لماذا طرحتُ هذا السؤال الذي هو عنوان هذه المقالة؟ لأن كثيرا من الناس، وعلى رأسهم بعض علماء الدين وفقهائه، وخصوصا، المتطرِّفون منهم، يظنون، بل يعتقدون اعتقادا راسخا أن "التَّأخُّرَ الذي تعرفه جلُّ البلدان العربية والإسلامية في مجالات إنتاج العلوم والتِّكنولوجيا، راجعٌ إلى سُخط اللهِ سبحانه وتعالى على العباد، في هذه البلدان، بفعل ارتكابهم المعاصي والذنوب".
وما يزيد في الطين بلَّة، هو أن كثيرا من الناس، سواءً كانوا متعلِّمين أو غير متعلِّمين يثقون، ثقةً عمياء، في مثل هذه الادِّعاءات إلى درجة تحويلها إلى حقائق تُتداول وتنتشر في المجتمع كانتشار النار في الهشيم.
وعندما أقول "ثقة عمياء"، فهذا يعني أن مَن يستمعون إلى مثل هذه الادِّعاءات ويثقون بها، لا يستعملون عقولَهم، علما أن اللهَ سبحانه وتعالى فضَّل البشرَ على جميع مخلوقاتِه بالعقل. والعقل ليس هِبةً مجانيةً من الله سبحانه وتعالى. كل الحيوانات تتصرَّف بالغريزة إلا الإنسان، من واجبه أن يستعمل هذه الهِبة الإلاهية. وإلا ما الفائدة منها؟
والدليل على وجوب استعمال العقل، هو أن اللهَ، سبحانه وتعالى، يُنهي كثيرا من آيات القرآن الكريم بعبارات "أفَلاَ تَعقِلون" أو "إن كنتم تعقلون" أو "أولي الألباب" أو "لعلَّكم تتفكَّرون" أو "لقومٍ يتفكرون"... كل هذه العبارات توحي بأن الناسَ قبل أن ينطقوا بكلامٍ ما، عليهم أن يُمرِّروه من مصفاة العقل حتى يكونَ مطابقا للمنطق وما يقبله هذا العقل.
مع كل التَّقدير والاحترام لفقهاء الدين وعلمائه، إدعاءُهم هذا مردودٌ عليه ولا يستند إلى أدلَّة ملموسة ومُقنِعة. بل إنهم، بادِّعادهم هذا، يُخالفون إرادةَ ومشيئةَ وقدرةَ الله. بدون تردُّدٍ، أقول إن ما يزعُمُه هؤلاء الناس مخالفٌ للصواب لعدة أسباب!
السبب الأول، هو : إن اللهَ، سبحانه وتعالى، يقول في قرآنه الكريم : "...إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ" (الحج، 14). وفي آيةٍ أخرى وفي نفس السورة، يقول عز وجل : "...إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (الحج، 18). وفي كثيرٍ من سُور وآيات القرآن الكريم يقول سبحانه وتعالى إن/أن الله على كل شيءٍ قدير.
فهل يستطيع الناس الذين يدَّعون أن تأخُّرَ بلدان عربية وإسلامية في مجالات إنتاج العلوم والتكنولوجيا هو سُخطٌ من الله، أن يُبيِّنوا لنا بالدليل القطعي والمنطقي أنه بإمكانهم الاطِّلاع على ما يريده وما يشاءه اللهُ. و وُرود كلمة "شيء" في آيات القرآن الكريم التي يُطلِعنا فيها على قدرته سبحانه وتعالى، يدلُّ على أن هذه القدرة غير محدودة وغير مرتبطة لا بالزمان ولا بالمكان. وبما أن القدرة الإلهية غير محدودة، فإرادةُ اللهِ ومشيئتُه، هما الأخريان غير محدودتين.
والقدرة والإرادة والمشيئة الإلهية أشياءٌ مطلقةٌ، أي غير مرتبطة بالزمان والمكان. وما أعرفُه، أنا شخصيا، هو أن العقلَ البشري غير قادرٍ على إدراك ما هو مطلق. وهذا العقل البشري مُصمَّمٌ ليدركَ، فقط، الأمور الدنيوية التي هي من إنتاج البشر ولا يمكن أن يطَّلعَ على ما هو مُصنَّفٌ في علم الغيب الذي لا يعلم سرَّه إلا الله سبحانه وتعالى مصداقا لقوله، عزَّ وجلَّ : قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (،الأعراف، 188).
في هذه الآية، كلام الله مُوجَّه لنبيه ورسوله محمد (ص،). فإذا كان الرسول (ص)، خير بشرٍ اختاره الله سبحانه وتعالى ليُبلِّغ رسالتَه ألى الناس، يعترف بأنه، لا يعلم الغيبَ، فكيف لفقهاء الدين وعلمائه أن يدَّعوا أن تأخُّرَ بلدان عربية وإسلامية في مجالات إنتاج العلوم والتكنولوجيا، هو سُخطٌ أو غضبٌ من الله.
وهذا دليلٌ قطعي على أن العقلَ البشري، ولو كان لرسول، غير قادر على إدراك ما هو مطلق، فعلى ماذا يستند فقهاءُ الدين وعلماءُه ليقولوا لنا "إن تأَخُّرَ البلدان الإسلامية في مجال إنتاج العلوم والتِّكولونيا، هو سُخطٌ وعقابٌ من الله على أمَّة ارتكبت وترتكب الذنوب والمعاصي".
إنه، فقط، و مجرَّد كلامٌ مقتبسٌ من التراث الإسلامي وصَلنا عن طريق "العنعنة"، ولا أحد قادرٌ على إثبات صحته أو نفيها. وهنا، لا يجب أن يُفهم من كلامي أنني ضد الأحاديث النبوية. لا أبدا! أُومِِن بها عندما تكون صحيحة وموثوقة ولا تتعارض مع القرآن الكريم ومع المنطق والعقل!
السبب الثاني هو أن ارتكابَ الأخطاء والذنوب والمعاصي لم يُفارق الإنسان منذ ظهوره على وجه الأرض. وهذا هو ما يجعل الطبيعةَ البشريةَ تتأرجح بين الخير والشر. بمعنى أن الإنسان قد يسلك، بمحض إرادته، طريقَ الخير أو طريقَ الشر حسب ما يسعى إلى تحقيقه من أهداف. فإن سلك طريقَ الخير وتحقَّقَ ما سعى له من أهداف، فإنه يُسعِد نفسَه وقد يُسعِد الآخرين. وإن سلك طريقَ الشر وكان تحقيقُ أهدافه مؤدياً للغير، فإنه يُرضي نفسَه، وبكل تأكيد، يُغضب الآخرين. قد يقول قائلٌ إن الشرَّ واضح والخير أوضح منه. لكن الحياةَ مدٌّ وجزرٌ. فيها ما يُرضي كثيرا من الناس وفيها ما لا يُرضي كثيرا منهم. كل فئة تتعامل مع مدِّ وجزرِ الحياة إما بسلوك طريق الخير وإما بسلوك طريق الشر. وباختصار، الخير والشر سنَّتان من سنن الحياة يُرافقان الإنسانَ طول حياته، بمعنى أنه لا يمكن أن يتخلَّصَ منهما. وهذا يعني أن الخيرَ والشرَّ ملازمان للإنسان أينما حلَّ وارتحل وكيفما كانت معتقداتُه الدينية.
السبب الثالث يكمن في كون إنتاج العلوم والتكنولوجيا يتمركز، منذ القرن الثامن عشر إلى يومنا هذا، في بلدان علمانية، أي بلدان فصلت وتفصل بين السياسة والدين. وبعبارة أخرى، إن هذه البلدان تعتبر الدينَ أمرا يدور بين خالق ومخلوق، أي أن السياسةَ لا تتدخَّل في الدين والدينُ لا يتدخَّل في السياسة.
