لستُ أعرفُ مَنْ ابتكر العادةَ التي ألِفها الباحثون حين يفتتحون دراستهم لأي موضوعٍ بأن يستشيروا المعجم، ويعرضوا المعاني اللغوية المختلفة التي نصت عليها المعاجمُ حول المفردة التي يدور البحث حولها، لكي يحددوا المعنى اللغوي، قبل أن يتناولوا المعنى الاصطلاحي الذي هو مدارُ البحث الحقيقي ومناطُهُ وهدفُهُ . وأغلبُ ظني أن هذه العادة عربية لأن ما طالعته من مؤلفات اليونان لم أجد فيه الحرصَ نفسَهُ على الابتداء بالتمييز بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي . وإذا تذكرنا إشارة أرسطو، على سبيل المثال، إلى الأصل اللغوي لكلمة دراما نجده قد التفت إلى الجانب اللغوي بعد أن أقام الدلالة الاصطلاحية، وكان التفاته إلي اللغة عرضياً وقاصراً على ما يتصل بموضوعه، ولا ينظر إلى الدلالات المختلفة للكلمة . وكنتُ كثيراً ما أرى هذا الاستفتاح بالمعجم استطراداً غير مفيد، يعزز رأيي أن كثيراً مما تقدمه لنا المعجمُ من مادةٍ لاصلة له بموضوع البحث . ومع هذا فقد وجدتُ نفسي أتجه بدايةً إلى لسان العرب أستشيره عن كلمة ” المهمشين “، ولكني فوجئتُ بأن المادة ليس بها شيءٌ ذو صلةٍ واضحةٍ بمعنى التهميش الذي يريده الناس . كنتُ أتوقع أن أجد في المادة اللغوية معلوماتٍ كثيرةً لاصلة لها بالمعنى المراد، ولكني لم أتوقع أن تكون خاليةً مما له صلةٌ بالموضوع المراد . ذلك أن مادتها تتوالى هكذا :
” هَمَشَ : الهمـشـة : الكلام والحركة، هَـمـَشَ وهَـمـِشَ القـومُ فهم يَهْـمـَشُون ويَهْـمِـشُون وتهامـشوا . وامرأةٌ هَمَشَى بالتحريك: تُـكْـثـِرُ الكــلامَ وتُجَـلِّبُ . والهَـمـِش : الـسـريع العـمل بـأصـابعـه …. “(1).
فالمادةُ لاتشير إلى معنى التهميش المقصود . ولقد حاول من قبلُ علي فهمي ماحاولتُ ولم يجد في المعاجم العربية ما يتصل بهذا المعنى الذي تشير إليه الكلمة العربية المستخدمة حالياً والتي هي ترجمةٌ للمقابل الأجنبي في اللغتين الإنجليزية والفرنسية مثلاً(2). وقد تكون حقاً ترجمةً لكلمةٍ مثلmarginal* ولكن اختيارها للترجمة لايبرر أن تحمل المادة اللغوية المعنى الجديد؛ فلابد من وضع لغويٍّ يرشح تحميلَ المادة بالمعنى الجديد . ومايبدو لي فرضاً حسناً في هذا الشأن هو أن تكون صلةُ المادة اللغوية بالكلام سبباً لأن يسمِّيَ الناسُ الحواشي باسم الهامش . وإذا صح هذا الفرض فلابد أن تكون هذه النقلة اللغوية حديثة تاريخاً؛ لأن الغالب على التأليف العربي القديم أن تستخدم كلمة الحاشية، والمؤلفات العربية التي ظهرت في عصور التأليف المتأخرة المشغولة بالملخصات والتعليقات على المؤلفات السابقة كانت تفضل كلمة حاشية، مثلما فضَّلها الصبَّان في حاشيته المشهورة . وإذا صح هذا كله فإنه يقتضي منا تعليقين أو حاشيتين . التعليق الأولُ هو أن اختيار مادة همش لتسمية الحواشي ثم نقلها إلى تسمية المهمشين ينطوي على تقدير سلبي للحاشية، وهو أمرٌ يؤكده الشكوى المتكررة من الحواشي الكثيرة، وميل بعض الباحثين إلى استخدام نظم حديثة في الكتابة تخفف الحواشي وتقللها أو تلغيها . وهذا التقدير شديد الخطأ لأن الحواشي شديدة الأهمية في كل نص؛ ذلك أن الحواشي هي ما يوثق المادة المعرفية ويردها إلى أصولها الصحيحة، والعناية بالتوثيق هي الشرط الضروري لأي خطاب علمي باحث عن الحقيقة. وهذا التصحيح لتصورنا للحاشية يمكن – وهذا هو التعليق الثاني – أن يصحح لنا تصورنا للتهميش المقصود؛ فبدلاً من أن نرى المهمشين ليسوا قوةً تافهةً في المجتمع نراهم القوة التي تصنع الطبقات الأعلى في المجتمع، الطبقات غير المهمشة التي تتصدر العلاقات الاجتماعية والتي لولا ما تجنيه من الطبقات المهمشة ماحققت وضعها الأعلى .
وهنا نجد أنفسنا أمام التناول الاجتماعي لمفهوم التهميش في ظل علم الاجتماع، مضطرين إلى أن ننظر فيه على الرغم من أن موضوعنا الأصلي أدبي لا اجتماعي .
لقد ناقش علماءُ الاجتماع موضوعَ التهميش، وركزوا على الظاهرة في مصر تحديداً . قد تكون بحوثُهم المتعلقة بالموضوع أقل مما نأمل، ولكنها أفضل كثيراً من أن يُهْمَلَ الموضوع برمته، وقد يُغْنِي بحثٌ عن عشرات البحوث . ناقش الظاهرة محمد نور فرحات في ” الدور السياسي للجماعات الهامشية في مصر “(3)مركزاً فيه على الجعيدية والزعر . وناقشها علي فهمي في “ملامح الثقافة السياسية للمهمشين في مصر المحروسة “(4). وناقشها أماني مسعود في “المهمشون والسياسة في مصر “(5). وناقشها كذلك ابتسام علام في ” الجماعات الهامشية “(6). وأحدث ما طالعناه من بحوث في هذا الشأن هو الكتاب الذي وضعه سيد عشماوي ” الجماعات الهامشية المنحرفة في تاريخ مصر الاجتماعي الحديث”(7). ولاسبيل إلى أن نعرضَ هذا كله، ولاضرورة .
والأمر الملحوظ أن كثيراً من هذه البحوث ينظر إلى المهمشين بوصفهم فئاتٍ منحرفةً كالمتسولين واللصوص . وهؤلاء يستحقون وصف التهميش بغير شك، وأتخيل أن المسجونين مهمشون قطعاً، أبعدهم القانون خارج المجتمع تقويماً لسلوكهم وحمايةً للناس منهم . ولكني أتصورُ أيضاً أن ظاهرة التهميش لاتختص بالمنحرفين، وقد يكون المهَمَّشُ إنساناً صالحاً . ولفد لاحظ علي فهمي هذه الحقيقة فأشار إلى أن المهمشين منهم منحرفون مجرمين كالعيارين والشطار والفتوات، ومنهم غير مجرمين كالحرافيش والحشرية والجعيدية(8). ويبدو من تحليل كلام الباحث الكبير أن ما يجمع بين هذين الفريقين هو أنهم ” بعيدون عن العملية الإنتاجية ” . ولما كان الباحث لم يضع تعريفاً صريحاً للتهميش فإن الغالبَ المرجح أن التهميش عنده الوقوفُ خارج العملية الإنتاجية في المجتمع . وهو تعريفٌ جيد لايخلو من أصداء لفكرة البروليتاريا الرثة التي كان الماركسيون يصفون بها هذه الجماعات المهمشة في أنماط العلاقات الاجتماعية السائدة، ولكنه يتحرر في الوقت نفسه من الصيغة الماركسية القديمة بشكلها التقليدي .
وتقوم دراسة سيد عشماوي على أن الجماعات الهامشية المنحرفة يرتبط نموها وازديادها بالأوضاع الاجتماعية السياسية والاقتصادية، وأن عنف هذه الجماعات مرتبطٌ بعنفِ السلطة وتعسفها. وترتبط الظاهرة أيضاً بفقر هذه الجماعات، ولما كانت غير مندمجة في المجتمع، تعيش على هامشه، فهي أضعف صلةً من الطبقات الكادحة الأخرى بنظام القيم والأعراف الشرعية، فهم يحلون مشاكلهم على نحو ينحرف بهم مزيد انحراف عن المجتمع الذي يعيشون على هامشه . وعلى الرغم من أنهم يتألفون من شرائح غير متجانسة اجتماعياً، مفتتة، متنافرة أحياناً ، فهم آخر الأمر ظاهرة واحدة قد تفسـرها نظرياتٌ عدة . منها نظرية التبعية التي تراهم تكويناً طبقياً – بروليتاريا رثة – له مكانة اجتماعية متدنية، ولكنه يمثل رصيداً شعبياً لتحرك راديكالي عنيف يحررهم من التبعية . ومنها نظرية الهامشية التي تراهم في عزلة حضرية نسبية يشعـرون فيها بالنبذ، يدفعهم إلى الخروج على النسق العام للمجتمع الذي يسعى إلى التكامل . ومنها النظرية الثقافية التي تراهم ثقافةً فرعيةً خاصة جانحة، ترتبط بثقافة الفقر، ثم تتفرع إلى ثقافاتٍ أخرى بحسب تفرع هذه الجماعات إلى جماعاتٍ عدة : للتسول، النشل، إلخ . ويبدو أن الكتابَ قد تبنى النظرية الوسطى لأنه يدرس هذه الجماعات في وضعها الهامشي على مستوياتٍ سياسية واقتصادية واجتماعية ليس منها التحليل الثقافي التام .
كل هذه الأفكار تعتمد على النظر إلى المهمشين نظرةً دونيةً تقلل من مكانتهم الاجتماعية، ولكنَّ علي فهمي ينبهنا إلى أمرٍ مهم؛ ذلك أن التراث الأدبي الشعبي، خاصةً السير الشعبية، بحتفل أيما احتفال بهؤلاء المهمشين ويكسبهم سماتٍ إيجابيةً ،(13)بل هو يجعل منهم أبطالاً مثلما فعل مع شخصية علي الزيبق الذي قدره حتى جعله يتولى درك مصر بدهائه الفائق لأنه عند الجماعة الشعبية أرقى من الطبقة العليا، ومن أهل السلطة المتعسفين . وهذا معناه أن الحكم القيمي أو الخلقي عليهم الذي هو مناط الحكم بدونيتهم ليس إلا حكماً نسبياً . ومن هنا يتخذ وضعهم الاجتماعي قراءتين مختلفتين لمفهوم الدونية؛ فهي عند الطبقات الحاكمة من الحقارة والانحطاط الخلقي، وهي عند هذه الجماعات وعند المتعاطفين معها تشير إلى الظلم الواقع عليها، والفقر والعجز اللذين يقيدانها . وربما يبلغ حدَّ التعاطف أن نرى في سلوكهم نوعاً من الإبداع الفائق يواجهون به عالمهم . ولهذا نفضل أن نحيِّدَ الحكم الخلقي عند تأمل الوضع الذي عليه هذه الجماعات.
نستخلص من البحوث الاجتماعية أن الهامشية اجتماعياً موقع اجتماعي، تبعي ( = غير قيادي )، أسفل العملية الإنتاجية أو خارجها، غير متكيف أو ضعيف الاندماج، يقابل أصلاً السلطة بصورها العامة، ويقابل فرعاً الطبقات والجماعات والشرائح التي هي قريبةٌ من آليات السلطة العامة ومستفيدة منها .
ومن الملحوظ أن هذا الموقع الاجتماعي مرتبطٌ بأحكام القيمة والأحكام السيكولوجية، من قبيل الدونية، والعجز، والقهر. ولعل كلمة الهامشية محملة اجتماعياً بهذه القيم مثقلة بها تجعل الهامشية وضعاً اجتماعياً وسيكولوجياً وإكسيولوجياً (= قيمياً ) .
هذا هو التصور في العلوم الاجتماعية فكيف هو عند الجماعة الأدبية ؟ .
لقد شاعت فكرة التهميش، وتعبير أدب المهمشين، في السنوات الأخيرة شيوعاً كبيراً على الرغم من أننا لانجد دراسةً واحدةً للفكرة في ذاتها تناسب هذا الشيوع . وأحسب أن هذا الشيوع يمكن لي أن أعلله بأمرين : الأمر الأول هو انتشار ظاهرة الجماعات الإسلامية في المجتمع المصري من منتصف السبعينيات إلى بداية القرن الحادي والعشرين في مدى ربع قرنٍ كاملٍ، لا من جهة أدبياتها وأفكارها المعلنة، بل من جهة التحليل الذي اعتمدته الثقافة المصرية لها؛ ذلك أن هذا التحليل ظل لوقتٍ طويلٍ يرى هذه الظاهرة نتيجة لإخفاق النظام السياسي في منح طبقات المجتمع العناية السليمة، ووقوع جزء كبير من المجتمع المهمل المظلوم تحت ثقل أزمات اجتماعية حادة ناشئة عن ضعف الدخول، وقلة الخدمات التعليمية والصحية والثقافية والاجتماعية بوجهٍ عام، وإخراج هذا الجزء الأعظم من المجتمع من دائرة القرار السياسي، وهذه كلها أركانٌ صالحة لصفة التهميش . وكانت العلامة الكبرى على صحة هذا التحليل هذا العدد الكبيـر من الأحياء المسماة بالعشوائية . ويكاد يرادف مصطلح العشوائية مصطلح التهميش؛ فالعشوائي حيٌّ بناه ساكنوه دون الرجوع إلى السلطات أو التوافق مع حاجات النظام العام، فتأتي هذه الأحياء لاتوفر الخصوصية، تنقصها الخدمات الأولية العصرية، وهي بهذا تتحول إلى بيئاتٍ معزولةٍ لها مكانةٌ اجتماعيةٌ دنيا، أي هي باختصار تتهمش أو يعيش سكانها على هامش المجتمع . ويمثل الربط بين هذه الظاهرة ( = العشوائية ) وظاهرة العنف الديني، مايذهب إليه العلماء والمحللون من أن المناطق العشوائية الفقيرة المحرومة مرتعٌ خصبٌ لنمو الجماعات العنيفة ذات الشعارات الدينية. وخلال هذه السنوات تصاعد الوعي الاجتماعي بوجود فئاتٍ كثيرةٍ مهمشة : الأحياء العشوائية، الصعيد، النوبيون، الأقباط، وكلها أبرزت نفسها، وتحدثت عن تهميشها ولازالت تتحدث، وقد أضيف إليها أخيراً بدو سيناء . ولقد أصبح الربط بين جماعات العنف الديني والأحياء العشوائية موضوعَ حديثٍ مكررٍ في الإعلام المصري بعد تولي حسن الألفي وزارة الداخلية؛ فلقد كانت تصريحاته الأولى تشير إلى الأهمية الفائقة للعناية بهذه الأحياء العشوائية، وأهمية السيطرة على المساجد العشوائية التي لاتسيطر عليها وزارة الأوقاف بوصفها منابع، أو منابر، أو لنقل قنوات إعلامية، لترويج أفكار هذه الجماعات، وتفريخ الأعضاء الجدد لها . ويبدو أن ثورة سكان الضواحي في باريس في نوفمبر 2005م يوماً بعد يوم تذكيرٌ للوعي المصري بهمومه الخاصة، وهي تعطي انفجارات المهمشين بعداً عالمياً . كل هذا انعكس على الوعي الأدبي في مصر فغذى فيه، على نحو مباشر أو غير مباشر، الوعي بفكرة التهميش وخطورتها، وما يكتنفها من ظلم .
الأمر الآخر هو التحولات الثقافية العالمية، ووصول العالم إلى درجةٍ يعلن فيها انتهاء الحداثة، وافتتاح عصر جديد، يسمى مابعد الحداثة، ويسمى مابعد الصناعة، ويسمى ثورة الاتصالات، ويسمى عصر المعلومات، ويسمى أخيراً باسم العولمة، ويسميه بعض الألمان الذين يتمسكون بفكرة الحداثة، ويشعرون بأنها لم تنقطع بَعْدُ باسم الحداثة العليا، وهو اسمٌ لايزال يقطع بالشعور بأننا نشهد جديداً مختلفاً . والفائدة غير معلقة بفكرة التحول في ذاتها، وإنما هي معلقة على بعض الأفكار التي صحبت هذه الأفكار الجديدة وتفرعت عنها . منها هذا الشغف الذي يروده الألمان خاصةً بتحليل السلطة، وإلقاء الضوء على آلياتها، والوعي بقدرتها على الإقصاء والنبذ، وهذا ما تنبه له ميشيل فوكو في تحليله للجنون بوصفه آليةً من آليات السلطة للنبذ والإقصاء . وينمو دوماً الوعي المتزايد بفكرة السلطة فينمي معه الشعور بالهامشية عند كل مَنْ لا يرى نفسه جزءاً من أبنية السلطة، خصوصاً في عالم الأدب الذي يراهن دوماً على تحرره من آليات السلطة ومناضلته لها . وعلى الرغم من شيوع القول بأن العولمة تهدف إلى صبغ العالم كله بصبغة واحدة فإن هناك قولاً آخر موازياً لايقل شيوعاً هو أنها تقاوم ظهور كيانات كبرى جديدة، وأنها تسعى إلى تفتيت الكيانات القائمة دولاً وقومياتٍ وشعوباً، وكان الاتحاد السوفيتي ودول الكتلة الاشتراكية عامةً أول ضحاياها وليس آخرهم . وسرعان ما شاع تحليل العالم بوصفه عالمين : عالماً متحققاً غنياً هو السلطة الكونية، وعالماً آخر – ثالثاُ بلا ثانٍ – مهمشاً، بلافعالية، هو الضحية، وميدان الـرماية، وموضوع الترويض . وتسللت مع أفكار مابعد الحداثة إلى ثقافتنا أفكار التفتت، والتشظي، والتهميش .
مهما يكن هذان الفرضان السابقان صحيحين فإن علينا أن ندرك أن فكرة التهميش ليست كشف الحاضر وحده، فهي قديمةٌ، يظهر قِدَمُها إذا تحررنا من لفظها، ولاحظنا أن أفكار القمع والقهر والاستغلال التي طالما تحدثت عنها البشرية، منذ ماركس، وقبل ماركس، وربما من بداية الوجود البشري الواعي تشير ضمناً إلى مضمون فكرة التهميش . وفي مجال الدراسات الأدبية من الصعب أن تجد متحدثاً يتناول شعر الصعاليك في العصر الجاهلي، مثلاً، ولايقارب هذه الفكرة . ولدينا نموذج مهم لاستخدام فكرة التهميش استخداماً واعياً في تحليل الظواهر الأدبية . وهو كتاب “سوسيولوجيا الغزل العربي : الشعر العذري نموذجاً ” الذي ألفه الباحث التونسي الطاهر لبيب، وترجمه للعربية عن الفرنسية محمد حافظ دياب . ويقوم الكتابُ على ” ملاحظة الوضع الهامشي لهذه الفئات المدروسة “(15)فئات العذريين . فهؤلاء العذريون جماعةٌ لم تستطع التكيف مع العالم فأصبحوا “جماعة واقعية هامشية بصورة متميزةٍ ولاسيما على الصعيد الاقتصادي ” . ذلك أن مورفولوجية الحجاز ليست متجانسةً تماماً . ومن خصائص وادي القرى الذي عاشوا فيه أنه معزولٌ عن نجد شرقاً، وتهامة غرباً، بسلسلتين متوازيتين من جبال الحجاز، يحد هذا الإطار الجغرافي من حركة العذريين، ومن اتصالهم بالعالم . وشهدت الجماعة العذرية بعد الإسلام تحولات الدولة الإسلامية : انتشار القيم الإسلامية، التمجيد العرقي السياسي للعنصر العربي، التطور الحضري الضخم، السلطة الملكية التي تزداد استبداداً من وقتٍ إلى آخر، وتُعَمِّقُ التناقضَ القديم بين البدو والحضر، وأدى هذا كله إلى عداءٍ من البدو- وبعض الشرائح الريفية- للسلطة، نمَّى لديهم روح اللامبالاة، وقلة الاهتمام بالجماعة . هكذا ولدت الطبيعة الجغرافية هامشية الجماعة قبل الإسلام، حتى اضطرت الجماعة إلى أن تعتمد على إتاواتٍ تنالها من اليهود انقطعت بعد الإسلام الذي طرد اليهود في صراعهم معه، وظلوا مهمشين عن حضريي الحجاز، وعن ملاك الواحات المنتجة، وأكد الإسلام هذا التهميش، فاجتمعت الهامشية الجغرافية، مع هامشية اقتصادية، مع لامبالاة ثقافية، فجاء شعرهم تعبيراً عن هامشيةٍ عميقةٍ .
هذا المثالُ لفكرة التهميش عند الباحثين يكمله أمثلةٌ أخرى كثيرة تدل على أن الأدب لطالما التفت إلى المهمشين مالم نقل إن المهمشين هم الموضوع الأول للأدب . فإذا قرأنا مثلاً رواية “الحرافيش ” لنجيب محفوظ دلَّ اسمها قبل نصها على فكرة المهمشين الذين عرفنا من البحوث الاجتماعية أن الحرافيش من الكلمات الدالة عليهم . ومثل ” الحرافيش ” رواية ” حكايات حارتنا ” التي تهتم بعالم الفتوات . ومن هذه النماذج رواية ” أيام يوسف المنسي ” للسيد نجم، التي جعلت صفة المنسي علامةً باكرً في عنوانها على تهميش شخصيتها الرئيسة تهميشاً بلغ به حد أن يرى العالم من ثقب في حجرةٍ ضيقةٍ بمساكن الإيواء . وأظن أمثال هذه الشواهد أكثر من أن تحصى . ولايختلف الحال مع الشعر عنه مع الرواية أو القصة، فإذا كان القول إن” بني وركان “الذين جعل طه حسين بطلة ” دعاء الكروان ” منهم نموذج صارخ على العناية الروائية بمجتمعاتٍ مهمشةٍ – وإن تكن الأحداث لاتدور في مضارب خيامهم – فإن شاعراً مثل أمل دنقل ليس بمعزلٍ عن هذه النماذج في شعره . اقرأ له مثلاً قصيدته ” البكاء بين يدي زرقاء اليمامة “، وانظر إلى الجزء الذي يقول فيه إنه ليس له شان، ولم يأكل من قبل لحم الضان، ولم يدع إلى الحفل قبل أن يدعى إلى المبارزة، أدركت أنه صورةٌ للرجل المهمش في فقره، وتجاهل السلطة له، وبعده عن مدارات الحكم، والظلم الذي يرسف فيه . ولعل سقوط فكرة الشاعر النبي بعد هذا الجيل علامةٌ على التحول الشعري نحو الإنسان العادي الذي كان مهمشاً على الدوام لايجد صوته في الشعر المشغول بصوتٍ حكيمٍ نبويٍّ أعلى من أن يكون تصويراً له، أو تعبيراً عن شعوره، أو صدىً لصوته على نحوٍ أو آخر .
ولكن هذا كله حكمٌ بعدي . أعني أننا بعد أن فشا فينا مصطلح التهميش أصبحت عيوننا قادرةً على أن نرى مظاهر التهميش حيث تكون . أما قبل ذلك فإن المفهوم لم يكن حاضراً بنفسِهِ . فلم يكن الشعراء الصعاليك في الجاهلية يصدرون في شعرهم وسلوكهم عن مقولة التهميش صدوراً واعياً . وأمل دنقل لايختلف في ذلك عنهم . لهذا يحسن أن نركز النظر على النصوص التي تكتب عن التهميش في أفقٍ تتردد فيه فكرة التهميش صراحةً . وأظن أن هذا يقتضي أن ننظر في حفنةٍ من النصوص التي تقدم فكرة التهميش تقديماً مباشراً، دلالةً على حضورها الكبير في الخطاب الأدبي المعاصر، وتلمساً لتصور واضح للمفهوم؛ فليس من المفترض بالضرورة أن يكون مفهوم الكلمة في العلوم الاجتماعية هو عينه المفهوم في الخطاب الأدبي .
هناك بدايةً من يربط التهميش بموقف السلطة – أو المؤسسات – من الأدباء . تجد هذا المعنى عند حسن خضر حيث يقول : ” لقد كان أسلوب المؤسسات الثقافية سابقاً النفي العَمْد والتهميش في الظل لمَنْ وما لاتريده من الأشخاص أو الأفكار . ” . فهو يرى أسلوب المؤسسات في تعاملها مع المثقفين والأدباء أسلوب نفي عمدي وتهميش، ويقرن فكرة التهميش بالظل قرناً مهماً لأنه يسمح أن نرى في نصوص كثيرةٍ تتحدث عن الظل حديثاً عن التهميش . ويوافق حسن خضر فيما يذهب إليه عبد المنعم عبد القادر الذي يرى أن السلطة لجأت لكي تحقق هذه الغاية لأن تتبنى أول مؤتمر لأدباء الأقاليم الذي عُقِدَ في الزقازيق تحت رعاية وزير الداخلية آنذاك . ولم يستسلم الأدباء فتواصلت حركة الماستر – يقصد طباعة الأعمال الأدبية بنظام الماستر نظراً لتقصير مؤسسات الدولة في نشرها، ونظراً لرخص تكلفة النشر بالماستر وإن يكن رديئاً – واستمرت، وكرسها المهمشون من المثقفين والمبدعين وسيلةً لتوصيل أصواتهم . وإذا صح رأي عبد المنعم عبد القادر فإن حركة الماستر شكلٌ من أشكال المهمشين من الأدباء في مقاومة السلطة، وهي بهذا نقطة البداية في تشكيل الوعي المعاصر بآليات التهميش التي قد تتخذ صورة النبذ أو الاحتضان، والوسيلتان كلتاهما لهما الهدف نفسه، تجريد المهمش من فاعليته .
هنا المهمشون هم الأدباء .
وهناك من يرى فكرة التهميش في ضوء حركة الثقافة كلها، وهذا مانراه في حديث جابـر عصفور في ندوةٍ موسعةٍ أقامها المجلس الأعلى لمدة يومين تكريماً لإدوار الخراط بمناسبة بلوغه السبعين، إذ يتحدث عن ” إرادة الإبداع ” عند الخراط، ويرى أنها : ” … تتحدى سلطة الكتابة المهيمنة، باحثةً عن نغمتها الخاصة وسط ركامِ المألوف والمعتاد، بعيداً عن غواية المركز، حيث الهوامش التي لاتعرف سوى الإبحار صوب المجهول الذي يظل في حاجةٍ إلى كشف ” ، وذلك” لتفرضَ الهامش على المركز، وتسهم في انتقال الكتابة من عهدٍ إلى عهد …” . فالسلطة هنا ليست سلطة الدولة مباشرةً، ولكنها سلطة الكتابة التقليدية . والهامش ليس وضعاً اجتماعياً أو طبقياً مباشرةً، ولكنه أشكال الإبداع التي تخالف الشكل التقليدي للكتابة . هذا يضع الهامش وضعاً يتعلق بمجمل الثقافة، يفسر التطور بالصراع الجمالي الضمني بين الأشكال المهمشة والأشكال التقليدية الحاكمة أو المهيمنة .
المهمش هنا هو الشكل المجدد أو لنقل الحداثي .
وهناك من يرى المهمش ليس شكلاً وإنما هو موضوعٌ من موضوعات الإبداع . يتحدث الناقد عبد الحميد عقار عن واقع التجربة الروائية في المغرب فيرى أنه قد ” أتيح للرواية أن تنفتح في الموضوعات والأساليب على العجيب والمنسي أو المهمش والمحظور، وعلى ضروبٍ من المتخيل ذي المرجعية المحلية . ” . وهو يرى أن الرواية المغربية تطلق نداءاتٍ متنوعةً منها “نداء الذات أو الكينونة ” …. وهو ” مسكون بمقاومة الدونية والتهميش … “، وهذا مايراه متحققاً في ” الخبز الحافي “و” زمن الأخطاء ” لمحمد شكري،و” الضوء الهارب “و” لعبة النسيان ” لمحمد برادة، ونصوص أخرى . وكلام عقار يستخدم مفهومين للتهميش، الأول يراه نوعاً من المتخيل الروائي، يريد أن هناك متخيلاتٍ روائيةً مهمشة ومنسية ومبعدة يستعيدها الخيال الروائي . والمفهوم الآخر هو المفهوم الاجتماعي الذي استدعى كلمتي الدونية والتهميش لتكون الكتابة فعلاً من أفعال المقاومة لتهميش الذات – لم يحدد إذا كان المقصود ذات الكاتب أم ذات اجتماعية أخرى أم المقصود الذاتين معاً .
ولقد نشرت الكتابة الأخرى بياناً لجماعة من الكتاب المغاربة أطلقوا على أنفسهم اسم الغاضبون الجدد، وسرد بيانهم أسباب تجمعهم وتكوينهم جماعتهم، فكان من هذه الأسباب ” من أجل إعادة الاعتبار لكتابة الظل والهامش … ” . وعلى الأرجح هم يستخدمون الكلمة كما استخدمها جابر عصفور بوصفها دالةً على شكلٍ من أشكال الكتابة الحداثية قرنوا فيه الظل بالهامش .
ومِنَ الكتاب مَنْ يستخدم كلمة الهامش دالةً على أغوار نفسية بعيدة مهمشة داخل النفس الإنسانية ونفس المبدع خاصةً . من ذلك أن يرى جمال القصاص في ديوان ” باتجاه ليلنا الأصلي ” لكريم عبد السلام أن قصائده تُظْهِرُ نوعاً من بنية المشهد الشعبي، وتُظْهِرُ ” ولع الشاعر نفسه بالتقاط التفاصيل الصغيرة والدقيقة في اللاوعي الهامشي لهذه البنية، وما يضمره هذا اللاوعي من خبرةٍ جماعيةٍ مستقرةٍ على مستوى العادات وأنماط السلوك الاجتماعي ” . واللاوعي الهامشي هنا يذكر بأفكار يونج عن اللاوعي الجمعي ومكنونات المخيلة الجمعية .
يتفق مع هذا المعنى أن نقرأ لإدوار الخراط حديثه عن كتابة التسعينيات الذي يقول فيه : “إن الرصدَ الخارجي الدقيق لتفاصيل المشهد اليومي المبتذل العادي قد يحمل دلالةَ نفي الإنسان عن العالم أي استئثار ” الأشياء “و” الموضوعات ” بالمركز وتنحية الحياة الداخلية تماماً عن مواقع الضوء ” . يضاعف من أهمية كلام الخراط أنه لم يستخدم فيه كلمة الهامش، ولكن الكلمة لاتزال حاضرةً وراء الكلمات، يشير إليها كلمة المركز إشارة الضد لضده . ولعلنا نفهم من هذا اللون من الحضور اللغوي كيف أن الشواهد التي نسوقها الآن عن فكرة التهميش يمكن أن نضاعفها مئات المرات إذا نظرنا إلى معنى التهميش لالفظه؛ ولاحظنا أن كلماتٍ كثيرةً مثل الظل، والمركز، والمنسي، والمهمل، وماشابه كلها تدور في مدارٍ كلمة الهامش تكمن فيه . والخراط يرى هنا أن الهامشي هو الحياة الداخلية التي تقبع في الظل خارج موقع الضوء . وهذا وجهٌ آخر للمعنى السيكولوجي للهامشي غير اللاوعي الجمعي هو أقرب إلى اللاوعي الفردي .
هنا الهامشي هو اللاوعي .
وننتقل من حديث إدوار الخراط عن كتابة التسعينيات إلى واحدٍ ممن ينسبون إلى هذا الضرب من الكتابة، هو منتصر القفاش . يتحدث القفاش عن كتابة التسعينيات فقال : ” وحاولت كتاباتٌ نقديةٌ أن تُسَمِّيَ تلك التحولات والتغيرات بعدة مسميات، لكن المشكلةَ في اجتهادات النقاد أنها “تشوش ” على روائية هذه الروايات لتجعلها مجرد كتابة على هامش النوع أو خارجه أو على الحدود بين أنواعٍ عديدةٍ ” . وكلمة هامش هنا تشير إلى موقف النصوص بين الأنواع الأدبية، فالتهميش قد يكون تصنيفاً يحرم النص من الاندراج في خريطة الأنواع التي تعطي النص مصداقيته ومشروعيته وقبوله . وتكشف لنا هذه الفكرة جانباً مهماً من جوانب التهميش هو أنه سلوك تصنيفي طردي أو إقصائي . ويبدو أن منتصر يخشى الأثر السلبي لهذا السلوك التصنيفي الذي ينبذ النص الجديد إلى فضاءٍ غير محدد المعالم، كالمتاهة، خارج الأنواع المألوفة. ولهذا يقاومه بأن يؤكد على روائية النصوص – كأنها ميزة – لكي يعيد لها مصداقيتها عند القراء .
ويعترض إبراهيم عبد المجيد على تسمية هذه النصوص الجديدة باسم أدب التسعينيات؛ لأنها تسمية تضر بكتابٍ آخرين مجيدين لاينتمون إلى الظاهرة نفسها، ويفضل على هذه التسمية مصطلحات ” من نوع أدب الجسد أو الأدب الهامشي أو أدب اليأس أو أدب العزلة وكلها سماتٌ تتسع وتنكمش في هذا الأدب، أو أي مسمى أعمق مما أقترح ” . ويقدم لنا إبراهيم عبد المجيد معلومةً مهمةً، هي أن ما يسمى كتابة التسعينيات، أو أدب التسعينيات، يقترن بمفهوم الهامشي، ومايتصل به من أفكار اليأس والعزلة، إلى درجة أن هذه الكتابة تستحق أن تسمى الأدب الهامشي .
وشبيه بهذا الموقف أن تقرأ لعبد الله السمطي عبارة كأنها نبوءة تقول : ” سيركز الشعراء الآن ( = من الآن ؟ ) على السخرية، والكتابة عن المهمل، والمهمش، والصغير، واليومي، والفضائحي، والجسداني، وبهذا تحل أنماطٌ تعبيريةٌ جديدةٌ محل أنماط سابقةٍ، ويعود الشعـرَ ليدخلَ في نمطيةٍ، وأكليشيهات تعبيرية بادية ” . وتقع كلمة المهمش، بوصفها نوعاً من المواد التي ينهل منها الشاعر الجديد، في قلب ما يحرص عليه هذا الشاعر، وتكاد تكون الخصائص الأخرى ألواناً أخرى من المهمش .
ولابد لنا من وقفةٍ مع أمجد ريان تحديداً؛ فهو أكثر الكتاب تأثراً بمفهوم الهامشية حتى أنه أصدر على نفقته كراساً غير دوري، في صورة ملزمةٍ صغيرةٍ واحدة، تشبه المجلة لأن بها الحوار والمقال النقدي، ونصوصاً مختارةً لأدباء متميزين في أدب التسعينيات – إذا قبلنا التسمية قبولاً مؤقتاً-، وأخباراً قليلة عن أعمال أدبية جديدة من هذا الأدب، فإذا به يسمي هذه الملزمة غير الدورية باسم ” الخطاب الهامشي ” . وبين يدي الآن العدد الأول من أعداد هذه الكراسات، وقد صدر بتاريخ الأول من إبريل 1997م، وتحت عنوانه عبارة ” كراس غير دوري يُعْنَى بالتحولات ” . وعلى الرغم من أن العنوان العام هو ” الخطاب الهامشي ” فإن افتتاحية العدد الأول لاتتحدث عن هذا الخطاب الهامشي، ولاتعرف بمفهوم الهامشية الذي لايعرفه أحد، وإنما تتحدث عن مفهوم التحولات كأنها لارغب في أن تختص المجلة بالدعاية لكتابة دون كتابة، أو كأنها تحرص على قدرٍ أوسع من العموم والتجاوب مع ميول مختلفة واهتمامات مختلفة، وتجتذبها إلى أرضها من خلال فكرة التحولات، وهي فكرةٌ عامة ليس له خصوصية فكرة الهامشية . والأهم من الافتتاحية هو أول مادة من مواد العدد، وهو حوار أجراه صاحب العمل مع شخصيتين مهتمتين بالفلسفة والثقافة المعاصرة، غير مشهورتين على جدارتهما بالاهتمام،الشخصية الأولى أحمد عبد الفتاح، والأخرى فاروق سليمان . وقد دار الحوار بين ثلاثتهم حول التجديد في الثقافة والفن، وهو موضوع اختير على مايبدو ليكون عاماً محايداً كأنه من لغة العقاد وطه حسين وجيلهما، قبل أن يبادر الحوار نفسه إلى نقل الموضوع من عمومه إلى أفق الخطاب الهامشي، أو الخطاب الجديد . وقد بادر أحمد عبد الفتاح منذ اللحظة الأولى بنقل الحوار إلى هذا المستوى فقال : ” سأرد المسألة إلى تعبير ( الخطاب الهامشي ) لليوتار وهو يعني أن كلمة مابعد تعني شيئً مختلفاً، فمثلاً ( مابعد الرواية ) لايعني الرواية بل هناك منطقة مختلفة عن شكل الرواية التقليدي . ( مابعد الرواية ) ينشأ خارج حدود الرواية التي نعرفها . بل لقد تجاوزنا حتى مرحلة التداخل بين الحقول المختلفة . هذه المرحلة انتهت” . وفهم المحرر هذه الفكرة فهماً صحيحاً، وأدرك أنها بليوتار – واحد من أهم منظري مابعد الحداثة – قد انتقلت الفكرة إلى أفق مابعد الحداثة . فتساءل عما يعنيه مصطلح مابعد الحداثة في الفن، هل يعني قضايا تختلف عن قضايا الحداثة ؟ . فأجاب عبد الفتاح: ” نعم ندخل في مجال مختلف، من حيث البنية والوتيرة وشكل الصراع ” . وسأل المحرر عما يعرفه من رأي لمحاوره يقضي بأن التجديد الحقيقي لابد أن يتجاوز كل الأشكال التي أنجزت من قبل في مجتمعنا وفي غير مجتمعنا، فأجاب عبد الفتاح:
” لمناقشة الجديد سأعود لتعبير ليوتار (الخطاب الهامشي ) مرةً أخرى . الجديد عندنا ينبغي أن يكون خطاباً هامشياً بالنسبة لحياتنا كلها، بالنسبة لقوميتنا، الجديد سيكون في نقطةٍ خارج دائرة حياتنا. لابد أن نتخلصَ من الإحساس بأننا نريد أن ننجز جديداً في ثقافتنا، وهم ( ثقافتنا ) سيجعلنا في الإطار نفسه وعلى الامتداد نفسه، مثلما تصور هابرماس فأنت بهذا الشكل تجدد بمعنى ما ولكنك لاتخرج عن إطار حياتك وهذا يمثل خللاً بالتأكيد . ” .
وهذا هو أوضح كلامٍ وقعت عليه في تحديد معنى الهامشية بوصفها صفةً للخطاب . وهي هنا، كما كانت في استعمال جابر عصفور عامة على مستوى الثقافة الإنسانية، بفارق أنها في عبارة عصفور لم تشر بوضوح إلى عموم المستوى الإنساني وظلت تخايلنا بالثقافة المحلية.
وعلينا الآن أن نستخرج مما عرضناه النتائج التي يقدمها لنا.
أولى النتائج أننا نستطيع أن نقرأ التهميش في نصوص كثيرةٍ عبر التاريخ الإنساني بوصفه وضعاً إنسانياً يمكن أن يعانيه الناس في كل أمة، ولكننا كلما تقدمنا مع النصوص وتقدم بنا الزمن ووصلنا إلى تسعينيات القرن العشرين ألفينا مفهوم الهامشي قد أصبح شعاراً أدبياً وثقافياً مرفوعاً أو مايشبه الشعار. وإذا نظرنا إلى الحالة الأولى : قراءة التهميش في النصوص عب التاريخ، فقد نرى أن أحق الآداب بأن نسميه أدب المهمشين هو الأدب الشعبي بالمعنى الذي يردنا إلى الفولكلور؛ فهذا أدبٌ ألفه مهمشون حتى أننا لانعلم اسم مؤلفٍ منهم في كثيرٍ من الأحيان، وقدموا فيه ثقافة يتبناها الجماعة الشعبية المهمشة، عبرت لهم عن تهميشهم وقاومته . وقد يكون هذا القول مدخلاً صالحاً لقراءة جديدة مطولة للأدب الشعبي من منظور التهميش . وإذا نظرنا إلى الحالة الأخرى : الوعي الصريح العلني بالتهميش، وجدنا أنفسنا أمام مايكاد يكون مذهباً أدبياً جديداً على نحوٍ أو آخر .
والنتيجة الثانية أن كلمة التهميش تُسْتَخْدَمُ باشتقاقاتٍ مختلفةٍ بين المعاصرين على نحو واسع المدى، ولكنها لاتكاد تحظى بتعريفٍ واحدٍ دقيق – في حدود مانعلم – يَضبطها ويُعَرِّفها ويُحَدّد المقصود منها . وهو نقصٌ كبير يشوش المعنى كثيراً .
والنتيجة الثالثة أن الكلمةَ في غيبة الضبط التعريفي أصبحت نهباً لحشدٍ كبير من المعاني بحسب مراد المتكلم وغاياته . ونستطيع أن نقررَ طائفةً من المعاني تتعاور الكلمة – استخلاصاً من المقتبسات السابقة ومن خبراتنا لسنواتٍ طويلةٍ بين أدباء مصر من أجيالٍ متنوعةٍ – نقسمها إلى مجموعتين أو نوعين من المعاني:
المعنى الاجتماعي الذي تشير فيه الكلمة إلى شرائح اجتماعية مهمشة، وهو المعنى الذي دارت حوله البحوث الاجتماعية، والذي ترددت أصداؤه بين الكتَّاب في حقل الأدب . وهذا النوع من المعنى قد يتخذ شكل الحديث عن جماعة محددة من فئات المجتمع، أو عن بيئة من البيئات المهمشة التي تضم داخلها عينات مختلفة من البشر كالأحياء العشوائية .
المعنى الأدبي الذي قد يشير إلى معان فرعية كثيرة، فالمهمش قد يكون الأديب أو الأدباء أنفسهم، وقد يكون المهمش موضوعاتٍ أدبيةً لايجرؤ أحد على تناوله، وأشهر مايكون ذلك الموضوعات التي تُسَمَّى بالتابو أو المحرمات الثلاث : الدين، والسياسة، والجنس . ويُعَدّ الجسد – جنساً وغير جنس – أهم هذه الموضوعات، وإن تكن موضوعاتُ النسوية تحمل هذا التصور على تقدير أنها تكشف ذكورية النصوص، وتقتحم الحقيقة الأنثوية المطموسة . ومن هذه الموضوعات المهمشة – وإن لم تكن تابوهات – تناول الوعي الداخلي للإنسان، وعياً فردياً أو جمعياً، وهذا مايمثله بوضوح النصوص التي تأخذ بتقنية تيار الوعي . وقد يكون المهمش هو الشكل الأدبي، بمعنى الأدب الحداثي أو مابعد الحداثي الجديد، أو بمعنى الأدب المتمرد على محددات النوع الأدبي، أو بمعنى الخصائص الجمالية المستحدثة غير المألوفة . وعندما ننظر إلى المهمش بوصفه الشكل، أو النوع، ونضعه في سياق صراعات التطور، نكون قد خرجنا بالموضوع إلى أفق الثقافة الواسع . وبطبيعة الحال يمكن أن نعيدَ التعبير عن أي مفهومٍ من المفهومات الثلاثة الأخيرة بعبارات المفهومين الآخرين؛ فمن السهل مثلاً أن نقولَ إن الشكل الحداثي – أو مابعد الحداثي – يحقق للأدب خروجاً عن محددات النوع، وهو يجاوز التقاليد الجمالية السائدة . هذا لايعني أن هذه المفهومات غير متمايزة، وإن تكن مترابطةً متداخلةً؛ فالشكل الحداثي مثلاً قد يوافق محددات النوع، وقد يصير هو نفسُهُ، بمرور الوقت، مؤسسةً جماليةً تقليدية راسخةً تنتظر الثائرين عليها .
ومن السهل أن نبلور الآن هذه النتائج في الرسم التوضيحي التالي:
جماعة
اجتماعي
بيئة أديب
معنى المهمش ذاتي أدباء
أدبي الأدباء تابو
موضوعي فردي
سيكولوجي
جمالي حداثي ومابعد حداثي جمعي
خارج النوع
مجاوز للنوع
وهذا الرسمُ التوضيحي لايتضمن النتيجة الأولى التي تقضي بأننا نستطيع أن نقرأ الأدب كله في ضوء فكرة التهميش، وإذا أضفنا هذا البعد وجدنا للتهميش وضعين : الأول التهميشُ فيه استراتيجية قراءة، والآخر التهميش فيه استراتيجية كتابة . وجميع المعاني السابقة المصورة في الرسم التشجيري السابق تمثل استراتيجيات للكتابة . وبإضافة البعد الجديد يمكن أن نحصل على رسم نحذف منه ماورد في الرسم الأول اختصاراً :
التهميش
استراتيجية كتابة
استراتيجية قراءة
تهميش القوى الاجتماعية
تهميش الأديب
تهميش الكتابة
وبطبيعة الحال تلتقي استراتيجية القراءة واستراتيجية الكتابة في استراتيجية الكتابة؛ أعني أن التهميش حين يسعى الكاتب إلى أن يجعله هدفاً لكتابته يحرص عليه، فإن الناقد أو القارئ يحسن به أن يجعل استراتيجة قراءته للنص أن يتحرى فيه علامات التهميش المختلفة، وهو حينئذٍ مضطرٌّ لأن ينظر في القوى الاجتماعية المتنوعة التي يصورها النص، ويتأمل مدى هامشيتها، أو تهميشها، فإن لَحِظَ أن الخطابَ الأدبي ذاتيٌّ اتجه نظرُهُ إلى وضع الأديب نفسِهِ، بوصفه المتكلم الذي يبوح بهامشيته نصاً، أو يقاومها نصاً، وإن طغت على النص آليات الكتابة التي تجاوز التقاليد السائدة فإن نظرَهُ سيتجه صوب تهيش الكتابة نفسها . وسيكون عليه طوال الوقت أن ينتبه إلى الاستخدامين المختلفين للتهميش : الاستخدام الإيجابي الذي يرى أن المهمش هو المجدد، الفائق، صانع المستقبل، المتخطي للحاضر، المستشرف، الرؤيوي، إلخ، والاستخدام السلبي الذي يرى أن الهمش هو الضعيف، العاجز، المزاح بعيداً عن أفق النظر، المحرم، المكبوت، وقد يكون المنحرف، المجرَّم، المقارب للخطيئة، أو الكافر .
وعلينا الآن أن نلقيَ نظرةً أخرى على هذه الخريطة لمعاني التهميش والهامشي، نظرةً مقيدة بأن نشير مع جزئياتها إلى نماذج من النصوص توضحها . وسيكون علينا أن نمنح مايسمى كتابة التسعينيات – بغض النظر عن اعتراض إبراهيم عبد المجيد على المصطلح الذي نحترمه – قدراً ملحوظاً من الاهتمام لأن هذه الكتابة هي الكتابة التي رفعت كلمة الهامشي شعاراً، ورددته بوضوح، ولم تكتف بعبارات البروليتاريا الرثة، أو الاغتراب، أو الاستلاب، أو القهر، والكبت، والقمع، وهي الكلمات التي استخدمتها الثقافة طويلاً للدلالة على وضعٍ نسميه الآن بالتهميش مع احترام الفروق الدلالية وظلال المعاني المختلفة بين الكلمات، وتجنب التسوية بينها جميعاً . ذلك أن وضع التهميش وضع إنساني عام لايغيب غياباً كاملاً عن الوعي إذا غابت كلمة التهميش؛ فلامفر من الشعور به ومعاناته . ويكفي دلالةً على الفروق أن نشير إلى ارتباط أغلب الكلمات السابقة بأبعادٍ أيديولوجية تسعى كلمة الهامشي الآن إلى تجاهلها، وإلى أن تبدو محايدةً نقيةً بلا أيديولوجية، وإن يكن هذا الوضع نفسه أيديولوجياً. وهذه المكانة الواجبة لكتابة التسعينيات، أو أدب التسعينيات، تقتضي الجمع بين الشعر والقصة لأنهما جناحا هذه الكتابة وقسيماها .
أول معنىً للهامشي هو المعنى الاجتماعي. وهذا المعنى له صورتان . الصورةُ الأولى تخص تصوير جماعة محددة تتعرض للتهميش . هذا ما يمكن أن نتمثلَ له برواية ” حكايات حارتنا ” لنجيب محفوظ؛ فهي تمثل قراءةً جماليةً لشريحةٍ اجتماعيةٍ محددةٍ هي الفتوات . ويمكن أن نرى في رواية ” السقا مات ” ليوسف السباعي التفاتاً جمالياً لشريحةٍ همشها التطور الاجتماعي هي شريحة السقائيين التي تأملت الرواية فقرها، وعجزها، ومواجهتها للموت . وفي بعض نصوص محمد البساطي ومحسن يونس تركيزاً خاصاً على جماعة الصيادين التي تعيش على سواحل مصر الشمالية. وعلى الرغم من أن المعنى السلبي للهامشية – النفي داخل الوطن – هو مايوجه هذه النصوص جميعاً، فإن النصوص تقرأ جمالياً معان إيجابيةً أخرى في الوضع السلبي؛ فالفتوات مثلاً كانوا الموضوع الجمالي الرمزي الذي ينفتح داخل رواية نجيب محفوظ على أشواق الناس المهمشين وهم يتطلعون إلى أحلام العدل والخير والحرية، فضلاً عن أنهم يكشفون لنا حقيقة أن المهمش يمكن أن يكون مركزاً يدور الآخرون حوله، في هامشه، داخل بيئته، أو على أقل تقدير أسرته .
وقد تكون الجماعة المهمشة هي عينها الجماعة المنتجة للأدب . فلنا أن نقرأ شعرَ الصعاليك في العصر الجاهلي بوصفه شعراً لجماعةٍ مارست التهميش من منظورٍ إيجابيٍّ قصدي . ولقد قرأ الطاهر لبيب الغزلَ العذري قراءةً تراه إنتاج جماعةٍ محددةٍ مهمشةٍ تعبر عن رؤيتها للعالم من وضع التهميش الذي وجدت نفسها فيه . ومن الميسور أن نقرأ الشعر الصوفي من منظور كونهِ إنتاجَ جماعةٍ مارست التهميش على تقدير أن الهامشيةَ تعني الخروجَ عن السياقات السائدة جميعاً، وتحرير الوعي منها، تطهيراً للنفسِ، وارتقاءً بها في مدارج الروح، وهذا كله يجري في مجرى التصور الإيجابي للهامشية . وأحق أدبٍ بأن نراه أدباً أنتجته جماعةٌ مهمشةٌ هو الأدب الشعبي الذي يراه العلماء نتاج جماعةٍ شعبيةٍ مهمشةٍ بالضرورة، تشكل جمالياً رؤيتها للعالم، وتصنع أبطالها التخيليين من بعض أفرادها مهما يكن الوصف السائد لهم يُجَرِّمُهم .
وليس في مفهومات ما يسمى بالكتابة التسعينية إشارةٌ إلى الرغبةِ في التعبير عن جماعةٍ محددةٍ، وليس في نصوصها كذلك الإشارةُ إلى جماعةٍ مهمشةٍ محددةٍ، ولكن نصوصها تقبل أن نقرأ فيها تهميشاً واضحاً للشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى وما تحتها من شرائح أقل . وأذكر أن شكري عياد – يرحمه الله – قد قال يوماً إن هذه الكتابات مرتبطةً بانتشار ظاهرة البطالة، وأعتقد أنه وقتها كان يريد أن يومئ إلى الجواني الاجتماعية المختلفة لظاهرة التهميش . وعلى الرغم من أني أنفي وجود العلامات القاطعة المباشرة الدالة على الرغبة في التعبير عن جماعةٍ محددةٍ مهمشةٍ فإن هناك تقنيةٌ قديمة لم يفلت منها الشعر التسعيني تؤدي هذا المعنى . ذلك أن القصيدة قد تختار شخصاً هامشياً لتتحدث عنه، فيصلح لأن يكونَ نموذجاً لجماعةٍ مهمشةٍ . ولعل القارئ لشعر صلاح عبد الصبور يذكر له قصيدته ” موت فلاح ” التي صنعت من فلاح هامشي الحضور فضاءً رهيباً للفناء من أجل الحياة، أو يذكر قصيدته ” سلة ليمون ” التي مارست هذا الاختيار الجمالي، فجعلت من بائعة ليمون تحمل سلتها في ميدانٍ مزدحمٍ وسط المدينة، تصيح ” عشرون بقرش، بالقرش الواحد عشرون ” وصوتها حاضرٌ في النص، نموذجاً واضحاً لكتابةٍ تغمر الذات القابعة في الظل المبهم بالضوء الساطع للغة الشعر . ضم إلى هذين النموذجين نموذجاً ثالثاً هو القصيدة المشهورة لعبد المنعم عواد يوسف ” كما يموت الناس مات ” التي جعل عنوانها عنواناً لديوانٍ من مختارات شعره عبر تاريخه مع الشعر. تبرهن هذه النماذج على قدم هذه التقنية وشيوعها، وقد تسللت إلى بعض نصوص فصيدة النثر المعاصرة، أحدث صورها قصيدة فاطمة ناعوت ” لون من الطب ” من ديوانها “فوق كف امرأة ” التي تصور ماسح أحذيةٍ يعاني تحت أقدام الناس كل يومٍ، لكنه في أعين أبنائه بطل، وهم لهذا يزعمون أنه طبيبٌ يعرف أدويةً ممتازةً للجلد ( = الأحذية الجلدية ) . وبمقدار ما ترفع القصيدة هذا الشخص الهامشي، فإنها ترفع الهامشيةَ عن جماعته من ماسحي الأحذية، ومن كل الذين يعانون كل يومٍ ولايقدر أحدهم معاناتهم في عوالمهم الخاصة .
والصورةُ الأخرى للهامشية الاجتماعية هي البيئة . الفارق بينها وبين الصورة الأولى أن الجماعة الواحدة قد تنتشر في بيئاتٍ مختلفةٍ، والبيئة الواحدة قد تضم فئاتٍ من جماعاتٍ مهمشةٍ متنوعةٍ . فعناية محمد البساطي بالقرية المصرية الساحلية تسمح لنصه بأن يرى فيها فئاتٍ من الصيادين، والمزارعين، والتجار، والمتعلمين الموظفين . وتكاد تكون القرية عند يوسف أبو رية في ” الضحى العالي ” مثلاً، أو قرية هالة البدري في ” منتهى ” فضاءً ريفياً يتسع لشرائح كثيرةٍ من سكان مصر، أو هو مصر مختصرة بمعنىً من المعاني .
ويمكن القول إن تصوير البيئات المهمشة من الموضوعات المهمة في الكتابة الروائية التسعينية على الرغم من أن روايات الحارة التي كتبها إسماعيل ولي الدين، ومحمد جلال، والتي قد نعود بها إلى ثلاثية نجيب محفوظ قد استهلكت كثيراً من أبعاد هذا التصور . ولكن الرواية التسعينية لايمكن أن تتجاهلها مادام البحث عن الهامشي من ضروراتها . وأمثل لها برواية “لصوص متقاعدون ” لحمدي أبو جليل التي تدور أحداثها في ضاحية منشأة ناصر، مركزةً منها على سكان المنزل رقم 26 من شارع 14 تحديداً، وصنعت الروايةُ نفسها من سلسلةٍ من الحكايات الصغيرة المتجاورة تخص البيت والشارع وسكان البيت، وكان منها حكاية الحي نفسه التي اتخذ اسمه منها لأن الرئيس جمال عبد الناصر كان قد أمر ببناء الحي السكني حتى يسكن فيه عمال المصانع التي يزورها، وهذا كله يجعل الحي نفسه – أو هذه البيئة – الموضوع الحقيقي للرواية .
ولنا أن نستنتج من إشاراتنا إلى نصوص غير تسعينية قبل النصوص التسعينية أن المعن الاجتماعي للتهميش، خصوصاً تصوير البيئات المهمشة، ليس إنجازاً كبيراً فارقاً بين هذه النصوص وما قبلها؛ فالقارئ مثلاً لرواية إبراهيم عبد المجيد ” لا أحد ينام في الإسكندرية ” يدرك أنها تركز على أطراف الإسكندرية لا قلبها، وعلى هوامشها قبل مركزها، والنماذج على هذه الظاهرة أكثر من أحصيها . ولهذا لايُعَلَّقُ الرهان الجمالي للكتابة التسعينية على الهامشية بمعنى تصوير البيئات المهمشة، بل يُعَلَّقُ على أسلوب السرد أساساً الذي يتبنى طريق الحكي اليومية المألوفة في الحديث اليومي وإن اصطنع في خطابه الفصحى، فهو سرد حكائيٌّ متدفقٌ موجز وثاب كما أن الحكي اليومي كذلك . ولكن هذا الأسلوب السردي يتطلب تركيزاً على عوالم أدنى إلى الحياة اليومية البسيطة، وهي بطبيعتها العوالم الموصوفة بالهامشية . ولعل سعيد نوح قد حدس بهذه الحقيقة على نحوٍ ما فجعل روايته ” كلما رأيتُ بنتاً حلوةً أقول ياسعاد ” لاتكتفي ببيئةِ مهمشةٍ في ضاحية حلوان، فاتجهت إلى أن تتحرر من الشكل الروائي التقليدي، فتقطع السرد بنصوصٍ من الشعر، وتنوع منظورات السرد، وتقلل من نسقية الأحداث وترابطها، مكتفيةً بأن تكون سعاد والبيئة التي عاشت فيها سعاد، مدار النص، ومناط وحدته، ومكمن ترابطه، حينئذٍ يكون الوقوع خارج النوع نوعاً ثانياً من الهامشية أقوى أثراً من تصوير البيئة المهمشة، بل هو يهيمن على تصوير البيئة المهمشة ويستدعيه .
الأهم من المعنيين الاجتماعيين للمهمش المعاني الأدبية له؛ فهي أشد صلةً بالأبعاد الجمالية للكتابة، وليست فحسب محدداتٍ للموضوع الجمالي شأن المعنى الاجتماعي .
ويتخذ المعنى الأدبي للهامشية ثلاث صورٍ : صورة ذاتية، وصورة موضوعية، وصورة جمالية . تتعلق الصورة الذاتية بذات الكاتب المهمشة . وتتعلق الصورةُ الموضوعية بالموضوعات المُقْصَاةِ عن الكتابة . وتتعلق الصورة الجمالية بعلاقات الشكل، والنوع، والتقاليد، في إطار الثقافة بوجهٍ عام.
يشير المعنى الذاتي إلى ذات مهمشةٍ لها ثلاثة احتمالات : قد تكون ذات الأديب، أو ذات جماعةٍ من الأدباء، أو ذات الأدباء جميعاً والأدب نفسه معهم ضمناً . ولما كان المعنى الثاني يردنا إلى فكرة الجماعة مرةً ثانيةً، فإننا نكتفي بالنظر في المعنيين الأول والثالث .
وبطبيعة الحال ليس شعور الأديب بأنه ذاتٌ مهمشةٌ شعوراً مبتكراً لم يعرفه الأدب من قبلُ. وهو في ذاتِهِ قد يتخذ صورتين : الصورة الأولى أن يكون مدارُ النص حول أديبٍ مهمشٍ . ويمكن أن أمثل لهذه الصورة برواية ” تصريح بالغياب ” لمنتصر القفاش، ومدارها حول شاب أديب، أو ذي ميولٍ أدبيةٍ، كان مجنداً في وحدةٍ عسكريةٍ ملحقةٍ بمدرسةٍ للتمريض، أنهى تجنيده، وعاد إلى الحياة المدنية، ولكنه تذكر أنه نسِيَ روايةً هناك، فعاد إلى الوحدة متلصصاً حتى يستعيد روايته، وعاد بذاكرته إلى الأيام التي قضاها هناك، فاختلط التذكر بمشهد العودة، واختلط الخيالُ بالحقيقة . وطوال الوقت لم نشهد وقائع خطيرةً، بل هي خبراتٌ بسيطةٌ لاخطر فيها . وتكاد تكون كلمةُ الغياب علامة هذه الهامشية الظاهرة، التي تظهر خلال وجوده في خدمته العسكرية في شكل حياةٍ عسكرية عاديةٍ لاتكاد تعني شيئاً . ولاتحاول الرواية أن تضفيَ أية خطورة على الخبرات الإنسانية البسيطة العادية التي مر بها، بل تقبل بهامشية الذات، وتحاول أن تتبينها، وتستخرج منها خبرتها، أو روايتها، التي لاندري هل هي الرواية التي نسيها في الوحدة العسكرية، أو هي الرواية التي يتخيلها ويحكيها .
والصورة الأخرى أن يكون الخطابُ في النص منطلقاً من الذات، سيرياً . هذا ما جعل السيرة الذاتية فناً جذاباً للكتابة التسعينية، وجعل كثيراً من الروايات ممسوسةً بهذا المس السيري : من بهيجة حسين، إلى منى البرنس، إلى ميرال الطحاوي، إلى صفاء عبد المنعم، إلى نجلاء علام، ومن سعيد نوح، إلى سامي إسماعيل، إلى ياسر شعبان، إلى محمود حامد، إلى محمد هاشم، وآخرين من دونهم . ولايمكن لقارئ رواية ميرال الطحاوي ” الباذنجانة الزرقاء ” أن يغفل عن هذا السرد السيري فيها، وما يسري فيه من تأمل استبطاني واضح . وقد يعجب القارئ لأنه يجد نصاً أقرب مايكون إلى السيرة الذاتية، ولكنه لايتضمن خبرة واحدة خطيرةً، أو خبرة تتعلق بمصائر هائلة وإنجازات كبيرة مما يكتب الكتّـابُ سيرَهم لإظهارها . ولكن استخدام الأسلوب السيري معلولٌ بأكثر من علةٍ : العلة الأولى أن الخطاب السيري تقنيةٌ في ذاتِهِ – قبل أن تكون السيرة نوعاً – تحرر السرد من تقاليد القص المتبعة وتقربه من الحكي اليومي وتداعيات الذات . والعلة الثانية أن الخطاب السيري إذ يتابع تداعيات الذات يسمح بتأملات مجردةٍ، تنتقل بالخطاب إلى ما يشبه التأمل الفلسفي، مبتعداً به عن روائية السرد، إمعاناً في التحرر من تقاليد القص إلى حد الخروج عن النوع الأدبي وتجاوز أسواره . والعلة الثالثة أن الذات تريد أن تستعرض عالمها على خلوه من الأحداث الكبرى، لأنها تريد أن تقرأ هامشيتها، لا أن تدعي بنقيضها .
تذكرني جملة ” تدعي بنقيضها ” برواية سيد الوكيل ” فوق الحياة قليلاً “، وهي النموذج الصالح لأن يصور هامشية الأدباء جميعاً لا هامشية الذات الأديبة وحدها . فيها يصور النص جماعة أدباء يجلسون في مقهىً، يتناولون بالنقاش قضاياهم التي تبدو لهم أسمى من اهتمامات الناس، حتى تبدو المقاعد التي يجلسون عليها كأنها لاتلمس الأرض، تسبح معهم فوق الحياة نفسها قليلاً . وبفضل تقنيات السخرية يُسْقِطُ النصُّ فكرةَ تميز الأدباء ونبوة الأديب . ويمضي النص مع شاب أقبل من جنوب مصر إلى القاهرة ليصنع فيها مجداً أدبياً، فصوره النص تصويراً ساخراً، أو بائساً، يكشف هامشيته . واختار النص المقهى مكاناً للحديث لأن الأدباء فيه يجلسون وسط الناس، ولكنهم يحسون أنهم فوق الناس لاوسطهم . ويسمح الحديث عن مقاهي الأدباء وتاريخها الطويل بأن يخرج النص في فصلٍ من فصولِهِ إلى شكل المقال، متحرراً من الشكل الروائي بأكمله، فإذا بالنص، وهو يؤكد بالسخرية هامشيةَ الأدباء، وهامشية الأدب نفسهِ، يصبح هو نفسه على هامش النوع الروائي، فتمتزج فيه ألوانٌ من الهامشية .
وهامشية الذات مدار قصيدة السبعينيات النثرية التي انتهكت فكرة الشاعر النبي، وطبيعة لغة الشعر عينها، وردته إلى العادي واليومي والمعاش . يقول مجدي الجابري :
” الواحد
خايف ومرتبك
الواحد…
تعبان وهمدان وماعندوش روح للمناقرة
الواحد …
مامعاهوش فلوس كفاية يروح اسكندرية … يشرب
شاي ع الكريستال … ويقعد شويتين ع البحر…
ويرجع بتجربة جنسية مجهضة ” .
ويقول أشرف يوسف :
” على طول الخط
لاتكن متسامحاً
تثاءب ياقارئي المحتمل
أثناء قراءة قصائدي المختلطة بالمرارة ..
المرارة التي تراجعت عن وزنها
مقابل وردة ألقِيَت من سُترةِ القاتل
فهل يجدي التشبث بالرسالة الأخلاقية ؟ ” .
ويقول محمد الحمامصي :
” اعتاد أن يفتح قلبه
لكوبٍ من الشاي
وسيجارةٍ
الواقف الآن
في شرفته
يتجاهل فرصته في السقوط ” .
ويقول جرجس شكري :
” أذكر …
ذهبت إلى السوق
واشتريت زمناً بساقين خشبيتين
ولم أعد كما كنتُ ” .
ويقول عاطف عبد العزيز :
” أنا وريث الحكاية، العاشق الذي لم يذق شهد الخسارات بعد، أنا المرء الطبيعي صاحب التكشيرة والمهابة، صاحب القهقهات بالقدر الذي يجعل الأعداء في حدود الطاقة، ألتقط جريدتي الصباحية مبرومة على بلاط الشرفة دون أن تلحقني إهانة . أنا سائس التفاصيل التي تنسى، المرء الطبيعي، الذي يجد في الغبار الخفيف على شاشة التلفاز وسيلةً لإخضاع ربة البيت في فراشها حيث السكوت دائماً…في مقابل السلام” .
في هذه النصوص لسنا نَلْقَى شاعراً فاعلاً، يقود الجماهير، ويعبر عن رؤاها، أو يستشرف لها حقائق وجودها التي تغيب عن الإدراك . فالشاعرُ، عند مجدي الجابري، ليس أبصر الناس، ولكنه إنسانٌ عادي، يقال له ” الواحد “، وهو ” خايف ” ومرتبك “و” تعبان وهمدان وماعندوش روح … “و” مامعاهوش فلوس كفاية … ” . هو بإيجازٍ الإنسان الهامشي، الإنسان العادي الذي لايستطيع شيئاً خطيراً، وليست له أهميةٌ ملحوظةٌ عند الناس . والشاعرُ، عند أشرف يوسف، يخاطب قارئه المحتمل، الذي لايثق في وجوده، لايثق في أن أحداً سيقرأ ما كتب، وخطابه لقارئه ينقض صورةَ الشعر المألوفة . لايريد من القارئ أن يتسامح معه، أو يتعاطف مع شعرهِ، أو يتجنب القسوة عليه . يدعوه إلى الملل والتثاؤب . ويجرد الشعرَ من الوزن لأنه مجردٌ من المتعة، صادرٌ عن مرارةٍ . وهو، إذ يستغني عن التقاليد الجمالية المألوفة، لايراهن إلا على الحلم، على هذه الوردة التي وقعت من قاتله، والتي يرى أن ظهورها لايتطلب حضور الوزن العروضي، بل يقتضي الاستغناء عن الوزن وعن الرسالة الأخلاقية التقليدية التي لاتجدي فتيلاً، ولاتغير من العالم شيئاً . هذه الوردة / الحلم لاتزال تضعه في مقام الضحية، بل مقام القتيل، وهو مقام مَنْ لايستطيع أن يفعل شيئاً ذا بالٍ للعالم ولنفسِهِ . وهاهوذا عنوان الديوان يختار للشاعر (= المتكلم التخييلي في الديوان ) أن يعملَ منادياً للأرواح، مذكراً بعمل منادي السيارات، الذي هو علامةٌ واضحةٌ مشهودةٌ على الإنسان الهامشي : هامشي جداً . والشاعرُ، عند محمد الحمامصي، إنسانٌ لا أصدقاءَ له إلا كوب الشاي والسيجارة، لايتواصل مع الآخرين، يطل على العالم من شرفتِهِ فحسب، ويبدو أفضل مصيرٍ لحياتِهِ أن تنتهيَ، لا لأنها ممتلئةٌ حزناً، وإنما لأنها ليست ذات قيمةٍ، ولكنه لايزال يتشبث بها، لاينهيها . والشاعرُ، عند جرجس شكري، ضحيةٌ أيضاً . حرمته الحياة اليومية – ممثلةً في السوق – من ذاتِهِ الأولى، ولم يَعُدْ كما كان قطُّ. والاستخدام اللغوي الذي يعلق ” أبداً ” على نفي الماضي ” لم أعد ” يكاد يكون الهفوةَ التي تجعل المستقبل الأبدي كله عجزاً كعجز الماضي عن استرداد الذات، وتكاد تقيم يقيناً بأن الذاتَ لامستقبلَ لها، لامستقبلَ لها مما كان ينبغي أن يكون مستقبلاً لها، مما كانت تحلم به . والزمن هنا جوهر التهميش؛ فقد اشترى من السوق زمناً، فإذا بزمن السوق زمناً بلامستقبل، بلاحلم، ولافعل، فساقاه خشبيتان تعجزان عن التقدم والحركة النشطة، كما أن الأيدي، التي هي في عطلةٍ رسميةٍ في عنوان الديوان، علامة العجز عن الفعل نفسِهِ، العجز الذي يفضي إلى عمرٍ غارقٍ في الهامشية . والأمر لايختلف في نص عاطف عبد العزيز عنه في النصوص السابقة . لقد أعلن منظرو مابعد الحداثة سقوط الحكايات الكبرى . الشاعر وريث الحكاية، هذا الذي يعيش كالورثة زمن انتهاء الحكاية. لهذا لم يتعرض لترف الخسارات التي يتعرض لها أصحاب الأحلام العظيمة حين يخفقون في تحقيقها . والخسارة شهدٌ، ومتعةٌ، وترف، لأنها قرينة وجود ما تخسره الذات من أحلام فتشكو الأقدار، أو تشكو القوى الكبرى التي أجهضت أحلامها، فتشعر وقتها بأنها في قلب العالم، تصارعه ويصارعها، تعيش وجوداً حقيقياً، تحمل أحلاماً تتجاوز ذاتها، تضعها في قلب النور، تخرجها من ظل الهامش وظلامه . لايبقى لها إلا أن تكون الذات ذاتاً طبيعيةً . والمرء الطبيعي هو العادي الذي يتلقى كل صباح معرفته بالعالم من صحيفته، من أجهزة الإعلام التي تُعِدُّ له معرفته، وتملؤه بها . المرء الطبيعي لديه نفسُ – هل نقول برجوازية ؟ – يقلقها هاجسٌ مستمر، خشيةَ المهانة، وطلباً للمهابة . لايطلب المهابة إلا المهمشون؛ فأصحاب الأعمال الجليلة التي تسد للناس حاجاتٍ عظيمةً لايطلبون المهابة، ولايخشَوْنَ المهانة، لأنهم ينالون الاحترامَ من الناس بغير طلب، وربما يدعون التواضع، يدعون الهامشية . ولايبقى لهذا العاشق – عاشق الحياة – إلا أن يكون سائساً يروض التفصيلاتِ اليوميةَ الصغيرةَ التي مصيرها المحتوم أن تسقطَ في بئر النسيان . ومن هذه التفصيلات اليومية الصغيرة هذا الصراع اليومي الصغير مع الزوجة الذي يئول إلى أن يحقق لهما سلاماً نفسياً صغيراً عابراً . وما أن تصبح أركان الحياةِ هي التفصيلات اليومية الصغيرة تغرق الذات في الوعي بهامشيتها التي تحيط بوجودها من كل جهةٍ .
قراءة قصيدة النثر عند محمد اليماني، وأحمد طه، وإيمان مرسال، ويسري حسان، وكريم عبد السلام، وأضرابهم من الشعراء، تعني التأمل في هامشية الذات إلى حدٍّ بعيدٍ . وهذه الهامشية استراتيجية كتابة، إذ يعيها الكتاب، واستراتيجية قراءة إذ يجد النقاد والقراء أنفسَهم في مواجهتها نصاً قائماً . وإلى جوار هذَيْنِ الوجهَيْنِ للهامشية تجمع الهامشية وجهَيْن آخريْن؛ تجمع هامشية الذات الكاتبة – الكاتب الفرد، والكتاب جماعةً، ومن وراء الكتاب هامشية المواطن العادي أو الطبيعي كما يقول عاطف عبد العزيز – إلى هامشية الشكل الشعري نفسِهِ، الشكل الذي تجرد من الوزن والرسالة- كما ذكر أشرف يوسف -، وتجرد من مقومات الشعرية المتداولة في تاريخ الشعر العربي، وعطفت الشعرَ على النثر، فأصبحت خطاباً هامشياً، على هامش الشعر والنثر جميعاً .
وينبغي أن ندركً أن هذه الهامشية ليست رؤيةً عدميةً للعالم، أو رؤيةً سوداوية، أو متشائمة؛ فعلى الرغمِ مما يصحب الهامشية من مرارةٍ أشار إليها أشرف يوسف، فهي لم تمنع الحلم بمتعةٍ صغيرةٍ في مصيف عند مجدي الجابري، ولم تمنع الذات من أن تجني متعاً بسيطةً منكوب شاي وسيجارة وإطلالة على الطريق، عند الحمامصي، ولم تَمْحُ العشقَ من نفسِ الشاعرِ عند عاطف عبد العزيز، ولم تمنعه من بلوغ السلام بحيلٍ نفسيةٍ بسيطةٍ . بل لم تمنع الهامشية الشاعر، عند أشرف يوسف نفسِهِ الذي أحس المرارةَ، من أن يلتقطَ الوردة من قاتلهِ . ويكشف لنا التقاط الوردة من القاتل كيف تريد الذات أن تصنع لنفسها مساحةً من الوجود المتصالح مع نفسِهِ في ظل الهامشية المفروضة على الذات فرضاً . لهذا إذا تحدث شاعرٌ ناقدٌ مثل بول شاؤول عن لاجدوى الشعر، ولا جدوى الكتابة ، فإن هذه الفكرةَ مقبولةٌ مادامت إشارةً إلى الهامشية فحسب، وليست مقبولةً إذا كانت خطاباً ناعياً للشعر والكتابة، أو عدودة موت، أو نمطاً من الخطاب العاطفي الرومانسي القديم الذي استولت عليه كآبةُ العصر وأحزانه وسوداويته . فليس الهدف أن تصير الكتابة بكائياتٍ متصلةً، وإنما الهدف أن تدرك الذات هامشيتها، وأن تصنع مساحةً للوجود، والمتعة، والحلم، في قلب هذه الهامشية، وعلى الرغم منها . الأدبُ مساحةٌ للوجود، والحلم، والمتعة، في قلب الهامشية، وعلى الرغم منها .
لندع المعنى الذاتي egoistic للهامشية إلى المعنى الموضوعي thematic لها . وأولُ مانريد أن نقرره هو أن المعنيَيْنِ اللذينِ يتفرع إليهما المعنى الموضوعي معنيان مترابطان يئولان إلى فكرةٍ عامةٍ هي البحث عن الموضوعات المهمشة، المسكوت عنها، وغير المفكر فيها، والممنوع التفكير فيها، والمتعذر التفكير فيها . وأشهر ما يكون ذلك نوعان من الموضوعات : الممنوع التفكير فيه، وهو التابو، وهو يُسْكَتُ عنه، ويزاح خارج دائرة التفكير . والنوع الآخر هو الوعي العميق، الذي يتجاوز الحس والإدراك الماثل، وهو ما يُسَمَّى عادةً باسم اللاوعي، لأنه يتجاوز الإدراك الحسي الظاهرَ، ويتفلت ظاهراً في حالات الحلم . واللاوعي هو الاسم الذي ترسَّخَ على أيدي العالِم النفسي سيجموند فرويد، وانتقل إلى عالم الأدبِ مع أدباء أمثال جيمس جويس، وأطلق عليه النقادُ اسم تيار الوعي conscious stream، وهو اسمٌ يتجاهل أداة النفي لا لأن تيار الوعي تقنيةٌ تجعل غير المُوْعَى موعيً، أو مالايدركه الوعي مدركاً، فهي تستحضر اللاوعي فيصير تياراً من الوعي. ويرتبط بهذا المعنى الموضوعات الصوفيةُ التي تدور حول خبراتٍ عليا يتعذرُ الوعي بها لأنها فوق طاقة اللغة على التعبير، وخارج حدود قدرتها على التسميةِ، لاتملك معها إلا الرمز، والإشارة، والإيحاء، أو الإيماء عن بعدٍ . ولقد اجتذب الموضوع الصوفي أحمد الشهاوي في شعرهِ، فأقام شعرَهُ على طبيعة هذه اللغة . ولكنَّهُ لم يجتذب هذا الفصيل من الشعراءِ الذي نستخدم لأجله مصطلح الكتابة التسعينية إلا في نصوصٍ قليلة دارت حول الصوفية والدراويش دون أن تستغرق في المصطلح الصوفي وعالمه الغائر .
وأكثر مايدل على الاتصال الوثيق بين هذه الموضوعات أن نقرأ بعض ما أسماه إدوار الخراط سيرة ذاتية للكتابة – والخراط كاتب تسعيني بمعنى من المعاني مثل نجيب محفوظ في أحلام النقاهة -، ذلك أن الخراطَ مهتمٌّ بآليات القهر والقمع – التي أقام عليها جابر عصفور بحثه الشائق “بلاغة المقموعين ” – فاسترعى انتباه الخراط أن هذه الآليات لها جانبان : جانب داخلي، وآخر خارجي . ولكنّ جوانيتها عنده شرط قيامها . إنها آليات الكبت، والزمن،والخوف، والتحسب، والتحوط، والهرب . وهي في مجملها آلياتٌ نفسيةٌ جوانيةٌ . ولكنها، في الوقت نفسِهِ، تستند إلى أنواعٍ من السلطة الخارجية تقوم بها، تتراوح من سلطة الموروث، إلى سلطة النص المكرَّس أو المقدَّس، ومن سلطة قهر ” الأنا ” العليا إلى سلطة الظلم الاجتماعي … إلخ . وواضح أن السلطة الخارجية ليست خارجية تماماً؛ فهي ذهنيةٌ، قائمةٌ بالوعي الداخلي إلى حدٍّ كبير، سرعان ما تتحول إلى آلياتٍ فاعلةٍ، لاتكاد تعيها الذاتُ، هي أقرب إلى ان تحتل اللاوعيَ، وتسكن الروح، وتحوز الذاتَ، فتهيمن على الفعل والسلوك . وأهم ماتفعله هذه السلطات والآليات هو إزاحةُ موضوعاتٍ بأكملها إلى دوائر الممنوع، والمسكوت عنه، وغير المفكَر فيه، وهي الدوائر التي يُحَوِّمُ عليها شبحٌ هائلٌ مخيفٌ يطوف بساحتها، يسمَّى باسم التابو، بكل موضوعاته المتنوعة : موضوعات سياسية، وموضوعات دينية، وموضوعات الجنس جميعاً . وحسم إدوار الخراط موقفه من هذا العالم المزَاح في جملةٍ قاطعةٍ : ” أما أنا فليس لي همٌّ روائيٌّ أفدح من مواجهة هذه الطابوهات ” . فأصبحت الكتابة عنده ضرباً من مقاومة السلطات الجوانية، وتحرراً من قوامعها، وإزاحةً لطبقاتها السطحية، وصولاً إلى تيار الصور التحتيّ، الذي ينفتح على لاوعي فرديٍّ خفيٍّ، حافلٍ بالمضمر، والمحرَّم، والممنوع . وهذا مايتطلب منه أن يطارد شكلاً حراً للكتابة أطلق عليه اسم ” الكتابة عبر النوعية ” .
هذا ما أغوى الخراط منذ ” رامة والتنين ” إلى “صخور السماء “، ومابين الروايتين ومابعدهما، أغواه بتيار الوعي الذي أغوي على نحوٍ أو آخر محمد حافظ رجب صاحب ” الكرة ورأس الرجل “، وأغوى محمود عوض عبد العال صاحب ” السكر المر “، وأغوى محمد الراوي في أدبه كله، وأغوى عبد العظيم ناجي في شعرِهِ، وأغوى شعراء إضاءة وأصوات في دواوينهم الأولى التي صدمت الناس صدمةً عنيفةً صاخبةً .
وفي الكتابة التسعينية لم تغب هذه الغواية . من ذلك رواية ” ورد الأحلام ” لعبد الحكيم حيدر. نحن فيها أمام راوٍ يعمل أميناً لمكتبة مدرسة، وهو أديبٌ يكتب قصصاً قصيرةً . ومنذ الجملة الأولى يتدفق حديثُهُ ويتنقل بين مشاهد بصريةٍ سيالةٍ، تمزج الواقع بالحلم، وتبدو المشاهد أحلاماً قديمةً تسكن وعيه، وهو يحاول أن يلاحقها ويمسك بها . وأحلام الراوي كالقصص التي يكتبها خيالاتٌ متواصلةٌ . وهو يكتب روايةً داخل الرواية يسميها ورد الأحلام فيغدو النص أحلاماً تتولد داخل أحلام. وبدلاً من أن يحفر تيار الوعي في ماضي الشخصية، هو هنا يحفر في خيالاته وأحلامه. وتستطيع أن تجد عند مصطفى ذِكْرِي، وصفاء النجار، وغيرهما، مواضع كثيرةٌ تسلك مسلكاً شبيهاً، ولكن “ورد الأحلام” تنفرد بأنها تواصل استخدام التقنية طوال الرواية من بدايتها إلى نهايتها، لافي جزءٍ دون جزء .
وليس في الشعر نماذج تمثل هذه التقنية عند التسعينيين . ولكننا نستطيع أن نشيرَ إلى تقنيةٍ شائعةٍ مهمةٍ، تنبع من سردية القصيدة، يتحرر فيها الشاعرُ من تمركزه حول ذاتِهِ، أو من غنائيته، ويقدم مشهداً خارجياً غيرياً، هذا المشهدُ هو نفسُهُ المجازُ الذي يحمل في داخلِهِ كالأيقونة رؤية الشاعر؛ فالمشهدُ المجازيّ يبدو كصور الحلم التي تنعكس على الرؤى الداخلية العميقة للذات الشاعرة، وإن كنا لانواجه تياراً داخلياً للوعي بالمعنى الدقيق . كريم عبد السلام مثلاً يقول :
” إحدى يديه في جيبه
والأخرى توسوس بعملتي تليفون
كلامه عن السعادة
يعني سيره في الطريق إلى الكنز ” .
هذا مقطعٌ مستقلٌّ أول قصيدة ” الكومبارس في حلمه ” . يبدو الشاعرُ هنا لايتحدث عن نفسِهِ، ليس غنائياً مثل هدى حسين في ” أقنعة الوردة “، أو شحاتة العريان في ” غريزة أساسية “، أو سمير مندي في ” قرابة مائة عام ” . يتأمل الشاعرُ هذا الكومبارس الذي هو صورةٌ خارجيةٌ محملة بمعنى الهامشية . وهذا الهامشيّ يحاول أن يتصلَ بإنسانٍ، أو يتواصل مع آخر تواصلاً مرتبطاً بشعوره بالسعادة لأنه وجد عملاً يبدو له طريقاً إلى الكنز، أو تغييراً جوهرياً لحياتِهِ، أو إنجازاً حقيقياً. ولكنّه في الحقيقة كومبارس، لايملك شيئاً . فالكومبارسُ مجازُ الذهن، أو رمزه، لفهم الهامشية ومعاينتها قائمةً. والمشهد كله أيقونةٌ يجسد فيها الوعي الحلمَ الهامشيَّ. هذه التقنيةُ التي تجد أمثالها في ” وردات في الرأس ” لأحمد يماني،وفي “وتسميهم أصدقاء ” لسامي الغباشي، وفي ” بعد خروج الملاك مباشرةً ” لعزمي عبد الوهاب، ونصوص أخرى كثيرة، تدعوني لأن أقترح تمييز شكل من أشكال قصيدة النثر، أسميه قصيدة الوعي، لأن المشهدَ السردي فيه يريد أن يقبض على رؤية وعي وإدراكه للعالم بأكثرَ مما يريد أن يبرز ذاته . وهذه التقنيةُ، بهذه الصورة، تشبه تيار الوعي في بعض اللحظات، كأن الشاعرَ يستعيد مشاهدَ بصريةً مرت به تخايله وتحيره .
الأهم في قصيدة النثر من الطرق التي تظهر بها رؤى الوعي التحتية هو موقفها من التابو . هي عادةً – ليس دائماً – تتجاهل السياسي ولاتستدعيه إلا لماماً . وقد قلَّ فيها كلماتٌ مثل الله، والنبوة، شاعت من قبل، وأثار استخدامها المجازي كثيراً من القلق . قلَّتْ وإن لم تهجرها كل الهجر. أما الجنس، ثالث التابوهات، فهي مقبلةٌ عليه لأن مفهومَ الجسد واحدٌ من مفاهيمها المهمة، وهو يتخذ في بعض اللحظات دلالة الجنس، حينئذٍ يكون الشاعر بين أمرين : الأول أن يندفع بغير خوف يصف الأعضاء التناسلية مباشرةً، ويصف لها المشاهد التي طالما كره الشعر تصويرها إلا في تراث المجون العربي المسرف . والأمر الآخر أن يحتفظَ الشاعرُ بالدلالة الجنسية معولاً على الإيحاء القريب الواضح بغير تصريح، مثلما فعلت فاطمة قنديل في ” صمت قطنة مبتلة ” . ونستطيع أن نقررَ أن تابو الجنس هو أوضح الموضوعات التي يحيط بها الحَرَجُ والتحريمُ والمنعُ، وأكثرها حظاً من جرأة هذا الشعر، وسعياً إلى تحريره من التهميش في الكتابة التسعينية .
يتبقى المعنى الأخير للهامشي : المعنى الجمالي . ولا أظن أننا في حاجةٍ إلى أن نُفَصِّلَ القولَ في المفهوم الجمالي للهامشية؛ ذلك أن ما مرَّ بنا من تحليلاتٍ سابقةٍ تضمَّنَ الإشارةَ غير مرةٍ إلى نماذجَ حرَصَت على أن تخرجَ بالشكل الجمالي للنص الأدبي عن تقاليد الكتابة المألوفة إلى حدٍّ يجد فيه النقادُ صعوبةً في تجنيسهِ، أو إدراجِهِ في نوعٍ من أنواع الأدب، وهو الأمر الذي جعل منتصر القفاش فيما نقلناه عنه قبلاً يشكو من أن النقاد يهددون بتحليلاتهم الاعترافَ بروائية النصوص الروائية الجديدة، إذ يلحّون على مظاهر تمردها على خصائص النوع الأدبي الروائي . وتبرهن شكوى القفاش على أن الرغبة في تجاوز حدود النوع الروائي وأسواره بين الروائيين الجدد ليست رغبةً عامةً يشتركون فيها جميعاً . ونستطيع أن نقولَ إن روايتي القفاش : ” تصريح بالغياب ” و” أن ترى الآن “، كرواية ” الخباء ” لميرال الطحاوي،و” أحلام محرمة ” لمحمود حامد، و” السما والعمى ” لمحمد داود، وروايات أخرى كثيرة، لايشعر الناقدُ معها بصعوبةٍ في تجنيسها وإثبات روائيتها . وهي لاتزال معنيةً بتصوير بيئاتٍ مهمشة، تلتمسها “الخباء ” في حريم أسرة بدوية الأصول، وتلتمسها ” أحلام محرمة ” في عائلةٍ تعيش على هامش محطة أوتوبيس، وتلتمسها “السما والعمى ” في قريةٍ صغيرةٍ وشيخٍ ضرير . ولكن في مقابل هذه النصوص نستطيع أن نضع نصوصاً أخرى تراوغ الرواية مراوغةً واضحةً، منها ” الباذنجانة الزرقاء ” لميرال الطحاوي، و”فوق الحياة قليلاً ” لسيد الوكيل، و” كلما رأيت بنتاً حلوة أقول ياسعاد ” لسعيد نوح، و”الخوف يأكل الروح ” لمصطفى ذِكْرِي، و” أبناء الخطأ الرومانسي ” لياسر شعبان .
الأمر أوضح في الشعر؛ ذلك أن قصيدة النثر قد اختارت أن تؤسسَ شعريتها على النثر فأثارت ما أثارت من التباسٍ جعل خصومَ هذا الشكل يطعنون على شعرية هذه القصيدة أول مايطعنون؛ إذ وجدوا في نصوصها خروجاً ظاهراً على كل الحدود الموضوعة للشعر في تاريخ الشعر العربي الطويل .
وينبغي أن ندركَ أن الروائيين حين يراوغون خصائصَ النوع الروائي يظلون راغبين في أن تُنْسَبَ أعمالُهم إلى الرواية، وأن تظل قلقة التجنيس . وقديماً كانت فرنسا تطلق على روايات تيار الوعي اسم اللارواية، ومع هذا ظلت نصوصها تقرأ لزمن طويلٍ بوصفها مشكلةً روائيةً داخل النوع الروائي . هذا ما يرغب روائيو الكتابة التسعينية فيه، وعبر عنه منتصر القفاش في مقتبسه . وهو نفسُهُ الموقف عند الشعراء؛ فهم لايزالون يجادلون في جدٍّ وحماسٍ ليقنعوا نقادَهم بأن نصوصهم بابٌ من أبواب الشعر . وربما كانت الحالة التي تمثل مغادرةً كاملةً للأنواع الأدبية هي حالةُ هذه النصوص التي يطلِقُ عليها أصحابُها ونقادُها مصطلح ” النص ” متصورين به أن هناك شكلاً مستحدثاً من أشكال الكتابة يمكن أن يسمى بالنصية، وهو لايعيش على هامش نوعٍ من الأنواع، ولايتحرك عبر الأنواع المختلفة على ما أراد إدوار الخراط، ولكنه يعيشُ خارجها، يتنفس هواءً حراً خارج الحدود قاطبةً . ولكن هذه النصية، التي هي غاية الخطاب الهامشي بوقوفها خارج الأنواع، لازالت لاتمثل حالةً واضحةً متماسكةً، وقلما نالت عنايةُ الدرس والتعريف، وهي تحتاج إلى دراسةٍ أخرى خاصةٍ بها، تستخلص ملامحها من نصوصها، ويكفي الآن الإشارة إليها .
ولسنا في حاجةٍ إلى أن نبذلَ جهداً لكي نبرهنَ على أن التمردَ على خصائص الأنواع أمرٌ قديمٌ، فنفتش في كتب التراث عن شكلٍ ما مثل البند الذي نقب عليه المرحوم شوقي هيكل، ونرد إليه قصيدة النثر، أو نردها إلى الشعر الغربي، مستدلين بسوزان برنار، ومجلة شعر في لبنان، وهذا كله قديمٌ معروف . ولسنا في حاجةٍ إلى أن نقولَ إن التمردَ على خصائص النوع هو مصدرُ الجِدّة والتطور طوال التاريخ الأدبي وعبر عصوره، وهذا كذلك معروفٌ متداولٌ في الشعر والقصة جميعاً . وهو كله لاينفي أن التمرد على خصائص النوع خاصية لها قدرٌ من الشيوع بين كتاب الأدب التسعيني، وينبغي ألا يشوش على إدراك هذا التمرد أن يقاس على ميلان كونديرا، أو بورخيس، ومَنْ شابههما، وينبغي أيضاً أن نراه متصلاً اتصالاً وثيقاً بفكرة الهامشية في أبعادها الجمالية .
ولعل هذه اللحظة من الدراسة لحظةٌ صالحةٌ لأن نسأل : إذا كنا كلما وقفنا على ملمحٍ من ملامح الهامشية في الكتابة التسعينية، وجدنا نظائرَهُ في أدب سبقه، فلماذا نرى في الكتابة التسعينية شيئاً مستقلاً قائماً برأسِهِ، يستحق أن نسميه باسم ؟ . ويقتضي الجوابُ أن نبلور نقطتين : النقطة الأولى أن اجتماعَ هذه الملامح معاً هو مايصنع بنيةً كليةً، قابلةً للتنويع عليها، تعطي الكتابة اختلافَها عما قبلها، وهويتَها، واستحقاقها التسمية . والنقطةُ الأخرى أن هناك اختلافاتٍ بين حضور الملمح الواحد في الكتابة التسعينية وحضوره فيما سبقها . انظر مثلاً إلى كتاب سوزان برنار عن قصيدة النثر الأوروبية، وفتش فيه عن أفكار الهامشي، واليومي والمألوف، التي يرددها الكتّابُ المعاصرون، فلن تجدها على الصورة نفسِها عند برنار والشعراء الغربيين . وأمثال هذه الاختلافات أهم، وأخطر أثراً، من التشابه الباده الذي يعطف حديثاً على قديم .
ولكن التفتيشَ عن أصولٍ للمفهومات المعاصرة المتداولة بيننا يظل أمراً طبيعياً يدفع إليه دافعان : الدافع الأول هو رد الفعل الذي يتولد عن الإسراف اليومي في استخدام المقولة الجديدة استخداماً تسكنه نبرة فخارٍ وامتياز، يوهم بأن المقولة الجديدةَ لها جِدّة عالمٍ جديد مُكتَشَف بأكمله، يمحو ما قبله، أو على الأقل يزيحه . والحق أن كلمة الهامشي، على وجه الخصوص، قد سكنتها هذه النبرة المسموعة كثيراً، ولطالما أحس الناسُ أن التهميش ليس باكتشافٍ جديدٍ، وأن الوعي الإنساني طوال تاريخه كان يُدرِكُهُ، ويعبر عنه، ويقاومه . والدافع الآخر هو البحث عن الدقة؛ فلكي نفهمَ مقولةً جديدةً فهماً دقيقاً لابد من أن نحاور بها المقولات السابقة، فنرى مابينها من تشابهٍ، وما بينها من اختلافٍ. وفكرة الهامشية أكثر الأفكار حاجةً إلى هذا الضرب من التدقيق والحوار؛ فمن البديهي أنها فكرةٌ لطالما عبر العقلُ الإنساني عن وعيه بها من خلال كلماتٍ كثيرةٍ : العبيد، الأقنان، العامة، البروليتاريا الرثة، الاغتراب، الاستلاب، النفي، الهجرة، القهر،القمع، العجز، إلخ . وتمثل كلمة ” الهامشي ” قراءةً جديدةً للحالة نفسِها، من خلال تصور مجازي، يقسِّمُ مواقع البشر إلى مركز وهامش – أو متن وهامش، وأغلب الاستخدامات تقابل الهامش بالمركز لابالمتن – ثم تستخدم القراءة الجديدة التصورَ المجازيَّ في قراءة أوضاع سياسيةٍ، واجتماعية، وثقافيةٍ، وأدبية، وجمالية، شتى . فرغبتنا في التحرر من المركزية الغربية متصلة بوعينا بهامشيتنا، ورغبتنا في التحرر من آليات السلطة وعي بهامشيتنا السياسية والاجتماعية، ورغبتنا في التحرر من أشكال الأدب القديمة وعي بهامشية أدبية وجمالية وأخرى اجتماعية ونفسية جميعاً .
ويبدو أن الخيالَ قد استطاع أن يطوَّعَ هذا التصورَ المجازيَّ لضربين متناقضين من الاستعمال : ضربٍ سلبيٍّ، وضري إيجابي . أما السلبي فهو يوافقُ الفكرة القديمةَ عن التهميش التي ترى إليه من منظور الظلم الاجتماعي، وهذا هو المعنى الذي يستبطن تعبير ” تصوير البيئات المهمشة ” المتداول . ولكنّ الوعيَ المعاصرَ يعي أن الهامشيةَ وضعٌ فوق فرديّ لاتمحوه إرادة فرد، ولابد من قبوله على نحوٍ أو آخر، بل لابد من الانتفاع به، فيبني الهامشيون من خلالهِ عالماً ممتعاً او محتملاً مستقلاً لايراه أحدٌ، ولاتفسِدُهُ سلطةٌ أعلى، يتيحه أنه في ظل الهامش لافي بؤرة النور، وهنا ينتقل الوعي إلى ضربٍ من الاستخدام الإيجابي للكلمة . ويبلغ هذا الضرب أقصاه على درجتين: الدرجة الأولى يُمْدَحُ معها المبدعون المجددون بأنهم ينطلقون من الهوامش، وينقلونها إلى المركز، فنقرأ حركة الثقافة في سياق التطور الاجتماعي بوصفها صراعاً بين الهامش والمركز، ونتبأ واثقين بانتصارٍ حتميٍّ للهامش، كما كان اليساريون يتنبئون متفائلين بانتصار الطبقات العاملة المقهورة المسْتَغَلّة . والدرجة الأخرى هي ما يمثلها منظرو مابعد الحداثة، وتحديداً ليوتار – الذي أشرنا إليه على لسان أحمد عبد الفتاح في كلماته المهمة – الذي جعل الخطاب الهامشي هو الخطاب الجذري الذي يحرر الوعي الإنساني تحريراً شاملاً .
هذا التنوع المرن في الاستخدامات يجعل الكلمةَ علامةً ملتبسةً، مرجأة الدلالة، تتحرك فوق خريطةٍ واسعةٍ معقدةٍ، مكتظةً بالتناقضات، علامة على الهوية وضياع الهوية في آن واحدٍ، ساحةً للجدل والاختلافات، تتعاورها الغايات المتعارضة جميعاً . يُعَقِّدُ الأمرَ أنها لاتحظى عادةً بالتعريف الدقيق- كأنها في استعمالها تحيا هامشيةً أخرى – فهي مصطلحٌ يَصْطَلِحُ عليه مستعملوه بغير تعريفٍ أو تدقيقٍ، يصطلحون عليه بغير اصطلاح، يستخدمونه بوصفه تعبيراً حقيقي الدلالة وهو مجازٌ ملتبسٌ غامضٌ، ويستخدمونه بوصفه دالاً واضحاً وهو المبهم قرين الظل والظلام . إننا أمام علامة تقتضي المراقبة الدقيقة لأنها متنوعةُ الدلالات بشكلٍ مثيرٍ . وهي، على أية حال، إذا حظيت بالتدقيق المستمر تستطيع أن تؤدي معانيها على نحوٍ أوضح، يخدم التواصلَ الإنسانيّ الفعالَ، وتتلاقى معه العقولُ التي ترغب في أن تغيِّرَ الأوضاعَ الإنسانيةَ القائمةَ .
اعترافاً منا بهذا كله لابد من أن نسأل مجدداً السؤالَ الرئيس : ما المقصودُ بأدب المهمشين ؟.قد يُقْصَدُ به الأدب الذي تنتجه الجماعةُ الشعبية في عالمها الهامشي، الأدب الذي نسميه أدباً شعبياً أو فولكلوراً . وقد يُقْصَدُ به الأدبُ الذي تنتجه جماعةٌ مهمشةٌ في أية لحظةٍ من لحظات التاريخ مثل شعر الصعاليك، أو الشعر العذري . وقد يُقْصَدُ به تصوير الأدب، بوجهٍ عام، للهامشية الإنسانية في كل زمانٍ، وكل مكانٍ، وهو معنىً يستوعبُ القدرَ الأعظمَ مما يكتبه أدباء مصر الآن في عاصمتها وأقاليمها جميعاً على حد السواء. وهذا كله ما يناسب أن نرى في أدب المهمشين استراتيجية قراءة . وقد يُقْصَدُ به عناية ما يُسَمَّى الآن باسم الكتابة التسعينية بمفهوم التهميش عنايةً تجعلنا نستطيع أن نسميَ هذه الكتابة في شعرِها وقصِّها بأدب المهمشين، ونستطيع أن نسميها بالأدب الهامشي، لا نقصد الثانوي، غير المهم، بل نقصد المجدد، أو المتحرر من التقاليد، المفعم بالإحساس الممزق بالهامشية التي تخترم وجودَنا
د. مجدي أحمد توفيق
” هَمَشَ : الهمـشـة : الكلام والحركة، هَـمـَشَ وهَـمـِشَ القـومُ فهم يَهْـمـَشُون ويَهْـمِـشُون وتهامـشوا . وامرأةٌ هَمَشَى بالتحريك: تُـكْـثـِرُ الكــلامَ وتُجَـلِّبُ . والهَـمـِش : الـسـريع العـمل بـأصـابعـه …. “(1).
فالمادةُ لاتشير إلى معنى التهميش المقصود . ولقد حاول من قبلُ علي فهمي ماحاولتُ ولم يجد في المعاجم العربية ما يتصل بهذا المعنى الذي تشير إليه الكلمة العربية المستخدمة حالياً والتي هي ترجمةٌ للمقابل الأجنبي في اللغتين الإنجليزية والفرنسية مثلاً(2). وقد تكون حقاً ترجمةً لكلمةٍ مثلmarginal* ولكن اختيارها للترجمة لايبرر أن تحمل المادة اللغوية المعنى الجديد؛ فلابد من وضع لغويٍّ يرشح تحميلَ المادة بالمعنى الجديد . ومايبدو لي فرضاً حسناً في هذا الشأن هو أن تكون صلةُ المادة اللغوية بالكلام سبباً لأن يسمِّيَ الناسُ الحواشي باسم الهامش . وإذا صح هذا الفرض فلابد أن تكون هذه النقلة اللغوية حديثة تاريخاً؛ لأن الغالب على التأليف العربي القديم أن تستخدم كلمة الحاشية، والمؤلفات العربية التي ظهرت في عصور التأليف المتأخرة المشغولة بالملخصات والتعليقات على المؤلفات السابقة كانت تفضل كلمة حاشية، مثلما فضَّلها الصبَّان في حاشيته المشهورة . وإذا صح هذا كله فإنه يقتضي منا تعليقين أو حاشيتين . التعليق الأولُ هو أن اختيار مادة همش لتسمية الحواشي ثم نقلها إلى تسمية المهمشين ينطوي على تقدير سلبي للحاشية، وهو أمرٌ يؤكده الشكوى المتكررة من الحواشي الكثيرة، وميل بعض الباحثين إلى استخدام نظم حديثة في الكتابة تخفف الحواشي وتقللها أو تلغيها . وهذا التقدير شديد الخطأ لأن الحواشي شديدة الأهمية في كل نص؛ ذلك أن الحواشي هي ما يوثق المادة المعرفية ويردها إلى أصولها الصحيحة، والعناية بالتوثيق هي الشرط الضروري لأي خطاب علمي باحث عن الحقيقة. وهذا التصحيح لتصورنا للحاشية يمكن – وهذا هو التعليق الثاني – أن يصحح لنا تصورنا للتهميش المقصود؛ فبدلاً من أن نرى المهمشين ليسوا قوةً تافهةً في المجتمع نراهم القوة التي تصنع الطبقات الأعلى في المجتمع، الطبقات غير المهمشة التي تتصدر العلاقات الاجتماعية والتي لولا ما تجنيه من الطبقات المهمشة ماحققت وضعها الأعلى .
وهنا نجد أنفسنا أمام التناول الاجتماعي لمفهوم التهميش في ظل علم الاجتماع، مضطرين إلى أن ننظر فيه على الرغم من أن موضوعنا الأصلي أدبي لا اجتماعي .
لقد ناقش علماءُ الاجتماع موضوعَ التهميش، وركزوا على الظاهرة في مصر تحديداً . قد تكون بحوثُهم المتعلقة بالموضوع أقل مما نأمل، ولكنها أفضل كثيراً من أن يُهْمَلَ الموضوع برمته، وقد يُغْنِي بحثٌ عن عشرات البحوث . ناقش الظاهرة محمد نور فرحات في ” الدور السياسي للجماعات الهامشية في مصر “(3)مركزاً فيه على الجعيدية والزعر . وناقشها علي فهمي في “ملامح الثقافة السياسية للمهمشين في مصر المحروسة “(4). وناقشها أماني مسعود في “المهمشون والسياسة في مصر “(5). وناقشها كذلك ابتسام علام في ” الجماعات الهامشية “(6). وأحدث ما طالعناه من بحوث في هذا الشأن هو الكتاب الذي وضعه سيد عشماوي ” الجماعات الهامشية المنحرفة في تاريخ مصر الاجتماعي الحديث”(7). ولاسبيل إلى أن نعرضَ هذا كله، ولاضرورة .
والأمر الملحوظ أن كثيراً من هذه البحوث ينظر إلى المهمشين بوصفهم فئاتٍ منحرفةً كالمتسولين واللصوص . وهؤلاء يستحقون وصف التهميش بغير شك، وأتخيل أن المسجونين مهمشون قطعاً، أبعدهم القانون خارج المجتمع تقويماً لسلوكهم وحمايةً للناس منهم . ولكني أتصورُ أيضاً أن ظاهرة التهميش لاتختص بالمنحرفين، وقد يكون المهَمَّشُ إنساناً صالحاً . ولفد لاحظ علي فهمي هذه الحقيقة فأشار إلى أن المهمشين منهم منحرفون مجرمين كالعيارين والشطار والفتوات، ومنهم غير مجرمين كالحرافيش والحشرية والجعيدية(8). ويبدو من تحليل كلام الباحث الكبير أن ما يجمع بين هذين الفريقين هو أنهم ” بعيدون عن العملية الإنتاجية ” . ولما كان الباحث لم يضع تعريفاً صريحاً للتهميش فإن الغالبَ المرجح أن التهميش عنده الوقوفُ خارج العملية الإنتاجية في المجتمع . وهو تعريفٌ جيد لايخلو من أصداء لفكرة البروليتاريا الرثة التي كان الماركسيون يصفون بها هذه الجماعات المهمشة في أنماط العلاقات الاجتماعية السائدة، ولكنه يتحرر في الوقت نفسه من الصيغة الماركسية القديمة بشكلها التقليدي .
وتقوم دراسة سيد عشماوي على أن الجماعات الهامشية المنحرفة يرتبط نموها وازديادها بالأوضاع الاجتماعية السياسية والاقتصادية، وأن عنف هذه الجماعات مرتبطٌ بعنفِ السلطة وتعسفها. وترتبط الظاهرة أيضاً بفقر هذه الجماعات، ولما كانت غير مندمجة في المجتمع، تعيش على هامشه، فهي أضعف صلةً من الطبقات الكادحة الأخرى بنظام القيم والأعراف الشرعية، فهم يحلون مشاكلهم على نحو ينحرف بهم مزيد انحراف عن المجتمع الذي يعيشون على هامشه . وعلى الرغم من أنهم يتألفون من شرائح غير متجانسة اجتماعياً، مفتتة، متنافرة أحياناً ، فهم آخر الأمر ظاهرة واحدة قد تفسـرها نظرياتٌ عدة . منها نظرية التبعية التي تراهم تكويناً طبقياً – بروليتاريا رثة – له مكانة اجتماعية متدنية، ولكنه يمثل رصيداً شعبياً لتحرك راديكالي عنيف يحررهم من التبعية . ومنها نظرية الهامشية التي تراهم في عزلة حضرية نسبية يشعـرون فيها بالنبذ، يدفعهم إلى الخروج على النسق العام للمجتمع الذي يسعى إلى التكامل . ومنها النظرية الثقافية التي تراهم ثقافةً فرعيةً خاصة جانحة، ترتبط بثقافة الفقر، ثم تتفرع إلى ثقافاتٍ أخرى بحسب تفرع هذه الجماعات إلى جماعاتٍ عدة : للتسول، النشل، إلخ . ويبدو أن الكتابَ قد تبنى النظرية الوسطى لأنه يدرس هذه الجماعات في وضعها الهامشي على مستوياتٍ سياسية واقتصادية واجتماعية ليس منها التحليل الثقافي التام .
كل هذه الأفكار تعتمد على النظر إلى المهمشين نظرةً دونيةً تقلل من مكانتهم الاجتماعية، ولكنَّ علي فهمي ينبهنا إلى أمرٍ مهم؛ ذلك أن التراث الأدبي الشعبي، خاصةً السير الشعبية، بحتفل أيما احتفال بهؤلاء المهمشين ويكسبهم سماتٍ إيجابيةً ،(13)بل هو يجعل منهم أبطالاً مثلما فعل مع شخصية علي الزيبق الذي قدره حتى جعله يتولى درك مصر بدهائه الفائق لأنه عند الجماعة الشعبية أرقى من الطبقة العليا، ومن أهل السلطة المتعسفين . وهذا معناه أن الحكم القيمي أو الخلقي عليهم الذي هو مناط الحكم بدونيتهم ليس إلا حكماً نسبياً . ومن هنا يتخذ وضعهم الاجتماعي قراءتين مختلفتين لمفهوم الدونية؛ فهي عند الطبقات الحاكمة من الحقارة والانحطاط الخلقي، وهي عند هذه الجماعات وعند المتعاطفين معها تشير إلى الظلم الواقع عليها، والفقر والعجز اللذين يقيدانها . وربما يبلغ حدَّ التعاطف أن نرى في سلوكهم نوعاً من الإبداع الفائق يواجهون به عالمهم . ولهذا نفضل أن نحيِّدَ الحكم الخلقي عند تأمل الوضع الذي عليه هذه الجماعات.
نستخلص من البحوث الاجتماعية أن الهامشية اجتماعياً موقع اجتماعي، تبعي ( = غير قيادي )، أسفل العملية الإنتاجية أو خارجها، غير متكيف أو ضعيف الاندماج، يقابل أصلاً السلطة بصورها العامة، ويقابل فرعاً الطبقات والجماعات والشرائح التي هي قريبةٌ من آليات السلطة العامة ومستفيدة منها .
ومن الملحوظ أن هذا الموقع الاجتماعي مرتبطٌ بأحكام القيمة والأحكام السيكولوجية، من قبيل الدونية، والعجز، والقهر. ولعل كلمة الهامشية محملة اجتماعياً بهذه القيم مثقلة بها تجعل الهامشية وضعاً اجتماعياً وسيكولوجياً وإكسيولوجياً (= قيمياً ) .
هذا هو التصور في العلوم الاجتماعية فكيف هو عند الجماعة الأدبية ؟ .
لقد شاعت فكرة التهميش، وتعبير أدب المهمشين، في السنوات الأخيرة شيوعاً كبيراً على الرغم من أننا لانجد دراسةً واحدةً للفكرة في ذاتها تناسب هذا الشيوع . وأحسب أن هذا الشيوع يمكن لي أن أعلله بأمرين : الأمر الأول هو انتشار ظاهرة الجماعات الإسلامية في المجتمع المصري من منتصف السبعينيات إلى بداية القرن الحادي والعشرين في مدى ربع قرنٍ كاملٍ، لا من جهة أدبياتها وأفكارها المعلنة، بل من جهة التحليل الذي اعتمدته الثقافة المصرية لها؛ ذلك أن هذا التحليل ظل لوقتٍ طويلٍ يرى هذه الظاهرة نتيجة لإخفاق النظام السياسي في منح طبقات المجتمع العناية السليمة، ووقوع جزء كبير من المجتمع المهمل المظلوم تحت ثقل أزمات اجتماعية حادة ناشئة عن ضعف الدخول، وقلة الخدمات التعليمية والصحية والثقافية والاجتماعية بوجهٍ عام، وإخراج هذا الجزء الأعظم من المجتمع من دائرة القرار السياسي، وهذه كلها أركانٌ صالحة لصفة التهميش . وكانت العلامة الكبرى على صحة هذا التحليل هذا العدد الكبيـر من الأحياء المسماة بالعشوائية . ويكاد يرادف مصطلح العشوائية مصطلح التهميش؛ فالعشوائي حيٌّ بناه ساكنوه دون الرجوع إلى السلطات أو التوافق مع حاجات النظام العام، فتأتي هذه الأحياء لاتوفر الخصوصية، تنقصها الخدمات الأولية العصرية، وهي بهذا تتحول إلى بيئاتٍ معزولةٍ لها مكانةٌ اجتماعيةٌ دنيا، أي هي باختصار تتهمش أو يعيش سكانها على هامش المجتمع . ويمثل الربط بين هذه الظاهرة ( = العشوائية ) وظاهرة العنف الديني، مايذهب إليه العلماء والمحللون من أن المناطق العشوائية الفقيرة المحرومة مرتعٌ خصبٌ لنمو الجماعات العنيفة ذات الشعارات الدينية. وخلال هذه السنوات تصاعد الوعي الاجتماعي بوجود فئاتٍ كثيرةٍ مهمشة : الأحياء العشوائية، الصعيد، النوبيون، الأقباط، وكلها أبرزت نفسها، وتحدثت عن تهميشها ولازالت تتحدث، وقد أضيف إليها أخيراً بدو سيناء . ولقد أصبح الربط بين جماعات العنف الديني والأحياء العشوائية موضوعَ حديثٍ مكررٍ في الإعلام المصري بعد تولي حسن الألفي وزارة الداخلية؛ فلقد كانت تصريحاته الأولى تشير إلى الأهمية الفائقة للعناية بهذه الأحياء العشوائية، وأهمية السيطرة على المساجد العشوائية التي لاتسيطر عليها وزارة الأوقاف بوصفها منابع، أو منابر، أو لنقل قنوات إعلامية، لترويج أفكار هذه الجماعات، وتفريخ الأعضاء الجدد لها . ويبدو أن ثورة سكان الضواحي في باريس في نوفمبر 2005م يوماً بعد يوم تذكيرٌ للوعي المصري بهمومه الخاصة، وهي تعطي انفجارات المهمشين بعداً عالمياً . كل هذا انعكس على الوعي الأدبي في مصر فغذى فيه، على نحو مباشر أو غير مباشر، الوعي بفكرة التهميش وخطورتها، وما يكتنفها من ظلم .
الأمر الآخر هو التحولات الثقافية العالمية، ووصول العالم إلى درجةٍ يعلن فيها انتهاء الحداثة، وافتتاح عصر جديد، يسمى مابعد الحداثة، ويسمى مابعد الصناعة، ويسمى ثورة الاتصالات، ويسمى عصر المعلومات، ويسمى أخيراً باسم العولمة، ويسميه بعض الألمان الذين يتمسكون بفكرة الحداثة، ويشعرون بأنها لم تنقطع بَعْدُ باسم الحداثة العليا، وهو اسمٌ لايزال يقطع بالشعور بأننا نشهد جديداً مختلفاً . والفائدة غير معلقة بفكرة التحول في ذاتها، وإنما هي معلقة على بعض الأفكار التي صحبت هذه الأفكار الجديدة وتفرعت عنها . منها هذا الشغف الذي يروده الألمان خاصةً بتحليل السلطة، وإلقاء الضوء على آلياتها، والوعي بقدرتها على الإقصاء والنبذ، وهذا ما تنبه له ميشيل فوكو في تحليله للجنون بوصفه آليةً من آليات السلطة للنبذ والإقصاء . وينمو دوماً الوعي المتزايد بفكرة السلطة فينمي معه الشعور بالهامشية عند كل مَنْ لا يرى نفسه جزءاً من أبنية السلطة، خصوصاً في عالم الأدب الذي يراهن دوماً على تحرره من آليات السلطة ومناضلته لها . وعلى الرغم من شيوع القول بأن العولمة تهدف إلى صبغ العالم كله بصبغة واحدة فإن هناك قولاً آخر موازياً لايقل شيوعاً هو أنها تقاوم ظهور كيانات كبرى جديدة، وأنها تسعى إلى تفتيت الكيانات القائمة دولاً وقومياتٍ وشعوباً، وكان الاتحاد السوفيتي ودول الكتلة الاشتراكية عامةً أول ضحاياها وليس آخرهم . وسرعان ما شاع تحليل العالم بوصفه عالمين : عالماً متحققاً غنياً هو السلطة الكونية، وعالماً آخر – ثالثاُ بلا ثانٍ – مهمشاً، بلافعالية، هو الضحية، وميدان الـرماية، وموضوع الترويض . وتسللت مع أفكار مابعد الحداثة إلى ثقافتنا أفكار التفتت، والتشظي، والتهميش .
مهما يكن هذان الفرضان السابقان صحيحين فإن علينا أن ندرك أن فكرة التهميش ليست كشف الحاضر وحده، فهي قديمةٌ، يظهر قِدَمُها إذا تحررنا من لفظها، ولاحظنا أن أفكار القمع والقهر والاستغلال التي طالما تحدثت عنها البشرية، منذ ماركس، وقبل ماركس، وربما من بداية الوجود البشري الواعي تشير ضمناً إلى مضمون فكرة التهميش . وفي مجال الدراسات الأدبية من الصعب أن تجد متحدثاً يتناول شعر الصعاليك في العصر الجاهلي، مثلاً، ولايقارب هذه الفكرة . ولدينا نموذج مهم لاستخدام فكرة التهميش استخداماً واعياً في تحليل الظواهر الأدبية . وهو كتاب “سوسيولوجيا الغزل العربي : الشعر العذري نموذجاً ” الذي ألفه الباحث التونسي الطاهر لبيب، وترجمه للعربية عن الفرنسية محمد حافظ دياب . ويقوم الكتابُ على ” ملاحظة الوضع الهامشي لهذه الفئات المدروسة “(15)فئات العذريين . فهؤلاء العذريون جماعةٌ لم تستطع التكيف مع العالم فأصبحوا “جماعة واقعية هامشية بصورة متميزةٍ ولاسيما على الصعيد الاقتصادي ” . ذلك أن مورفولوجية الحجاز ليست متجانسةً تماماً . ومن خصائص وادي القرى الذي عاشوا فيه أنه معزولٌ عن نجد شرقاً، وتهامة غرباً، بسلسلتين متوازيتين من جبال الحجاز، يحد هذا الإطار الجغرافي من حركة العذريين، ومن اتصالهم بالعالم . وشهدت الجماعة العذرية بعد الإسلام تحولات الدولة الإسلامية : انتشار القيم الإسلامية، التمجيد العرقي السياسي للعنصر العربي، التطور الحضري الضخم، السلطة الملكية التي تزداد استبداداً من وقتٍ إلى آخر، وتُعَمِّقُ التناقضَ القديم بين البدو والحضر، وأدى هذا كله إلى عداءٍ من البدو- وبعض الشرائح الريفية- للسلطة، نمَّى لديهم روح اللامبالاة، وقلة الاهتمام بالجماعة . هكذا ولدت الطبيعة الجغرافية هامشية الجماعة قبل الإسلام، حتى اضطرت الجماعة إلى أن تعتمد على إتاواتٍ تنالها من اليهود انقطعت بعد الإسلام الذي طرد اليهود في صراعهم معه، وظلوا مهمشين عن حضريي الحجاز، وعن ملاك الواحات المنتجة، وأكد الإسلام هذا التهميش، فاجتمعت الهامشية الجغرافية، مع هامشية اقتصادية، مع لامبالاة ثقافية، فجاء شعرهم تعبيراً عن هامشيةٍ عميقةٍ .
هذا المثالُ لفكرة التهميش عند الباحثين يكمله أمثلةٌ أخرى كثيرة تدل على أن الأدب لطالما التفت إلى المهمشين مالم نقل إن المهمشين هم الموضوع الأول للأدب . فإذا قرأنا مثلاً رواية “الحرافيش ” لنجيب محفوظ دلَّ اسمها قبل نصها على فكرة المهمشين الذين عرفنا من البحوث الاجتماعية أن الحرافيش من الكلمات الدالة عليهم . ومثل ” الحرافيش ” رواية ” حكايات حارتنا ” التي تهتم بعالم الفتوات . ومن هذه النماذج رواية ” أيام يوسف المنسي ” للسيد نجم، التي جعلت صفة المنسي علامةً باكرً في عنوانها على تهميش شخصيتها الرئيسة تهميشاً بلغ به حد أن يرى العالم من ثقب في حجرةٍ ضيقةٍ بمساكن الإيواء . وأظن أمثال هذه الشواهد أكثر من أن تحصى . ولايختلف الحال مع الشعر عنه مع الرواية أو القصة، فإذا كان القول إن” بني وركان “الذين جعل طه حسين بطلة ” دعاء الكروان ” منهم نموذج صارخ على العناية الروائية بمجتمعاتٍ مهمشةٍ – وإن تكن الأحداث لاتدور في مضارب خيامهم – فإن شاعراً مثل أمل دنقل ليس بمعزلٍ عن هذه النماذج في شعره . اقرأ له مثلاً قصيدته ” البكاء بين يدي زرقاء اليمامة “، وانظر إلى الجزء الذي يقول فيه إنه ليس له شان، ولم يأكل من قبل لحم الضان، ولم يدع إلى الحفل قبل أن يدعى إلى المبارزة، أدركت أنه صورةٌ للرجل المهمش في فقره، وتجاهل السلطة له، وبعده عن مدارات الحكم، والظلم الذي يرسف فيه . ولعل سقوط فكرة الشاعر النبي بعد هذا الجيل علامةٌ على التحول الشعري نحو الإنسان العادي الذي كان مهمشاً على الدوام لايجد صوته في الشعر المشغول بصوتٍ حكيمٍ نبويٍّ أعلى من أن يكون تصويراً له، أو تعبيراً عن شعوره، أو صدىً لصوته على نحوٍ أو آخر .
ولكن هذا كله حكمٌ بعدي . أعني أننا بعد أن فشا فينا مصطلح التهميش أصبحت عيوننا قادرةً على أن نرى مظاهر التهميش حيث تكون . أما قبل ذلك فإن المفهوم لم يكن حاضراً بنفسِهِ . فلم يكن الشعراء الصعاليك في الجاهلية يصدرون في شعرهم وسلوكهم عن مقولة التهميش صدوراً واعياً . وأمل دنقل لايختلف في ذلك عنهم . لهذا يحسن أن نركز النظر على النصوص التي تكتب عن التهميش في أفقٍ تتردد فيه فكرة التهميش صراحةً . وأظن أن هذا يقتضي أن ننظر في حفنةٍ من النصوص التي تقدم فكرة التهميش تقديماً مباشراً، دلالةً على حضورها الكبير في الخطاب الأدبي المعاصر، وتلمساً لتصور واضح للمفهوم؛ فليس من المفترض بالضرورة أن يكون مفهوم الكلمة في العلوم الاجتماعية هو عينه المفهوم في الخطاب الأدبي .
هناك بدايةً من يربط التهميش بموقف السلطة – أو المؤسسات – من الأدباء . تجد هذا المعنى عند حسن خضر حيث يقول : ” لقد كان أسلوب المؤسسات الثقافية سابقاً النفي العَمْد والتهميش في الظل لمَنْ وما لاتريده من الأشخاص أو الأفكار . ” . فهو يرى أسلوب المؤسسات في تعاملها مع المثقفين والأدباء أسلوب نفي عمدي وتهميش، ويقرن فكرة التهميش بالظل قرناً مهماً لأنه يسمح أن نرى في نصوص كثيرةٍ تتحدث عن الظل حديثاً عن التهميش . ويوافق حسن خضر فيما يذهب إليه عبد المنعم عبد القادر الذي يرى أن السلطة لجأت لكي تحقق هذه الغاية لأن تتبنى أول مؤتمر لأدباء الأقاليم الذي عُقِدَ في الزقازيق تحت رعاية وزير الداخلية آنذاك . ولم يستسلم الأدباء فتواصلت حركة الماستر – يقصد طباعة الأعمال الأدبية بنظام الماستر نظراً لتقصير مؤسسات الدولة في نشرها، ونظراً لرخص تكلفة النشر بالماستر وإن يكن رديئاً – واستمرت، وكرسها المهمشون من المثقفين والمبدعين وسيلةً لتوصيل أصواتهم . وإذا صح رأي عبد المنعم عبد القادر فإن حركة الماستر شكلٌ من أشكال المهمشين من الأدباء في مقاومة السلطة، وهي بهذا نقطة البداية في تشكيل الوعي المعاصر بآليات التهميش التي قد تتخذ صورة النبذ أو الاحتضان، والوسيلتان كلتاهما لهما الهدف نفسه، تجريد المهمش من فاعليته .
هنا المهمشون هم الأدباء .
وهناك من يرى فكرة التهميش في ضوء حركة الثقافة كلها، وهذا مانراه في حديث جابـر عصفور في ندوةٍ موسعةٍ أقامها المجلس الأعلى لمدة يومين تكريماً لإدوار الخراط بمناسبة بلوغه السبعين، إذ يتحدث عن ” إرادة الإبداع ” عند الخراط، ويرى أنها : ” … تتحدى سلطة الكتابة المهيمنة، باحثةً عن نغمتها الخاصة وسط ركامِ المألوف والمعتاد، بعيداً عن غواية المركز، حيث الهوامش التي لاتعرف سوى الإبحار صوب المجهول الذي يظل في حاجةٍ إلى كشف ” ، وذلك” لتفرضَ الهامش على المركز، وتسهم في انتقال الكتابة من عهدٍ إلى عهد …” . فالسلطة هنا ليست سلطة الدولة مباشرةً، ولكنها سلطة الكتابة التقليدية . والهامش ليس وضعاً اجتماعياً أو طبقياً مباشرةً، ولكنه أشكال الإبداع التي تخالف الشكل التقليدي للكتابة . هذا يضع الهامش وضعاً يتعلق بمجمل الثقافة، يفسر التطور بالصراع الجمالي الضمني بين الأشكال المهمشة والأشكال التقليدية الحاكمة أو المهيمنة .
المهمش هنا هو الشكل المجدد أو لنقل الحداثي .
وهناك من يرى المهمش ليس شكلاً وإنما هو موضوعٌ من موضوعات الإبداع . يتحدث الناقد عبد الحميد عقار عن واقع التجربة الروائية في المغرب فيرى أنه قد ” أتيح للرواية أن تنفتح في الموضوعات والأساليب على العجيب والمنسي أو المهمش والمحظور، وعلى ضروبٍ من المتخيل ذي المرجعية المحلية . ” . وهو يرى أن الرواية المغربية تطلق نداءاتٍ متنوعةً منها “نداء الذات أو الكينونة ” …. وهو ” مسكون بمقاومة الدونية والتهميش … “، وهذا مايراه متحققاً في ” الخبز الحافي “و” زمن الأخطاء ” لمحمد شكري،و” الضوء الهارب “و” لعبة النسيان ” لمحمد برادة، ونصوص أخرى . وكلام عقار يستخدم مفهومين للتهميش، الأول يراه نوعاً من المتخيل الروائي، يريد أن هناك متخيلاتٍ روائيةً مهمشة ومنسية ومبعدة يستعيدها الخيال الروائي . والمفهوم الآخر هو المفهوم الاجتماعي الذي استدعى كلمتي الدونية والتهميش لتكون الكتابة فعلاً من أفعال المقاومة لتهميش الذات – لم يحدد إذا كان المقصود ذات الكاتب أم ذات اجتماعية أخرى أم المقصود الذاتين معاً .
ولقد نشرت الكتابة الأخرى بياناً لجماعة من الكتاب المغاربة أطلقوا على أنفسهم اسم الغاضبون الجدد، وسرد بيانهم أسباب تجمعهم وتكوينهم جماعتهم، فكان من هذه الأسباب ” من أجل إعادة الاعتبار لكتابة الظل والهامش … ” . وعلى الأرجح هم يستخدمون الكلمة كما استخدمها جابر عصفور بوصفها دالةً على شكلٍ من أشكال الكتابة الحداثية قرنوا فيه الظل بالهامش .
ومِنَ الكتاب مَنْ يستخدم كلمة الهامش دالةً على أغوار نفسية بعيدة مهمشة داخل النفس الإنسانية ونفس المبدع خاصةً . من ذلك أن يرى جمال القصاص في ديوان ” باتجاه ليلنا الأصلي ” لكريم عبد السلام أن قصائده تُظْهِرُ نوعاً من بنية المشهد الشعبي، وتُظْهِرُ ” ولع الشاعر نفسه بالتقاط التفاصيل الصغيرة والدقيقة في اللاوعي الهامشي لهذه البنية، وما يضمره هذا اللاوعي من خبرةٍ جماعيةٍ مستقرةٍ على مستوى العادات وأنماط السلوك الاجتماعي ” . واللاوعي الهامشي هنا يذكر بأفكار يونج عن اللاوعي الجمعي ومكنونات المخيلة الجمعية .
يتفق مع هذا المعنى أن نقرأ لإدوار الخراط حديثه عن كتابة التسعينيات الذي يقول فيه : “إن الرصدَ الخارجي الدقيق لتفاصيل المشهد اليومي المبتذل العادي قد يحمل دلالةَ نفي الإنسان عن العالم أي استئثار ” الأشياء “و” الموضوعات ” بالمركز وتنحية الحياة الداخلية تماماً عن مواقع الضوء ” . يضاعف من أهمية كلام الخراط أنه لم يستخدم فيه كلمة الهامش، ولكن الكلمة لاتزال حاضرةً وراء الكلمات، يشير إليها كلمة المركز إشارة الضد لضده . ولعلنا نفهم من هذا اللون من الحضور اللغوي كيف أن الشواهد التي نسوقها الآن عن فكرة التهميش يمكن أن نضاعفها مئات المرات إذا نظرنا إلى معنى التهميش لالفظه؛ ولاحظنا أن كلماتٍ كثيرةً مثل الظل، والمركز، والمنسي، والمهمل، وماشابه كلها تدور في مدارٍ كلمة الهامش تكمن فيه . والخراط يرى هنا أن الهامشي هو الحياة الداخلية التي تقبع في الظل خارج موقع الضوء . وهذا وجهٌ آخر للمعنى السيكولوجي للهامشي غير اللاوعي الجمعي هو أقرب إلى اللاوعي الفردي .
هنا الهامشي هو اللاوعي .
وننتقل من حديث إدوار الخراط عن كتابة التسعينيات إلى واحدٍ ممن ينسبون إلى هذا الضرب من الكتابة، هو منتصر القفاش . يتحدث القفاش عن كتابة التسعينيات فقال : ” وحاولت كتاباتٌ نقديةٌ أن تُسَمِّيَ تلك التحولات والتغيرات بعدة مسميات، لكن المشكلةَ في اجتهادات النقاد أنها “تشوش ” على روائية هذه الروايات لتجعلها مجرد كتابة على هامش النوع أو خارجه أو على الحدود بين أنواعٍ عديدةٍ ” . وكلمة هامش هنا تشير إلى موقف النصوص بين الأنواع الأدبية، فالتهميش قد يكون تصنيفاً يحرم النص من الاندراج في خريطة الأنواع التي تعطي النص مصداقيته ومشروعيته وقبوله . وتكشف لنا هذه الفكرة جانباً مهماً من جوانب التهميش هو أنه سلوك تصنيفي طردي أو إقصائي . ويبدو أن منتصر يخشى الأثر السلبي لهذا السلوك التصنيفي الذي ينبذ النص الجديد إلى فضاءٍ غير محدد المعالم، كالمتاهة، خارج الأنواع المألوفة. ولهذا يقاومه بأن يؤكد على روائية النصوص – كأنها ميزة – لكي يعيد لها مصداقيتها عند القراء .
ويعترض إبراهيم عبد المجيد على تسمية هذه النصوص الجديدة باسم أدب التسعينيات؛ لأنها تسمية تضر بكتابٍ آخرين مجيدين لاينتمون إلى الظاهرة نفسها، ويفضل على هذه التسمية مصطلحات ” من نوع أدب الجسد أو الأدب الهامشي أو أدب اليأس أو أدب العزلة وكلها سماتٌ تتسع وتنكمش في هذا الأدب، أو أي مسمى أعمق مما أقترح ” . ويقدم لنا إبراهيم عبد المجيد معلومةً مهمةً، هي أن ما يسمى كتابة التسعينيات، أو أدب التسعينيات، يقترن بمفهوم الهامشي، ومايتصل به من أفكار اليأس والعزلة، إلى درجة أن هذه الكتابة تستحق أن تسمى الأدب الهامشي .
وشبيه بهذا الموقف أن تقرأ لعبد الله السمطي عبارة كأنها نبوءة تقول : ” سيركز الشعراء الآن ( = من الآن ؟ ) على السخرية، والكتابة عن المهمل، والمهمش، والصغير، واليومي، والفضائحي، والجسداني، وبهذا تحل أنماطٌ تعبيريةٌ جديدةٌ محل أنماط سابقةٍ، ويعود الشعـرَ ليدخلَ في نمطيةٍ، وأكليشيهات تعبيرية بادية ” . وتقع كلمة المهمش، بوصفها نوعاً من المواد التي ينهل منها الشاعر الجديد، في قلب ما يحرص عليه هذا الشاعر، وتكاد تكون الخصائص الأخرى ألواناً أخرى من المهمش .
ولابد لنا من وقفةٍ مع أمجد ريان تحديداً؛ فهو أكثر الكتاب تأثراً بمفهوم الهامشية حتى أنه أصدر على نفقته كراساً غير دوري، في صورة ملزمةٍ صغيرةٍ واحدة، تشبه المجلة لأن بها الحوار والمقال النقدي، ونصوصاً مختارةً لأدباء متميزين في أدب التسعينيات – إذا قبلنا التسمية قبولاً مؤقتاً-، وأخباراً قليلة عن أعمال أدبية جديدة من هذا الأدب، فإذا به يسمي هذه الملزمة غير الدورية باسم ” الخطاب الهامشي ” . وبين يدي الآن العدد الأول من أعداد هذه الكراسات، وقد صدر بتاريخ الأول من إبريل 1997م، وتحت عنوانه عبارة ” كراس غير دوري يُعْنَى بالتحولات ” . وعلى الرغم من أن العنوان العام هو ” الخطاب الهامشي ” فإن افتتاحية العدد الأول لاتتحدث عن هذا الخطاب الهامشي، ولاتعرف بمفهوم الهامشية الذي لايعرفه أحد، وإنما تتحدث عن مفهوم التحولات كأنها لارغب في أن تختص المجلة بالدعاية لكتابة دون كتابة، أو كأنها تحرص على قدرٍ أوسع من العموم والتجاوب مع ميول مختلفة واهتمامات مختلفة، وتجتذبها إلى أرضها من خلال فكرة التحولات، وهي فكرةٌ عامة ليس له خصوصية فكرة الهامشية . والأهم من الافتتاحية هو أول مادة من مواد العدد، وهو حوار أجراه صاحب العمل مع شخصيتين مهتمتين بالفلسفة والثقافة المعاصرة، غير مشهورتين على جدارتهما بالاهتمام،الشخصية الأولى أحمد عبد الفتاح، والأخرى فاروق سليمان . وقد دار الحوار بين ثلاثتهم حول التجديد في الثقافة والفن، وهو موضوع اختير على مايبدو ليكون عاماً محايداً كأنه من لغة العقاد وطه حسين وجيلهما، قبل أن يبادر الحوار نفسه إلى نقل الموضوع من عمومه إلى أفق الخطاب الهامشي، أو الخطاب الجديد . وقد بادر أحمد عبد الفتاح منذ اللحظة الأولى بنقل الحوار إلى هذا المستوى فقال : ” سأرد المسألة إلى تعبير ( الخطاب الهامشي ) لليوتار وهو يعني أن كلمة مابعد تعني شيئً مختلفاً، فمثلاً ( مابعد الرواية ) لايعني الرواية بل هناك منطقة مختلفة عن شكل الرواية التقليدي . ( مابعد الرواية ) ينشأ خارج حدود الرواية التي نعرفها . بل لقد تجاوزنا حتى مرحلة التداخل بين الحقول المختلفة . هذه المرحلة انتهت” . وفهم المحرر هذه الفكرة فهماً صحيحاً، وأدرك أنها بليوتار – واحد من أهم منظري مابعد الحداثة – قد انتقلت الفكرة إلى أفق مابعد الحداثة . فتساءل عما يعنيه مصطلح مابعد الحداثة في الفن، هل يعني قضايا تختلف عن قضايا الحداثة ؟ . فأجاب عبد الفتاح: ” نعم ندخل في مجال مختلف، من حيث البنية والوتيرة وشكل الصراع ” . وسأل المحرر عما يعرفه من رأي لمحاوره يقضي بأن التجديد الحقيقي لابد أن يتجاوز كل الأشكال التي أنجزت من قبل في مجتمعنا وفي غير مجتمعنا، فأجاب عبد الفتاح:
” لمناقشة الجديد سأعود لتعبير ليوتار (الخطاب الهامشي ) مرةً أخرى . الجديد عندنا ينبغي أن يكون خطاباً هامشياً بالنسبة لحياتنا كلها، بالنسبة لقوميتنا، الجديد سيكون في نقطةٍ خارج دائرة حياتنا. لابد أن نتخلصَ من الإحساس بأننا نريد أن ننجز جديداً في ثقافتنا، وهم ( ثقافتنا ) سيجعلنا في الإطار نفسه وعلى الامتداد نفسه، مثلما تصور هابرماس فأنت بهذا الشكل تجدد بمعنى ما ولكنك لاتخرج عن إطار حياتك وهذا يمثل خللاً بالتأكيد . ” .
وهذا هو أوضح كلامٍ وقعت عليه في تحديد معنى الهامشية بوصفها صفةً للخطاب . وهي هنا، كما كانت في استعمال جابر عصفور عامة على مستوى الثقافة الإنسانية، بفارق أنها في عبارة عصفور لم تشر بوضوح إلى عموم المستوى الإنساني وظلت تخايلنا بالثقافة المحلية.
وعلينا الآن أن نستخرج مما عرضناه النتائج التي يقدمها لنا.
أولى النتائج أننا نستطيع أن نقرأ التهميش في نصوص كثيرةٍ عبر التاريخ الإنساني بوصفه وضعاً إنسانياً يمكن أن يعانيه الناس في كل أمة، ولكننا كلما تقدمنا مع النصوص وتقدم بنا الزمن ووصلنا إلى تسعينيات القرن العشرين ألفينا مفهوم الهامشي قد أصبح شعاراً أدبياً وثقافياً مرفوعاً أو مايشبه الشعار. وإذا نظرنا إلى الحالة الأولى : قراءة التهميش في النصوص عب التاريخ، فقد نرى أن أحق الآداب بأن نسميه أدب المهمشين هو الأدب الشعبي بالمعنى الذي يردنا إلى الفولكلور؛ فهذا أدبٌ ألفه مهمشون حتى أننا لانعلم اسم مؤلفٍ منهم في كثيرٍ من الأحيان، وقدموا فيه ثقافة يتبناها الجماعة الشعبية المهمشة، عبرت لهم عن تهميشهم وقاومته . وقد يكون هذا القول مدخلاً صالحاً لقراءة جديدة مطولة للأدب الشعبي من منظور التهميش . وإذا نظرنا إلى الحالة الأخرى : الوعي الصريح العلني بالتهميش، وجدنا أنفسنا أمام مايكاد يكون مذهباً أدبياً جديداً على نحوٍ أو آخر .
والنتيجة الثانية أن كلمة التهميش تُسْتَخْدَمُ باشتقاقاتٍ مختلفةٍ بين المعاصرين على نحو واسع المدى، ولكنها لاتكاد تحظى بتعريفٍ واحدٍ دقيق – في حدود مانعلم – يَضبطها ويُعَرِّفها ويُحَدّد المقصود منها . وهو نقصٌ كبير يشوش المعنى كثيراً .
والنتيجة الثالثة أن الكلمةَ في غيبة الضبط التعريفي أصبحت نهباً لحشدٍ كبير من المعاني بحسب مراد المتكلم وغاياته . ونستطيع أن نقررَ طائفةً من المعاني تتعاور الكلمة – استخلاصاً من المقتبسات السابقة ومن خبراتنا لسنواتٍ طويلةٍ بين أدباء مصر من أجيالٍ متنوعةٍ – نقسمها إلى مجموعتين أو نوعين من المعاني:
المعنى الاجتماعي الذي تشير فيه الكلمة إلى شرائح اجتماعية مهمشة، وهو المعنى الذي دارت حوله البحوث الاجتماعية، والذي ترددت أصداؤه بين الكتَّاب في حقل الأدب . وهذا النوع من المعنى قد يتخذ شكل الحديث عن جماعة محددة من فئات المجتمع، أو عن بيئة من البيئات المهمشة التي تضم داخلها عينات مختلفة من البشر كالأحياء العشوائية .
المعنى الأدبي الذي قد يشير إلى معان فرعية كثيرة، فالمهمش قد يكون الأديب أو الأدباء أنفسهم، وقد يكون المهمش موضوعاتٍ أدبيةً لايجرؤ أحد على تناوله، وأشهر مايكون ذلك الموضوعات التي تُسَمَّى بالتابو أو المحرمات الثلاث : الدين، والسياسة، والجنس . ويُعَدّ الجسد – جنساً وغير جنس – أهم هذه الموضوعات، وإن تكن موضوعاتُ النسوية تحمل هذا التصور على تقدير أنها تكشف ذكورية النصوص، وتقتحم الحقيقة الأنثوية المطموسة . ومن هذه الموضوعات المهمشة – وإن لم تكن تابوهات – تناول الوعي الداخلي للإنسان، وعياً فردياً أو جمعياً، وهذا مايمثله بوضوح النصوص التي تأخذ بتقنية تيار الوعي . وقد يكون المهمش هو الشكل الأدبي، بمعنى الأدب الحداثي أو مابعد الحداثي الجديد، أو بمعنى الأدب المتمرد على محددات النوع الأدبي، أو بمعنى الخصائص الجمالية المستحدثة غير المألوفة . وعندما ننظر إلى المهمش بوصفه الشكل، أو النوع، ونضعه في سياق صراعات التطور، نكون قد خرجنا بالموضوع إلى أفق الثقافة الواسع . وبطبيعة الحال يمكن أن نعيدَ التعبير عن أي مفهومٍ من المفهومات الثلاثة الأخيرة بعبارات المفهومين الآخرين؛ فمن السهل مثلاً أن نقولَ إن الشكل الحداثي – أو مابعد الحداثي – يحقق للأدب خروجاً عن محددات النوع، وهو يجاوز التقاليد الجمالية السائدة . هذا لايعني أن هذه المفهومات غير متمايزة، وإن تكن مترابطةً متداخلةً؛ فالشكل الحداثي مثلاً قد يوافق محددات النوع، وقد يصير هو نفسُهُ، بمرور الوقت، مؤسسةً جماليةً تقليدية راسخةً تنتظر الثائرين عليها .
ومن السهل أن نبلور الآن هذه النتائج في الرسم التوضيحي التالي:
جماعة
اجتماعي
بيئة أديب
معنى المهمش ذاتي أدباء
أدبي الأدباء تابو
موضوعي فردي
سيكولوجي
جمالي حداثي ومابعد حداثي جمعي
خارج النوع
مجاوز للنوع
وهذا الرسمُ التوضيحي لايتضمن النتيجة الأولى التي تقضي بأننا نستطيع أن نقرأ الأدب كله في ضوء فكرة التهميش، وإذا أضفنا هذا البعد وجدنا للتهميش وضعين : الأول التهميشُ فيه استراتيجية قراءة، والآخر التهميش فيه استراتيجية كتابة . وجميع المعاني السابقة المصورة في الرسم التشجيري السابق تمثل استراتيجيات للكتابة . وبإضافة البعد الجديد يمكن أن نحصل على رسم نحذف منه ماورد في الرسم الأول اختصاراً :
التهميش
استراتيجية كتابة
استراتيجية قراءة
تهميش القوى الاجتماعية
تهميش الأديب
تهميش الكتابة
وبطبيعة الحال تلتقي استراتيجية القراءة واستراتيجية الكتابة في استراتيجية الكتابة؛ أعني أن التهميش حين يسعى الكاتب إلى أن يجعله هدفاً لكتابته يحرص عليه، فإن الناقد أو القارئ يحسن به أن يجعل استراتيجة قراءته للنص أن يتحرى فيه علامات التهميش المختلفة، وهو حينئذٍ مضطرٌّ لأن ينظر في القوى الاجتماعية المتنوعة التي يصورها النص، ويتأمل مدى هامشيتها، أو تهميشها، فإن لَحِظَ أن الخطابَ الأدبي ذاتيٌّ اتجه نظرُهُ إلى وضع الأديب نفسِهِ، بوصفه المتكلم الذي يبوح بهامشيته نصاً، أو يقاومها نصاً، وإن طغت على النص آليات الكتابة التي تجاوز التقاليد السائدة فإن نظرَهُ سيتجه صوب تهيش الكتابة نفسها . وسيكون عليه طوال الوقت أن ينتبه إلى الاستخدامين المختلفين للتهميش : الاستخدام الإيجابي الذي يرى أن المهمش هو المجدد، الفائق، صانع المستقبل، المتخطي للحاضر، المستشرف، الرؤيوي، إلخ، والاستخدام السلبي الذي يرى أن الهمش هو الضعيف، العاجز، المزاح بعيداً عن أفق النظر، المحرم، المكبوت، وقد يكون المنحرف، المجرَّم، المقارب للخطيئة، أو الكافر .
وعلينا الآن أن نلقيَ نظرةً أخرى على هذه الخريطة لمعاني التهميش والهامشي، نظرةً مقيدة بأن نشير مع جزئياتها إلى نماذج من النصوص توضحها . وسيكون علينا أن نمنح مايسمى كتابة التسعينيات – بغض النظر عن اعتراض إبراهيم عبد المجيد على المصطلح الذي نحترمه – قدراً ملحوظاً من الاهتمام لأن هذه الكتابة هي الكتابة التي رفعت كلمة الهامشي شعاراً، ورددته بوضوح، ولم تكتف بعبارات البروليتاريا الرثة، أو الاغتراب، أو الاستلاب، أو القهر، والكبت، والقمع، وهي الكلمات التي استخدمتها الثقافة طويلاً للدلالة على وضعٍ نسميه الآن بالتهميش مع احترام الفروق الدلالية وظلال المعاني المختلفة بين الكلمات، وتجنب التسوية بينها جميعاً . ذلك أن وضع التهميش وضع إنساني عام لايغيب غياباً كاملاً عن الوعي إذا غابت كلمة التهميش؛ فلامفر من الشعور به ومعاناته . ويكفي دلالةً على الفروق أن نشير إلى ارتباط أغلب الكلمات السابقة بأبعادٍ أيديولوجية تسعى كلمة الهامشي الآن إلى تجاهلها، وإلى أن تبدو محايدةً نقيةً بلا أيديولوجية، وإن يكن هذا الوضع نفسه أيديولوجياً. وهذه المكانة الواجبة لكتابة التسعينيات، أو أدب التسعينيات، تقتضي الجمع بين الشعر والقصة لأنهما جناحا هذه الكتابة وقسيماها .
أول معنىً للهامشي هو المعنى الاجتماعي. وهذا المعنى له صورتان . الصورةُ الأولى تخص تصوير جماعة محددة تتعرض للتهميش . هذا ما يمكن أن نتمثلَ له برواية ” حكايات حارتنا ” لنجيب محفوظ؛ فهي تمثل قراءةً جماليةً لشريحةٍ اجتماعيةٍ محددةٍ هي الفتوات . ويمكن أن نرى في رواية ” السقا مات ” ليوسف السباعي التفاتاً جمالياً لشريحةٍ همشها التطور الاجتماعي هي شريحة السقائيين التي تأملت الرواية فقرها، وعجزها، ومواجهتها للموت . وفي بعض نصوص محمد البساطي ومحسن يونس تركيزاً خاصاً على جماعة الصيادين التي تعيش على سواحل مصر الشمالية. وعلى الرغم من أن المعنى السلبي للهامشية – النفي داخل الوطن – هو مايوجه هذه النصوص جميعاً، فإن النصوص تقرأ جمالياً معان إيجابيةً أخرى في الوضع السلبي؛ فالفتوات مثلاً كانوا الموضوع الجمالي الرمزي الذي ينفتح داخل رواية نجيب محفوظ على أشواق الناس المهمشين وهم يتطلعون إلى أحلام العدل والخير والحرية، فضلاً عن أنهم يكشفون لنا حقيقة أن المهمش يمكن أن يكون مركزاً يدور الآخرون حوله، في هامشه، داخل بيئته، أو على أقل تقدير أسرته .
وقد تكون الجماعة المهمشة هي عينها الجماعة المنتجة للأدب . فلنا أن نقرأ شعرَ الصعاليك في العصر الجاهلي بوصفه شعراً لجماعةٍ مارست التهميش من منظورٍ إيجابيٍّ قصدي . ولقد قرأ الطاهر لبيب الغزلَ العذري قراءةً تراه إنتاج جماعةٍ محددةٍ مهمشةٍ تعبر عن رؤيتها للعالم من وضع التهميش الذي وجدت نفسها فيه . ومن الميسور أن نقرأ الشعر الصوفي من منظور كونهِ إنتاجَ جماعةٍ مارست التهميش على تقدير أن الهامشيةَ تعني الخروجَ عن السياقات السائدة جميعاً، وتحرير الوعي منها، تطهيراً للنفسِ، وارتقاءً بها في مدارج الروح، وهذا كله يجري في مجرى التصور الإيجابي للهامشية . وأحق أدبٍ بأن نراه أدباً أنتجته جماعةٌ مهمشةٌ هو الأدب الشعبي الذي يراه العلماء نتاج جماعةٍ شعبيةٍ مهمشةٍ بالضرورة، تشكل جمالياً رؤيتها للعالم، وتصنع أبطالها التخيليين من بعض أفرادها مهما يكن الوصف السائد لهم يُجَرِّمُهم .
