د. أحمد الحطاب - التَّنبيهُ في القرآن الكريم

التنبيه هو مصدر فعل "نَبَّهَ". وفعلُ "نَبَّهَ" يعني، بصفة عامة، أخبر وأشعرَ وأخطر وأطلعَ وأعلم… لكن المعنى الشائع والمتداول هو لَفتُ انتباهِ شخصٍ ما لشيءٍ يعرفُه ويُراد تذكيرُه به، أو لشيءٍ لا يعرفه ويُراد منه أن ينتبهَ إليه. هذا النوع من التَّنبيهِ، آياتُ القرآن الكريم حافلةٌ به. ولذلك، نجد في القرآن الكريم آياتٍ كثيرةً يقول فيها اللهُ، سبحانه وتعالى، لرُسُلِه بأنهم مبشِّرون ومنذرون.

مبشٍّرون، أي ينقلون إلى الناس (يّنبِّهونَهم) ما أراده ويريده الله، عزَّ وجلَّ، لهم من خير ويُمنٍ وسعادة وبركة… ومنذرون الناسَ (منبِّهِينَهم)، أي إخبارُهم بأخطائهم ومعاصيهم وسوء تصرُّفهم وزيغِهم عن الطريق المستقيم… وكذلك إخبارُهم بالجزاء الذي ينتظرهم إن هم استمروا في أخطائهم… وفيما يلي، هذه بعض الآيات التي تنتهي بنوعٍ من أنواع التَّنبيه الوارد في القرآن الكريم :

1.الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (الزخرف، 10). التنبيه للاهتداء.

2.يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (البقرة، 172). التنبيه للشكر المرتبط بعبادة الله.

3.هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (النحل، الآيات 10 و 11). التنبيه للتفكُّر في نِعَمِ الله.

4.وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (النحل، 14). التنبيه لشكر الله على فضلِه.

5.وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (النحل، 67). تنبيه البشر لاستعمال عقولهم.

6.وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَٰلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (النحل، 81). التنبيه للاستسلام لإرادة الله.

7.كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَىٰ (طه، 54). التنبيه لمَن أراد أن يتَّعظَ.

8.وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا لِّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَىٰ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (الفرقان، الآيات 48، 49 و50). التنبيه لتجنُّب المعاصي.

9.وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ (ق، الآيات 7 و8). التنبيه للرجوع إلى الله.

ما تجدر الإشارةُ إليه هو أن كلامَ الله، في الآيات التسعة، المشار إليها أعلاه، موجَّهٌ للبشر. البشرُ الذين أمرهم اللهُ، سبحانه وتعالى، أن يُعمِّروا الٍأرضَ بما يعود عليهم بالنفع وعلى جميع ما خلقة اللهُ من كائنات حية وغير حية. لهذا، اخترتُ هذه الآيات الكريمة التسعة التي، كلُّها، تشيرُ إلى ما أنعم الله، سبحانه وتعالى، من خيراتٍ على الإنسان والأنعام. وما تجدر الإشارةُ إليه، هو أن هذه الآيات تنتهي، بالتَّتالي من الآية رقم 1 إلى الآية رقم 9، بصيغة من صِيَغِ التّنبيه التي هي :

1."لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ"، أي تتَّبعون ما هداكم اللهُ إليه
2."إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ"، إن كنتم حقا تؤمنون بالله
3."إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ"، أي القوم الذين يستعملون عقولَهم فيما فيه خيرٌ للجميع
4."وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ"، أي تعترفون بنِعَم الله عليكم
5."إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ"، أي أصحاب العقول النَّيِّرة والمستنيرة
6."لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ"، أي تستسلمون لما يريده الله
7."إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَىٰ"، أي أصحاب العقول التي تميِّز بين الطيب والخبيث
8."فَأَبَىٰ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا"، أي الجاحدون لنِعَمِ الله
9."تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ"، أي العباد التَّائبين والراجعين لطاعة الله.
١ذ
ولماذا أنهى اللهُ سبحانه وتعالى هذه الآيات بصيغةٍ من صِيَغ التَّنبيه؟ لأن البشرَ، بصفة عامة، لا يُعمِّرون الأرضَ حسب ما يقتضيه العقلُ وحسب المنفعة العامة. والمنفعة العامة هي المنفعة التي يستفيد منها الناسُ بدون استثناء. بل البشرُ يعمِّرون الأرضَ حسب أهوائهم، وبالأخصِّ، حسب ما يتحقَّق لهم من أرباح فورية دون الاكتراث بما قد يلحق من أضرارٍ للآخرين.