وأكثر من هذا وذاك، إن علماءَ الدين وفقهاءَه يعتبرون عبادَ البلدان العٍلمانية كفَّارا. فلماذا لم يُسلِّط الله سبحانه وتعالى غضبَه وسُخطَه على هذه البلدان العلمانية ويُحرمها من نِعمة إنتاج العلوم والتكنولوجيا؟
السبب الرابع يتمثَّل في تناقص فقهاء الدين وعلماءُه مع أنفسهم. كيف ذلك؟ إنهم يعتقدون بأن العلمَ، بالنسبة لهم، ينحصر في علوم الدين وكل ما لع علاقة بمختلف مجالات المعرفة الدينية. بينما اللهَ سبحانه وتعالى يخبرنا بأن علمَه يحيط بكل شيء مصداقا لقوله، عزَّ وجلَّ : "...وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (الطلاق، 12). ويقول كذلك : "...ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (البقرة، 29). أَضِف إلى هذا أن كلمةَ "عِلم" جاءت، في القرآن الكريم بصيغة المفرد، أي أن جمعَها "علوم" غير موجود في هذا القرآن. و وُرودُ كلمة "شيء" في الآيتين، السابقتي الذكر أعلاه، يعني أن علمَ الله واسعٌ إذ يشمل كل ما هو موجودٌ في/على سطح الأرض. فلماذا يتناقض فقهاءُ الدين وعلماءُه مع أنفسهم؟ لأن علمَ الله واسعٌ، بمعنى أنه يشمل كل مكوِّنات الأرض، حيَّةً كانت أم غير حية، بينما هم، أي فقهاء الدين وعلماءه، يحصرون مصطلحَ العلمِ، الوارد في القرآن الكريم، في العلوم الدينية. ويزداد التناقضُ حدَّةً عندما، على مستوى فكرهم، ينبدون العلوم الدنيوية التي يُنتجها الكفَّارُ، لكنهم، في نفس الوقت، يستعملون ما تُنتِجه هذه العلوم من تكنولوجيات وآلات وأجهزة…
والآن، حان الوقت للإجابة عن السؤال الذي هو عنوان هذه المقالة : "هل تقدم العلوم وازدهارُها مرتبطان بالدين"؟ سؤالٌ يمكن صياغتُه بطريقة أخرى، فنقول : هل من الضروري أن يكون الأشخاصُ المُنتِجون للعلوم والتكنولوجيا متديِّين؟
انطلاقا من التوضيحات التي أوردتُها في الأسباب الأربعة السابقة الذكر، الجواب هو : لا علاقة لتقدُّم العلوم وازدهارها لا بالدين ولا بالتَّديُّن. وليس من الضروري أن يكونَ الأشخاص المنتجون للعلوم والتكنولوجيا متديِّنين. قد يكون الدين والتَّديُّن حافزين أخلاقيين يحثَّان الإنسان على الإخلاص في عمله خدمةً للصالح العام.
لكن تقدُّم العلوم وازدهارُها لهما علاقة فقط وحصريا بسياسة كل بلدٍ على حدة. إذا توفَّرت الإرادة السياسية وتوفرت الإمكانيات المادية والبشرية، فحتما ستشهد البلدان العربية والإسلامية تقدما وازدهارا علميا وتكنولوجياً!
البلدان العلمانية وغير العلمانية التي يشهد فيها، حاليا، إنتاجُ العلوم والتكنولوجيا تقدُّما وازدهارا، كلها، بدون استثناء، تولي اهتماما كبيرا، في سياساتها العمومية، للبحث العلمي الذي هو مصدر إنتاج العلوم. ويتجلَّى هذا الاهتمام، إضافةً إلى الإرادة السياسية، في تخصيص نسبة مهمة من ناتِجِها الداخلي الخام produit intérieur brut PIB تتراوح بين 2 و4% من هذا الناتج. على رأس هذه البلدان، توجد إسرائيل التي تُنفِقُ أكثر من 4% من ناتجها الداخلي الخام.
ولفقهاء الدين وعلمائه، أقول : كفى من استحمار الناس وكفى من اعتبارهم لا يفهمون شيئا وكفى من السطو على عقولهم ومنعِها من التفكير. وكفى من تنكُّركم للواقع. بل إن ادِّعائكم أن "التَّأخُّرَ الذي تعرفه جلُّ البلدان العربية والإسلامية في مجالات إنتاج العلوم والتِّكنولوجيا، راجعٌ إلى سُخط اللهِ سبحانه وتعالى على العباد، في هذه البلدان، بفعل ارتكابهم المعاصي والذنوب"، لا أساسَ له من الصحة! كل ما في الأمر أن البلدانَ العربية والإسلامية لا تولي الاهتمامَ الكافي للبحث العلمي في سياساتها العمومية. وهذا يعني أن حكَّامَ هذه البلدان، العربية والإسلامية، لهم أولويات أخرى.
