د. عبدالجبار بهم - التضامن والتكافل أساس التنمية المستدامة.

يطرح عنوان التضامن والتكافل كأساس للتنمية المستدامة مدلولات لغويا ودينية وقانونية متداخلة، ينتهي الباحث عند تفكيك حيثياتها ومقاصدها إلى رؤية موحدة تصب عموما في مجال العلوم الإنسانية والتنمية البشرية؛ إذ يبقى القاسم المشترك الهام في علاقاتها البينية الواصلة للدين بالتاريخ والقانون والاقتصاد والسياسة وعلم النفس هو الإنسان، ذلك الكائن السوسيولوجي، المميز والمتفرد بمواهبه وقدراته ومكوناته السيكولوجية التي تؤهله لخلق دينامية واعية، تنعكس إيجابا على تطوير أوضاعه وفق تنمية مستدامة كخيار استراتيجي، يستهدف توزيع الترواث والموراد الطبيعية بكيفية عادلة، بل واستثمارها بطريقة تلبي حاجيات الأجيال الحاضرة، وتضمن في نفس الآن للأجيال المستقبلية حقوقها..
وإذا كان التضامن والتكافل كنمطين للعيش والتعايش بين الكائنات البيولوجية في عالم النبات والحيوان يتم بشكل غرائزي، فإن الأمر مختلف تماما بالنسبة لعالم الإنسان؛ حيث تستحكم عوامل التاريخ والجغرافيا والدين والتقاليد والعادات في صناعة أشكال سلوكه التضامني والتكافلي بكيفية عقلانية ضمن محيط يتغير باستمرار..
على أن الإنسان المغربي بعمقه التاريخي الضارب في عصور موغلة في ماض سحيق، وعقيدة إسلامية استوعبت جوانب عميقة من تقاليده وأعرافه القبلية الموروثة، ووحدت نسيجه الاجتماعي والاقتصادي، فاستطاع أن يبني على أنقاض ماضيه السحيق عادات وأعراف جديدة، تجاوزت الإثنيات العرقية والقبلية، وخلقت أنسا وطنيا تغلغل في كيانه، وجعل من التضامن والتكافل في أبجذياته اليومية سلوكا تلقائيا يحكمه هاجس ديني ويحفزه ضمير جمعي يقظ، ولذلك صار للتضامن والتكافل مظهران؛ مظهر رسمي وآخر شعبي.

لتقرير التضامن والتكافل أساس التنمية المستدامة:
على مستوى المظهر الرسمي، تنهض الدولة بحكم وثيقة البيعة كعقد اجتماعي، يضعها أمام مسؤولية حماية حقوق الوطن والمواطنين سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وبيئيا، مع السعي إلى تنمية هذه المكونات بكيفية مستدامة ومندمجة وتشاركية، في إطار تدبير معقلن وحداثي، يراعي مواكبة الدولة للمقررات الأممية في مجال التنمية المستدامة، لاسيما خطة الأمم المتحدة ( البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة من سنة 2000 إلى 2015 )، وخطة الألفية الثالثة الممتدة من 2015 إلى 2030 )، وانعكس انخراط المغرب في هذا المجال بصورة إيجابية، خاصة من خلال عدة برامج تنموية صرفت وتصرف عليها إلى الآن ملايير الدراهم؛ منها المبادرة الوطنية للتنمية البشرية ( 2005 إلى 2020 ) بغلاف مالي تجاوز 18 مليار، والنموذج التنموي الجديد ( 2030 - 2015 ) بغلاف مالي بلغ 77 مليار درهم، وبرنامج أوراش 2022 وأوراش 2023 بلغ أكثر من مليارين ونصف.. علاوة على مأسسة العمل التضامني والتكافلي بتشريع نصوص قانونية تعديلا وإحداثا، كتعديل قانون الجمعيات ( ظهير 1958 )، وقانون التعاونيات ( 2014 )، وإحداث الوكالة الوطنية للتنمية المستدامة، وصندوق التكافل الاجتماعي ( 350،00 للفرد داخل الأسرة شهريا )، وكتابة عامة للتعاون وغيرها، زيادة على إعمال مجموعة من الآليات الاستراتيجية المعتمدة على مؤشرات قياس دولية.
أما على مستوى المظهر الشعبي، فقد رصدته المداخلة في الفعل التشاركي تنفيذا لمقتضيات دستور 2011، وتجلى بشكل كبير في إقبال الجمعيات والتعونيات ومجموعة من المنظمات غير الحكومية، على الانخراط الممنهج في مسار التنمية المستدامة، التي فتحت الدولة أوراشها لمحاربة الفقر والهشاشة والأمية، وحماية الطفولة والمرأة والعجزة والمتقاعدين وذوي الهمم من المعاقين، وحماية المجال البيئي والتراثي، واستثمار الموارد الطبيعية بتوليد الطاقات البديلة، والاهتمام بالمجال الأخضر والاقتصاد الأخضر ، والسهر على إنجاز خدمات القرب بثأثيث المجال الحضري بمراكز القرب المتنوعة، وبالتغطية الصحية وبتوفير الدعم الاجتماعي المباشر ( 500،00 ده للفرد شهريا )..
وأبرز الإقبال المكثف على منظمات المجتمع المدني، ما يزيد عن 268000 جمعية، و 54000 تعاونية، معظمها استلهمت برامجها وأنشطتها التنموية من وحي اللحظة، وابتكرت عروضا واعدة وتصورات رائدة لتنزيل أوراش التنمية المستدامة على أرض الواقع..

ومع ذلك، تبقى معوقات التنمية هي نفسها المعوقات الكلاسيكية الماثلة في إكراهات البيئة وتخلف العقليات، وفقدان النجاعة في برامج تحكمها محفزات الظرفية وآلية والارتجال، ناهيك عن تراجع وازع القيم النبيلة القائمة على العطاء المجرد دون توخي المنافع والمردودية المادية..، يضاف إلى ذلك تفشي الفساد وتنوع أقنعته وتمدد أخطبوطه إلى أروقة العمل الجمعوي، ( جمعية تنهب 17 مليار من المال العام حسب شكاية تقدمت بها الجمعية المغربية لحماية المال العام )، وأروقة صناعة القرار السياسي، ( أكثر من 24 نائبا برلمانيا متابعين بالفساد المالي ). الشيء الذي جعل التضامن والتكافل ببلادنا، يجتهدان في تحصين نفسيهما من الهدر والضياع تحت المظلات الواقية التالية:
- مظلة الحماية المباشرة للدولة، عن طريق الدعم المباشر للأسر ضدا على الفقر والهشاشة المشهود بهما إداريا.
- مظلة الحس الإنساني والديني والوطني، كمحفزات تلقائية تحمل على التضامن والتكافل بين المغاربة، خارج المؤسسات النظامية والتنظيمات الجمعوية، وبكيفية تكاد تكون سرية في غالب الأحيان تحت وازع الإحسان كمفهوم ديني.
- مظلة ربط المسؤولية بالمحاسبة، كألية للحماية ضد لصوص الوطن وسماسرة المال العام والخاص.
- مظلة التخليق الرادع، إزاء الانتكاسة القيمية نتيجة انهيار المنظومة الثقافية، وتدني المردودية التربوبوية ذات الصلة بعمق الحضارة المغربية وتجذرها التاريخي.

انتهى التقرير بحمد الله.



* تقرير حول مداخلتي ضمن فعاليات الملتقى التاسع للجمعية الوطنية لمتقاعدي وزارة العدل / فرع مراكش آسفي، والمؤسسة المحمدية للاعمال الاجتماعية لقضاة وموظفي العدل، والمندوبية العامة لادارة السجون وإعادة الادماج، تحت عنوان: التضامن والتكافل أساس التنمية المستدامة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى