لا ترمي هذه الورقة إلى تقديم مادة بحثية نظرية في القصة القصيرة ، ولكنها ترمي إلى طرح أسئلة حضور القصة القصيرة وانحسارها ، في وقت ما زلنا فيه نشيد بالعلاقة بين النوع الأدبي والعصر الذي تزدهر به ، مما تمثل بالتباهي بإطلاق العبارات التي تحقق ولو نظريا هذا الارتباط ، في مقولات مثل"الشعر ديوان العرب"و"الرواية ديوان العصر الحديث" ، فأين القصة القصيرة من حقيقة هذه العلاقة؟
قد يبدو صادما أن نتحدث عن ظاهرة انحسار القصة القصيرة ، وحضورها الخجول في ظل تغول أنواع أدبية أخرى وبخاصة الرواية ، الأمر الذي يعيد إلى الأذهان مقولات باتت تنطوي على مفارقات عجيبة حين نستعيد فكرة ارتباط القصة القصيرة بطبيعة العصر ، عصر السرعة الذي لا يجد فيه المرء متسعاً لقراءة المطولات القصصية أو الروائية ، فأين نحن الآن من تلك المقولات في الوقت الراهن ، لماذا تتراجع القصة القصيرة في العصر الأسرع والأكثر جاذبية للجملة اللغوية السريعة (المسجات) وتتقدم الرواية؟
المسألة إذن ليست مسألة طول وقصر وإيجاز وتفصيل.. ولعل عز الدين إسماعيل قد استشعر هذه المسألة قبل عقدين ونصف من هذا الوقت ، حين استقرأ وضعية القصة القصيرة من خلال آراء كتابها ، في مرحلة شهدت بروزا لافتا لهذا الشكل في الوطن العربي ومصر خاصة ، وقد كان واضحا في ذلك الاستقراء (المنشور في العدد الرابع من مجلة فصول )1982 محاولة عز الدين اسماعيل البحث عن إجابة عن سؤال: لماذا القصة القصيرة الان؟
ولذلك كان التركيز على ثقافة كاتب القصة وقراءاته ، ودوافع كتابة هذا اللون تحديدا ، وقدرة هذا الفن على استيعاب قضايا العصر والاتجاهات الفنية والشكلية التي تنازع الكتاب في اهتمام كل منهم بعناصر القصة ، ثم علاقة الكاتب بقارئه ، وقد بدا واضحاً أن الدوافع الشخصية تقف خلف تلك الجوانب ، وأن ليس ثمة عزم أو تخطيط مسبق على اختيار هذا الشكل دون غيره وليس ثمة وعي عام على إمكانية تسخير هذا الفن لتقديم مضامين الحياة ، بل ظل الأمر مرهونا بالنزعة الشعرية لدى كثير من كتابها وقصر النَفَس في الكتابة والاعتداد بالموهبة التي قادت بعضهم إلى شكل تعبيري دون آخر.
وأنا في حقيقة الأمر أسوق تلك الملاحظات دون أن أتخلى عن تحيزي لهذا الفن ولكتّابه ، في الوقت الذي أجدني أقف في منطقة وسطى بين التنظير له وممارسته بقدر من الوعي على حالة من انفلات الزمام من أيدي كتّابه.
وهو ما أود الالتفات إليه عبر جملة من الملاحظات التي تظل في حدود الاجتهاد الذي تفرضه المتابعة الناقدة من جهة ، والممارسة الكتابية لهذا اللون الإبداعي من جهة أخرى.
فثمة انفلات في هذا الشكل وتماهيه في أشكال أخرى ومن أهمها الشعر والمقالة ، ولاحظوا أنني أقول انفلات الشكل نفسه ولا أنسب الفعل لكتاب القصة ، على اعتبار أن القصة القصيرة وكاتبها كالطريدة والصياد ، وفق تشبيه محمد كامل الخطيب ، فالطريدة ساحرة ومغناج ، والصياد رغم حذقه ومهارته لا يمتلك في جعبته سوى طلقة واحدة ، وعلى ذلك فليس لديه أكثر من احتمالين ، فإما البهجة والمتعة والإحساس بنشوة النصر وإما الحزن والندم والتحسر شعوراً بحجم الكارثة التي سببها الفشل. وفي ذلك عودة مرة أخرى إلى مسألة الوعي على حقيقة ما نكتب ولكي لا أجور على الآخرين أتخذ من نفسي نموذجا ، فقد أذهلني مؤخرا وأنا أعيد قراءة مجموعة قصصية لتقديم الصورة النهائية لها قبل وصولها إلى المطبعة ، أذهلني هذا التماهي الذي لا أدري كيف تسرب إلى مجمل قصصها ، فوجدتها بعين الناقد تقترب إلى الشعر تارة وإلى المقالة تارة أخرى وإلى ما بين هذا وذاك تارات ، الأمر الذي جعلني أسحبها قليلا من إطار القصة القصيرة لأثبت تحت عنوانها لافتة "نصوص قصصية" في محاولة أولى لمواجهة ما لابد من مواجهته أمام قارئ إيجابي مفترض يطرح أسئلة الشكل فيما يقرأه على أنه قصة قصيرة.
ھھھ
وعلى الرغم من أنني لا أؤمن بنظرية المؤامرة ، إلا أنني ألحظ ضآلة حظ القصة القصيرة من الاهتمام النقدي والإعلامي على السواء ، فيبدو لافتا هذا الكم من الدراسات الأكاديمية وغير الأكاديمية للشعر وللرواية بشكل خاص ، كما ينسحب ذلك على اتهام الكتاب أنفسهم في انسحابهم شبه الكلي من مجاله القصة إلى الرواية ، حتى بات يخيل للقراء من متوسطي الثقافة أن القصة القصيرة لا تعدو أن تكون عتبة أولى لاجتياز المنزل الروائي الرحب الحافل بإغراءات الشهرة الذي حظي بها نفر غير قليل من كتاب الرواية على المستوى العالمي ، الأمر الذي جعل كثيرين منهم ينسحبون إلى الرواية ، وبخاصة أولئك الذين يكادون يتبرأون مما اقترفوه في كتابة هذا اللون -القصة القصيرة - في غمرة انبهارهم بما تلقاه مغامراتهم الروائية من اهتمام نقدي وإعلامي لافت.
يضاف إلى ذلك ما يلاحظ من تراجع مساحة الحيز المخصص للقصة في كثير من الصحف والمجلات المحلية والعربية ، مقارنة بالمساحة المخصصة للشعر والدراسات وغيرها ، مع ملاحظة محاولات تغييب الهوية الخاصة بالقصة القصيرة في ممارسات محرري بعض الصحف والمجلات حيال ما ينشر من قصص ، يتم نشرها بالاكتفاء بتثبيت عنوان القصة واسم كاتبها وتغييب تلك الترويسة التي تسبق العنوان وتستوقف القارئ وتمنحه حرية اختيار القراءة حين تقدم له القصة على أنها "قصة قصيرة" تحديدا وليست أي نوع آخر ، فلم نعد ندري ما المكتوب تحت عنوان ما ، أهو قصة أم مقالة أم خاطرة أم أي نص أدبي آخر إلا بعد القراءة أو الحدس الذي يتركه العنوان أو اسم الكاتب في ذهن القارئ ، وحاولت مرارا أن أحمل ذلك الأمر على محمل المصادفة حتى تتبعت ذلك في أماكن بعينها بإصرار من طرفي على تثبت جملة "قصة قصيرة" أو "نص قصصي" في أعلى النص ، وعجبا ما كنت ألحظه من نشر القصة كاملة كما هي وبما قد يسقط فيها من أخطاء طباعية كما أرسلتها ، مع شطب الجملة التي تحدد نوع النص الأدبي ذاك.
ولا يخفى ما ينطوي عليه ذلك من محاولات تهميش لهذا النوع ، في الوقت الذي لا تتردد فيه تلك الصحف في نشر مقطع روائي لا يشكل في كثير من الأحيان مشهداً قصصياَ متكاملاً يقدم للقارئ تصوراً أولياً عن تلك الرواية المحتفى بها قبل اكتمالها بين يدي صاحبها.
ھھھ
وفي الجانب الآخر من المعادلة ثمة اهتمام نقدي وعام أظهر الرواية حوتاً يكاد يبتلع الأشكال الأخرى ، ووضع من يحاولون اجتراح هذا الشكل ، بعد أن كانوا قد بدأوا بكتابة القصة القصيرة ، في دائرة الاتهام بالتسلل أو الخوف من وقوعهم أسرى اتساع هذا الفن وأسرى فتنة الاهتمام العربي اللافت حقاً بالرواية ، ولا بد من الإقرار بمشروعية هذا التخوف الناتج عن حرص مزدوج على "هيبة" الرواية من جهة وعلى بقاء الأشكال الأخرى واستمرارها من جهة الأخرى ، وفي الوقت ذاته لا بد من الإقرار بمشروعية المحاولة وبأن الانتقال من حيّز القصة القصيرة أو حتى الشعر إلى الرواية لا يمثل حالة تسلل للمنطقة الثانية ، ولا مجافاة -بالضرورة - للمنطقة الأولى ، فما دمنا نتحدث عن عصر ، فإن لكل عصر إرهاصاته حتماً ، ومادمنا نتحدث عن فرادة إبداعية فمن حق المبدع أن يختار الشكل الأنسب للتعبير عن قضايا محددة ، ولعل هذا ما حدا بنجيب محفوظ إلى المراوحة بين فني الرواية والقصة القصيرة وفق ما تقتضيه طبيعة الموضوع ، وليس حوت الرواية هو الذي ابتلع أسماك القصة عنده ، وإنما هو حوت الرعاية النقدية والعامة التي وضعت القارئ أمام تصوير جريء للواقع يحاكي اهتمامه ويروي ظمأً ما لديه ، سواء على الصعيد السياسي أو الاجتماعي ، وخاصة بعد تحويل كثير من الروايات إلى شكل أكثر إغواء وسهولة هو الأعمال الفنية التمثيلية أو المسرحية ، وتجدر الإشارة هنا إلى أن نجيب محفوظ قد بدأ كاتباً للقصة القصيرة فبدأ نشر قصصه عام م1932 ، وأصدر مجموعة "همس الجنون" سنة 1944 ، ثم رواية "القاهرة الجديدة" سنة 1945 ، وأن عدد الروايات التي نشرها لا تزيد كثيراً عن عدد المجموعات القصصية ، لكن الاهتمام النقدي كان ينصب على الرواية أكثر من القصة ، فطغى دوره الروائي على كاتب القصة.
فالروائيون يملكون إجابات تتعلق بمشروعهم الذي يعتقدون بأهميته في هذا المفصل التاريخي ، من ناحية توافر المساحة الأرحب للتعبير مكانياً وزمانياً ، لكن ما ينبغي التنويه إليه هنا أن تلك الإجابات غالباً ما تكون هي ذاتها أسئلة التحوّل - أو التسلل- لدى شعراء وقاصين ما زالوا ينشدون مساحة أرحب للتعبير قد لا تسعفهم فيها دفقة الجملة الشعرية ولا كثافة الجملة القصصية ، دون أن يعني ذلك نفياً أو قطيعة لجنس أدبي على حساب آخر ، ودون أن يدخل في روعنا أن اهتمام العصر بلون معين يعني أن نلقي بجمارنا بعيداً أو أن ننزلق إلى مناطق لتعليل أسباب هذا الاهتمام بما يفقدنا الحس النقدي الصارم القادر على تمييز فرادة النوع الأدبي.
من هنا فإن ما آمله حقاً - وأبدأ بنفسي - أن يكون الانتقال من كتابة القصة إلى كتابة الرواية انتقال ضرورة لا تقليد ولا انصياع لإغواء الاهتمام بالرواية على المستويين النقدي والعام ، ذلك أن اختيار الشكل الفني للكتابة لا ينبغي أن يأتي وفق قرار ورغبة ، وإنما لا بد للشكل أن يمثل رؤية ويعكس موقفاً ومضموناً ، ولا بدأن نتلقى الأعمال الجديدة في حدود كونها شكلاً آخر للتعبير ، لا مجرد محاولة لاجتياز عتبات تتضمن احتمالات التعثر عندها وإن أفلح آخرون.
إن وجهة النظر النقدية الحديثة لم يعد يعنيها الكم ولا الطول بقدر ما يعنيها حدود الفن في العمل الأدبي ، وبخاصة فيما يتعلق بالقصة القصيرة ، وأما النظرة العامة التي تجعل القارئ العادي ينظر إلى القصة القصيرة على أنها ملخص للرواية أو أن الرواية قصة مطولة أو مفصلة ، أو أن كتابة القصة القصيرة تعد مقدمة لكتابة الرواية ، أو أن الكتابة للأطفال بداية للكتابة للكبار ، فهذا مما لا يدخل في الحسبان ولا يمثل سوى مغالطات تترى ، وينبغي على المبدع أن لا يتوقف عندها بوصفها حقائق ماثلة للعيان ، بل بوصفها من طريف ما كان من نظرة القراء إلى الأشكال الأدبية المختلفة ، فمن الطبيعي كما أرى أن يسألنا قارئ عن سبب قصر قصصنا ، لكن من غير المقبول أن يجرؤ ناقد على طرح السؤال ذاته لأنه بذلك يخلع عن نفسه صفة النقد ويكشف للملأ جهله.
ھھھ
وثمة جملة من التساؤلات منها ما يتعلّق بموقف كاتب القصة من كتابتها ومنها ما يتعلّق بموقف النقاد منها ، وفي كلا الحالين يلمح المتتبع للمسألة قدراً غير يسير من الضيق مما يحدث ، ويلقي باللائمة والمسئولية على كاهل الفكر النقدي ، ويطالبه بدور تصحيحي يشمل عمل المبدع وعمل القارئ على السواء ، متجاهلاً الحقيقة الكبرى الكامنة في كل ذلك ، وهي أن المبدع وحده هو أساس تكون الفكر النقدي ، وعلى ما يقدمه من أشكال الإبداع تتوقف كلمة النقد ، وليس العكس ، فالنقد لا يستطيع بحال أن يحدد للكاتب شكل نصه ، كما لا يستطيع أن يحدد للقارئ كيفية التعامل مع النص إلا بالقدر الذي يمنحه له النص ، على أن إمكانية تصحيح فهمه للأنواع الأدبية المختلفة وتخليصه فعلاً من النظرة السطحية والكمية للعمل الأدبي أمر ممكن إذا تخلى النقد عن تعاليه على الطرفين النص والقارئ معاً.
ولا بد هنا من القول إن الدراسات النظرية لفن الأقصوصة ما زالت نادرة حتى لا أقول غائبة ، ليس فقط لتأخر معرفة العرب لهذا الفن - على اعتبار أن معرفة العرب لهذا الفن جاءت بتأثير مزدوج ، غربي وتراثي عربي ما زال موضع تشكك كثير من الدارسين - ولكن لأن هذا المصطلح نفسه تأخر كثيراً حتى رسخ وأصبحت له مكانة رسمية في الأدب الغربي ، فقد أدرج مصطلح "الأقصوصة" في قاموس أكسفورد الإنجليزي منذ عام م1933 ، وتعرضت الأقصوصة في الأدب الغربي نفسه إلى شيء من الإهمال من واضعي النظرية الأدبية ، ولم يهتموا بدراسة المبررات النظرية لهذا الشكل الأدبي مقارنة باهتمامهم بالشكل الروائي ، بل إن ظلماً كبيراً قد لحق الأقصوصة بسبب كثرة مقارنتها بالرواية ، إلى أن حسم الشكلاني الروسي ( إيخنباوم1968م) ذلك الجدل العقيم بين النوعين أو الشكلين ، فأعلن اختلافهما بل تناقضهما من حيث إن الرواية شكل توليفي يستقي مادته من التاريخ والترحال ، بينما الأقصوصة شكل أوّلي يستقي مادته من الحكايات والنوادر والأساطير ، فحصر الاختلاف في الجوهر والمنهج قبل مسألة الكبر والصغر أو الطول والقصر ، مشبهاً الأقصوصة بالقنبلة التي تلقى من طائرة ويكون هدفها إصابة الهدف بسرعة وبكامل طاقتها الانفجارية.
من جانب آخر ، ومع تسليمنا بما حظيت به الرواية عالمياً وعربياً من اهتمام بلغ حد التحيز ، فلا بد من التذكير بأن القصة القصيرة في الوطن العربي ، وخاصة في فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي ، كانت قد حظيت باهتمام بالغ ، سواء من حيث كم القصص وعدد الأسماء القصصية أو في كم الدراسات النقدية النظرية والتطبيقية ، وخاصة في مصر ، حتى أن يوسف إدريس قد عُرف واشتهر قاصاً على الرغم من عدد الأعمال الروائية المعروفة التي نشرها ، وبعضها تم تحويله إلى أعمال سينمائية كروايات (العيب) و(الحرام) و(نيويورك80) وغيرها...
فما الذي حدث في وقتنا الراهن؟
هل هو تراجع القصة حقاً؟ أم تقدم الرواية؟
لقد أصبح من المسلم به أن النقد عالمياً وعربياً قد جاوز مسألة الطول والقصر ، ولم يعد ذلك معياراً في التمييز بين الأشكال القصصية ، بعد أن أدرك النقاد أن هذا المعيار قد أثار في النقد الغربي قضايا خطيرة ، منها أن الرواية تقص حياة كاملة بينما تقدم القصة القصيرة جزئية من الحياة ، وأن الرواية تتناول أشياء كثيرة بينما القصة القصيرة تتناول شيئاً واحداً فقط ، وأن الرواية تمثل الشيء كله والقصة القصيرة مجرد عينة من الشيء ، والأخطر من ذلك كله أن الرواية نص كامل بينما القصة ليست كذلك ، وأن القصة تمثل مجالاً رحباً للتجريب في إطار الشكل الأدبي وفي تقديم موضوعات جديدة.
لقد أسهمت تلك الطروحات وغيرها في تأخر أو عدم رسوخ مصطلح القصة القصيرة والأقصوصة ، فيما تم التسليم برسوخ مصطلح الرواية في التراث الأدبي العالمي.
هذا على الصعيد النظري ، وأما على صعيد الممارسة النقدية ففي ظني أن ثمة مؤامرة خفية بين المبدع والناقد الذي غالباً ما يقع هو أيضاً في إغواء المرحلة التي تشهد حالياً زخماً في المنتج الروائي ، فيصرف النظر عن القراءة الفاحصة الدقيقة لينصب على المبدع نفسه من جهة ، وعلى سلطة الشكل السائد من جهة أخرى ، وهو بذلك يعيد النقد سيرته الأولى حين كان الشعر سيد الأجناس الأدبية ، وكانت ألوان محددة منه هي السائدة وهي محط النظر النقدي ، وبذلك يتشكل لدى الناقد حرص على أن يحظى ببعض مكتسبات المرحلة بمثل ما يحظى به المبدع على السواء ، ولعل في ذلك ما يفسر تهافت النقاد على دراسة الرواية بشكل واضح ، ومن ثم تداعي المؤسسات الأكاديمية والثقافية لعقد ندوات ومؤتمرات متخصصة في دراستها.
وأخيراً ، فإن من أهم النتائج الطريفة والخطيرة التي ترتبت على كل ما سبق ما يمكن الإشارة إلى رداءة كثير من المنتج الإبداعي في مجال الرواية وتسرع كثير من الكتاب في اجتراح هذا المجال على غير تدبر واستيعاب لحقيقة البنية الفنية اللازمة له ، فأصبح يرهقنا البحث عن الخط الروائي في التاريخ المحشور بين دفتين ، ويرهقنا البحث عن الخط الروائي في القصاصات المجموعة من أقاصي المعرفة المختلفة ، كما ترهقنا اللغة والأساليب المتضاربة ، باختصار بات يرهقنا البحث عن الرواية في ما يسمى رواية،،
ويمتد الأثر إلى ذلك الشعور الذي بدأ يتسرب إلى كثير من المبدعين من كتاب القصة القصيرة ويظهر بصور مختلفة من أهمها تساؤلاتهم هم أنفسهم عن ماهية القصة القصيرة ، وعن أسباب تراجع الاهتمام النقدي بها ومحاولاتهم تعليل ذلك ، وشعورهم بأن القصة القصيرة شاخت وترهَّلت واهترأت ، متجاهلين دورهم في تأصيل هذا الفن ، الذي اختصر تشيخوف خطورته حين رأى أن على كاتب القصة إذا دق مسماراً أن يعلق عليه شيئاً ما ، وإلا فلا جدوى من عمله ذاك.