وليس في مفهومات ما يسمى بالكتابة التسعينية إشارةٌ إلى الرغبةِ في التعبير عن جماعةٍ محددةٍ، وليس في نصوصها كذلك الإشارةُ إلى جماعةٍ مهمشةٍ محددةٍ، ولكن نصوصها تقبل أن نقرأ فيها تهميشاً واضحاً للشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى وما تحتها من شرائح أقل . وأذكر أن شكري عياد – يرحمه الله – قد قال يوماً إن هذه الكتابات مرتبطةً بانتشار ظاهرة البطالة، وأعتقد أنه وقتها كان يريد أن يومئ إلى الجواني الاجتماعية المختلفة لظاهرة التهميش . وعلى الرغم من أني أنفي وجود العلامات القاطعة المباشرة الدالة على الرغبة في التعبير عن جماعةٍ محددةٍ مهمشةٍ فإن هناك تقنيةٌ قديمة لم يفلت منها الشعر التسعيني تؤدي هذا المعنى . ذلك أن القصيدة قد تختار شخصاً هامشياً لتتحدث عنه، فيصلح لأن يكونَ نموذجاً لجماعةٍ مهمشةٍ . ولعل القارئ لشعر صلاح عبد الصبور يذكر له قصيدته ” موت فلاح ” التي صنعت من فلاح هامشي الحضور فضاءً رهيباً للفناء من أجل الحياة، أو يذكر قصيدته ” سلة ليمون ” التي مارست هذا الاختيار الجمالي، فجعلت من بائعة ليمون تحمل سلتها في ميدانٍ مزدحمٍ وسط المدينة، تصيح ” عشرون بقرش، بالقرش الواحد عشرون ” وصوتها حاضرٌ في النص، نموذجاً واضحاً لكتابةٍ تغمر الذات القابعة في الظل المبهم بالضوء الساطع للغة الشعر . ضم إلى هذين النموذجين نموذجاً ثالثاً هو القصيدة المشهورة لعبد المنعم عواد يوسف ” كما يموت الناس مات ” التي جعل عنوانها عنواناً لديوانٍ من مختارات شعره عبر تاريخه مع الشعر. تبرهن هذه النماذج على قدم هذه التقنية وشيوعها، وقد تسللت إلى بعض نصوص فصيدة النثر المعاصرة، أحدث صورها قصيدة فاطمة ناعوت ” لون من الطب ” من ديوانها “فوق كف امرأة ” التي تصور ماسح أحذيةٍ يعاني تحت أقدام الناس كل يومٍ، لكنه في أعين أبنائه بطل، وهم لهذا يزعمون أنه طبيبٌ يعرف أدويةً ممتازةً للجلد ( = الأحذية الجلدية ) . وبمقدار ما ترفع القصيدة هذا الشخص الهامشي، فإنها ترفع الهامشيةَ عن جماعته من ماسحي الأحذية، ومن كل الذين يعانون كل يومٍ ولايقدر أحدهم معاناتهم في عوالمهم الخاصة .
والصورةُ الأخرى للهامشية الاجتماعية هي البيئة . الفارق بينها وبين الصورة الأولى أن الجماعة الواحدة قد تنتشر في بيئاتٍ مختلفةٍ، والبيئة الواحدة قد تضم فئاتٍ من جماعاتٍ مهمشةٍ متنوعةٍ . فعناية محمد البساطي بالقرية المصرية الساحلية تسمح لنصه بأن يرى فيها فئاتٍ من الصيادين، والمزارعين، والتجار، والمتعلمين الموظفين . وتكاد تكون القرية عند يوسف أبو رية في ” الضحى العالي ” مثلاً، أو قرية هالة البدري في ” منتهى ” فضاءً ريفياً يتسع لشرائح كثيرةٍ من سكان مصر، أو هو مصر مختصرة بمعنىً من المعاني .
ويمكن القول إن تصوير البيئات المهمشة من الموضوعات المهمة في الكتابة الروائية التسعينية على الرغم من أن روايات الحارة التي كتبها إسماعيل ولي الدين، ومحمد جلال، والتي قد نعود بها إلى ثلاثية نجيب محفوظ قد استهلكت كثيراً من أبعاد هذا التصور . ولكن الرواية التسعينية لايمكن أن تتجاهلها مادام البحث عن الهامشي من ضروراتها . وأمثل لها برواية “لصوص متقاعدون ” لحمدي أبو جليل التي تدور أحداثها في ضاحية منشأة ناصر، مركزةً منها على سكان المنزل رقم 26 من شارع 14 تحديداً، وصنعت الروايةُ نفسها من سلسلةٍ من الحكايات الصغيرة المتجاورة تخص البيت والشارع وسكان البيت، وكان منها حكاية الحي نفسه التي اتخذ اسمه منها لأن الرئيس جمال عبد الناصر كان قد أمر ببناء الحي السكني حتى يسكن فيه عمال المصانع التي يزورها، وهذا كله يجعل الحي نفسه – أو هذه البيئة – الموضوع الحقيقي للرواية .
ولنا أن نستنتج من إشاراتنا إلى نصوص غير تسعينية قبل النصوص التسعينية أن المعن الاجتماعي للتهميش، خصوصاً تصوير البيئات المهمشة، ليس إنجازاً كبيراً فارقاً بين هذه النصوص وما قبلها؛ فالقارئ مثلاً لرواية إبراهيم عبد المجيد ” لا أحد ينام في الإسكندرية ” يدرك أنها تركز على أطراف الإسكندرية لا قلبها، وعلى هوامشها قبل مركزها، والنماذج على هذه الظاهرة أكثر من أحصيها . ولهذا لايُعَلَّقُ الرهان الجمالي للكتابة التسعينية على الهامشية بمعنى تصوير البيئات المهمشة، بل يُعَلَّقُ على أسلوب السرد أساساً الذي يتبنى طريق الحكي اليومية المألوفة في الحديث اليومي وإن اصطنع في خطابه الفصحى، فهو سرد حكائيٌّ متدفقٌ موجز وثاب كما أن الحكي اليومي كذلك . ولكن هذا الأسلوب السردي يتطلب تركيزاً على عوالم أدنى إلى الحياة اليومية البسيطة، وهي بطبيعتها العوالم الموصوفة بالهامشية . ولعل سعيد نوح قد حدس بهذه الحقيقة على نحوٍ ما فجعل روايته ” كلما رأيتُ بنتاً حلوةً أقول ياسعاد ” لاتكتفي ببيئةِ مهمشةٍ في ضاحية حلوان، فاتجهت إلى أن تتحرر من الشكل الروائي التقليدي، فتقطع السرد بنصوصٍ من الشعر، وتنوع منظورات السرد، وتقلل من نسقية الأحداث وترابطها، مكتفيةً بأن تكون سعاد والبيئة التي عاشت فيها سعاد، مدار النص، ومناط وحدته، ومكمن ترابطه، حينئذٍ يكون الوقوع خارج النوع نوعاً ثانياً من الهامشية أقوى أثراً من تصوير البيئة المهمشة، بل هو يهيمن على تصوير البيئة المهمشة ويستدعيه .
الأهم من المعنيين الاجتماعيين للمهمش المعاني الأدبية له؛ فهي أشد صلةً بالأبعاد الجمالية للكتابة، وليست فحسب محدداتٍ للموضوع الجمالي شأن المعنى الاجتماعي .
ويتخذ المعنى الأدبي للهامشية ثلاث صورٍ : صورة ذاتية، وصورة موضوعية، وصورة جمالية . تتعلق الصورة الذاتية بذات الكاتب المهمشة . وتتعلق الصورةُ الموضوعية بالموضوعات المُقْصَاةِ عن الكتابة . وتتعلق الصورة الجمالية بعلاقات الشكل، والنوع، والتقاليد، في إطار الثقافة بوجهٍ عام.
يشير المعنى الذاتي إلى ذات مهمشةٍ لها ثلاثة احتمالات : قد تكون ذات الأديب، أو ذات جماعةٍ من الأدباء، أو ذات الأدباء جميعاً والأدب نفسه معهم ضمناً . ولما كان المعنى الثاني يردنا إلى فكرة الجماعة مرةً ثانيةً، فإننا نكتفي بالنظر في المعنيين الأول والثالث .
وبطبيعة الحال ليس شعور الأديب بأنه ذاتٌ مهمشةٌ شعوراً مبتكراً لم يعرفه الأدب من قبلُ. وهو في ذاتِهِ قد يتخذ صورتين : الصورة الأولى أن يكون مدارُ النص حول أديبٍ مهمشٍ . ويمكن أن أمثل لهذه الصورة برواية ” تصريح بالغياب ” لمنتصر القفاش، ومدارها حول شاب أديب، أو ذي ميولٍ أدبيةٍ، كان مجنداً في وحدةٍ عسكريةٍ ملحقةٍ بمدرسةٍ للتمريض، أنهى تجنيده، وعاد إلى الحياة المدنية، ولكنه تذكر أنه نسِيَ روايةً هناك، فعاد إلى الوحدة متلصصاً حتى يستعيد روايته، وعاد بذاكرته إلى الأيام التي قضاها هناك، فاختلط التذكر بمشهد العودة، واختلط الخيالُ بالحقيقة . وطوال الوقت لم نشهد وقائع خطيرةً، بل هي خبراتٌ بسيطةٌ لاخطر فيها . وتكاد تكون كلمةُ الغياب علامة هذه الهامشية الظاهرة، التي تظهر خلال وجوده في خدمته العسكرية في شكل حياةٍ عسكرية عاديةٍ لاتكاد تعني شيئاً . ولاتحاول الرواية أن تضفيَ أية خطورة على الخبرات الإنسانية البسيطة العادية التي مر بها، بل تقبل بهامشية الذات، وتحاول أن تتبينها، وتستخرج منها خبرتها، أو روايتها، التي لاندري هل هي الرواية التي نسيها في الوحدة العسكرية، أو هي الرواية التي يتخيلها ويحكيها .
والصورة الأخرى أن يكون الخطابُ في النص منطلقاً من الذات، سيرياً . هذا ما جعل السيرة الذاتية فناً جذاباً للكتابة التسعينية، وجعل كثيراً من الروايات ممسوسةً بهذا المس السيري : من بهيجة حسين، إلى منى البرنس، إلى ميرال الطحاوي، إلى صفاء عبد المنعم، إلى نجلاء علام، ومن سعيد نوح، إلى سامي إسماعيل، إلى ياسر شعبان، إلى محمود حامد، إلى محمد هاشم، وآخرين من دونهم . ولايمكن لقارئ رواية ميرال الطحاوي ” الباذنجانة الزرقاء ” أن يغفل عن هذا السرد السيري فيها، وما يسري فيه من تأمل استبطاني واضح . وقد يعجب القارئ لأنه يجد نصاً أقرب مايكون إلى السيرة الذاتية، ولكنه لايتضمن خبرة واحدة خطيرةً، أو خبرة تتعلق بمصائر هائلة وإنجازات كبيرة مما يكتب الكتّـابُ سيرَهم لإظهارها . ولكن استخدام الأسلوب السيري معلولٌ بأكثر من علةٍ : العلة الأولى أن الخطاب السيري تقنيةٌ في ذاتِهِ – قبل أن تكون السيرة نوعاً – تحرر السرد من تقاليد القص المتبعة وتقربه من الحكي اليومي وتداعيات الذات . والعلة الثانية أن الخطاب السيري إذ يتابع تداعيات الذات يسمح بتأملات مجردةٍ، تنتقل بالخطاب إلى ما يشبه التأمل الفلسفي، مبتعداً به عن روائية السرد، إمعاناً في التحرر من تقاليد القص إلى حد الخروج عن النوع الأدبي وتجاوز أسواره . والعلة الثالثة أن الذات تريد أن تستعرض عالمها على خلوه من الأحداث الكبرى، لأنها تريد أن تقرأ هامشيتها، لا أن تدعي بنقيضها .
تذكرني جملة ” تدعي بنقيضها ” برواية سيد الوكيل ” فوق الحياة قليلاً “، وهي النموذج الصالح لأن يصور هامشية الأدباء جميعاً لا هامشية الذات الأديبة وحدها . فيها يصور النص جماعة أدباء يجلسون في مقهىً، يتناولون بالنقاش قضاياهم التي تبدو لهم أسمى من اهتمامات الناس، حتى تبدو المقاعد التي يجلسون عليها كأنها لاتلمس الأرض، تسبح معهم فوق الحياة نفسها قليلاً . وبفضل تقنيات السخرية يُسْقِطُ النصُّ فكرةَ تميز الأدباء ونبوة الأديب . ويمضي النص مع شاب أقبل من جنوب مصر إلى القاهرة ليصنع فيها مجداً أدبياً، فصوره النص تصويراً ساخراً، أو بائساً، يكشف هامشيته . واختار النص المقهى مكاناً للحديث لأن الأدباء فيه يجلسون وسط الناس، ولكنهم يحسون أنهم فوق الناس لاوسطهم . ويسمح الحديث عن مقاهي الأدباء وتاريخها الطويل بأن يخرج النص في فصلٍ من فصولِهِ إلى شكل المقال، متحرراً من الشكل الروائي بأكمله، فإذا بالنص، وهو يؤكد بالسخرية هامشيةَ الأدباء، وهامشية الأدب نفسهِ، يصبح هو نفسه على هامش النوع الروائي، فتمتزج فيه ألوانٌ من الهامشية .
وهامشية الذات مدار قصيدة السبعينيات النثرية التي انتهكت فكرة الشاعر النبي، وطبيعة لغة الشعر عينها، وردته إلى العادي واليومي والمعاش . يقول مجدي الجابري :
” الواحد
خايف ومرتبك
الواحد…
تعبان وهمدان وماعندوش روح للمناقرة
الواحد …
مامعاهوش فلوس كفاية يروح اسكندرية … يشرب
شاي ع الكريستال … ويقعد شويتين ع البحر…
ويرجع بتجربة جنسية مجهضة ” .
ويقول أشرف يوسف :
” على طول الخط
لاتكن متسامحاً
تثاءب ياقارئي المحتمل
أثناء قراءة قصائدي المختلطة بالمرارة ..
المرارة التي تراجعت عن وزنها
مقابل وردة ألقِيَت من سُترةِ القاتل
فهل يجدي التشبث بالرسالة الأخلاقية ؟ ” .
ويقول محمد الحمامصي :
” اعتاد أن يفتح قلبه
لكوبٍ من الشاي
وسيجارةٍ
الواقف الآن
في شرفته
يتجاهل فرصته في السقوط ” .
ويقول جرجس شكري :
” أذكر …
ذهبت إلى السوق
واشتريت زمناً بساقين خشبيتين
ولم أعد كما كنتُ ” .
ويقول عاطف عبد العزيز :
” أنا وريث الحكاية، العاشق الذي لم يذق شهد الخسارات بعد، أنا المرء الطبيعي صاحب التكشيرة والمهابة، صاحب القهقهات بالقدر الذي يجعل الأعداء في حدود الطاقة، ألتقط جريدتي الصباحية مبرومة على بلاط الشرفة دون أن تلحقني إهانة . أنا سائس التفاصيل التي تنسى، المرء الطبيعي، الذي يجد في الغبار الخفيف على شاشة التلفاز وسيلةً لإخضاع ربة البيت في فراشها حيث السكوت دائماً…في مقابل السلام” .
في هذه النصوص لسنا نَلْقَى شاعراً فاعلاً، يقود الجماهير، ويعبر عن رؤاها، أو يستشرف لها حقائق وجودها التي تغيب عن الإدراك . فالشاعرُ، عند مجدي الجابري، ليس أبصر الناس، ولكنه إنسانٌ عادي، يقال له ” الواحد “، وهو ” خايف ” ومرتبك “و” تعبان وهمدان وماعندوش روح … “و” مامعاهوش فلوس كفاية … ” . هو بإيجازٍ الإنسان الهامشي، الإنسان العادي الذي لايستطيع شيئاً خطيراً، وليست له أهميةٌ ملحوظةٌ عند الناس . والشاعرُ، عند أشرف يوسف، يخاطب قارئه المحتمل، الذي لايثق في وجوده، لايثق في أن أحداً سيقرأ ما كتب، وخطابه لقارئه ينقض صورةَ الشعر المألوفة . لايريد من القارئ أن يتسامح معه، أو يتعاطف مع شعرهِ، أو يتجنب القسوة عليه . يدعوه إلى الملل والتثاؤب . ويجرد الشعرَ من الوزن لأنه مجردٌ من المتعة، صادرٌ عن مرارةٍ . وهو، إذ يستغني عن التقاليد الجمالية المألوفة، لايراهن إلا على الحلم، على هذه الوردة التي وقعت من قاتله، والتي يرى أن ظهورها لايتطلب حضور الوزن العروضي، بل يقتضي الاستغناء عن الوزن وعن الرسالة الأخلاقية التقليدية التي لاتجدي فتيلاً، ولاتغير من العالم شيئاً . هذه الوردة / الحلم لاتزال تضعه في مقام الضحية، بل مقام القتيل، وهو مقام مَنْ لايستطيع أن يفعل شيئاً ذا بالٍ للعالم ولنفسِهِ . وهاهوذا عنوان الديوان يختار للشاعر (= المتكلم التخييلي في الديوان ) أن يعملَ منادياً للأرواح، مذكراً بعمل منادي السيارات، الذي هو علامةٌ واضحةٌ مشهودةٌ على الإنسان الهامشي : هامشي جداً . والشاعرُ، عند محمد الحمامصي، إنسانٌ لا أصدقاءَ له إلا كوب الشاي والسيجارة، لايتواصل مع الآخرين، يطل على العالم من شرفتِهِ فحسب، ويبدو أفضل مصيرٍ لحياتِهِ أن تنتهيَ، لا لأنها ممتلئةٌ حزناً، وإنما لأنها ليست ذات قيمةٍ، ولكنه لايزال يتشبث بها، لاينهيها . والشاعرُ، عند جرجس شكري، ضحيةٌ أيضاً . حرمته الحياة اليومية – ممثلةً في السوق – من ذاتِهِ الأولى، ولم يَعُدْ كما كان قطُّ. والاستخدام اللغوي الذي يعلق ” أبداً ” على نفي الماضي ” لم أعد ” يكاد يكون الهفوةَ التي تجعل المستقبل الأبدي كله عجزاً كعجز الماضي عن استرداد الذات، وتكاد تقيم يقيناً بأن الذاتَ لامستقبلَ لها، لامستقبلَ لها مما كان ينبغي أن يكون مستقبلاً لها، مما كانت تحلم به . والزمن هنا جوهر التهميش؛ فقد اشترى من السوق زمناً، فإذا بزمن السوق زمناً بلامستقبل، بلاحلم، ولافعل، فساقاه خشبيتان تعجزان عن التقدم والحركة النشطة، كما أن الأيدي، التي هي في عطلةٍ رسميةٍ في عنوان الديوان، علامة العجز عن الفعل نفسِهِ، العجز الذي يفضي إلى عمرٍ غارقٍ في الهامشية . والأمر لايختلف في نص عاطف عبد العزيز عنه في النصوص السابقة . لقد أعلن منظرو مابعد الحداثة سقوط الحكايات الكبرى . الشاعر وريث الحكاية، هذا الذي يعيش كالورثة زمن انتهاء الحكاية. لهذا لم يتعرض لترف الخسارات التي يتعرض لها أصحاب الأحلام العظيمة حين يخفقون في تحقيقها . والخسارة شهدٌ، ومتعةٌ، وترف، لأنها قرينة وجود ما تخسره الذات من أحلام فتشكو الأقدار، أو تشكو القوى الكبرى التي أجهضت أحلامها، فتشعر وقتها بأنها في قلب العالم، تصارعه ويصارعها، تعيش وجوداً حقيقياً، تحمل أحلاماً تتجاوز ذاتها، تضعها في قلب النور، تخرجها من ظل الهامش وظلامه . لايبقى لها إلا أن تكون الذات ذاتاً طبيعيةً . والمرء الطبيعي هو العادي الذي يتلقى كل صباح معرفته بالعالم من صحيفته، من أجهزة الإعلام التي تُعِدُّ له معرفته، وتملؤه بها . المرء الطبيعي لديه نفسُ – هل نقول برجوازية ؟ – يقلقها هاجسٌ مستمر، خشيةَ المهانة، وطلباً للمهابة . لايطلب المهابة إلا المهمشون؛ فأصحاب الأعمال الجليلة التي تسد للناس حاجاتٍ عظيمةً لايطلبون المهابة، ولايخشَوْنَ المهانة، لأنهم ينالون الاحترامَ من الناس بغير طلب، وربما يدعون التواضع، يدعون الهامشية . ولايبقى لهذا العاشق – عاشق الحياة – إلا أن يكون سائساً يروض التفصيلاتِ اليوميةَ الصغيرةَ التي مصيرها المحتوم أن تسقطَ في بئر النسيان . ومن هذه التفصيلات اليومية الصغيرة هذا الصراع اليومي الصغير مع الزوجة الذي يئول إلى أن يحقق لهما سلاماً نفسياً صغيراً عابراً . وما أن تصبح أركان الحياةِ هي التفصيلات اليومية الصغيرة تغرق الذات في الوعي بهامشيتها التي تحيط بوجودها من كل جهةٍ .
قراءة قصيدة النثر عند محمد اليماني، وأحمد طه، وإيمان مرسال، ويسري حسان، وكريم عبد السلام، وأضرابهم من الشعراء، تعني التأمل في هامشية الذات إلى حدٍّ بعيدٍ . وهذه الهامشية استراتيجية كتابة، إذ يعيها الكتاب، واستراتيجية قراءة إذ يجد النقاد والقراء أنفسَهم في مواجهتها نصاً قائماً . وإلى جوار هذَيْنِ الوجهَيْنِ للهامشية تجمع الهامشية وجهَيْن آخريْن؛ تجمع هامشية الذات الكاتبة – الكاتب الفرد، والكتاب جماعةً، ومن وراء الكتاب هامشية المواطن العادي أو الطبيعي كما يقول عاطف عبد العزيز – إلى هامشية الشكل الشعري نفسِهِ، الشكل الذي تجرد من الوزن والرسالة- كما ذكر أشرف يوسف -، وتجرد من مقومات الشعرية المتداولة في تاريخ الشعر العربي، وعطفت الشعرَ على النثر، فأصبحت خطاباً هامشياً، على هامش الشعر والنثر جميعاً .
وينبغي أن ندركً أن هذه الهامشية ليست رؤيةً عدميةً للعالم، أو رؤيةً سوداوية، أو متشائمة؛ فعلى الرغمِ مما يصحب الهامشية من مرارةٍ أشار إليها أشرف يوسف، فهي لم تمنع الحلم بمتعةٍ صغيرةٍ في مصيف عند مجدي الجابري، ولم تمنع الذات من أن تجني متعاً بسيطةً منكوب شاي وسيجارة وإطلالة على الطريق، عند الحمامصي، ولم تَمْحُ العشقَ من نفسِ الشاعرِ عند عاطف عبد العزيز، ولم تمنعه من بلوغ السلام بحيلٍ نفسيةٍ بسيطةٍ . بل لم تمنع الهامشية الشاعر، عند أشرف يوسف نفسِهِ الذي أحس المرارةَ، من أن يلتقطَ الوردة من قاتلهِ . ويكشف لنا التقاط الوردة من القاتل كيف تريد الذات أن تصنع لنفسها مساحةً من الوجود المتصالح مع نفسِهِ في ظل الهامشية المفروضة على الذات فرضاً . لهذا إذا تحدث شاعرٌ ناقدٌ مثل بول شاؤول عن لاجدوى الشعر، ولا جدوى الكتابة ، فإن هذه الفكرةَ مقبولةٌ مادامت إشارةً إلى الهامشية فحسب، وليست مقبولةً إذا كانت خطاباً ناعياً للشعر والكتابة، أو عدودة موت، أو نمطاً من الخطاب العاطفي الرومانسي القديم الذي استولت عليه كآبةُ العصر وأحزانه وسوداويته . فليس الهدف أن تصير الكتابة بكائياتٍ متصلةً، وإنما الهدف أن تدرك الذات هامشيتها، وأن تصنع مساحةً للوجود، والمتعة، والحلم، في قلب هذه الهامشية، وعلى الرغم منها . الأدبُ مساحةٌ للوجود، والحلم، والمتعة، في قلب الهامشية، وعلى الرغم منها .
