عبدالرحيم التدلاوي - الأبعاد الفنية والجمالية في مجموعة "السيدة التي تخاطب النافذة" للمبدع عبد العزيز حاجوي.

عبد العزيز حاجوي، شاعر وقاص، ينشر بغزارة إبداعاته القصصية، على صفحته بالفايسبوك، التي يتابعها العديد من القراء والمهتمين من رفاق درب الأدب، وأنا واحد منهم.
تعتبر “السيدة التي تخاطب النافذة” الصادرة عن مطبعة ووراقة بلال في طبعتها الأولى سنة 2021، والبالغ عدد صفحاتها مئة وواحد وعرون صفحة، ثالث إصدار له، بعد رواية بلوك 12- المقبرة 81 في العام 2016، وديوان “دق بابي أيها الصغير” في العام 2018.
تشتمل المجموعة على 45 قصة، مختلفة الطول، أغلبها جاء بعنوان مفرد معرف بأل، وبعضها جاء معرفا إما بالنعت وإما بالإضافة، وإما معطوفا، أو متبوعا بصلة الموصول كما هو عنوان المجموعة والقصة الواردة بالصفحة 78.
عتبات المجموعة:
من الملاحظ أن العنوان جاء جملة اسمية، إما محذوف المبتدأ يمكن تأويله ب"هذه" مع إدراج ضمير الشأن، وإما محذوفة الخبر، يمكن، هو الآخر، ملؤه بما يناسبه من مثل: مصدومة، أو مجنونة، أو معتقلة، أو ما يمكن أن يناسب العمل ككل.
. كما أن جل مفرداته مؤنثة؛ فالسيدة تستدعي اسم الموصول المؤنث والفعل أيضا لارتباطه بها وتأتي النافذة باعتبارها مخاطبا. وكأنها تحدث نفسها او ما وراء النافذة؛ أي ما تطل عليه..
لنتوقف قليلا أمام الفعل الوارد في العنوان ألا وهو؛ تخاطب؛ ومصدره خاطب؛ وهو من الفعل الثلاثي: خطب. ويحمل دلالتين؛ الأولى الخطبة وهي توجيه الكلام إلى جموع؛ والغالب فيها أنها جهرية وحماسية تحرك الناس وتعتمد كل الوسائل لكسب تعاطفهم. والخطبة بكسر الخاء التي يقصد منها طلب يد العروس. فهل لهذين المعنيين أو لأحدهما علاقة بالسيدة؟ ثم لننتبه لكلمة السيدة؛ فهي من السيادة؛ فورود هذا اللقب لا يعبر عن جنسها بل عن مكانتها الاجتماعية؛ فهل تطلب ود رجل ام إنها تخاطب نفسها وتوجه لها خطابا يحمل ما يعبر عن دواخلها؟
وما يثير الانتباه في غلاف المجموعة بعدها الأنثوي، أو غلبة الأنثوي على الذكوري، فباستثناء المؤلف الذي احتل اسمه وسط أعلى الغلاف بخط صغير جاء العنوان تحته بخط بارز يمتد من اقصى اليمين إلى اقصى اليسار. ثم صورة المرأة في اللوحة وتختها التجنيس المؤنث.
أعود فأقول: جاء العنوان مضمخا بالعطر الأنثوي بحيث يجمع السيدة والنافذة، وهما كلمتان مؤنثتان، تدل التاء المربوطة فيهما على ذلك، إضافة إلى اسم الموصول الدال على السيدة، فيما يأتي فعل المضارع، مؤنثا هو الآخر لكونه فعلا ينطلق من السيدة ليبلغ النافذة. وهو فعل دال على الاستمرارية. فهل السيدة مصابة بمرض نفسي ما؟ وهل النافذة مفتوحة أم مغلقة؟ فإن كانت مفتوحة فإن السيدة تخاطب من وراءها، سواء أكان حاضرا أم غائبا، وبالتالي فهي منفتحة على العالم على اعتبار النافذة عتبة تفصل وتربط في الآن ذاته، بين الداخل والخارج. أما إن كانت مغلقة فإن السيدة تخاطب جمادا، ويمكن أن يكون الخطاب غير موجه للنافذة بل لنفسها، عبر المرآة التي تعكس صورتها، ويمكن أن يكون خطابها بوحا خاصا لأنها في مكان مغلق، لا يعبر سوى عن الخصوصية.
عتبة الغلاف:
وبانتقالنا إلى لوحة الغلاف، نجدها في مستطيل يؤطر امرأة تلبس فستانا شفافا في الأعلى وغامقا في الأسفل، كما أنه مكشوف الصدر قليلا، وهي بشعر منسدل على الكتف بقصة قصيرة، تحمل في يديها ما يشبه قنديلا، ونظراتها موجهة إلى الداخل حيث تنظر أمامها إلى نافذة غير بينة المعالم، وتحتها ما يشبه كومودينو عليه بعض الأغراض.
وصورة المرأة في اللوحة تعود للظهور متجاوزة الإطار، لكن، بشكل باهت قليلا، ولا يبرز بقوة سوى رأسها، فيما تغطي اللوحة باقي الجسد. إنها لوحة فوق لوحة، وهذا التضاعف عنصر من عناصر التعبير عن أزمة الذات، في علاقتها بالواقع.
أما ظهر الغلاف فيشتمل على صورة الكاتب، في إطار مستطيل صغير الحجم، لا يظهر منه سوى وجهه وجزء من الكتفين، يضع تحت ذقنه كمامة توحي بأن النصوص كتبت أيام الجائحة.
وقراءة النصوص كفيلة بالإجابة عن الأسئلة التي قد تراود القارئ وهو يستقرئ تفاصيل اللوحة الإطار.
عتبة التجنيس:
ويأتي التجنيس تحتها، وقد تم اختيار قصات" بدل قصص، ولعله اختيار ينبني عن استراتيجية تروم كسر المتعارف عليه، إنه اختيار عن قصد وسبق إصرار.
وفي البحث عن سبب التجنيس بقصات كون النصوص لا تحتكم لحجم محدد فهي تتحرر من ضيق التسمية والحجم لتكتب نفسها وفق نبض المعنى ودلالات النص.
فماذا تقول النصوص وكيف تقولها؟
قصص «السيدة التي تخاطب النافذة» تحتفي جميعها بالسخرية من الذات أو الآخر، إذ يدخلنا السارد المتعدد فضاءات مركبة، يتقاطع فيها الواقعي بالتخييلي، وتتداخل فيها أصوات الشرائح الدنيا وهي تكابد آلام الذات وقيود المجتمع.*
السخرية والفانتاستيك:
لعل ما قبضت عليه في نصوص المجموعة ولمسته من خلال القصص؛ اعتماد السارد علي الفانتازي والرمزي؛ فأن يتحدث الموتى غريب ورمزي في الآن ذاته. ويراهن السارد ومن ورائه المبدع علي خلق الدهشة لدى المتلقي وإرغامه علي الابتسام لغرابة الطرح وأبعاد اللغة وترميزاتها.
وتهدف السخرية إلى الكشف عن جوهر الانسان في حالاته المتناقضة وصفاته المتباينة، عبر المفارقة الدالة والمقارنة التلقائية بين وضعين متقابلين، يضعان الكائن في بنية صراعية مقلقة لوجوده.*
تميل قصص المبدع حاجوي، إذا، إلى الفاتستيك وتعتمد على السخرية من خلال جمل مثيرة للدهشة والابتسام ومن خلال المفارقة؛ لكن الغريب هنا ممزوج بالواقع في تركيبة واحدة؛ إذ يؤدي أحدهما إلى الآخر حتي ليبدو هذا الفنتاستيكي جزءا من الواقع؛ والواقع جزءا منه. إنه تداخل يجعل المتلقي يستسيغهما معا؛ ويقتنع بأن أحدهما امتداد للآخر؛ يكونان لحمة لا انفصام لها. فالقاص يقتنص نصوصه من الواقع ويعيد تركيبها وفق هندسة جديدة مستعينا بتقنيتي الغريب والساخر؛ لكنه يحافظ على خيط الواقع كعلامة سير للقراءة حتى لا يفقد بوصلة القراءة فيضيع منه خيط السرد وبراعة النسج. هكذا نجد القاص يتابع أحداث المقهى بتمعن ولا ينطق إلا في آخر قصة المشروب؛ معلنا بذلك استراتيجية الكتابة لديه. إن القاص حريص على إمتاع قارئه؛ ويحرص على أن يجعل أحداث نصوصه ووقائعها مقبولة ومحتملة؛ بل تدفعه إلى تصديقها والعمل على إسقاطها على واقعه الخاص والعام؛ فقصة "ميت يوم الأحد" سيقرأ الموت؛ هنا؛ بمعناه الرمزي؛ وينسحب الأمر ذاته علي كل النصوص التي تناولت الموت.
الانمساخ:
تحتفي المجموعة، أيضا، بالعنف، والقبح، والمشوه و البشاعة. تجعل منها موضوعاتها، تصوغها فنيا لتعيد الاهتمام بها من لدن القارئ الذي تعود عليها في حياته اليومية لدرجة أن فقدت بعدها الصادم دهشتها المقرفة، فيتآلف معها، فالتعود يبلد الإحساس؛ والمبدع تسعى إلى صدم المتلقي ليعيد النظر فيها متخذا موقف الرفض لها.
ويتجلى الانمساخ في بتر أعضاء الشخصيات أو تشويهها، فنجد شخصيات مبتورة الأطراف، أو فاقدة لوجهها، أو لذقنها.. ففي قصة "اللعبة الالكترونية" ص57 نجد الشخصية تتثور رافضة أن تكون لعبة إلكترونية، إنها تتشبث بإنسانيتها المفقودة: (وجدت نفسي في متجر لبيع الرؤوس، حملني إليه عمال شركة تتاجر في اللعب الالكترونية، حين قلت لهم:
أنا إنسان ولست لعبة إلكترونية، فصل أحد العمال المكبس الكهربائي عني فماتت الحركة في جسدي)
ولعل هذه القصة تذكرنا بقصة سابقة لمحمد برادة الواردة بالمجموعة التي تحمل عنوان: "حكاية الرأس المقطوع".
أما في قصة "نصف حنجرة" ص 64 فتقول الشخصية المحورية للسارد: (قالت لي لن أعود الى المستشفى، فأنا برئة واحدة، ونصف حنجرة، كنت مغنية، في بار لمان،)، والبين أن تشوه خلقة الشخصية من تشوه الواقع المشبع بالتناقضات، فالشرطي المرتشي يذهب إلى الحج ليكفر عن أخطائه ليعود إلى البار من جديد فيشرب خمرا مصنوعة في مدينة مكناس، تلك الخمر التي يرفضها صاحب البار. شخصيات شيزوفرينية تعيش ازدواجيتها بسلام دون أن تفكر فيها أو تخضعها للنقد.
تشير هاته المسوخات إلى تحولات الكائن المشوهة واستفحال قيم الجحيم وانغلاق الزمن الدائري وفساد الأمكنة ولعنة الهة الأرض.*
التكرار:
يعتبر التكرار عند النقاد والباحثين في مختلف الأزمنة من أهم ظواهر الخطاب الأدبي التي تعتبر من أبز الظواهر الفنية والأسلوبية التي تنبين لنا أبعادا دلالية وفنية تحفز المتلقي للنظر والبحث في دلالات القصيدة ومراميها، فالتكرار يعد من الأسس الأسلوبية التي تعمل على التماثل في النص الشعري خاصة وأنه يساهم في تمتين وحدة النص وتماسكه بالإضافة إلى أنه مرتبط بالحالة النفسية للشاعر بشكل مباشر، وما يريد أن يبعثه من رسائل ومضامين فكرية.1
ويهدف لاستكشاف المشاعر الدفينة وتبيين الدلالات النفسية والوجدانية لدى االشخصيات، وما يشغل بالها.
والتكرار يعد خاصة المجموعة حيث نجده يعبر كل النصوص لدرجة اعتباره صيغة أسلوبية مهيمنة، هكذا نجد
اللون الأزرق يتدفق في قصة "العين الزرقاء" كما يتدفق الماء؛ هذا الماء الحاضر بلونه والذي تسبب في ظهور داء المياه الزرقاء في ابن المرأة لتطوف به بحثا عن علاج، لدرجة فقدان بوصلة عودتها إلى منزلها، لولا أن عثر عليها زوجها في بحث مضن فقد فيه حذاءه الأزرق. هكذا تعالج بفنية مسألة التلوث وما يسببه من مخاطر. كان التكرار عنصرا معبرا عن الإنشغال وعن سطوة الحالة وهيمنتها على نفسية الأم.
أما في قصة " السعال" ففضلا عن تكرار كلمة العنوان فإن السخرية تنبع من الحوار باللغة المحكية حيث الصراع بين طرفين كل واحد منهما يعرف الآخر ويسعى إلى إزاحته وبخاصة نائب رئيس الورشة الذي لم يفهم أو يستوعب أن الورشة ملك عائلي؛ ولن يسمح للغريب بتولي رئاستها.
خاصية التكرار نجدها في نصوص أخرى؛ كمثل ا"لأقدام" و"الطريق"، وغيرهما؛ وهي خاصية اسلوبية تفيد الانشغال والتمركز والتركيز؛ إنها بمثابة هواجس تنتاب الشخصيات وتبرز خواصها النفسية والفكرية وتعبر عن دائرة اهتمامها وما يشغل بالها.
أما نص "الرجل والكلب" ففضلا عن التكرار الذي يستغرقها فإنها وليدة سياق صحي عرف بوباء كورونا؛ وهو نص يتقاطع وصورة ظهر الغلاف الخارجي التي تظهر الكاتب وتحت ذقنه الكمامة. وهو في نصه هذا يربط الكمامة بالكلاب. وتعبر وضع الكمامة على فم الكلب المدلل حرص صاحبه عليه حتى لا يصاب بالعدوى. فالسلوك الذي يتوجب علي الكانيش لحماية نفسه هو تعقيم الفم من كلام الجزار.
التهجين:
لعل التهجين اللغوي في المجموعة يراد منه منح العمل خصوصية مغربية تجعل المتلقي المغربي بالأخص يجد نفسه في العمل ويشعر بالانتماء لتلك النصوص. إن توظيف اللغة المحكية تعبير عن الرغبة في قول المحلي، وقولها المحلي لا ينفي قولها الإنساني بالانفتاح على القضايا التي تشغل الإنسان في كل زمان ومكان.
ومن المعجم الدارج الذي تم توظيفه في المجموعة، نجد: بارميت، فيدور، أس أس هارا بلاك، الشمبوان..
نعتبر، إذا، خاصية الشفهي واللغة الدارجة علامة فارقة في النصوص، كما لو أن الكاتب ينأى بكتاباته الإبداعية عن القصة «العالمة « التي تريد أن تحمي هويتها متدثرة ب «قواعد =» لغوية عربية ببلاغة «نقية» لم تدنسها شوائب الثقافات الشفوية «المنحطة». إن أسلبة المنجز اللغوي اليومي تضع البلاغة العربية وفصاحتها موضع شك، وتزحزح ميثاق السرد المغربي بإبداله بنسق سردي جديد، مما يصعب تلقيه وترجمته الى لغات أخرى.
رغم ذلك، يظل توظيف الدارجة بين-بين ليس بالنزر القليل كما في قصص أحمد بوزفور ولا هو بالمهيمن كما في قصص الأمين الخمليشي.*
ومن العناصر اللافتة حضور الجسد بكثافة وفي سياقات مختلفة لعل من أهم أبعادها إبراز انمساخ الشخصيات وغربتها عن نفسها وعن واقعها. هكذا، نجد التفريق بين الجسد السامي والجسد المنحط؛ حيث السامي يرتبط بالأعلى، في حين يرتبط المنحط بالأسفل. هذا، فضلا عن التفريق بينه وبين الجثة. أما الروح الجنائزية فتكاد تستغرق النصوص كلها.
ومن القضايا التي تم تناولها؛ قضية توتر العلاقة بين الرجل والمرأة بالإضافة إلى انفتاح المجموعة على القضايا المحلية والقومية.
قصص عبد العزيز حاجوي حادة. لا تراوغ، قاسية، عنيفة. قصص تدين الرشوة والمحسوبية والغش والاحتيال. قصص تذكر لا تساوم ولا تهادن. تدين الفقر والبؤس وانسداد الأفق ومظاهر الموت.
أتت سخريتها أكثر جدية من الجدي لأنها بسردها ووصفها وبحواريتها وتعدد أصواتها تنتج لعبا بالأقنعة الاجتماعية مما يمنحها طابعا كرنفاليا، تتحرر بها دوافع لاشعورية مثل العنف واللذة، تنطلق طاقات إنسانية منفلتة من قيود المجتمع وقيمه الملتبسة وتفضح قوى الاستبداد في البيت والبار والشارع.. إنها باختصار مولدة معرفة بضحك كأنه البكا.*

**

1_ عرجون محمد هادي، جمالية التكرار ودوره في بناء النص الشعري، مجلة ديوان العرب الإلكترونية، الأحد ٢٣ أيار (مايو) ٢٠٢١
*: جمال الفزازي، بلاغة السخري





1.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى