبق على جمالها.
***** ***** *****
ابنةُ "حسنة الخبازة" تعرفت إلى شاب في كليتها، وقد زوّجه أهله من غيرها، ومرّت بظرف قاس جداً، وعندماقررت أن تلعب لعبتها لم يستجب لها الناس على الرغم من اتقانها مع مساعديها.عرفنا درست في أكاديمية الفنون الجميلة قسم المسرح،وأرادت التعويضعن خسارتها النفسية.. لعبة لم تكن قد خبرتها جيداً، بقيت تحاول أن تلعب دور احدى الملكات في التاريخ لكن ثقافتها لم تسعفها لتكون ما تريد حيث لم تقرأ عن انموذج امرأة قائدة تقنع بها المحيط.وعدت الناس بما لم تكن تعرف، ولم تأتِبمعجزةتحققت على الواقع.سوى حكي القصص المختلقة. وجدت نفسها تقبل بالزواج من أول خاطب، ثم اختفت اخبارها بعد ان رحلت عن أهلها في المحلة.
***** ***** *****
يومها لم يكن تحت يدي المال الكافي، لكنت قد اشتريت الدار الذي جاور داري من الخلف. مخافة أن يشتريه أحد ما، وقد يكونعليّ وبالاً، أونقمة، فـ"سمعةُ الجيران فضيلة"، ولعلهم الأهل في السابق قالو: -"الجار قبل الدار". ومن حسن الحظ اشتراه "إبراهيم دندي"، ابن محلتنا، ونعرف سيرته منذ أن كان في الخامسة عشرة من عمره، ويلعب مع المحلة بصحبة ابنائي وأبناء "ناجي يعقوب" الذي كان صديق والده المقرب رحمهما الله. كما نشهد له موقفاً بطولياً عندما كان عمره لم يتجاوز الحادية عشرة،يومَ أنقذ عائلة برمتها من الموتِ المُحتمِ..حادثة لا يمكن نسيانها، أيامها، كانت السراديب مقسمة الى غرف بعضها يستخدم للنوم، محصنة بالطابوق الصخري، وكان له من العمق حوالي ثمان درجات نزولا، وله أربع فتحات للهواء كل فتحتين متقابلتين تطلان على الشارع، من أجل ان يمر تيار الهواء بارداً، وثمة بابان تنفتحان إلى الخارج، الأولى حديدية مُشبكه ذات فتحات كبيرة، عند صعود الدرج، والثانية بعد نزول الدرج ذات فتحات صغيرة تمنع نزول الزواحف التي قد تكون مؤذية، وغالبا ما ينزل اليه أهل الدارمن أجل النوم فيه لبرودته وطراوة الهواء الذي يدخل اليه من كوى عالية غالبا ما تكون في مستوى الشارع.وفي ظهيرة أحد أيام شهر تموز، بينما كانت عائلة "ناجي" في قيلولة الظهيرة، تفاجأ الجميع بدخول ماء جارف من الكوّة الى السرداب،كان بسبب فيضان مفاجئ لنهر "خريسان" من جانب، ومن الجانب الأخر نهر "ديالى" الأكبر، دخل الى كل البيوت من الشبابيك الى معظم البيوت التي كانت متوزعة بين النهرين ولم يستثن الماء بيتا الا ودخله.. اذ جاد "خريسان" بضرره على البيوت القريبة أكثر من غيرها. حيث لم يحالف الحظ أي من "ناجي وزوجته وأبنائه بالخروج من السرداب الذي أمتلأ بالماء فجأة. كأنما القدر قد أغلق عليهم الباب.من بعد أن حشرت خلف بابه خشبة طاف بها الماء، ولم الصراخ في طلب النجدة، حيث أصابهم الهلع من الموت المحقق، واخذ الماء ينزل سريعا من كل جميع الفتحات حتى تجاوز مستواه إلى ما فوق حزام الأب بكثير. بات اليقين أن نهاية خمسة اشخاص محتومة، الزوج والزوجة والولدان "يهوده" عمره أربع عشرة سنة، و"حسقيال" عمره إحدى عشرة سنة، وابنتهم "سناء" تجاوزت العام. كان الاب هادئا للغاية بعد ان انتزع ابنته من أمها وطلب منه ان يحملها الى اعلى ثم رفع الاثنان بيديه إلى أعلى، وطلب من الأم بدورها أن ترفع الابن الآخر، مثلما فعل. ولكن مستوى الماء في تصاعد وبدأ يصل إلى مستوى رقبة المرأة، ويتصاعد شيئاً فشيئا، وكادت رائحة الموت أن تقترب من الأم، ولم يكن بوسعهما سوى انتظار الموت المحقق. صارت ترفع ولدها إلى أعلى. وتكاد تنزلق الأرض من تحتها، ولكن الابن بينما هو محمول تمسك بإحدى الاعمدة الحديدية بيد وحاول أن يمسك "أمه" باليد الأخرى. وهي تحاول تنظر إلى عيون أبنائها، تطمأنهم كي لا يزداد صراخهم أمام المجهول المريب.. ولم يكن هناك دمع يمتزج بالماء. بعد ان انسرح عليهم الماء من الفتحات.
وكعادة إبراهيم كان يتردد عليهم بين الحين والأخر، فسمع صراخ الاستغاثة، وأيقن تمام اليقين بأنهم عالقون تحت في السرداب. ومن حسن حظهم كان يعرف تفاصيل المكان جيداً، وقرر نزول الدرج والغطس الى عمق السرداب، بالرغم من ان الدرج والممر ممتلئان بالماء فكان عليه ان يأخذ نفساً عميقا حتى يبطل ما منعهم من الخروج. بعدها تمكن من ازاحة تلك الخشبةالتي أعاقت فتح الباب وعند الوصول قام بسحب الأم التي اوشكت على الغرق لقصرها وثقل الولد الذي بين يديها اذ وصل الماء الى مستوى انفها، وقد ابتلعت الكثير من الماء، سحبها بقوة دون ان يعير للخطورة أي شيء، اذ قام بسحبها تحت الماء حتى عبر بها الى الدرج ومن ثم تركها تأخذ طريقها الى الخارج وتستعيد انفاسها، ثم عاد لأخذ الصغيرة من يد "يهوده" دون أن يقول له شيئا، انتزعها بسرعة حتى تمكن معها من العبور من الباب ثم صعد بها إلى أعلى، وسلمها بيد أمها.
أما الأب بقي ممسكا بابنيهِ جيدا، وطلب منهما ان يتنفسا بعمق، لأجل ان يغوصا معه نحو الباب التي باتت مفتوحة، ولكن الصغير "حسقيال" صعب عليه ذلك وكأنه لم يفهم ما يطلب منه. بينما السرداب بقي يترفع الماء وبقيّ خائفا متمسكا بالشباك، ولكن الأب قرر ان يفعلها مع ابنه مثلما جرّ "إبراهيم" ام اولاده جرّا الى الخارج. أما "يهودا" لم تقل شجاعته عن شجاعة صاحبه، حيث غطس وعبر الباب حتى وصل الدرج وصعد مع ابيه.. تلك قصة عن رجل كان صديقاً حميماً للجميع؛ أيامها كنا لا نسأل هذا أو ذاك عن دينهأومذهبه..
كان يقول ممازحاً: - "واذا اختلفت الأرباب فذلك شأنهم الخاص أما شأننا نحن هو ليس لدينا ما نختلف به وفق خلافهم"!
***** ***** *****
بقيتُ أحلم بتلك البهيّة عاشقة الموسيقى. حاولت أن ألتقي بـ"كرستين"، لأعرف عن تلك الفتاة التي لم اعرف اسمها.ولكن "كرستين" باتت تعتقد بأني أهتمّ بها، وعندما عهدت معظم اسئلتي تتمحور حول صديقتها. احمرّ وجهها، وقالت:
- "ملتنا لا تصلح لملتكم"!
لم أفهم منها شيئا، ولكنها في اليوم التالي أخبرت "أمي" بأني قد عاكستها.جعلتني أُحرَج معها عندما سألتني عن أصل الحكاية، اذ ترددت في إيجاد إجابة مقنعة، لامتني "امي" كثيراً، وأعادتعليّ بأنها ابنة جار، وعلينا لهم حقوق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[67]* الشيت تسمية جرى اطلاقها بين العاملين في دور العرض، علىمطبوعالدعاية الذي يلحق مع كل فيلم، معلومات يتصدرها اسم شركة الإنتاج، والمخرج، وأبرز الممثلين المشتركين فيه، وغالبا ما يكون صورة تبرز الممثلين المشاركين.
[68]* كتبت على أوراق أغلب المعلومات التي تخصّ "مكابيوس"، ولم تكن سوى ملاحظات مكتوبة بحروف محفورة على الورق غير ظاهرة، تبدو حزمة أوراق فارغة
[69]* الستين: 60 فلسا سعر بطاقة الدخول.