وما يزيد في الطين بلَّة، هو أن كثيرا من الناس، سواءً كانوا متعلِّمين أو غير متعلِّمين يثقون، ثقةً عمياء، في مثل هذه الادِّعاءات إلى درجة تحويلها إلى حقائق تُتداول وتنتشر في المجتمع كانتشار النار في الهشيم.
وعندما أقول "ثقة عمياء"، فهذا يعني أن مَن يستمعون إلى مثل هذه الادِّعاءات ويثقون بها، لا يستعملون عقولَهم، علما أن اللهَ سبحانه وتعالى فضَّل البشرَ على جميع مخلوقاتِه بالعقل. والعقل ليس هِبةً مجانيةً من الله سبحانه وتعالى. كل الحيوانات تتصرَّف بالغريزة إلا الإنسان، من واجبه أن يستعمل هذه الهِبة الإلاهية. وإلا ما الفائدة منها؟
والدليل على وجوب استعمال العقل، هو أن اللهَ، سبحانه وتعالى، يُنهي كثيرا من آيات القرآن الكريم بعبارات "أفَلاَ تَعقِلون" أو "إن كنتم تعقلون" أو "أولي الألباب" أو "لعلَّكم تتفكَّرون" أو "لقومٍ يتفكرون"... كل هذه العبارات توحي بأن الناسَ قبل أن ينطقوا بكلامٍ ما، عليهم أن يُمرِّروه من مصفاة العقل حتى يكونَ مطابقا للمنطق وما يقبله هذا العقل.
مع كل التَّقدير والاحترام لفقهاء الدين وعلمائه، إدعاءُهم هذا مردودٌ عليه ولا يستند إلى أدلَّة ملموسة ومُقنِعة. بل إنهم، بادِّعادهم هذا، يُخالفون إرادةَ ومشيئةَ وقدرةَ الله. بدون تردُّدٍ، أقول إن ما يزعُمُه هؤلاء الناس مخالفٌ للصواب لعدة أسباب!
السبب الأول، هو : إن اللهَ، سبحانه وتعالى، يقول في قرآنه الكريم : "...إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ" (الحج، 14). وفي آيةٍ أخرى وفي نفس السورة، يقول عز وجل : "...إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (الحج، 18). وفي كثيرٍ من سُور وآيات القرآن الكريم يقول سبحانه وتعالى إن/أن الله على كل شيءٍ قدير.
فهل يستطيع الناس الذين يدَّعون أن تأخُّرَ بلدان عربية وإسلامية في مجالات إنتاج العلوم والتكنولوجيا هو سُخطٌ من الله، أن يُبيِّنوا لنا بالدليل القطعي والمنطقي أنه بإمكانهم الاطِّلاع على ما يريده وما يشاءه اللهُ. و وُرود كلمة "شيء" في آيات القرآن الكريم التي يُطلِعنا فيها على قدرته سبحانه وتعالى، يدلُّ على أن هذه القدرة غير محدودة وغير مرتبطة لا بالزمان ولا بالمكان. وبما أن القدرة الإلهية غير محدودة، فإرادةُ اللهِ ومشيئتُه، هما الأخريان غير محدودتين.
والقدرة والإرادة والمشيئة الإلهية أشياءٌ مطلقةٌ، أي غير مرتبطة بالزمان والمكان. وما أعرفُه، أنا شخصيا، هو أن العقلَ البشري غير قادرٍ على إدراك ما هو مطلق. وهذا العقل البشري مُصمَّمٌ ليدركَ، فقط، الأمور الدنيوية التي هي من إنتاج البشر ولا يمكن أن يطَّلعَ على ما هو مُصنَّفٌ في علم الغيب الذي لا يعلم سرَّه إلا الله سبحانه وتعالى مصداقا لقوله، عزَّ وجلَّ : قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (،الأعراف، 188).
