التربية تشمل التَّنشئة الاجتماعية socialisation والتَّفتُّح épanouissement والتَّحرُّر émancipation الفكريين. والتربية، إلى جانب التثقيف والتنوير، واحدٌ من الأدوار التي تلعبها المدرسةُ أو الممارسة التعليمية. فما هي التَّنشئة الاجتماعية؟
التنشئة الاجتماعية عبارة عن سياق processus يتشرَّب الطفلُ/المتعلِّمُ، من خلاله، بثقافة تشمل القيمَ والأعرافَ والأدوارَ التي تمكِّن المجتمعَ من الاشتغال fonctionnement.
القِيم هي مجموعة من المبادئ principes التي يراها المجتمعُ صائبة، أي فيها حكمة واستقامة ورزانة وسداد. أما الأعراف، فهي مجموعةٌ من القواعد règles، المتَّفق عليها اجتماعيا، والتي تحدِّد ما يلزم من سلوكٍ داخلَ المجتمع. أما الأدوار rôles، فهي مجموعة من الوظائف التي يقوم بها الأشخاصُ أو مجموعةٌ من الأشخاص داخلَ المجتمع، علما أن هذه الأدوار تتكامل فيما بينها، وهي التي تمكِّن هذا المجتمعَ من أن يشتغلَ على أحسن ما يرام.
التنشئة الاجتماعية تبدأ في الأسرة وتستمر في المدرسة. قبل أن يلتحقَ الطفلُ بالمدرسة، تكاد تكون تنشئتُه الاجتماعية عفويةً، أي أن هذه التنشئة لا تخضع لتعليمٍ/تعلُّم خاص. والتفاعل مع أفراد الأسرة ومع الآخرين هو الذي يُساهم في بناء هذا النوع من التنشئة الاجتماعية.
والمدرسة تُكمِّل هذه التنشئة الاجتماعية، متبنِّيةً من أجل ذلك تعليما وتعلُّما خاصين. وأول ما تقوم به المدرسة هو إدخال نوعٍ من الترتيب التدريجي structuration progressive على شخصية المتعلِّم ليتلاءم دمجُه في المجتمع مع سِنِّه ومع نمو قدرتِه على الإدراك والتَّعرُّف على الأشياء développement cognitif.
وحينما نقول إن المدرسةَ تكمِّل التنشئة الاجتماعية، فهذا يعني أنها تتَّبعُ أسلوبا خاصا بها يتمثَّل في ممارسة العملية التعليمية العلُّمية. ولهذا قلتُ في العديد من مقالاتي السابقة إن هذه العملية، إن لم تكن حاملةً لرسالة تربوية، فهي مجرَّد حشو للأدمغة. وبعبارة أخرى، إن لم يكن لها تأثير إيجابي على شخصية المتعلم، فإنها لا تُساهم في بناء التنشئة الاجتماعية.
وما يجب إثارةُ الانتباهِ إليه، هو أن التنشئة الاجتماعية لا تتوقف عندما يغادر المتعلمون المدرسةَ. التنشئة الاجتماعية سياقٌ يرافقُ الإنسانَ طول حياته. وهذا يعني أن التنشئةَ الاجتماعية التي تمَّ بناءُها، من خلال الأسرة والمدرسة، تتغيَّر باستمرار ليتكيَّفَ الإنسان مع ظروف الوسط الذي يعيش فيه. غير أن النواةَ الصلبة noyau dur للتنشئة الاجتماعية، هي تلك التي يتمُّ بناءُها أثناء مرور الطفل من المدرسة.
في المدرسة، من المفترض، أن ينمِّي الطفلُ ويُقوِّي شخصيتَه. في المدرسةِ، يستفيد الطفلُ من تعلُّماتٍ غير تلك التي وفَّرتها له الأسرة. في المدرسة، تتقوَّى التنشئة الاجتماعية للطفل، أولا من خلال التَّعلُّم، أي من خلال ما توفِّره له هذه المدرسة من معارف وظيفية connaissances fonctionnelles ومن اكتساب المهارات والكفاءات التي تُنير طريقَه نحو اندماج سهل في المجتمع. وفي المدرسة، تتقوَّى كذلك التنشئة الاجتماعية للطفل من خلال تفاعله مع أنداده.
أما التفتُّح والتَّحرُّر الفكريان، فهما كذلك عنصران أساسيان في تنشئة اجتماعية متكاملة. التّفتُّح على مستوى الفكر هو أن ينعمَ ويتمتَّعَ الطفلُ بملكاته الفكرية، أن يطوِّرها وأن تساعدَه على تحسين تنشئته الاجتماعية. أما التَّحرُّر الفكري يتمثَّل في تخلُّص الطفلِ من عفويته spontanéité ومن القيل والقال ومن الأفكار المسبقة والخرافات والتنميط… والتفتُّحُ والتَّحرُّرُ الفكريان لا جدوى منهما إذا لم يتسلَّح الطفلُ بالفكر النقدي esprit critique. الفكر النقدي هو أن يأخذَ الطفلُ مسافةً بالنسبة لمحيطه وللأشياء الموجودة به. كل شيء يجب أن يخضعَ لتحليل وتمحيص من أجل إدراكِه، وفي نهاية المطاف، من أجل استبطانه.
فهل مدرستُنا تقوم، توازياً مع الأسرة، بكل هذه الأدوار من أجل التنشئة الاجتماعية للأطفال؟
إذا نظرنا، بعين نقدية، إلى الوضع الذي تسير عليه، حاليا، الممارسةُ التَّعلميةُ التَّعلُّميةُ، فسنجد أنها ترتكز، في غالبية أطوارها، على تبليغ المعرفة. وهذا يعني أن المدرسَ يُمضي وقتا طويلا في هذا التبليغ. بالطبع، هذا دورُه، لكن تبليغَ المعرفة، إذا لم يُتوَّج بتغييرٍ على مستوى شخصية المتعلِّمين سلوكيا وفكريا، فإنه مجرَّد حشوٍ للأدمغة.
وإذا لم يُتوَّج تبليغُ المعرفة بتغيير إيجابي على مستوى شخصية المتعلِّمين، فإن المدرسةَ تكون قد فشلت جزئيا أو كليا في بناء التنشئة الاجتماعية التي هي، في الحقيقة، واحد من أدوارها الأساسية، كما سبق الذكرُ. في هذه الحالة، سيكون موقفُ هؤلاء المتعلّمين إزاءَ هذه المعرفة المبلَّغة إليهم هو حِفظُها mémorisation واستظهارُها restitution أثناء مختلف أنواع المراقبة وأثناء الامتحانات. فما هي الجدوى من التعليم إذا لم يساهم، إلى جانب الأسرة، في بناء التنشئة الاجتماعية للمتعلِّمين؟
من هذا المنطلق، يمكن التأكيد بدون تردُّد أن التعليمَ ليس وظيفة مسخرة من أجل تفتُّح épanouissement المتعلمين فكريا واجتماعيا. بل المتعلمون هم المسخَّرون لهذا التعليم. وهذا يعني أن المتعلمَ هو الذي يجب أن ينصاع لمتطلبات هذا الأخير وليس العكس. والدليل الأول على ذلك، الخوف الذي يغزو المتعلِّمين كلما اقتربت مواعد المراقبات والامتحانات. والدليل الثاني، هو تبخُّرُ المعارف بعد اجتياز الامتحانات. والدليل الثالث والحاسم، والذي يؤكِّد هذا التَّبخُّرَ، هو المراتب المتأخِّرة التي يحتلُّها المتعلمون بعد خضوعهم للبرنامج الدولي لتتبُّع مكتسبات التلاميذ Programme International de Suivi des Acquis des élèves PISA.