[70]* الباترون: منشور يباع مع مجلة متخصصة بتفصيل وخياطة الملابس وهو مطبوع على ورق خاص كدليل لكيفية قطع القماش وكيفية إلصاق أجزاء قطعة الملابس.
[71]* كما كان يقول مجنون ليلى
قالت "أمي": أحضر لك "أبوك" حزمة "شيتات"[67] من السينما، تكفي لتغطية جدران غرفتك إن رغبت، وسيكون ذلك مؤقتاً، حيث الطلاء لا ينفع مع جدران متداعية، حيطانها من الطابوق الأحمر.. وجدت الأمر يروق لي وقررت العمل وحديّ. دون ان اجعلها تشاركني، اذ أتعبها الحَمل، وبالكاد تجرّ خطواتها، لم تكاسل لحظة عن مهام البيت، من طبخ، وغسيل ملابس، ولم تكن ترضى منيمساعدتها في شؤون البيت، بدت سعيدة بالاستقلال في بيتها، وبحبَلِها أيضاً، عندما ترسم البسمة على الأم يمتلئ كل البيت بالبهجة كأنما نسيم يملأ الصدر بالهواء الطيب!! كانت حزمة ثقيلة من المطبوعات، لأنها من ورق خاص فيه نسبة كبيرة من النسيج والنايلون، لتقاوم أشعة الشمس المباشرة، وبقية الأحوال الجوية. أول الامر نشرتها على أرضية الغرفة الفارغة، إلا من كرسي قديم وجدته متروكاً في البيت قبل الانتقال إليه، احتفظت به بعد أن حشت لي "امي" وسادة من القطن، ليكون لينّا. بقيت استخدمته حتى بعد أن توفرتلي منضدة من الخشب، قد وعدتني بها، ووجدتها تصلح لأن أضع عليها اغراضي المكتبية، المذياع، وبجانبهما ملزمة الأوراق، كانت "امي" تعتقد أنى استخدم آلة الكتابة بغرض اللعب[68] ، ولم تسألني يوماً ان كنت احتاج الى شريط حبر طباعي، من أجل ذلك.
وقبل أن اثبت الصور على الحائط لتغطية العيوب، عزلت ذوات الحجم الصغير التي يتراوح ابعادها "متر X نصف" بحسب توازن الألوان وحسب مع ما أحبت من وجوه ابطالي، وتم توزيعها من أعلى الحائط حتى اسفله. ثم أحضرت المقص لقص قطع الكرتون لتجعل رأس المسمار لا يفلت الصورة بعد تثبيتها بالمسامير والمطرقة، هذا ما كنت أراه يفعله المرحوم "ناجي الأعرج" عندما يثبّت تلك المنشورات على واجهة السينما، كان يبدل الاعلان عن الفيلم الجديد نهاية يوم كل جمعة، حيث كنت أَصحب "عمي علي" خصوصا بعد أن أكمل الخدمة العسكرية الإلزامية، والذي أُلزِمَ بوظيفة فاحص تذاكر الدخول لقاعة الدرجة الثانية "ام الستين "، مع شقيقة الأكبر عمي "جاسم الطويل" والذي لم يترك مهمته منذ افتتاح السينما عند بوابة الدخول الى قاعة الدرجة الأولى "ام التسعين"[69] مهما تغيرت الأحوال، ولم يتبدل. حتى بعد أن ترك "أبي" العمل فيها كمحاسب، مُؤثرا العمل في مطعم يملكه.وبقيّ ان الجمهور لم يعد يحرص على متابعة الأفلام في صالة العرض كما كان في السابق. حيث اخذ التلفزيون يغزو البيوت ويترك مساحة بينه وبين تلك الالتزامات.
وبعد أن أكملت وبدت الغرفة كأنها مضاءة، وحائطها يعكس الوانا بهيجة، كنت متحسباً لدخول "أبي" إلى الغرفة، وتعمدت ان تكون صور الواجهة "افلام" الكاوبوي، وافلام المطاردات البوليسية ابطالها يحملون مسدسات. أما الصور التي اخترتها لتكون خلف الباب، فجعلتها تزخر بأفلام الغرام، والقبل، وقد استبعدتصور السيقان العارية، والصدور المكشوفة وصارت الغرفة مليئة بالألوان، والوجوه، والخطوط، وكلما نظرت الى فليم اعجبني من تلك الأفلام، أتذكر موسيقاه التصويرية، المعظم منها شاهدته أكثر من مرة، ومازلت تهدر في ذهني، موسيقى رائقة كانت تجعلني أحلّق في عوالم بعيدة عن كل توتر. كنت انظر الى الصور باستمتاع، موازناً بين الفلم الذي أحبّه، والفلم الذي أجهله. لم أستطع إغلاق الفتحة العالية التي كان يأتي منها الضوء والهواء، صنعت لها بوابة مبسطة من الخشب الخفيف، قطعة قابلة للحركة أستخدمها ساعة أريد لتبديل الهواء أو لدخول الضوء..
ثم أنزلت من السقف سلكاً كهربائيا، وعلقت فيه مصباحاً، جعل لي الغرفة مضاءة ليلاً، وأخذت الأشياء في الغرفة تتخذ طابع الخصوصية، فلم يدخل الغرفة "أبي" لأي سبب كان، وبقي كعهدي به لا يكلمني إلا بشأن هام. كأن الهوة التي بيننا تتسع، اذ ينبغي عليّ استحصال موافقته قبل كل شيء، وقد لا أستطيع الذهاب الى مكان دون علمه، حتى انه لا يكلفني بالتسوق كبقية أقراني من الاولاد، يتسوق بنفسه كل حاجيات البيت. ويرسلها حتى باب البيت مع أيّ حوذي يعرف البيت، بعد أن يعطيه أجرته كاملة، تعودنا كل صباح. أن يطرق بابنا- ويسلمنا أحدهم ما أرسله "أبي" من السوق. ولكني كنت أكثر حرصاً على المواظبة بالذهاب إلى المكتبة العامة، إذ كنت أشعر بأن هذا الحق الوحيد الذي لا أتمنى الحرمان منه. كما حرمت من اللقاء بـ"صفاء"، وغيتاره. كأنما زادني ذلك على اصراري التمسك بالقراءة. ولم أفُرّط بذلك المتنفس، لي وقت محدد، لا يتجاوز الساعتين، وأعود بعده.. تعمق شعوري ببؤس اهتمامات زملائي، وجيرتي..
***** ***** *****
صوت آلة الكمان يخترق نافذتي منذ الصباح الباكر، هادئ مسترسل، يرسل نغماته بحنين الى فضاء تغطيه الشجيرات الوارفة. كنت اصغي اليه، وأتمنى ان يكون عندي مثله. نغمته تريد أن تأخذني حيث تشاء. لم أجرؤ على الصعود فوق منضدة الكتابة والنظر الى العازف من خلال الفتحة العالية، خاصة بعد أن سمعت معها صوت "أبي" يسعل في الغرفة المجاورة التي اختارتها "أمي" لتكون مطبخاً. لحظت من شباكها الذي لا يحوي على زجاج، قد وضع إبريق الشاي على الموقد، استعداداً للخروج إلى مشواره اليومي.. لمأستطع تتبع النغمة التي أخذت طريقها إلى كل حواسي، وصارت تفور في داخلي. وبقيت "اشبه بالفأرة في احدى قصص الأطفال يقودها يجتذبها الناي السحري". كأنما آلة الكمان تجتذبني، وما أن سمعت خروج ابي، بإغلاق الباب الخارجية خلفه كي لا يتأخر عن مواعيده، وبقفزة واحدة حتى صار الفضاء أمامي مفتوحاً. بعد ان رفعت القطعة التي تغلقه لأروي فضولي. كان بيتنا الجديد قديماً، ولم يكن مستوى ارتفاع ارضه في مستوى حديقة جارنا "ميخائيل"، ولم أستطع ان امدّ بصري داخلها، حديقة مليئة بأشجار الحمضيات دائمة الخضرة، تشابك اغصانها حجبت عني رؤية العازف. لم اشأ ان أبقى معلقا فوق منضدة الكتابة، ونزلت منها.