ہ قاصة واكاديمية أردنية
قد يبدو صادما أن نتحدث عن ظاهرة انحسار القصة القصيرة ، وحضورها الخجول في ظل تغول أنواع أدبية أخرى وبخاصة الرواية ، الأمر الذي يعيد إلى الأذهان مقولات باتت تنطوي على مفارقات عجيبة حين نستعيد فكرة ارتباط القصة القصيرة بطبيعة العصر ، عصر السرعة الذي لا يجد فيه المرء متسعاً لقراءة المطولات القصصية أو الروائية ، فأين نحن الآن من تلك المقولات في الوقت الراهن ، لماذا تتراجع القصة القصيرة في العصر الأسرع والأكثر جاذبية للجملة اللغوية السريعة (المسجات) وتتقدم الرواية؟
المسألة إذن ليست مسألة طول وقصر وإيجاز وتفصيل.. ولعل عز الدين إسماعيل قد استشعر هذه المسألة قبل عقدين ونصف من هذا الوقت ، حين استقرأ وضعية القصة القصيرة من خلال آراء كتابها ، في مرحلة شهدت بروزا لافتا لهذا الشكل في الوطن العربي ومصر خاصة ، وقد كان واضحا في ذلك الاستقراء (المنشور في العدد الرابع من مجلة فصول )1982 محاولة عز الدين اسماعيل البحث عن إجابة عن سؤال: لماذا القصة القصيرة الان؟
ولذلك كان التركيز على ثقافة كاتب القصة وقراءاته ، ودوافع كتابة هذا اللون تحديدا ، وقدرة هذا الفن على استيعاب قضايا العصر والاتجاهات الفنية والشكلية التي تنازع الكتاب في اهتمام كل منهم بعناصر القصة ، ثم علاقة الكاتب بقارئه ، وقد بدا واضحاً أن الدوافع الشخصية تقف خلف تلك الجوانب ، وأن ليس ثمة عزم أو تخطيط مسبق على اختيار هذا الشكل دون غيره وليس ثمة وعي عام على إمكانية تسخير هذا الفن لتقديم مضامين الحياة ، بل ظل الأمر مرهونا بالنزعة الشعرية لدى كثير من كتابها وقصر النَفَس في الكتابة والاعتداد بالموهبة التي قادت بعضهم إلى شكل تعبيري دون آخر.
وأنا في حقيقة الأمر أسوق تلك الملاحظات دون أن أتخلى عن تحيزي لهذا الفن ولكتّابه ، في الوقت الذي أجدني أقف في منطقة وسطى بين التنظير له وممارسته بقدر من الوعي على حالة من انفلات الزمام من أيدي كتّابه.
وهو ما أود الالتفات إليه عبر جملة من الملاحظات التي تظل في حدود الاجتهاد الذي تفرضه المتابعة الناقدة من جهة ، والممارسة الكتابية لهذا اللون الإبداعي من جهة أخرى.
فثمة انفلات في هذا الشكل وتماهيه في أشكال أخرى ومن أهمها الشعر والمقالة ، ولاحظوا أنني أقول انفلات الشكل نفسه ولا أنسب الفعل لكتاب القصة ، على اعتبار أن القصة القصيرة وكاتبها كالطريدة والصياد ، وفق تشبيه محمد كامل الخطيب ، فالطريدة ساحرة ومغناج ، والصياد رغم حذقه ومهارته لا يمتلك في جعبته سوى طلقة واحدة ، وعلى ذلك فليس لديه أكثر من احتمالين ، فإما البهجة والمتعة والإحساس بنشوة النصر وإما الحزن والندم والتحسر شعوراً بحجم الكارثة التي سببها الفشل. وفي ذلك عودة مرة أخرى إلى مسألة الوعي على حقيقة ما نكتب ولكي لا أجور على الآخرين أتخذ من نفسي نموذجا ، فقد أذهلني مؤخرا وأنا أعيد قراءة مجموعة قصصية لتقديم الصورة النهائية لها قبل وصولها إلى المطبعة ، أذهلني هذا التماهي الذي لا أدري كيف تسرب إلى مجمل قصصها ، فوجدتها بعين الناقد تقترب إلى الشعر تارة وإلى المقالة تارة أخرى وإلى ما بين هذا وذاك تارات ، الأمر الذي جعلني أسحبها قليلا من إطار القصة القصيرة لأثبت تحت عنوانها لافتة "نصوص قصصية" في محاولة أولى لمواجهة ما لابد من مواجهته أمام قارئ إيجابي مفترض يطرح أسئلة الشكل فيما يقرأه على أنه قصة قصيرة.