لندع المعنى الذاتي egoistic للهامشية إلى المعنى الموضوعي thematic لها . وأولُ مانريد أن نقرره هو أن المعنيَيْنِ اللذينِ يتفرع إليهما المعنى الموضوعي معنيان مترابطان يئولان إلى فكرةٍ عامةٍ هي البحث عن الموضوعات المهمشة، المسكوت عنها، وغير المفكر فيها، والممنوع التفكير فيها، والمتعذر التفكير فيها . وأشهر ما يكون ذلك نوعان من الموضوعات : الممنوع التفكير فيه، وهو التابو، وهو يُسْكَتُ عنه، ويزاح خارج دائرة التفكير . والنوع الآخر هو الوعي العميق، الذي يتجاوز الحس والإدراك الماثل، وهو ما يُسَمَّى عادةً باسم اللاوعي، لأنه يتجاوز الإدراك الحسي الظاهرَ، ويتفلت ظاهراً في حالات الحلم . واللاوعي هو الاسم الذي ترسَّخَ على أيدي العالِم النفسي سيجموند فرويد، وانتقل إلى عالم الأدبِ مع أدباء أمثال جيمس جويس، وأطلق عليه النقادُ اسم تيار الوعي conscious stream، وهو اسمٌ يتجاهل أداة النفي لا لأن تيار الوعي تقنيةٌ تجعل غير المُوْعَى موعيً، أو مالايدركه الوعي مدركاً، فهي تستحضر اللاوعي فيصير تياراً من الوعي. ويرتبط بهذا المعنى الموضوعات الصوفيةُ التي تدور حول خبراتٍ عليا يتعذرُ الوعي بها لأنها فوق طاقة اللغة على التعبير، وخارج حدود قدرتها على التسميةِ، لاتملك معها إلا الرمز، والإشارة، والإيحاء، أو الإيماء عن بعدٍ . ولقد اجتذب الموضوع الصوفي أحمد الشهاوي في شعرهِ، فأقام شعرَهُ على طبيعة هذه اللغة . ولكنَّهُ لم يجتذب هذا الفصيل من الشعراءِ الذي نستخدم لأجله مصطلح الكتابة التسعينية إلا في نصوصٍ قليلة دارت حول الصوفية والدراويش دون أن تستغرق في المصطلح الصوفي وعالمه الغائر .
وأكثر مايدل على الاتصال الوثيق بين هذه الموضوعات أن نقرأ بعض ما أسماه إدوار الخراط سيرة ذاتية للكتابة – والخراط كاتب تسعيني بمعنى من المعاني مثل نجيب محفوظ في أحلام النقاهة -، ذلك أن الخراطَ مهتمٌّ بآليات القهر والقمع – التي أقام عليها جابر عصفور بحثه الشائق “بلاغة المقموعين ” – فاسترعى انتباه الخراط أن هذه الآليات لها جانبان : جانب داخلي، وآخر خارجي . ولكنّ جوانيتها عنده شرط قيامها . إنها آليات الكبت، والزمن،والخوف، والتحسب، والتحوط، والهرب . وهي في مجملها آلياتٌ نفسيةٌ جوانيةٌ . ولكنها، في الوقت نفسِهِ، تستند إلى أنواعٍ من السلطة الخارجية تقوم بها، تتراوح من سلطة الموروث، إلى سلطة النص المكرَّس أو المقدَّس، ومن سلطة قهر ” الأنا ” العليا إلى سلطة الظلم الاجتماعي … إلخ . وواضح أن السلطة الخارجية ليست خارجية تماماً؛ فهي ذهنيةٌ، قائمةٌ بالوعي الداخلي إلى حدٍّ كبير، سرعان ما تتحول إلى آلياتٍ فاعلةٍ، لاتكاد تعيها الذاتُ، هي أقرب إلى ان تحتل اللاوعيَ، وتسكن الروح، وتحوز الذاتَ، فتهيمن على الفعل والسلوك . وأهم ماتفعله هذه السلطات والآليات هو إزاحةُ موضوعاتٍ بأكملها إلى دوائر الممنوع، والمسكوت عنه، وغير المفكَر فيه، وهي الدوائر التي يُحَوِّمُ عليها شبحٌ هائلٌ مخيفٌ يطوف بساحتها، يسمَّى باسم التابو، بكل موضوعاته المتنوعة : موضوعات سياسية، وموضوعات دينية، وموضوعات الجنس جميعاً . وحسم إدوار الخراط موقفه من هذا العالم المزَاح في جملةٍ قاطعةٍ : ” أما أنا فليس لي همٌّ روائيٌّ أفدح من مواجهة هذه الطابوهات ” . فأصبحت الكتابة عنده ضرباً من مقاومة السلطات الجوانية، وتحرراً من قوامعها، وإزاحةً لطبقاتها السطحية، وصولاً إلى تيار الصور التحتيّ، الذي ينفتح على لاوعي فرديٍّ خفيٍّ، حافلٍ بالمضمر، والمحرَّم، والممنوع . وهذا مايتطلب منه أن يطارد شكلاً حراً للكتابة أطلق عليه اسم ” الكتابة عبر النوعية ” .
هذا ما أغوى الخراط منذ ” رامة والتنين ” إلى “صخور السماء “، ومابين الروايتين ومابعدهما، أغواه بتيار الوعي الذي أغوي على نحوٍ أو آخر محمد حافظ رجب صاحب ” الكرة ورأس الرجل “، وأغوى محمود عوض عبد العال صاحب ” السكر المر “، وأغوى محمد الراوي في أدبه كله، وأغوى عبد العظيم ناجي في شعرِهِ، وأغوى شعراء إضاءة وأصوات في دواوينهم الأولى التي صدمت الناس صدمةً عنيفةً صاخبةً .
وفي الكتابة التسعينية لم تغب هذه الغواية . من ذلك رواية ” ورد الأحلام ” لعبد الحكيم حيدر. نحن فيها أمام راوٍ يعمل أميناً لمكتبة مدرسة، وهو أديبٌ يكتب قصصاً قصيرةً . ومنذ الجملة الأولى يتدفق حديثُهُ ويتنقل بين مشاهد بصريةٍ سيالةٍ، تمزج الواقع بالحلم، وتبدو المشاهد أحلاماً قديمةً تسكن وعيه، وهو يحاول أن يلاحقها ويمسك بها . وأحلام الراوي كالقصص التي يكتبها خيالاتٌ متواصلةٌ . وهو يكتب روايةً داخل الرواية يسميها ورد الأحلام فيغدو النص أحلاماً تتولد داخل أحلام. وبدلاً من أن يحفر تيار الوعي في ماضي الشخصية، هو هنا يحفر في خيالاته وأحلامه. وتستطيع أن تجد عند مصطفى ذِكْرِي، وصفاء النجار، وغيرهما، مواضع كثيرةٌ تسلك مسلكاً شبيهاً، ولكن “ورد الأحلام” تنفرد بأنها تواصل استخدام التقنية طوال الرواية من بدايتها إلى نهايتها، لافي جزءٍ دون جزء .
وليس في الشعر نماذج تمثل هذه التقنية عند التسعينيين . ولكننا نستطيع أن نشيرَ إلى تقنيةٍ شائعةٍ مهمةٍ، تنبع من سردية القصيدة، يتحرر فيها الشاعرُ من تمركزه حول ذاتِهِ، أو من غنائيته، ويقدم مشهداً خارجياً غيرياً، هذا المشهدُ هو نفسُهُ المجازُ الذي يحمل في داخلِهِ كالأيقونة رؤية الشاعر؛ فالمشهدُ المجازيّ يبدو كصور الحلم التي تنعكس على الرؤى الداخلية العميقة للذات الشاعرة، وإن كنا لانواجه تياراً داخلياً للوعي بالمعنى الدقيق . كريم عبد السلام مثلاً يقول :
” إحدى يديه في جيبه
والأخرى توسوس بعملتي تليفون
كلامه عن السعادة
يعني سيره في الطريق إلى الكنز ” .
هذا مقطعٌ مستقلٌّ أول قصيدة ” الكومبارس في حلمه ” . يبدو الشاعرُ هنا لايتحدث عن نفسِهِ، ليس غنائياً مثل هدى حسين في ” أقنعة الوردة “، أو شحاتة العريان في ” غريزة أساسية “، أو سمير مندي في ” قرابة مائة عام ” . يتأمل الشاعرُ هذا الكومبارس الذي هو صورةٌ خارجيةٌ محملة بمعنى الهامشية . وهذا الهامشيّ يحاول أن يتصلَ بإنسانٍ، أو يتواصل مع آخر تواصلاً مرتبطاً بشعوره بالسعادة لأنه وجد عملاً يبدو له طريقاً إلى الكنز، أو تغييراً جوهرياً لحياتِهِ، أو إنجازاً حقيقياً. ولكنّه في الحقيقة كومبارس، لايملك شيئاً . فالكومبارسُ مجازُ الذهن، أو رمزه، لفهم الهامشية ومعاينتها قائمةً. والمشهد كله أيقونةٌ يجسد فيها الوعي الحلمَ الهامشيَّ. هذه التقنيةُ التي تجد أمثالها في ” وردات في الرأس ” لأحمد يماني،وفي “وتسميهم أصدقاء ” لسامي الغباشي، وفي ” بعد خروج الملاك مباشرةً ” لعزمي عبد الوهاب، ونصوص أخرى كثيرة، تدعوني لأن أقترح تمييز شكل من أشكال قصيدة النثر، أسميه قصيدة الوعي، لأن المشهدَ السردي فيه يريد أن يقبض على رؤية وعي وإدراكه للعالم بأكثرَ مما يريد أن يبرز ذاته . وهذه التقنيةُ، بهذه الصورة، تشبه تيار الوعي في بعض اللحظات، كأن الشاعرَ يستعيد مشاهدَ بصريةً مرت به تخايله وتحيره .
الأهم في قصيدة النثر من الطرق التي تظهر بها رؤى الوعي التحتية هو موقفها من التابو . هي عادةً – ليس دائماً – تتجاهل السياسي ولاتستدعيه إلا لماماً . وقد قلَّ فيها كلماتٌ مثل الله، والنبوة، شاعت من قبل، وأثار استخدامها المجازي كثيراً من القلق . قلَّتْ وإن لم تهجرها كل الهجر. أما الجنس، ثالث التابوهات، فهي مقبلةٌ عليه لأن مفهومَ الجسد واحدٌ من مفاهيمها المهمة، وهو يتخذ في بعض اللحظات دلالة الجنس، حينئذٍ يكون الشاعر بين أمرين : الأول أن يندفع بغير خوف يصف الأعضاء التناسلية مباشرةً، ويصف لها المشاهد التي طالما كره الشعر تصويرها إلا في تراث المجون العربي المسرف . والأمر الآخر أن يحتفظَ الشاعرُ بالدلالة الجنسية معولاً على الإيحاء القريب الواضح بغير تصريح، مثلما فعلت فاطمة قنديل في ” صمت قطنة مبتلة ” . ونستطيع أن نقررَ أن تابو الجنس هو أوضح الموضوعات التي يحيط بها الحَرَجُ والتحريمُ والمنعُ، وأكثرها حظاً من جرأة هذا الشعر، وسعياً إلى تحريره من التهميش في الكتابة التسعينية .
يتبقى المعنى الأخير للهامشي : المعنى الجمالي . ولا أظن أننا في حاجةٍ إلى أن نُفَصِّلَ القولَ في المفهوم الجمالي للهامشية؛ ذلك أن ما مرَّ بنا من تحليلاتٍ سابقةٍ تضمَّنَ الإشارةَ غير مرةٍ إلى نماذجَ حرَصَت على أن تخرجَ بالشكل الجمالي للنص الأدبي عن تقاليد الكتابة المألوفة إلى حدٍّ يجد فيه النقادُ صعوبةً في تجنيسهِ، أو إدراجِهِ في نوعٍ من أنواع الأدب، وهو الأمر الذي جعل منتصر القفاش فيما نقلناه عنه قبلاً يشكو من أن النقاد يهددون بتحليلاتهم الاعترافَ بروائية النصوص الروائية الجديدة، إذ يلحّون على مظاهر تمردها على خصائص النوع الأدبي الروائي . وتبرهن شكوى القفاش على أن الرغبة في تجاوز حدود النوع الروائي وأسواره بين الروائيين الجدد ليست رغبةً عامةً يشتركون فيها جميعاً . ونستطيع أن نقولَ إن روايتي القفاش : ” تصريح بالغياب ” و” أن ترى الآن “، كرواية ” الخباء ” لميرال الطحاوي،و” أحلام محرمة ” لمحمود حامد، و” السما والعمى ” لمحمد داود، وروايات أخرى كثيرة، لايشعر الناقدُ معها بصعوبةٍ في تجنيسها وإثبات روائيتها . وهي لاتزال معنيةً بتصوير بيئاتٍ مهمشة، تلتمسها “الخباء ” في حريم أسرة بدوية الأصول، وتلتمسها ” أحلام محرمة ” في عائلةٍ تعيش على هامش محطة أوتوبيس، وتلتمسها “السما والعمى ” في قريةٍ صغيرةٍ وشيخٍ ضرير . ولكن في مقابل هذه النصوص نستطيع أن نضع نصوصاً أخرى تراوغ الرواية مراوغةً واضحةً، منها ” الباذنجانة الزرقاء ” لميرال الطحاوي، و”فوق الحياة قليلاً ” لسيد الوكيل، و” كلما رأيت بنتاً حلوة أقول ياسعاد ” لسعيد نوح، و”الخوف يأكل الروح ” لمصطفى ذِكْرِي، و” أبناء الخطأ الرومانسي ” لياسر شعبان .
الأمر أوضح في الشعر؛ ذلك أن قصيدة النثر قد اختارت أن تؤسسَ شعريتها على النثر فأثارت ما أثارت من التباسٍ جعل خصومَ هذا الشكل يطعنون على شعرية هذه القصيدة أول مايطعنون؛ إذ وجدوا في نصوصها خروجاً ظاهراً على كل الحدود الموضوعة للشعر في تاريخ الشعر العربي الطويل .
وينبغي أن ندركَ أن الروائيين حين يراوغون خصائصَ النوع الروائي يظلون راغبين في أن تُنْسَبَ أعمالُهم إلى الرواية، وأن تظل قلقة التجنيس . وقديماً كانت فرنسا تطلق على روايات تيار الوعي اسم اللارواية، ومع هذا ظلت نصوصها تقرأ لزمن طويلٍ بوصفها مشكلةً روائيةً داخل النوع الروائي . هذا ما يرغب روائيو الكتابة التسعينية فيه، وعبر عنه منتصر القفاش في مقتبسه . وهو نفسُهُ الموقف عند الشعراء؛ فهم لايزالون يجادلون في جدٍّ وحماسٍ ليقنعوا نقادَهم بأن نصوصهم بابٌ من أبواب الشعر . وربما كانت الحالة التي تمثل مغادرةً كاملةً للأنواع الأدبية هي حالةُ هذه النصوص التي يطلِقُ عليها أصحابُها ونقادُها مصطلح ” النص ” متصورين به أن هناك شكلاً مستحدثاً من أشكال الكتابة يمكن أن يسمى بالنصية، وهو لايعيش على هامش نوعٍ من الأنواع، ولايتحرك عبر الأنواع المختلفة على ما أراد إدوار الخراط، ولكنه يعيشُ خارجها، يتنفس هواءً حراً خارج الحدود قاطبةً . ولكن هذه النصية، التي هي غاية الخطاب الهامشي بوقوفها خارج الأنواع، لازالت لاتمثل حالةً واضحةً متماسكةً، وقلما نالت عنايةُ الدرس والتعريف، وهي تحتاج إلى دراسةٍ أخرى خاصةٍ بها، تستخلص ملامحها من نصوصها، ويكفي الآن الإشارة إليها .
ولسنا في حاجةٍ إلى أن نبذلَ جهداً لكي نبرهنَ على أن التمردَ على خصائص الأنواع أمرٌ قديمٌ، فنفتش في كتب التراث عن شكلٍ ما مثل البند الذي نقب عليه المرحوم شوقي هيكل، ونرد إليه قصيدة النثر، أو نردها إلى الشعر الغربي، مستدلين بسوزان برنار، ومجلة شعر في لبنان، وهذا كله قديمٌ معروف . ولسنا في حاجةٍ إلى أن نقولَ إن التمردَ على خصائص النوع هو مصدرُ الجِدّة والتطور طوال التاريخ الأدبي وعبر عصوره، وهذا كذلك معروفٌ متداولٌ في الشعر والقصة جميعاً . وهو كله لاينفي أن التمرد على خصائص النوع خاصية لها قدرٌ من الشيوع بين كتاب الأدب التسعيني، وينبغي ألا يشوش على إدراك هذا التمرد أن يقاس على ميلان كونديرا، أو بورخيس، ومَنْ شابههما، وينبغي أيضاً أن نراه متصلاً اتصالاً وثيقاً بفكرة الهامشية في أبعادها الجمالية .
ولعل هذه اللحظة من الدراسة لحظةٌ صالحةٌ لأن نسأل : إذا كنا كلما وقفنا على ملمحٍ من ملامح الهامشية في الكتابة التسعينية، وجدنا نظائرَهُ في أدب سبقه، فلماذا نرى في الكتابة التسعينية شيئاً مستقلاً قائماً برأسِهِ، يستحق أن نسميه باسم ؟ . ويقتضي الجوابُ أن نبلور نقطتين : النقطة الأولى أن اجتماعَ هذه الملامح معاً هو مايصنع بنيةً كليةً، قابلةً للتنويع عليها، تعطي الكتابة اختلافَها عما قبلها، وهويتَها، واستحقاقها التسمية . والنقطةُ الأخرى أن هناك اختلافاتٍ بين حضور الملمح الواحد في الكتابة التسعينية وحضوره فيما سبقها . انظر مثلاً إلى كتاب سوزان برنار عن قصيدة النثر الأوروبية، وفتش فيه عن أفكار الهامشي، واليومي والمألوف، التي يرددها الكتّابُ المعاصرون، فلن تجدها على الصورة نفسِها عند برنار والشعراء الغربيين . وأمثال هذه الاختلافات أهم، وأخطر أثراً، من التشابه الباده الذي يعطف حديثاً على قديم .
ولكن التفتيشَ عن أصولٍ للمفهومات المعاصرة المتداولة بيننا يظل أمراً طبيعياً يدفع إليه دافعان : الدافع الأول هو رد الفعل الذي يتولد عن الإسراف اليومي في استخدام المقولة الجديدة استخداماً تسكنه نبرة فخارٍ وامتياز، يوهم بأن المقولة الجديدةَ لها جِدّة عالمٍ جديد مُكتَشَف بأكمله، يمحو ما قبله، أو على الأقل يزيحه . والحق أن كلمة الهامشي، على وجه الخصوص، قد سكنتها هذه النبرة المسموعة كثيراً، ولطالما أحس الناسُ أن التهميش ليس باكتشافٍ جديدٍ، وأن الوعي الإنساني طوال تاريخه كان يُدرِكُهُ، ويعبر عنه، ويقاومه . والدافع الآخر هو البحث عن الدقة؛ فلكي نفهمَ مقولةً جديدةً فهماً دقيقاً لابد من أن نحاور بها المقولات السابقة، فنرى مابينها من تشابهٍ، وما بينها من اختلافٍ. وفكرة الهامشية أكثر الأفكار حاجةً إلى هذا الضرب من التدقيق والحوار؛ فمن البديهي أنها فكرةٌ لطالما عبر العقلُ الإنساني عن وعيه بها من خلال كلماتٍ كثيرةٍ : العبيد، الأقنان، العامة، البروليتاريا الرثة، الاغتراب، الاستلاب، النفي، الهجرة، القهر،القمع، العجز، إلخ . وتمثل كلمة ” الهامشي ” قراءةً جديدةً للحالة نفسِها، من خلال تصور مجازي، يقسِّمُ مواقع البشر إلى مركز وهامش – أو متن وهامش، وأغلب الاستخدامات تقابل الهامش بالمركز لابالمتن – ثم تستخدم القراءة الجديدة التصورَ المجازيَّ في قراءة أوضاع سياسيةٍ، واجتماعية، وثقافيةٍ، وأدبية، وجمالية، شتى . فرغبتنا في التحرر من المركزية الغربية متصلة بوعينا بهامشيتنا، ورغبتنا في التحرر من آليات السلطة وعي بهامشيتنا السياسية والاجتماعية، ورغبتنا في التحرر من أشكال الأدب القديمة وعي بهامشية أدبية وجمالية وأخرى اجتماعية ونفسية جميعاً .
ويبدو أن الخيالَ قد استطاع أن يطوَّعَ هذا التصورَ المجازيَّ لضربين متناقضين من الاستعمال : ضربٍ سلبيٍّ، وضري إيجابي . أما السلبي فهو يوافقُ الفكرة القديمةَ عن التهميش التي ترى إليه من منظور الظلم الاجتماعي، وهذا هو المعنى الذي يستبطن تعبير ” تصوير البيئات المهمشة ” المتداول . ولكنّ الوعيَ المعاصرَ يعي أن الهامشيةَ وضعٌ فوق فرديّ لاتمحوه إرادة فرد، ولابد من قبوله على نحوٍ أو آخر، بل لابد من الانتفاع به، فيبني الهامشيون من خلالهِ عالماً ممتعاً او محتملاً مستقلاً لايراه أحدٌ، ولاتفسِدُهُ سلطةٌ أعلى، يتيحه أنه في ظل الهامش لافي بؤرة النور، وهنا ينتقل الوعي إلى ضربٍ من الاستخدام الإيجابي للكلمة . ويبلغ هذا الضرب أقصاه على درجتين: الدرجة الأولى يُمْدَحُ معها المبدعون المجددون بأنهم ينطلقون من الهوامش، وينقلونها إلى المركز، فنقرأ حركة الثقافة في سياق التطور الاجتماعي بوصفها صراعاً بين الهامش والمركز، ونتبأ واثقين بانتصارٍ حتميٍّ للهامش، كما كان اليساريون يتنبئون متفائلين بانتصار الطبقات العاملة المقهورة المسْتَغَلّة . والدرجة الأخرى هي ما يمثلها منظرو مابعد الحداثة، وتحديداً ليوتار – الذي أشرنا إليه على لسان أحمد عبد الفتاح في كلماته المهمة – الذي جعل الخطاب الهامشي هو الخطاب الجذري الذي يحرر الوعي الإنساني تحريراً شاملاً .
هذا التنوع المرن في الاستخدامات يجعل الكلمةَ علامةً ملتبسةً، مرجأة الدلالة، تتحرك فوق خريطةٍ واسعةٍ معقدةٍ، مكتظةً بالتناقضات، علامة على الهوية وضياع الهوية في آن واحدٍ، ساحةً للجدل والاختلافات، تتعاورها الغايات المتعارضة جميعاً . يُعَقِّدُ الأمرَ أنها لاتحظى عادةً بالتعريف الدقيق- كأنها في استعمالها تحيا هامشيةً أخرى – فهي مصطلحٌ يَصْطَلِحُ عليه مستعملوه بغير تعريفٍ أو تدقيقٍ، يصطلحون عليه بغير اصطلاح، يستخدمونه بوصفه تعبيراً حقيقي الدلالة وهو مجازٌ ملتبسٌ غامضٌ، ويستخدمونه بوصفه دالاً واضحاً وهو المبهم قرين الظل والظلام . إننا أمام علامة تقتضي المراقبة الدقيقة لأنها متنوعةُ الدلالات بشكلٍ مثيرٍ . وهي، على أية حال، إذا حظيت بالتدقيق المستمر تستطيع أن تؤدي معانيها على نحوٍ أوضح، يخدم التواصلَ الإنسانيّ الفعالَ، وتتلاقى معه العقولُ التي ترغب في أن تغيِّرَ الأوضاعَ الإنسانيةَ القائمةَ .
اعترافاً منا بهذا كله لابد من أن نسأل مجدداً السؤالَ الرئيس : ما المقصودُ بأدب المهمشين ؟.قد يُقْصَدُ به الأدب الذي تنتجه الجماعةُ الشعبية في عالمها الهامشي، الأدب الذي نسميه أدباً شعبياً أو فولكلوراً . وقد يُقْصَدُ به الأدبُ الذي تنتجه جماعةٌ مهمشةٌ في أية لحظةٍ من لحظات التاريخ مثل شعر الصعاليك، أو الشعر العذري . وقد يُقْصَدُ به تصوير الأدب، بوجهٍ عام، للهامشية الإنسانية في كل زمانٍ، وكل مكانٍ، وهو معنىً يستوعبُ القدرَ الأعظمَ مما يكتبه أدباء مصر الآن في عاصمتها وأقاليمها جميعاً على حد السواء. وهذا كله ما يناسب أن نرى في أدب المهمشين استراتيجية قراءة . وقد يُقْصَدُ به عناية ما يُسَمَّى الآن باسم الكتابة التسعينية بمفهوم التهميش عنايةً تجعلنا نستطيع أن نسميَ هذه الكتابة في شعرِها وقصِّها بأدب المهمشين، ونستطيع أن نسميها بالأدب الهامشي، لا نقصد الثانوي، غير المهم، بل نقصد المجدد، أو المتحرر من التقاليد، المفعم بالإحساس الممزق بالهامشية التي تخترم وجودَنا
د. مجدي أحمد توفيق
أدب المهمشين. د. مجدي أحمد توفيق
لستُ أعرفُ مَنْ ابتكر العادةَ التي ألِفها الباحثون حين يفتتحون دراستهم لأي موضوعٍ بأن يستشيروا المعجم، ويعرضوا المعاني اللغوية المختلفة التي نصت عليها المعاجمُ حول المفردة التي يدور البحث حولها، لك…
sadazakera.wordpress.com