في هذه الآية، كلام الله مُوجَّه لنبيه ورسوله محمد (ص،). فإذا كان الرسول (ص)، خير بشرٍ اختاره الله سبحانه وتعالى ليُبلِّغ رسالتَه ألى الناس، يعترف بأنه، لا يعلم الغيبَ، فكيف لفقهاء الدين وعلمائه أن يدَّعوا أن تأخُّرَ بلدان عربية وإسلامية في مجالات إنتاج العلوم والتكنولوجيا، هو سُخطٌ أو غضبٌ من الله.
وهذا دليلٌ قطعي على أن العقلَ البشري، ولو كان لرسول، غير قادر على إدراك ما هو مطلق، فعلى ماذا يستند فقهاءُ الدين وعلماءُه ليقولوا لنا "إن تأَخُّرَ البلدان الإسلامية في مجال إنتاج العلوم والتِّكولونيا، هو سُخطٌ وعقابٌ من الله على أمَّة ارتكبت وترتكب الذنوب والمعاصي".
إنه، فقط، و مجرَّد كلامٌ مقتبسٌ من التراث الإسلامي وصَلنا عن طريق "العنعنة"، ولا أحد قادرٌ على إثبات صحته أو نفيها. وهنا، لا يجب أن يُفهم من كلامي أنني ضد الأحاديث النبوية. لا أبدا! أُومِِن بها عندما تكون صحيحة وموثوقة ولا تتعارض مع القرآن الكريم ومع المنطق والعقل!
السبب الثاني هو أن ارتكابَ الأخطاء والذنوب والمعاصي لم يُفارق الإنسان منذ ظهوره على وجه الأرض. وهذا هو ما يجعل الطبيعةَ البشريةَ تتأرجح بين الخير والشر. بمعنى أن الإنسان قد يسلك، بمحض إرادته، طريقَ الخير أو طريقَ الشر حسب ما يسعى إلى تحقيقه من أهداف. فإن سلك طريقَ الخير وتحقَّقَ ما سعى له من أهداف، فإنه يُسعِد نفسَه وقد يُسعِد الآخرين. وإن سلك طريقَ الشر وكان تحقيقُ أهدافه مؤدياً للغير، فإنه يُرضي نفسَه، وبكل تأكيد، يُغضب الآخرين. قد يقول قائلٌ إن الشرَّ واضح والخير أوضح منه. لكن الحياةَ مدٌّ وجزرٌ. فيها ما يُرضي كثيرا من الناس وفيها ما لا يُرضي كثيرا منهم. كل فئة تتعامل مع مدِّ وجزرِ الحياة إما بسلوك طريق الخير وإما بسلوك طريق الشر. وباختصار، الخير والشر سنَّتان من سنن الحياة يُرافقان الإنسانَ طول حياته، بمعنى أنه لا يمكن أن يتخلَّصَ منهما. وهذا يعني أن الخيرَ والشرَّ ملازمان للإنسان أينما حلَّ وارتحل وكيفما كانت معتقداتُه الدينية.
السبب الثالث يكمن في كون إنتاج العلوم والتكنولوجيا يتمركز، منذ القرن الثامن عشر إلى يومنا هذا، في بلدان علمانية، أي بلدان فصلت وتفصل بين السياسة والدين. وبعبارة أخرى، إن هذه البلدان تعتبر الدينَ أمرا يدور بين خالق ومخلوق، أي أن السياسةَ لا تتدخَّل في الدين والدينُ لا يتدخَّل في السياسة.