ھھھ
وعلى الرغم من أنني لا أؤمن بنظرية المؤامرة ، إلا أنني ألحظ ضآلة حظ القصة القصيرة من الاهتمام النقدي والإعلامي على السواء ، فيبدو لافتا هذا الكم من الدراسات الأكاديمية وغير الأكاديمية للشعر وللرواية بشكل خاص ، كما ينسحب ذلك على اتهام الكتاب أنفسهم في انسحابهم شبه الكلي من مجاله القصة إلى الرواية ، حتى بات يخيل للقراء من متوسطي الثقافة أن القصة القصيرة لا تعدو أن تكون عتبة أولى لاجتياز المنزل الروائي الرحب الحافل بإغراءات الشهرة الذي حظي بها نفر غير قليل من كتاب الرواية على المستوى العالمي ، الأمر الذي جعل كثيرين منهم ينسحبون إلى الرواية ، وبخاصة أولئك الذين يكادون يتبرأون مما اقترفوه في كتابة هذا اللون -القصة القصيرة - في غمرة انبهارهم بما تلقاه مغامراتهم الروائية من اهتمام نقدي وإعلامي لافت.
يضاف إلى ذلك ما يلاحظ من تراجع مساحة الحيز المخصص للقصة في كثير من الصحف والمجلات المحلية والعربية ، مقارنة بالمساحة المخصصة للشعر والدراسات وغيرها ، مع ملاحظة محاولات تغييب الهوية الخاصة بالقصة القصيرة في ممارسات محرري بعض الصحف والمجلات حيال ما ينشر من قصص ، يتم نشرها بالاكتفاء بتثبيت عنوان القصة واسم كاتبها وتغييب تلك الترويسة التي تسبق العنوان وتستوقف القارئ وتمنحه حرية اختيار القراءة حين تقدم له القصة على أنها "قصة قصيرة" تحديدا وليست أي نوع آخر ، فلم نعد ندري ما المكتوب تحت عنوان ما ، أهو قصة أم مقالة أم خاطرة أم أي نص أدبي آخر إلا بعد القراءة أو الحدس الذي يتركه العنوان أو اسم الكاتب في ذهن القارئ ، وحاولت مرارا أن أحمل ذلك الأمر على محمل المصادفة حتى تتبعت ذلك في أماكن بعينها بإصرار من طرفي على تثبت جملة "قصة قصيرة" أو "نص قصصي" في أعلى النص ، وعجبا ما كنت ألحظه من نشر القصة كاملة كما هي وبما قد يسقط فيها من أخطاء طباعية كما أرسلتها ، مع شطب الجملة التي تحدد نوع النص الأدبي ذاك.
ولا يخفى ما ينطوي عليه ذلك من محاولات تهميش لهذا النوع ، في الوقت الذي لا تتردد فيه تلك الصحف في نشر مقطع روائي لا يشكل في كثير من الأحيان مشهداً قصصياَ متكاملاً يقدم للقارئ تصوراً أولياً عن تلك الرواية المحتفى بها قبل اكتمالها بين يدي صاحبها.
ھھھ
وفي الجانب الآخر من المعادلة ثمة اهتمام نقدي وعام أظهر الرواية حوتاً يكاد يبتلع الأشكال الأخرى ، ووضع من يحاولون اجتراح هذا الشكل ، بعد أن كانوا قد بدأوا بكتابة القصة القصيرة ، في دائرة الاتهام بالتسلل أو الخوف من وقوعهم أسرى اتساع هذا الفن وأسرى فتنة الاهتمام العربي اللافت حقاً بالرواية ، ولا بد من الإقرار بمشروعية هذا التخوف الناتج عن حرص مزدوج على "هيبة" الرواية من جهة وعلى بقاء الأشكال الأخرى واستمرارها من جهة الأخرى ، وفي الوقت ذاته لا بد من الإقرار بمشروعية المحاولة وبأن الانتقال من حيّز القصة القصيرة أو حتى الشعر إلى الرواية لا يمثل حالة تسلل للمنطقة الثانية ، ولا مجافاة -بالضرورة - للمنطقة الأولى ، فما دمنا نتحدث عن عصر ، فإن لكل عصر إرهاصاته حتماً ، ومادمنا نتحدث عن فرادة إبداعية فمن حق المبدع أن يختار الشكل الأنسب للتعبير عن قضايا محددة ، ولعل هذا ما حدا بنجيب محفوظ إلى المراوحة بين فني الرواية والقصة القصيرة وفق ما تقتضيه طبيعة الموضوع ، وليس حوت الرواية هو الذي ابتلع أسماك القصة عنده ، وإنما هو حوت الرعاية النقدية والعامة التي وضعت القارئ أمام تصوير جريء للواقع يحاكي اهتمامه ويروي ظمأً ما لديه ، سواء على الصعيد السياسي أو الاجتماعي ، وخاصة بعد تحويل كثير من الروايات إلى شكل أكثر إغواء وسهولة هو الأعمال الفنية التمثيلية أو المسرحية ، وتجدر الإشارة هنا إلى أن نجيب محفوظ قد بدأ كاتباً للقصة القصيرة فبدأ نشر قصصه عام م1932 ، وأصدر مجموعة "همس الجنون" سنة 1944 ، ثم رواية "القاهرة الجديدة" سنة 1945 ، وأن عدد الروايات التي نشرها لا تزيد كثيراً عن عدد المجموعات القصصية ، لكن الاهتمام النقدي كان ينصب على الرواية أكثر من القصة ، فطغى دوره الروائي على كاتب القصة.
فالروائيون يملكون إجابات تتعلق بمشروعهم الذي يعتقدون بأهميته في هذا المفصل التاريخي ، من ناحية توافر المساحة الأرحب للتعبير مكانياً وزمانياً ، لكن ما ينبغي التنويه إليه هنا أن تلك الإجابات غالباً ما تكون هي ذاتها أسئلة التحوّل - أو التسلل- لدى شعراء وقاصين ما زالوا ينشدون مساحة أرحب للتعبير قد لا تسعفهم فيها دفقة الجملة الشعرية ولا كثافة الجملة القصصية ، دون أن يعني ذلك نفياً أو قطيعة لجنس أدبي على حساب آخر ، ودون أن يدخل في روعنا أن اهتمام العصر بلون معين يعني أن نلقي بجمارنا بعيداً أو أن ننزلق إلى مناطق لتعليل أسباب هذا الاهتمام بما يفقدنا الحس النقدي الصارم القادر على تمييز فرادة النوع الأدبي.
من هنا فإن ما آمله حقاً - وأبدأ بنفسي - أن يكون الانتقال من كتابة القصة إلى كتابة الرواية انتقال ضرورة لا تقليد ولا انصياع لإغواء الاهتمام بالرواية على المستويين النقدي والعام ، ذلك أن اختيار الشكل الفني للكتابة لا ينبغي أن يأتي وفق قرار ورغبة ، وإنما لا بد للشكل أن يمثل رؤية ويعكس موقفاً ومضموناً ، ولا بدأن نتلقى الأعمال الجديدة في حدود كونها شكلاً آخر للتعبير ، لا مجرد محاولة لاجتياز عتبات تتضمن احتمالات التعثر عندها وإن أفلح آخرون.
إن وجهة النظر النقدية الحديثة لم يعد يعنيها الكم ولا الطول بقدر ما يعنيها حدود الفن في العمل الأدبي ، وبخاصة فيما يتعلق بالقصة القصيرة ، وأما النظرة العامة التي تجعل القارئ العادي ينظر إلى القصة القصيرة على أنها ملخص للرواية أو أن الرواية قصة مطولة أو مفصلة ، أو أن كتابة القصة القصيرة تعد مقدمة لكتابة الرواية ، أو أن الكتابة للأطفال بداية للكتابة للكبار ، فهذا مما لا يدخل في الحسبان ولا يمثل سوى مغالطات تترى ، وينبغي على المبدع أن لا يتوقف عندها بوصفها حقائق ماثلة للعيان ، بل بوصفها من طريف ما كان من نظرة القراء إلى الأشكال الأدبية المختلفة ، فمن الطبيعي كما أرى أن يسألنا قارئ عن سبب قصر قصصنا ، لكن من غير المقبول أن يجرؤ ناقد على طرح السؤال ذاته لأنه بذلك يخلع عن نفسه صفة النقد ويكشف للملأ جهله.
ھھھ
وثمة جملة من التساؤلات منها ما يتعلّق بموقف كاتب القصة من كتابتها ومنها ما يتعلّق بموقف النقاد منها ، وفي كلا الحالين يلمح المتتبع للمسألة قدراً غير يسير من الضيق مما يحدث ، ويلقي باللائمة والمسئولية على كاهل الفكر النقدي ، ويطالبه بدور تصحيحي يشمل عمل المبدع وعمل القارئ على السواء ، متجاهلاً الحقيقة الكبرى الكامنة في كل ذلك ، وهي أن المبدع وحده هو أساس تكون الفكر النقدي ، وعلى ما يقدمه من أشكال الإبداع تتوقف كلمة النقد ، وليس العكس ، فالنقد لا يستطيع بحال أن يحدد للكاتب شكل نصه ، كما لا يستطيع أن يحدد للقارئ كيفية التعامل مع النص إلا بالقدر الذي يمنحه له النص ، على أن إمكانية تصحيح فهمه للأنواع الأدبية المختلفة وتخليصه فعلاً من النظرة السطحية والكمية للعمل الأدبي أمر ممكن إذا تخلى النقد عن تعاليه على الطرفين النص والقارئ معاً.
ولا بد هنا من القول إن الدراسات النظرية لفن الأقصوصة ما زالت نادرة حتى لا أقول غائبة ، ليس فقط لتأخر معرفة العرب لهذا الفن - على اعتبار أن معرفة العرب لهذا الفن جاءت بتأثير مزدوج ، غربي وتراثي عربي ما زال موضع تشكك كثير من الدارسين - ولكن لأن هذا المصطلح نفسه تأخر كثيراً حتى رسخ وأصبحت له مكانة رسمية في الأدب الغربي ، فقد أدرج مصطلح "الأقصوصة" في قاموس أكسفورد الإنجليزي منذ عام م1933 ، وتعرضت الأقصوصة في الأدب الغربي نفسه إلى شيء من الإهمال من واضعي النظرية الأدبية ، ولم يهتموا بدراسة المبررات النظرية لهذا الشكل الأدبي مقارنة باهتمامهم بالشكل الروائي ، بل إن ظلماً كبيراً قد لحق الأقصوصة بسبب كثرة مقارنتها بالرواية ، إلى أن حسم الشكلاني الروسي ( إيخنباوم1968م) ذلك الجدل العقيم بين النوعين أو الشكلين ، فأعلن اختلافهما بل تناقضهما من حيث إن الرواية شكل توليفي يستقي مادته من التاريخ والترحال ، بينما الأقصوصة شكل أوّلي يستقي مادته من الحكايات والنوادر والأساطير ، فحصر الاختلاف في الجوهر والمنهج قبل مسألة الكبر والصغر أو الطول والقصر ، مشبهاً الأقصوصة بالقنبلة التي تلقى من طائرة ويكون هدفها إصابة الهدف بسرعة وبكامل طاقتها الانفجارية.