وبعبارة أخرى، يوجد هذا المتعلم في حالة تكون فيها مُجريات التعليم متجهة نحو هدفين لا ثالثَ لهما. يتمثَّل الهدفُ الأولُ في تبليغ جافٍّ ومحض للمعرفة لا يستفيد منه المتعلِّمُ تربويا وينتهي، في آخر المطاف، بحشوٍ للأدمغة. بينما يتمثَّل الهدفُ الثاني في تهميش طاقات وقدرات المتعلِّم الفكرية التي تلعب دورا حاسما في بناء التنشئة الاجتماعية.
وكما سبق الذكرُ، هذا النوع من الممارسة التعليمية-التعلُّمية المتمركز حول التبليغ الجاف للمعارف، يدفع المتعلِّمين إلى إعطاء أهمِّية كبيرة للتسجيل enregistrement والحفظ mémorisation والتخزين emmagasinage والاستظهار restitution. وهذا لا يعني أن قدرةَ المتعلمين على التسجيل والحِفظ والتَّخزين والاستظهار لا قيمةَ لها ويمكن تبخيسها. لا أبدا! لكن، إذا تمَّت تقويتُها عند المتعلِّمين، بكيفية حصرية، فإنها بالأحرى تنتسب إلى الببغائية psittacisme.
التعليم، كما هو ممارس في غالبية أطواره، يَعتبِرُ المتعلمَ كفردِ individu (من عامة الناس) يُرادُ حشوُ دماغه بمعارفَ بكيفية منتظمة ŕegulière وآلية mécanique عوض أن يَعتبِرَه هذا التعليمُ كإنسان يُرادُ تكوينُه وتربيتُه وتنشئتُه احتماعياً، أخذا بعين الاعتبار متطلباتِه على المستويين النفسي-التربوي psychopédagogique والإبستيمولوجي épistémologique.
أمام هذا النهج التعليمي، محكوم على المتعلّم أن ينغلق في وضع استسلام (لافاعلية absence de réactivité، واستكانة فكرية léthargie intellectuelle) يُجبرُه على لعب دور المُسَجِّلِ enregistreur المُستسلم soumis، والمُنضبط docile. ليس هكذا تُبنى التنشئة الاجتماعية!
وهكذا، إن المتعلمَ، رغم كونه مُكوِّنا أساسيا ومحوريا في الممارسة التعليمية التعلُّمية، التي أُنشِئت من أجله، فإنه، في نفس الوقت، يبقى ضحيةً لنهجها المرتكز، أساساً، على تبليغ المعرفة. ونفسُ النهج يجعله مهمَّشا فكريا وتربويا، إذ أن الممارسة التعليمية التَّعلُّمية لا تستهدف بناءَ شخصيتِه ولكن تقويةَ قدرتِه على ابتلاع والتهام المعرفة.
من الضروري أن تعطي العمليةُ التعليميةُ-التعلُّميةُ الأسبقيةَ لعلاقة المتعلم بالمعرفة، أي أن هذا المتعلم يجب أن يَتَمَوْقَعَ بالنسبة لهذه المعرفة. وليتموقع بالنسبة لهذه المعرفة، أضعف الإيمان، هو أن يعرفَ لماذا تُبلَّغُ له. ومن الضروري، كذلك، أن يتم الكفُّ عن اعتباره مجرد مُتَلَقٍّ ومُستهلكٍ جامدٍ للمعرفة. بل، من الضروري، أن يُعتبرَ المتعلِّمُ كفاعل نشيطٍ يريد أن يعرفَ. ويريد أن يفهمَ بعد أن يعرفَ. وبعد أن يفهمَ، يريد أن يكوِّنَ أفكاراً شخصيةً عن محيطه بمختلف مكوِّناته. هكذا تُبنى التنشئة الاجتماعية. تُبنى بالفكر وليس بحشو الأدمغة.
ولا داعي للقول أن الأوضاع الإبستيمولوجية للمدرس والمعرفة تحدد بشكل كبير وضعَ المتعلِّم. فكل ما سيطرأ من تغيير إيجابي على هذا الوضع يكون رهينا بنوعية التكوين الذي يتلقاه المدرسون علما أن هذا التكوين يجب أن يضع في الحسبان أن المتعلِّم كائن حي يرى، يسمع، يفكِّر، يشعر، يحس، يحب، لا يحب، يؤثر، يتأثر، الخ. وباختصار، له حاجيات على المستوى النفسي، الاجتماعي والفكري. فلا يجب بأي حال من الأحوال أن يُعْتَبَر كوعاء فارغ أو عجين يمكن للمدرس أن يملأه أو أن يشكِّله كما يريد.
وحتى تتمكَّنَ المدرسةُ من لعب دورها كاملا في بناء التنشئة الاجتماعية، من الضروري أن تتحوَّلَ من مجرَّد آلة لتبليغ المعرفة إلى جهازٍ دورُه الأساسي هو جعلُ هذه المعرفة دعامةً لتغيير شخصية المتعلِّمين من حسن إلى أحسن. وهذا التَّحوُّلُ يقتضي تغييرا جدريا إبستيمولوجيا، إن لم نقل فلسفيا، للمكوِّنات الأربعة للممارسة التعليمية التعلُّمية المتمثِّلة في المدرس، المعرفة، الطرائق البيداغوجية والمتعلِّم.
المدرس، عوض أن يكونَ العارف أو المالك للمعرفة، من المفيد أن يدركَه المتعلِّمون كمنشِّطٍ، مشجِّعٍ، محفِّزٍ، مساعدٍ، مرافقٍ… المعرفة يجب اعتبارُها كدعامة لبناء التنشئة الاجتماعية وليس وسيلة لقهر المتعلِّمين أثناء المراقبات والامتحانات. الطرائق البيداغوجية يجب اعتبارُها كمسار فكري، هدفُه الأول والأخير، هو تسهيل التَّعلُّم. المتعلِّمُ يجب اعتبارُه كإنسان يُراد تنشئتُه اجتماعياً، فكريا، أخلاقيا، سلوكيا… ليصبحَ مواطنا قادرا على المساهمة في تطوير نفسِه ومجتمعه وبلاده.
التنشئة الاجتماعية عبارة عن سياق processus يتشرَّب الطفلُ/المتعلِّمُ، من خلاله، بثقافة تشمل القيمَ والأعرافَ والأدوارَ التي تمكِّن المجتمعَ من الاشتغال fonctionnement.
القِيم هي مجموعة من المبادئ principes التي يراها المجتمعُ صائبة، أي فيها حكمة واستقامة ورزانة وسداد. أما الأعراف، فهي مجموعةٌ من القواعد règles، المتَّفق عليها اجتماعيا، والتي تحدِّد ما يلزم من سلوكٍ داخلَ المجتمع. أما الأدوار rôles، فهي مجموعة من الوظائف التي يقوم بها الأشخاصُ أو مجموعةٌ من الأشخاص داخلَ المجتمع، علما أن هذه الأدوار تتكامل فيما بينها، وهي التي تمكِّن هذا المجتمعَ من أن يشتغلَ على أحسن ما يرام.
التنشئة الاجتماعية تبدأ في الأسرة وتستمر في المدرسة. قبل أن يلتحقَ الطفلُ بالمدرسة، تكاد تكون تنشئتُه الاجتماعية عفويةً، أي أن هذه التنشئة لا تخضع لتعليمٍ/تعلُّم خاص. والتفاعل مع أفراد الأسرة ومع الآخرين هو الذي يُساهم في بناء هذا النوع من التنشئة الاجتماعية.
والمدرسة تُكمِّل هذه التنشئة الاجتماعية، متبنِّيةً من أجل ذلك تعليما وتعلُّما خاصين. وأول ما تقوم به المدرسة هو إدخال نوعٍ من الترتيب التدريجي structuration progressive على شخصية المتعلِّم ليتلاءم دمجُه في المجتمع مع سِنِّه ومع نمو قدرتِه على الإدراك والتَّعرُّف على الأشياء développement cognitif.
وحينما نقول إن المدرسةَ تكمِّل التنشئة الاجتماعية، فهذا يعني أنها تتَّبعُ أسلوبا خاصا بها يتمثَّل في ممارسة العملية التعليمية العلُّمية. ولهذا قلتُ في العديد من مقالاتي السابقة إن هذه العملية، إن لم تكن حاملةً لرسالة تربوية، فهي مجرَّد حشو للأدمغة. وبعبارة أخرى، إن لم يكن لها تأثير إيجابي على شخصية المتعلم، فإنها لا تُساهم في بناء التنشئة الاجتماعية.
وما يجب إثارةُ الانتباهِ إليه، هو أن التنشئة الاجتماعية لا تتوقف عندما يغادر المتعلمون المدرسةَ. التنشئة الاجتماعية سياقٌ يرافقُ الإنسانَ طول حياته. وهذا يعني أن التنشئةَ الاجتماعية التي تمَّ بناءُها، من خلال الأسرة والمدرسة، تتغيَّر باستمرار ليتكيَّفَ الإنسان مع ظروف الوسط الذي يعيش فيه. غير أن النواةَ الصلبة noyau dur للتنشئة الاجتماعية، هي تلك التي يتمُّ بناءُها أثناء مرور الطفل من المدرسة.
في المدرسة، من المفترض، أن ينمِّي الطفلُ ويُقوِّي شخصيتَه. في المدرسةِ، يستفيد الطفلُ من تعلُّماتٍ غير تلك التي وفَّرتها له الأسرة. في المدرسة، تتقوَّى التنشئة الاجتماعية للطفل، أولا من خلال التَّعلُّم، أي من خلال ما توفِّره له هذه المدرسة من معارف وظيفية connaissances fonctionnelles ومن اكتساب المهارات والكفاءات التي تُنير طريقَه نحو اندماج سهل في المجتمع. وفي المدرسة، تتقوَّى كذلك التنشئة الاجتماعية للطفل من خلال تفاعله مع أنداده.
أما التفتُّح والتَّحرُّر الفكريان، فهما كذلك عنصران أساسيان في تنشئة اجتماعية متكاملة. التّفتُّح على مستوى الفكر هو أن ينعمَ ويتمتَّعَ الطفلُ بملكاته الفكرية، أن يطوِّرها وأن تساعدَه على تحسين تنشئته الاجتماعية. أما التَّحرُّر الفكري يتمثَّل في تخلُّص الطفلِ من عفويته spontanéité ومن القيل والقال ومن الأفكار المسبقة والخرافات والتنميط… والتفتُّحُ والتَّحرُّرُ الفكريان لا جدوى منهما إذا لم يتسلَّح الطفلُ بالفكر النقدي esprit critique. الفكر النقدي هو أن يأخذَ الطفلُ مسافةً بالنسبة لمحيطه وللأشياء الموجودة به. كل شيء يجب أن يخضعَ لتحليل وتمحيص من أجل إدراكِه، وفي نهاية المطاف، من أجل استبطانه.
فهل مدرستُنا تقوم، توازياً مع الأسرة، بكل هذه الأدوار من أجل التنشئة الاجتماعية للأطفال؟
إذا نظرنا، بعين نقدية، إلى الوضع الذي تسير عليه، حاليا، الممارسةُ التَّعلميةُ التَّعلُّميةُ، فسنجد أنها ترتكز، في غالبية أطوارها، على تبليغ المعرفة. وهذا يعني أن المدرسَ يُمضي وقتا طويلا في هذا التبليغ. بالطبع، هذا دورُه، لكن تبليغَ المعرفة، إذا لم يُتوَّج بتغييرٍ على مستوى شخصية المتعلِّمين سلوكيا وفكريا، فإنه مجرَّد حشوٍ للأدمغة.
وإذا لم يُتوَّج تبليغُ المعرفة بتغيير إيجابي على مستوى شخصية المتعلِّمين، فإن المدرسةَ تكون قد فشلت جزئيا أو كليا في بناء التنشئة الاجتماعية التي هي، في الحقيقة، واحد من أدوارها الأساسية، كما سبق الذكرُ. في هذه الحالة، سيكون موقفُ هؤلاء المتعلّمين إزاءَ هذه المعرفة المبلَّغة إليهم هو حِفظُها mémorisation واستظهارُها restitution أثناء مختلف أنواع المراقبة وأثناء الامتحانات. فما هي الجدوى من التعليم إذا لم يساهم، إلى جانب الأسرة، في بناء التنشئة الاجتماعية للمتعلِّمين؟
من هذا المنطلق، يمكن التأكيد بدون تردُّد أن التعليمَ ليس وظيفة مسخرة من أجل تفتُّح épanouissement المتعلمين فكريا واجتماعيا. بل المتعلمون هم المسخَّرون لهذا التعليم. وهذا يعني أن المتعلمَ هو الذي يجب أن ينصاع لمتطلبات هذا الأخير وليس العكس. والدليل الأول على ذلك، الخوف الذي يغزو المتعلِّمين كلما اقتربت مواعد المراقبات والامتحانات. والدليل الثاني، هو تبخُّرُ المعارف بعد اجتياز الامتحانات. والدليل الثالث والحاسم، والذي يؤكِّد هذا التَّبخُّرَ، هو المراتب المتأخِّرة التي يحتلُّها المتعلمون بعد خضوعهم للبرنامج الدولي لتتبُّع مكتسبات التلاميذ Programme International de Suivi des Acquis des élèves PISA.
وبعبارة أخرى، يوجد هذا المتعلم في حالة تكون فيها مُجريات التعليم متجهة نحو هدفين لا ثالثَ لهما. يتمثَّل الهدفُ الأولُ في تبليغ جافٍّ ومحض للمعرفة لا يستفيد منه المتعلِّمُ تربويا وينتهي، في آخر المطاف، بحشوٍ للأدمغة. بينما يتمثَّل الهدفُ الثاني في تهميش طاقات وقدرات المتعلِّم الفكرية التي تلعب دورا حاسما في بناء التنشئة الاجتماعية.
وكما سبق الذكرُ، هذا النوع من الممارسة التعليمية-التعلُّمية المتمركز حول التبليغ الجاف للمعارف، يدفع المتعلِّمين إلى إعطاء أهمِّية كبيرة للتسجيل enregistrement والحفظ mémorisation والتخزين emmagasinage والاستظهار restitution. وهذا لا يعني أن قدرةَ المتعلمين على التسجيل والحِفظ والتَّخزين والاستظهار لا قيمةَ لها ويمكن تبخيسها. لا أبدا! لكن، إذا تمَّت تقويتُها عند المتعلِّمين، بكيفية حصرية، فإنها بالأحرى تنتسب إلى الببغائية psittacisme.
التعليم، كما هو ممارس في غالبية أطواره، يَعتبِرُ المتعلمَ كفردِ individu (من عامة الناس) يُرادُ حشوُ دماغه بمعارفَ بكيفية منتظمة ŕegulière وآلية mécanique عوض أن يَعتبِرَه هذا التعليمُ كإنسان يُرادُ تكوينُه وتربيتُه وتنشئتُه احتماعياً، أخذا بعين الاعتبار متطلباتِه على المستويين النفسي-التربوي psychopédagogique والإبستيمولوجي épistémologique.
أمام هذا النهج التعليمي، محكوم على المتعلّم أن ينغلق في وضع استسلام (لافاعلية absence de réactivité، واستكانة فكرية léthargie intellectuelle) يُجبرُه على لعب دور المُسَجِّلِ enregistreur المُستسلم soumis، والمُنضبط docile. ليس هكذا تُبنى التنشئة الاجتماعية!