وأكثر من هذا وذاك، إن علماءَ الدين وفقهاءَه يعتبرون عبادَ البلدان العٍلمانية كفَّارا. فلماذا لم يُسلِّط الله سبحانه وتعالى غضبَه وسُخطَه على هذه البلدان العلمانية ويُحرمها من نِعمة إنتاج العلوم والتكنولوجيا؟
السبب الرابع يتمثَّل في تناقص فقهاء الدين وعلماءُه مع أنفسهم. كيف ذلك؟ إنهم يعتقدون بأن العلمَ، بالنسبة لهم، ينحصر في علوم الدين وكل ما لع علاقة بمختلف مجالات المعرفة الدينية. بينما اللهَ سبحانه وتعالى يخبرنا بأن علمَه يحيط بكل شيء مصداقا لقوله، عزَّ وجلَّ : "...وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (الطلاق، 12). ويقول كذلك : "...ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (البقرة، 29). أَضِف إلى هذا أن كلمةَ "عِلم" جاءت، في القرآن الكريم بصيغة المفرد، أي أن جمعَها "علوم" غير موجود في هذا القرآن. و وُرودُ كلمة "شيء" في الآيتين، السابقتي الذكر أعلاه، يعني أن علمَ الله واسعٌ إذ يشمل كل ما هو موجودٌ في/على سطح الأرض. فلماذا يتناقض فقهاءُ الدين وعلماءُه مع أنفسهم؟ لأن علمَ الله واسعٌ، بمعنى أنه يشمل كل مكوِّنات الأرض، حيَّةً كانت أم غير حية، بينما هم، أي فقهاء الدين وعلماءه، يحصرون مصطلحَ العلمِ، الوارد في القرآن الكريم، في العلوم الدينية. ويزداد التناقضُ حدَّةً عندما، على مستوى فكرهم، ينبدون العلوم الدنيوية التي يُنتجها الكفَّارُ، لكنهم، في نفس الوقت، يستعملون ما تُنتِجه هذه العلوم من تكنولوجيات وآلات وأجهزة…
والآن، حان الوقت للإجابة عن السؤال الذي هو عنوان هذه المقالة : "هل تقدم العلوم وازدهارُها مرتبطان بالدين"؟ سؤالٌ يمكن صياغتُه بطريقة أخرى، فنقول : هل من الضروري أن يكون الأشخاصُ المُنتِجون للعلوم والتكنولوجيا متديِّين؟
انطلاقا من التوضيحات التي أوردتُها في الأسباب الأربعة السابقة الذكر، الجواب هو : لا علاقة لتقدُّم العلوم وازدهارها لا بالدين ولا بالتَّديُّن. وليس من الضروري أن يكونَ الأشخاص المنتجون للعلوم والتكنولوجيا متديِّنين. قد يكون الدين والتَّديُّن حافزين أخلاقيين يحثَّان الإنسان على الإخلاص في عمله خدمةً للصالح العام.
لكن تقدُّم العلوم وازدهارُها لهما علاقة فقط وحصريا بسياسة كل بلدٍ على حدة. إذا توفَّرت الإرادة السياسية وتوفرت الإمكانيات المادية والبشرية، فحتما ستشهد البلدان العربية والإسلامية تقدما وازدهارا علميا وتكنولوجياً!
البلدان العلمانية وغير العلمانية التي يشهد فيها، حاليا، إنتاجُ العلوم والتكنولوجيا تقدُّما وازدهارا، كلها، بدون استثناء، تولي اهتماما كبيرا، في سياساتها العمومية، للبحث العلمي الذي هو مصدر إنتاج العلوم. ويتجلَّى هذا الاهتمام، إضافةً إلى الإرادة السياسية، في تخصيص نسبة مهمة من ناتِجِها الداخلي الخام produit intérieur brut PIB تتراوح بين 2 و4% من هذا الناتج. على رأس هذه البلدان، توجد إسرائيل التي تُنفِقُ أكثر من 4% من ناتجها الداخلي الخام.
ولفقهاء الدين وعلمائه، أقول : كفى من استحمار الناس وكفى من اعتبارهم لا يفهمون شيئا وكفى من السطو على عقولهم ومنعِها من التفكير. وكفى من تنكُّركم للواقع. بل إن ادِّعائكم أن "التَّأخُّرَ الذي تعرفه جلُّ البلدان العربية والإسلامية في مجالات إنتاج العلوم والتِّكنولوجيا، راجعٌ إلى سُخط اللهِ سبحانه وتعالى على العباد، في هذه البلدان، بفعل ارتكابهم المعاصي والذنوب"، لا أساسَ له من الصحة! كل ما في الأمر أن البلدانَ العربية والإسلامية لا تولي الاهتمامَ الكافي للبحث العلمي في سياساتها العمومية. وهذا يعني أن حكَّامَ هذه البلدان، العربية والإسلامية، لهم أولويات أخرى.