فتاتان إحداهما "كرستين" شقيقة ماجد والأخرى لم أعرفها تتناوب معها على العزفبشعر أشقر. كانتا تتناوبانالعزف على آلة الكمان، بسرعة فائقة ويظهر لسامعهما أن المقطوعة يعزفها عازف واحد، السرعة في تلقفهما آلة كمان في زمن ضيقّ واكمال العزف واحدة الى الأخرى، كان واحداً من بين الدروس المهمة كدرسٍ متقدمٍ من دروس تقنية الكمان، والذي لا يقدر على مجاراته إلا العازفون الماهرون. كانتا تتضاحكان، وكانت ضحكتهما، ما يكمل اللحن من عذوبة، ومن كمال، وإبداع. كنت موقناً بأن اية واحدة منهن لو نظرت نحوّ الكوة التي أتطلع منها، فأنها لن ترياني وخاصة كريستين" التي تعاني من مشكلة في نظرها.اذ حملت على عينيها نظارة سميكة تنزلق بثقلها على انفها بين الحين والحين، فتنزل ثم ترفعها بعجالة. أما الفتاة الثانية التي بصحبتها جعلتني أدقق النظر إليها. ذات شعر أشقر. كانا شلالين من الضحكات الانيقة تتابعان ببهجة متراقصة مع النسيم الذي أخذ يهبّ على نقياً من خلال الكوّة التي أقف عندها، واتابع فوق منضدتي. كانتا تجيدان العزف بجمال يتحدى بعضه البعض.. كأنما لمعان الشعر الذهبي يومض بألق الصباح الطيب، والتناغم السحري. تحفزت لأن أتحدى وأرى الوجه. أول مرة في حياتي كنت اجرؤ مترقبا رؤية وجه تلك الفتاة، وماذا عساه ان يحمل من قسمات مع هذا الشعر المهيب... بقيت انتظر وفي لحظة غفلة مني التفت نحوي. التقت النظرات، دونما رفض او تمنع كأنها ارادت ان تقترب لتقرأ عينها عيني.. كأنما صادتني حيث لم أكن أعلم بأن وجهها يحمل كل جمال العالم. وجه آسر فاتن. أيقظ فيّ إحساس العصفور الذي يكتشف بأنه يمتلك جناحين ولابد أن يطير بهما.. بقيت أحدق في قسماتها. حدقتُ لأول مرة في مساحة أشعرتني أن هناك عالما آخر من الليونة الطيّب، لم أكتشفه بعد، بقيت واقفا أرنو إلى طلّة محياها، وكأنها أقرب اليّ من كل هذه المسافات.. (امرأة لا تشبهُ إلا بعضها، صقيلةُ القدّ، ممشوقة القوام، مضيئة الوجه)..كأنها لمعة ماء رقراق تنساب عذوبة، تشرقُ، تحيي. وجهٌ جاذبٌ جعلني أرتجف كما وتر انهمر عليه قوس الكمان واثق، جعلني أقول لها دون تمهل:- "الله ما أجملك"!كأنها استقبلت مني، التفتت صوبي تاركة آلة الكمان، في حضن صاحبتها، لم تسلم بخفر حواء وحيائها، ولم تحوّل نظرها عني، أشرق وجهها بابتسامة مديدة، طيّبة. كأنها قالت "هذا الرجل يناسبني". لاحظت "كرستين" ذلك الانجذاب، فاختصرت لها هامسة.
- انتبهي جارنا مسلم.. اسمهُ "محمد"!.
***** ***** *****
ذكرت صديقة "أمي": - (كنت في الثانية من عمرك، ولا أظنكتتذكر أيام كنا نسكن بيت الحاجة "خجّه"، كان كبيرا، ويحوي على أكثر من عشر غرف في الطابق الأرضي، وأربع غرف كبيرة في الطابق العلوي، كل واحدة بحمام مستقل، وكانت أحداها لكم، وكان عندكم فيها تلفاز صغير بالأبيض والأسود، مصري الصنع ماركته نصر، وقتها كان من النادر ان تجد مثله في بيت، ولا يقدر معظم الناس على شرائه. كانت "أمك".. كل يوم مساءً تشغله لنا حتى عودة "أبيك" من عمله، ثم ترجعه إلى مكانه في دولاب الملابس.. بعد تلك السهرات نعود إلى غرفنا في الطابق الأرضي، لننام.. كنت الاعبك لعبة البلورة المسحورة، يومها كانت مسلسلا مصريا تحمل هذا الاسم، يعرضها لنا "التلفزيون" كانت امك خير جارتي، وما زلت أحبها كثيرا، حيث ساعدتني في دروسيكما علمتني الخياطة، على "الباترون"[70]، لولاها لما كنت الخياطة الماهرة،ما شاء الله ها قد أصبحت رجلاً)!..
***** ***** *****
(أكد "هيرودتس" في هامش لإحدى كتبه، انه لم ينس انكساره امام مجموعة من الكتب المتراصّة التي جهل لغة أهلها، كتب مخفية، اثارته، ولم يستطع قراءتها، بالرغم انها كانت تحوي على إشارة - "غالبا ما يخون العقلاء التاريخ")..
***** ***** *****
... كانتا في كل مرة تستطلعان محتويات الغرفة عبر فتحة الهواء، التي تطلّ على حديقتهم. تحضران ساعة الظهيرة حيث لم تكن أشعة الشمس مباشرة، حيث المكان الذي تقف فيه الفتاتان تظلله شجرتان من أشجار الزيتون العالية، والمتشابكة مع بعضها إضافة الى ظلّ النخلات. كنت على يقين بأنني لست فارس أحلام أية واحدة منهن. ولم يكن سوى الفضول الذي يدفعهما الي، وكذلك ثمة مزحة كانت مخبأة بينهما لم تبتعد عن ذهني، ويعلمان جيدا مثلما اعلم ذلك من المستحيل، وسوف لن يكون توافق سوى متعة تبادل الكلام، وحسب.
يطلان بالتناوب الى داخل الغرفة وكأنهما مبهورتان بصور الأفلام التي كانت تغطي الجدران. روائح طيبة أخذت تتسرّب اليّ مع الضوء. عيناي منجذبتان الى عينيها كأنما كنت لا أرى سواهما. سألتني: عمّا يعجبني في موسيقى "جايكوفسكي"، و"بيتهوفن"، و"موزارت"، "فيفالدي"، "سلكبرت"، كانت تلفظ الأسماء بطريقة واضحة كأنما كل حرف يتراقص به لسانها. وكانت كلما ذكرت اسماً أَتَشجّعُ علىأن أذكره لها كاملا: - (Pyotr Ilyich Tchaikovsky)، (Ludwig van Beethoven)، (Wolfgang Amadeus Mozart)، (Antonio Vivaldi)، (Franz Schubert).. أكملتُ بفخرٍ؛ سَبقَ أن هوَستُ بهم قبل أن اسمع مؤلفاتهم. سبق ان قرأت عنهم كثيراً، لكني لم أستمع لنماذج من مقطوعاتهم الشهيرة، تضحك، وبصوتها الرخيم، المتباهي، تُدندن بثقة ما تحفظ من موسيقاهم، وتستعرض طبقات صوتها كما تتدرج مغنية "أوبرا" دفق موجات أوتار حنجرتها، واثقة كل الثقة من حلاوة صوت لن تصل اليه الا آلة موسيقية، يديرها عازف متمرس.. لم أخف عنها اعجابي بما قدمته، ورحت أغدق على مسامعهما كلّ صدقي واعجابي. قالت "كرستين":-"درسنا الموسيقى سويا في ديرٍ واحدٍ.. من الخامسة حتى سنتنا العاشرة".. واليوم تُدرِّس فيه بدرجة أستاذة !
وضعت سبابتها على فم "كرستين".. كأنها أرادتها أن تتمهّل في كلامها.. كانت تمدّ رأسها فيدخل إليّ عطرها الذي جعلني لا أعرف كيف أتصرّف أمامَ ملاك له حلاوة عينين لامعتين بإشراق عذب، وشفتين كرزيتين متلألئتين كأنهما جلّ ما يشتهيه الانسان، حاجبان تناسقا كمفتاح موسيقي خطه رب النغم بيديه العظيمتين، مع أنف أقنى كأنه لملكة جمال من "هوليود". كأني في حلم سيتبدد عاجلاً، وفعلا كانت ضيفة بوجهها الصافي البشرة، الهادئ الأسارير، البسّامُ كنبع ماء يفيضُ على عشب أخضر، زاهٍ. (تنهدت قائلا: ما أسمك؟ قالت: "غرفتك الصغيرة متميزة".. "لن أخبرك اسمي، لكونه مكتوب أمامك على إحدى الصور".. "سررت كثيراً بالتعرف إليك" -"قضينا ظهيرة ممتعة معاً.. لنا عودة اخرى لاحقا")..
ابتعدت "كرستين" عنها، ولكنها مدّت كفها الي، ثم مددت بجذعي نحوها كي تصل كفي كفها، تلامست اناملنا اولاً، ثم تصافحت الراح بالراح. تيارٌ سرى من يديها الى كل جسدي. برغم قصر مدة المصافحة، كأنما لم تلمس أصابعي أصابع فتاة من قبل.. (حتىسُلَّت يديها من يدي كأنها سلّتْ من كليّ)[71]..
لا أعرف لم أردتُ أن أخبرها باني أوشكت أن أنجز مسودة رواية بوليسية، وسأعيد كتابتها لأظهرها بطلة فيها، واني رأيتها كما فراشة تطير بألوان مبهجة، عند نافذتي.. شيئاً فشيئاً ابتعدت عني الأسماء، لم تعلمني اسمها لكني حتما سأجد بين الأسماء اسماً ينطبق على جمالها.
***** ***** *****
ابنةُ "حسنة الخبازة" تعرفت إلى شاب في كليتها، وقد زوّجه أهله من غيرها، ومرّت بظرف قاس جداً، وعندماقررت أن تلعب لعبتها لم يستجب لها الناس على الرغم من اتقانها مع مساعديها.عرفنا درست في أكاديمية الفنون الجميلة قسم المسرح،وأرادت التعويضعن خسارتها النفسية.. لعبة لم تكن قد خبرتها جيداً، بقيت تحاول أن تلعب دور احدى الملكات في التاريخ لكن ثقافتها لم تسعفها لتكون ما تريد حيث لم تقرأ عن انموذج امرأة قائدة تقنع بها المحيط.وعدت الناس بما لم تكن تعرف، ولم تأتِبمعجزةتحققت على الواقع.سوى حكي القصص المختلقة. وجدت نفسها تقبل بالزواج من أول خاطب، ثم اختفت اخبارها بعد ان رحلت عن أهلها في المحلة.
***** ***** *****
يومها لم يكن تحت يدي المال الكافي، لكنت قد اشتريت الدار الذي جاور داري من الخلف. مخافة أن يشتريه أحد ما، وقد يكونعليّ وبالاً، أونقمة، فـ"سمعةُ الجيران فضيلة"، ولعلهم الأهل في السابق قالو: -"الجار قبل الدار". ومن حسن الحظ اشتراه "إبراهيم دندي"، ابن محلتنا، ونعرف سيرته منذ أن كان في الخامسة عشرة من عمره، ويلعب مع المحلة بصحبة ابنائي وأبناء "ناجي يعقوب" الذي كان صديق والده المقرب رحمهما الله. كما نشهد له موقفاً بطولياً عندما كان عمره لم يتجاوز الحادية عشرة،يومَ أنقذ عائلة برمتها من الموتِ المُحتمِ..حادثة لا يمكن نسيانها، أيامها، كانت السراديب مقسمة الى غرف بعضها يستخدم للنوم، محصنة بالطابوق الصخري، وكان له من العمق حوالي ثمان درجات نزولا، وله أربع فتحات للهواء كل فتحتين متقابلتين تطلان على الشارع، من أجل ان يمر تيار الهواء بارداً، وثمة بابان تنفتحان إلى الخارج، الأولى حديدية مُشبكه ذات فتحات كبيرة، عند صعود الدرج، والثانية بعد نزول الدرج ذات فتحات صغيرة تمنع نزول الزواحف التي قد تكون مؤذية، وغالبا ما ينزل اليه أهل الدارمن أجل النوم فيه لبرودته وطراوة الهواء الذي يدخل اليه من كوى عالية غالبا ما تكون في مستوى الشارع.وفي ظهيرة أحد أيام شهر تموز، بينما كانت عائلة "ناجي" في قيلولة الظهيرة، تفاجأ الجميع بدخول ماء جارف من الكوّة الى السرداب،كان بسبب فيضان مفاجئ لنهر "خريسان" من جانب، ومن الجانب الأخر نهر "ديالى" الأكبر، دخل الى كل البيوت من الشبابيك الى معظم البيوت التي كانت متوزعة بين النهرين ولم يستثن الماء بيتا الا ودخله.. اذ جاد "خريسان" بضرره على البيوت القريبة أكثر من غيرها. حيث لم يحالف الحظ أي من "ناجي وزوجته وأبنائه بالخروج من السرداب الذي أمتلأ بالماء فجأة. كأنما القدر قد أغلق عليهم الباب.من بعد أن حشرت خلف بابه خشبة طاف بها الماء، ولم الصراخ في طلب النجدة، حيث أصابهم الهلع من الموت المحقق، واخذ الماء ينزل سريعا من كل جميع الفتحات حتى تجاوز مستواه إلى ما فوق حزام الأب بكثير. بات اليقين أن نهاية خمسة اشخاص محتومة، الزوج والزوجة والولدان "يهوده" عمره أربع عشرة سنة، و"حسقيال" عمره إحدى عشرة سنة، وابنتهم "سناء" تجاوزت العام. كان الاب هادئا للغاية بعد ان انتزع ابنته من أمها وطلب منه ان يحملها الى اعلى ثم رفع الاثنان بيديه إلى أعلى، وطلب من الأم بدورها أن ترفع الابن الآخر، مثلما فعل. ولكن مستوى الماء في تصاعد وبدأ يصل إلى مستوى رقبة المرأة، ويتصاعد شيئاً فشيئا، وكادت رائحة الموت أن تقترب من الأم، ولم يكن بوسعهما سوى انتظار الموت المحقق. صارت ترفع ولدها إلى أعلى. وتكاد تنزلق الأرض من تحتها، ولكن الابن بينما هو محمول تمسك بإحدى الاعمدة الحديدية بيد وحاول أن يمسك "أمه" باليد الأخرى. وهي تحاول تنظر إلى عيون أبنائها، تطمأنهم كي لا يزداد صراخهم أمام المجهول المريب.. ولم يكن هناك دمع يمتزج بالماء. بعد ان انسرح عليهم الماء من الفتحات.
وكعادة إبراهيم كان يتردد عليهم بين الحين والأخر، فسمع صراخ الاستغاثة، وأيقن تمام اليقين بأنهم عالقون تحت في السرداب. ومن حسن حظهم كان يعرف تفاصيل المكان جيداً، وقرر نزول الدرج والغطس الى عمق السرداب، بالرغم من ان الدرج والممر ممتلئان بالماء فكان عليه ان يأخذ نفساً عميقا حتى يبطل ما منعهم من الخروج. بعدها تمكن من ازاحة تلك الخشبةالتي أعاقت فتح الباب وعند الوصول قام بسحب الأم التي اوشكت على الغرق لقصرها وثقل الولد الذي بين يديها اذ وصل الماء الى مستوى انفها، وقد ابتلعت الكثير من الماء، سحبها بقوة دون ان يعير للخطورة أي شيء، اذ قام بسحبها تحت الماء حتى عبر بها الى الدرج ومن ثم تركها تأخذ طريقها الى الخارج وتستعيد انفاسها، ثم عاد لأخذ الصغيرة من يد "يهوده" دون أن يقول له شيئا، انتزعها بسرعة حتى تمكن معها من العبور من الباب ثم صعد بها إلى أعلى، وسلمها بيد أمها.
أما الأب بقي ممسكا بابنيهِ جيدا، وطلب منهما ان يتنفسا بعمق، لأجل ان يغوصا معه نحو الباب التي باتت مفتوحة، ولكن الصغير "حسقيال" صعب عليه ذلك وكأنه لم يفهم ما يطلب منه. بينما السرداب بقي يترفع الماء وبقيّ خائفا متمسكا بالشباك، ولكن الأب قرر ان يفعلها مع ابنه مثلما جرّ "إبراهيم" ام اولاده جرّا الى الخارج. أما "يهودا" لم تقل شجاعته عن شجاعة صاحبه، حيث غطس وعبر الباب حتى وصل الدرج وصعد مع ابيه.. تلك قصة عن رجل كان صديقاً حميماً للجميع؛ أيامها كنا لا نسأل هذا أو ذاك عن دينهأومذهبه..
كان يقول ممازحاً: - "واذا اختلفت الأرباب فذلك شأنهم الخاص أما شأننا نحن هو ليس لدينا ما نختلف به وفق خلافهم"!
***** ***** *****
بقيتُ أحلم بتلك البهيّة عاشقة الموسيقى. حاولت أن ألتقي بـ"كرستين"، لأعرف عن تلك الفتاة التي لم اعرف اسمها.ولكن "كرستين" باتت تعتقد بأني أهتمّ بها، وعندما عهدت معظم اسئلتي تتمحور حول صديقتها. احمرّ وجهها، وقالت:
- "ملتنا لا تصلح لملتكم"!
لم أفهم منها شيئا، ولكنها في اليوم التالي أخبرت "أمي" بأني قد عاكستها.جعلتني أُحرَج معها عندما سألتني عن أصل الحكاية، اذ ترددت في إيجاد إجابة مقنعة، لامتني "امي" كثيراً، وأعادتعليّ بأنها ابنة جار، وعلينا لهم حقوق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[67]* الشيت تسمية جرى اطلاقها بين العاملين في دور العرض، علىمطبوعالدعاية الذي يلحق مع كل فيلم، معلومات يتصدرها اسم شركة الإنتاج، والمخرج، وأبرز الممثلين المشتركين فيه، وغالبا ما يكون صورة تبرز الممثلين المشاركين.
[68]* كتبت على أوراق أغلب المعلومات التي تخصّ "مكابيوس"، ولم تكن سوى ملاحظات مكتوبة بحروف محفورة على الورق غير ظاهرة، تبدو حزمة أوراق فارغة
[69]* الستين: 60 فلسا سعر بطاقة الدخول.
[70]* الباترون: منشور يباع مع مجلة متخصصة بتفصيل وخياطة الملابس وهو مطبوع على ورق خاص كدليل لكيفية قطع القماش وكيفية إلصاق أجزاء قطعة الملابس.
[71]* كما كان يقول مجنون ليلى