من جانب آخر ، ومع تسليمنا بما حظيت به الرواية عالمياً وعربياً من اهتمام بلغ حد التحيز ، فلا بد من التذكير بأن القصة القصيرة في الوطن العربي ، وخاصة في فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي ، كانت قد حظيت باهتمام بالغ ، سواء من حيث كم القصص وعدد الأسماء القصصية أو في كم الدراسات النقدية النظرية والتطبيقية ، وخاصة في مصر ، حتى أن يوسف إدريس قد عُرف واشتهر قاصاً على الرغم من عدد الأعمال الروائية المعروفة التي نشرها ، وبعضها تم تحويله إلى أعمال سينمائية كروايات (العيب) و(الحرام) و(نيويورك80) وغيرها...
فما الذي حدث في وقتنا الراهن؟
هل هو تراجع القصة حقاً؟ أم تقدم الرواية؟
لقد أصبح من المسلم به أن النقد عالمياً وعربياً قد جاوز مسألة الطول والقصر ، ولم يعد ذلك معياراً في التمييز بين الأشكال القصصية ، بعد أن أدرك النقاد أن هذا المعيار قد أثار في النقد الغربي قضايا خطيرة ، منها أن الرواية تقص حياة كاملة بينما تقدم القصة القصيرة جزئية من الحياة ، وأن الرواية تتناول أشياء كثيرة بينما القصة القصيرة تتناول شيئاً واحداً فقط ، وأن الرواية تمثل الشيء كله والقصة القصيرة مجرد عينة من الشيء ، والأخطر من ذلك كله أن الرواية نص كامل بينما القصة ليست كذلك ، وأن القصة تمثل مجالاً رحباً للتجريب في إطار الشكل الأدبي وفي تقديم موضوعات جديدة.
لقد أسهمت تلك الطروحات وغيرها في تأخر أو عدم رسوخ مصطلح القصة القصيرة والأقصوصة ، فيما تم التسليم برسوخ مصطلح الرواية في التراث الأدبي العالمي.
هذا على الصعيد النظري ، وأما على صعيد الممارسة النقدية ففي ظني أن ثمة مؤامرة خفية بين المبدع والناقد الذي غالباً ما يقع هو أيضاً في إغواء المرحلة التي تشهد حالياً زخماً في المنتج الروائي ، فيصرف النظر عن القراءة الفاحصة الدقيقة لينصب على المبدع نفسه من جهة ، وعلى سلطة الشكل السائد من جهة أخرى ، وهو بذلك يعيد النقد سيرته الأولى حين كان الشعر سيد الأجناس الأدبية ، وكانت ألوان محددة منه هي السائدة وهي محط النظر النقدي ، وبذلك يتشكل لدى الناقد حرص على أن يحظى ببعض مكتسبات المرحلة بمثل ما يحظى به المبدع على السواء ، ولعل في ذلك ما يفسر تهافت النقاد على دراسة الرواية بشكل واضح ، ومن ثم تداعي المؤسسات الأكاديمية والثقافية لعقد ندوات ومؤتمرات متخصصة في دراستها.
وأخيراً ، فإن من أهم النتائج الطريفة والخطيرة التي ترتبت على كل ما سبق ما يمكن الإشارة إلى رداءة كثير من المنتج الإبداعي في مجال الرواية وتسرع كثير من الكتاب في اجتراح هذا المجال على غير تدبر واستيعاب لحقيقة البنية الفنية اللازمة له ، فأصبح يرهقنا البحث عن الخط الروائي في التاريخ المحشور بين دفتين ، ويرهقنا البحث عن الخط الروائي في القصاصات المجموعة من أقاصي المعرفة المختلفة ، كما ترهقنا اللغة والأساليب المتضاربة ، باختصار بات يرهقنا البحث عن الرواية في ما يسمى رواية،،
ويمتد الأثر إلى ذلك الشعور الذي بدأ يتسرب إلى كثير من المبدعين من كتاب القصة القصيرة ويظهر بصور مختلفة من أهمها تساؤلاتهم هم أنفسهم عن ماهية القصة القصيرة ، وعن أسباب تراجع الاهتمام النقدي بها ومحاولاتهم تعليل ذلك ، وشعورهم بأن القصة القصيرة شاخت وترهَّلت واهترأت ، متجاهلين دورهم في تأصيل هذا الفن ، الذي اختصر تشيخوف خطورته حين رأى أن على كاتب القصة إذا دق مسماراً أن يعلق عليه شيئاً ما ، وإلا فلا جدوى من عمله ذاك.
ہ قاصة واكاديمية أردنية