وهكذا، إن المتعلمَ، رغم كونه مُكوِّنا أساسيا ومحوريا في الممارسة التعليمية التعلُّمية، التي أُنشِئت من أجله، فإنه، في نفس الوقت، يبقى ضحيةً لنهجها المرتكز، أساساً، على تبليغ المعرفة. ونفسُ النهج يجعله مهمَّشا فكريا وتربويا، إذ أن الممارسة التعليمية التَّعلُّمية لا تستهدف بناءَ شخصيتِه ولكن تقويةَ قدرتِه على ابتلاع والتهام المعرفة.
من الضروري أن تعطي العمليةُ التعليميةُ-التعلُّميةُ الأسبقيةَ لعلاقة المتعلم بالمعرفة، أي أن هذا المتعلم يجب أن يَتَمَوْقَعَ بالنسبة لهذه المعرفة. وليتموقع بالنسبة لهذه المعرفة، أضعف الإيمان، هو أن يعرفَ لماذا تُبلَّغُ له. ومن الضروري، كذلك، أن يتم الكفُّ عن اعتباره مجرد مُتَلَقٍّ ومُستهلكٍ جامدٍ للمعرفة. بل، من الضروري، أن يُعتبرَ المتعلِّمُ كفاعل نشيطٍ يريد أن يعرفَ. ويريد أن يفهمَ بعد أن يعرفَ. وبعد أن يفهمَ، يريد أن يكوِّنَ أفكاراً شخصيةً عن محيطه بمختلف مكوِّناته. هكذا تُبنى التنشئة الاجتماعية. تُبنى بالفكر وليس بحشو الأدمغة.
ولا داعي للقول أن الأوضاع الإبستيمولوجية للمدرس والمعرفة تحدد بشكل كبير وضعَ المتعلِّم. فكل ما سيطرأ من تغيير إيجابي على هذا الوضع يكون رهينا بنوعية التكوين الذي يتلقاه المدرسون علما أن هذا التكوين يجب أن يضع في الحسبان أن المتعلِّم كائن حي يرى، يسمع، يفكِّر، يشعر، يحس، يحب، لا يحب، يؤثر، يتأثر، الخ. وباختصار، له حاجيات على المستوى النفسي، الاجتماعي والفكري. فلا يجب بأي حال من الأحوال أن يُعْتَبَر كوعاء فارغ أو عجين يمكن للمدرس أن يملأه أو أن يشكِّله كما يريد.
وحتى تتمكَّنَ المدرسةُ من لعب دورها كاملا في بناء التنشئة الاجتماعية، من الضروري أن تتحوَّلَ من مجرَّد آلة لتبليغ المعرفة إلى جهازٍ دورُه الأساسي هو جعلُ هذه المعرفة دعامةً لتغيير شخصية المتعلِّمين من حسن إلى أحسن. وهذا التَّحوُّلُ يقتضي تغييرا جدريا إبستيمولوجيا، إن لم نقل فلسفيا، للمكوِّنات الأربعة للممارسة التعليمية التعلُّمية المتمثِّلة في المدرس، المعرفة، الطرائق البيداغوجية والمتعلِّم.
المدرس، عوض أن يكونَ العارف أو المالك للمعرفة، من المفيد أن يدركَه المتعلِّمون كمنشِّطٍ، مشجِّعٍ، محفِّزٍ، مساعدٍ، مرافقٍ… المعرفة يجب اعتبارُها كدعامة لبناء التنشئة الاجتماعية وليس وسيلة لقهر المتعلِّمين أثناء المراقبات والامتحانات. الطرائق البيداغوجية يجب اعتبارُها كمسار فكري، هدفُه الأول والأخير، هو تسهيل التَّعلُّم. المتعلِّمُ يجب اعتبارُه كإنسان يُراد تنشئتُه اجتماعياً، فكريا، أخلاقيا، سلوكيا… ليصبحَ مواطنا قادرا على المساهمة في تطوير نفسِه ومجتمعه وبلاده.