فكل الآيات السالفة الذكر تنبٍّه الإنسانَ إلى ضرورة إعمار الأرض بما يعود بالنفع على جميع المخلوقات. وهذا يعني أن لا يكونَ هذا الإعمارَ مُصَاحَباً بالدمار والخراب والاختلالات بجميع أنواعها.

ففي الآية رقم 1، يقول سبحانه وتعالى : "...وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا…". ولا ننسى هنا أن اللهَ، عزَّ وجلَّ، يخاطب بشرا حبا لهم عقولا يفكِّرون بها. وهذه العقول هي التي أوصلتهم إلى درجات عالية من العِلم والمعرفة. فما هي هذه السُّبُلُ؟ هذه السبل هي أن يختارَ الإنسانُ، من بين ما وصلَ إليه من علمٍ ومعرفةٍ، ما هو مفيدٌ لإعمار الأرض إعماراً سليما ومفيدا لجميع المخلوقات. وهو نفس الشيء الذي تُشيرُ إليه الآية رقم 5.

في الآية رقم 2، يأمر اللهُ سبحانه وتعالى الناسَ أن يشكروه. فكيف سيشكرونه؟ يشكرونه بعدم الإسراف في الاستمتاع بما وفَّره اللهُ لعبادِه من خيرات مصداقا لقوله سبحانه وتعالى : "وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (الأنعام، 141)...

في الحقيقة، كل الآيات المتبقِّية، إذا تمعنا فيها، وبحُكم انتهائها بصيغةٍ من صِيَغِ التَّنبيه، فإنها تحثُّ البشرَ، بكيفية غير مباشِرة، إلى إعمار الأرض بما يكون في صالح جميع مخلوقات الله. فإذا اهتدى الناسُ وعبدوا اللهَ وتفكَّروا وشكروا وعَقِلوا وأسلموا وانتهوا وتجنَّبوا الكفرَ وأنابوا، فسييُدركون أن كلَّ عملٍ طيِّبٍ يقومون به لإعمار الأرض، سيُحسبُ لهم. وأن كلَّ عمل سيءٍ يقومون به وليس في صالح إعمار سليمٍ للأرض، فسيُحسبُ عليهم.

غير أن الإنسانَ المعاصرَ أراد ويريد أن يأكلَ وينتفعَ ويستفيد ويُراكم الثروات بدون أن يُراعيَ ما يفرضُه عليه الإعمارُ السليم والنافع للأرض. والإنسانُ، كمستخلفٍ (ليس بمعنى خليفة الله لأن اللهَ بصفاته الكاملة ليس له مثيل ولا يمكن أن يكونَ الإنسانُ خليفتَه. والخلفاء الراشدون، كانوا خلفاء للرسول محمد (ص) وليس خلفاء لله) في الأرض، عوض أن يدركَ إعمارَ الأرض كأمانةٍ، حوَّلَ هذه الأمانة إلى ترخيصٍ للتَّصرُّف المطلق وغير العقلاني في الخيرات والمنافع.

ومن جهةٍ أخرى، إن اللهَ، سبحانه وتعالى، حين سخَّرَ لعباده خيراتِ الأرض ومنافعَها، فقد خوَّل لهم، فقط، حق الانتفاع le droit d'usufruit. وحقُّ الانتفاع هوأن يتصرَّفَ ويتمتَّعَ شخصٌ ما بثمرات ومنافع شيءٍ ليس في ملكيته. وهنا، يظهر للعيان أن مفهومَ حق الانتفاع له علاقة بمفهوم الاستخلاف، كأمانةٍ لإعمار الأرض إعمارا سليما.

أمانةٌ ألقاها اللهُ على عاتق الإنسان، علما أن حقَّ الانتفاع يُحتِّم على المنتفعِ، كلما حصل على نفعٍ، أن يصونَ مصدرَ الانتفاعِ ويُحافظَ عليه لتستفيدَ منه أجيال الحاضر والمستقبل. أليس هذا إشارةٌ لمفهوم "التنمية المستدامة" développement durable التي كثُرَ الحديثُ عنها منذ أواخر الثمانينيات.

ما أختم به هذه المقالة، هوأن الإنسانَ نسي أو تناسى أنه، مهما تصرَّف في الأرض ومهما امتلك فيها من أشياء، فمُلك الكون، بما في ذلك الأرض، يبقى لله وحده يتصرَّف فيه كما يشاء مصداقا لقوله سبحانه وتعالى : "لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (المائدة، 120).

اللهُ يريد الخيرَ لعباده. ولو لم يُردِ اللهُ، سبحانه وتعالى، الخيرَ لهؤلاء العباد، لَما نبَّههم في الآيات المشار إليها أعلاه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى