اختلفت مذاهب الأدباء في المتنبي بين المدح والذم اختلافا شديدا منذ العصور الذي كان يحيا فيه إلى الآن، وقد مر على وفاته عشرة قرون كاملة. وانك لتجد اليوم بعد هذه الأجيال الطويلة من يتكلم عن المتنبي بلسان الصاحب بن عباد خصمه العنيدالذي جعل وكده النيل من المتنبي وإنكار فضائله بالحق أو الباطل، ومن يدافع عنه ويتعصب له أكثر من ابن جني وأبي العلاء. ولقد كان حريا أن تضيع حقيقة المتنبي بين التفريط والإفراط من الفريقين كما هو الشأن في كل ما يتعاوره هذان العاملان المختلفان، ولكن المتنبي كان شخصية فذة تأبى إلا الإعلان عن نفسها والظهور بمظهرها الحقيقة مهما حالت الحوائل بينها وبين الناس فالمتنبي لا يجهل أحد من المثقفين اليوم أنه من أكبر شعراء العربية إن لم يكن أكبرهم على الإطلاق. رفع من شأن الشعر العربي فأحله مرتبة لم تكن له من قبل، بما نفى عنه من الزخارف اللفظية والأساليب التقليدية والأغراض السافلة، وما نفخ فيه من روح العظمة والابتكار والسمو إلى الغايات البعيدة المنال. حتى انه إذا مدح شخصا فان مدحه له يكون كالتلقين لمبدأ سام لا يجد الإنسان مندوحة عن الاستجابة له من أعماق نفسه. ولا نستدل على ذلك بأكثر من مطلع هذه القصيدة التي يمدح بها سيف الدولة، فان فيه وحده بلاغا لمن يتشكك في هذا القدر، وهو قوله:
على قَدْرِ أهلِ العزْمِ تأتي العزائم ... وتَأتي على قَدْرِ الكِرَامِ المكارِمُ
وتَعْظَمَ في عَيْنِ الصَّغير صغارُها ... وتصغُرُ في عين العَظِيم العَظاِئمُ
وكما يعرف الجمهور هذه الحقيقة من أمر المتنبي اليوم، فانه كان يعرفها بالأمس وفي نفس عصر المتنبي. يدلنا على ذلك هذه العناية الكبيرة من الأدباء بشعره؛ فمن شرح له، إلى انتقاد، إلى تقريظ، إلى غير ذلك مما لم ينله شاعر قبله ولا بعده. وفي حياة المتنبي قال ابن العميد لأحد خلصائه: (انه والله ليغيظني أمر هذا المتنبي واجتهادي في إخماد ذكراه، فقد ورد على نيف وستون كتابا في التعزية ما منها إلا وقد صدر بقوله:
طَوَى الجزيرةَ حتى جاءني خبرٌ ... فَزِْعتُ منه بآمالي إلى الكذبِ
حتى إذا لم يَدَعْ لي صدقه أملاً ... شَرِقت بالدمع حتى كاد يَشرَقُ ولاحظ الأستاذ العقاد عن المدة بين نظم القصيدة التي منها هذان البيتان وموت أخت ابن العميد التي كانت التعزية فيها، أنها لا تزيد كثيرا على سنة واحدة. فانظر كيف كان تلقف الأدباء لآثار المتنبي وتلقيهم لها بالقبول، برغم وجود كثير من المنافسين له والعاملين على إخماد ذكراه كما يعبر الرئيس ابن العميد!
فمقام المتنبي دائما أرفع من أن يتطاول إليه أحد، وشأنه أكبر من أن يؤثر فيه مقال أهل الحسد. وما كثرت هذه التبعات لشعره فكثرت بسببها العثرات التي يأخذها عليه خصومه، إلا لأن نبوغه كان أكمل وأتم، وعبقريته أجل وأعظم؛ والناس منذ كانوا مولعون بالعظماء يتلمسون عيوبهم فيظهرونها، ويتكشفون عوراتهم فلا يسترونها. على أن جل ما أخذ على المتنبي قد رده المحققون وبينوا أن الصواب ما ذهب إليه هو؛ وبعض الباقي هو مما لم يخل منه كاتب ولا شاعر في القديم والحديث، وأي صارم لا ينبو؟ وأين الجواد الذي لا يكبو؟
نعم، هناك هنات لا تزال لاصقة بالمتنبي فتزري بشخصه الكبير؛ ولا زال البحث العلمي بعيدا عن أن يصل فيها إلى نتيجة حاسمة، فنريد أن نلقي عليها بصيصا من نور التحقيقمعتمدين في الكثير على شعر المتنبي الذي هو أصقل مرآة لنفسيته وأخلاقه. وسيكون اعتمادنا في الأكثر على نسخة خطية عتيقة من ديوانه توجد بالخزانة الكنونية. وهذه الهنات التي نقصد إلى الكلام فيها هي تنبؤه وعقيدته وأخلاقه.
فأما تنبؤه فهو الزلة الكبرى التي تؤخذ على ذلك العقل الجبار، وهو في الحقيقة أمر لو صح لكان ذريعة إلى اتهامه في سلامة الادراك. ولكن من المعروف أن المعري كان يشك في صحة ذلك، ويقول في هذا اللقب الذي غلب على أبي الطيب: إن اشتقاقه من النبوة أي الارتفاع، لما كان من ترفعه على الخلق، لا من النبأ الذي منه اشتاق النبئ. وهذا الخبر وحده كاف في نفي هذه التهمة عنه، لا لتشكك المعري فيها، ولكن لما يتضمنه ذلك من إخفاء قضية التنبؤ وعدم شهرتها بين الخاصة فأبله بالعامة، وإلا لما سأل ابن القارح أبا العلاء عن حقيقتها فأجابه أبو العلاء بذلك الجواب. وهذا على أن ما بين المتنبي وأبي العلاء من الزمن لا يجاوز العقد الواحد من السنين. فكيف خفي هذا الأمر ودفن مع المتنبي حتى أن اثنين من كبار أدباء ذلك العصر لا يجدان سبيلا إلى التوثق منه، مع أن العادة في مثله إذا وقع ولو ممن هو أدنى من المتنبي مقاما، أن يشتهر ويتعالم فيتناقله الناس ولا يبقى إحدى ليس عنده نبأ منه!
وأكثر من خبر المعري دلالة على هذا المعنى، خبر ابن جني الذي ذكر له أبو القاسم الشريف (الشريف الغرناطي) في شرح مقصورة حازم، قال: (وحكى أبو الفتح ابن جني قال: سمعت أبا الطيب المتنبي يقول: إنما لقبت بالمتنبي لقولي:
أنا تِرْبُ الندَى وربُّ القوافي ... وسمامُ العدَى وغيظُ الحسودِ
أنا فِي أمةٍ تدارَكها الله ... غريبٌ كصالح في ثُمودِ)
فهو لو كان تنبأ حقيقة لما جهل ذلك من أمره حتى يحتاج إلى البيان، وإلا كان كالمعتذر بأقبح من الزلة. وصفوة القول أن قضية تنبئه لم تثبت حتى في زمن حياته. وهي إن لم تكن من إشاعات خصومه الكاذبة فهي على الأرجح مما نبز به لتشبيهه نفسه بالأنبياء كما في البيتين السابقين والبيت الآخر الذي يقول فيه:
ما مقامي بأرض نخلة إلا ... كمقام المسيح بين اليهود
وننظر في ديوانه فلا نجد ما يدل على هذه القضية لا تصريحا ولا تلويحا إلا ما كان من أمر سجنه في صباه بسبب وشاية بعض الناس به إلى الوالي. فنقول ما هي هذه الوشاية؟ أتراها مما له علاقة بهذا الأمر؟ وتجيب نسختنا عن ذلك بما كتب فيها على القصيدة التي مدح بها الوالي فتقول: (وكان قوم في صباه وشوا به إلى السلطان وتكذبوا عليه وقالوا له قد انقاد إليه خلق من العرب، وقد عزم على أخذ بلدك، حتى أوحشوه منه. فاعتقله وضيق عليه فقال يمدحه). فالوشاية إذا هي خروجه على السلطان لا ادعاؤه النبوة. واستمع إلى ما يقوله في استعطاف الوالي من تلك القصيدة:
أمالك رقي ومن شأنه ... هبات اللجين وعتق العبيد
دعوتك عند انقطاع الرجا ... ء والموت مني كحبل الوريد
دعوتك لما براني البلي ... وأوْهن رجلىِ ثقلُ الحديد
وقد كان مشيهما في النعال ... فقد صار مشيهما في القيود
وكنت من الناس في محفل ... فها أنا في محفل من قرود
يريد المسجونين من اللصوص والجناة المختلفي الطبقات السيئي السلوك تعجل فِيَّ وجوب الحدود ... وحدِّيَ قبل وجوب السجود
يريد أنه صغير لم تجب عليه الصلاة فكيف يجب عليه الحد؟
وقيل عدوت على العالميـ ... ن بين ولادي وبين القعود
يريد أنهم اتهموه بالعدوان على العالمين في حال الطفولة قبل أن يستطيع القعود. وليلاحظ القارئ نوع التهمة فهي منحصرة في الخروج، ولو كانت ادعاء النبوة لما قالت عدوت على العالمين:
فماَلك تَقبلُ زُ ورَ الكلام ... وقدرُ الشهادة قدرُ الشهود
يريد أن الشهود من سفلة الناس فشهادتهم مردودة لعدم تورعهم عن الكذب:
فلا تسمعنَّ من الكاذبين ... ولا تعبأنَّ بمحكِ اليهود
وكن فارقا بين دعوى أردت ... ودعوى فعلتُ بشأو بعيد
وفي جود كفك ما جدت لي ... بنفسي ولو كنت أشقي ثمود
فهذا كلامه في حال صباه قبل أن يناصبه العداء أحد من المنافسين له والحانقين عليه، لم يتضمن شيئا من الإشارة إلى دعوى النبوءة، ولا يمكن ان تفهم منه بحال. فلو كان قال هذه القصيدة في إبان شهرته وانتشار ذكره لقلنا إنه جمجمفيها ودارى عن نفسه، ولكنه كما علمت قالها في صباه، وهي من أوائل شعره بلا نزاع عليها وصحة الاستشهاد بها. بل نحن نسلم جدلا انه أدعى النبوة وبسببها سجن، فكيف يصح قوله حينئذ:
بين دعوى أردت ... ودعوى فعلت بشأو بعيد؟
وهل من يريد إدعاء النبوة متنبئ بالفعل؟ وهل هذه الإرادة مما يمكن الاطلاع عليه قبل إظهارها حتى تأتي الوشاية به؟ وذلك بخلاف الخروج فان بوادره تظهر للناس قبل الإقدام عليه، لأنه لا بد له من دعاوة كبيرة، إذ أن الفرد لا يمكن أن يرفع وحده علم الثورة في وجه الدولة! ومع تأكيدنا أن الذين وشوا به لم يتهموه إلا بالخروج، لا نستبعد أنهم الذين لمزوه بذلك اللقب المشنوء لما رأوا تعاليه عليهم وتقريعه لهم مع تشبيههم باليهود وتشبيه نفسه بالأنبياء كما في قوله:
ما مقامي بأرض نخلةَ إلا ... كمقام المسيح بن اليهود
وقوله: فلا تسمعن من الكاذبين ... ولا تعبأنَّ بمحك اليهود
بل إننا لا نكاد نميل عن هذا الرأي في سبب تلقينه بالمتني حتى تقوم الحجة، والحجة القاطعة على خلافه. وأما أقوال خصومه في ذلك فمرجد ادكار قوله انه سمام العدا وغيظ الحسود تضعف وتضمحل حتى لا يبقى لها اعتبار ما.
وأما عقيدته فهي مما كثر كلام الناس فيه؛ ولسوء حظ المتنبي لم يتناولها إلا منتقد، وليس هناك معتقد فيما نعلم تولي رد ما رمى به من الزبغ والإلحاد. فنحن نبين ما يعتمد إليه متهموه فيها ونعقب عليه بما يلوح لنا من ذلك صحيحا أو باطلا. غير أنه لابد من القول أن مثل المتنبي في أدبه وشعره وروحه الفلسفية لا يطمع منه أن يكون متدينا خالصا إلى حد التبتل والانقطاع للعابدة ومحاسبة نفسه على الخطرات وحبس لسانه عن فضول الكلام، فان التدين بهذه الصفة مما لا يكاد يفهمه إخوانه من الشعراء وأهل الأدب على وجه العموم. وقديما مثلوا برقة إيمان الأدباء، فكيف نريد منالمتنبي أن يتستر على جمهورهم ويقدم لنا من نفسه (أويسا) في ثوب شاعر، أو شاعار في ثوب (أويس)؟ ولئن قال علي بن حمزة عن المتنبي إنه ما صام ولا صلى ولا قرأ القرآن فلقد قال عنه إنه ما كذب ولا زنا ولا لاط. وهذه إن لم تقم بتلك فان تلك لا اعتداد بها مع هذه. وهل كان الشعراء الذين لم يتنزهوا عن الكذب والزنا واللواط يصمون ويصلون ويقرأون القرآن؟
وبهذا تعلم أن عدوان الخصومة على المتنبي قد ستر من محاسنه ما لو ظهر لكان له في النفوس مكان أسمى مما له فيها الآن ولأقص على سمعك بعد هذه المقدمة بعض الأبيات التي يزن بسبها بضعف العقيدة. قال يمدح بدر بن عمار:
تَتَقاَصرُ الأفهامُ عن إدراكه ... مِثُل الذي الأفلاكُ فيه والدُّنى
فقالوا: لقد أفرط جدا لأنه شبه ممدوحة بالحق سبحانه وتعالى، لأن الذي فيه الأفلاك والدنى هو علمه عز وجل. ونقول إن هذا تعسف ظاهر، فمن الذي نقل عنه أنه يريد ما ذكرتم؟ وماذا حسن في بلاغتكم؟ التعبير عن علم الله بالذي الأفلاك فيه والدنى حتى رجحتموه على أن يكون المراد به هذا الفضاء الواسع الذي يحتوي الأفلاك والدنى حقيقة ممتدا وراء الآفاق التي تتقاصر عن إدراكها العقول؟
وقال المتنبي: أنا مُبصرٌ وأظن أني نائمٌ ... من كان يحلم بالآله فأحلما؟
فقالوا: هذه مبالغة مذمومة وإفراط وتجاوز حد، ثم هو غلط في إنكار رؤية الله تعالى في النوم فان الأخبار يقد تواترت بذلك ونقول: إن البيت رواية أخرى وهي الأشهر هكذا:
من كان يحلم ما يراه فاحلما، وهي كذلك في نسختنا، والمعنى عليها أظهر من الأولى فلا يبعد أن تكون تحريفا
(البقية في العدد القادم)
(طنجة)
عبد الله كنون الحسني
مجلة الرسالة - العدد 129
بتاريخ: 23 - 12 - 1935
على قَدْرِ أهلِ العزْمِ تأتي العزائم ... وتَأتي على قَدْرِ الكِرَامِ المكارِمُ
وتَعْظَمَ في عَيْنِ الصَّغير صغارُها ... وتصغُرُ في عين العَظِيم العَظاِئمُ
وكما يعرف الجمهور هذه الحقيقة من أمر المتنبي اليوم، فانه كان يعرفها بالأمس وفي نفس عصر المتنبي. يدلنا على ذلك هذه العناية الكبيرة من الأدباء بشعره؛ فمن شرح له، إلى انتقاد، إلى تقريظ، إلى غير ذلك مما لم ينله شاعر قبله ولا بعده. وفي حياة المتنبي قال ابن العميد لأحد خلصائه: (انه والله ليغيظني أمر هذا المتنبي واجتهادي في إخماد ذكراه، فقد ورد على نيف وستون كتابا في التعزية ما منها إلا وقد صدر بقوله:
طَوَى الجزيرةَ حتى جاءني خبرٌ ... فَزِْعتُ منه بآمالي إلى الكذبِ
حتى إذا لم يَدَعْ لي صدقه أملاً ... شَرِقت بالدمع حتى كاد يَشرَقُ ولاحظ الأستاذ العقاد عن المدة بين نظم القصيدة التي منها هذان البيتان وموت أخت ابن العميد التي كانت التعزية فيها، أنها لا تزيد كثيرا على سنة واحدة. فانظر كيف كان تلقف الأدباء لآثار المتنبي وتلقيهم لها بالقبول، برغم وجود كثير من المنافسين له والعاملين على إخماد ذكراه كما يعبر الرئيس ابن العميد!
فمقام المتنبي دائما أرفع من أن يتطاول إليه أحد، وشأنه أكبر من أن يؤثر فيه مقال أهل الحسد. وما كثرت هذه التبعات لشعره فكثرت بسببها العثرات التي يأخذها عليه خصومه، إلا لأن نبوغه كان أكمل وأتم، وعبقريته أجل وأعظم؛ والناس منذ كانوا مولعون بالعظماء يتلمسون عيوبهم فيظهرونها، ويتكشفون عوراتهم فلا يسترونها. على أن جل ما أخذ على المتنبي قد رده المحققون وبينوا أن الصواب ما ذهب إليه هو؛ وبعض الباقي هو مما لم يخل منه كاتب ولا شاعر في القديم والحديث، وأي صارم لا ينبو؟ وأين الجواد الذي لا يكبو؟
نعم، هناك هنات لا تزال لاصقة بالمتنبي فتزري بشخصه الكبير؛ ولا زال البحث العلمي بعيدا عن أن يصل فيها إلى نتيجة حاسمة، فنريد أن نلقي عليها بصيصا من نور التحقيقمعتمدين في الكثير على شعر المتنبي الذي هو أصقل مرآة لنفسيته وأخلاقه. وسيكون اعتمادنا في الأكثر على نسخة خطية عتيقة من ديوانه توجد بالخزانة الكنونية. وهذه الهنات التي نقصد إلى الكلام فيها هي تنبؤه وعقيدته وأخلاقه.
فأما تنبؤه فهو الزلة الكبرى التي تؤخذ على ذلك العقل الجبار، وهو في الحقيقة أمر لو صح لكان ذريعة إلى اتهامه في سلامة الادراك. ولكن من المعروف أن المعري كان يشك في صحة ذلك، ويقول في هذا اللقب الذي غلب على أبي الطيب: إن اشتقاقه من النبوة أي الارتفاع، لما كان من ترفعه على الخلق، لا من النبأ الذي منه اشتاق النبئ. وهذا الخبر وحده كاف في نفي هذه التهمة عنه، لا لتشكك المعري فيها، ولكن لما يتضمنه ذلك من إخفاء قضية التنبؤ وعدم شهرتها بين الخاصة فأبله بالعامة، وإلا لما سأل ابن القارح أبا العلاء عن حقيقتها فأجابه أبو العلاء بذلك الجواب. وهذا على أن ما بين المتنبي وأبي العلاء من الزمن لا يجاوز العقد الواحد من السنين. فكيف خفي هذا الأمر ودفن مع المتنبي حتى أن اثنين من كبار أدباء ذلك العصر لا يجدان سبيلا إلى التوثق منه، مع أن العادة في مثله إذا وقع ولو ممن هو أدنى من المتنبي مقاما، أن يشتهر ويتعالم فيتناقله الناس ولا يبقى إحدى ليس عنده نبأ منه!
وأكثر من خبر المعري دلالة على هذا المعنى، خبر ابن جني الذي ذكر له أبو القاسم الشريف (الشريف الغرناطي) في شرح مقصورة حازم، قال: (وحكى أبو الفتح ابن جني قال: سمعت أبا الطيب المتنبي يقول: إنما لقبت بالمتنبي لقولي:
أنا تِرْبُ الندَى وربُّ القوافي ... وسمامُ العدَى وغيظُ الحسودِ
أنا فِي أمةٍ تدارَكها الله ... غريبٌ كصالح في ثُمودِ)
فهو لو كان تنبأ حقيقة لما جهل ذلك من أمره حتى يحتاج إلى البيان، وإلا كان كالمعتذر بأقبح من الزلة. وصفوة القول أن قضية تنبئه لم تثبت حتى في زمن حياته. وهي إن لم تكن من إشاعات خصومه الكاذبة فهي على الأرجح مما نبز به لتشبيهه نفسه بالأنبياء كما في البيتين السابقين والبيت الآخر الذي يقول فيه:
ما مقامي بأرض نخلة إلا ... كمقام المسيح بين اليهود
وننظر في ديوانه فلا نجد ما يدل على هذه القضية لا تصريحا ولا تلويحا إلا ما كان من أمر سجنه في صباه بسبب وشاية بعض الناس به إلى الوالي. فنقول ما هي هذه الوشاية؟ أتراها مما له علاقة بهذا الأمر؟ وتجيب نسختنا عن ذلك بما كتب فيها على القصيدة التي مدح بها الوالي فتقول: (وكان قوم في صباه وشوا به إلى السلطان وتكذبوا عليه وقالوا له قد انقاد إليه خلق من العرب، وقد عزم على أخذ بلدك، حتى أوحشوه منه. فاعتقله وضيق عليه فقال يمدحه). فالوشاية إذا هي خروجه على السلطان لا ادعاؤه النبوة. واستمع إلى ما يقوله في استعطاف الوالي من تلك القصيدة:
أمالك رقي ومن شأنه ... هبات اللجين وعتق العبيد
دعوتك عند انقطاع الرجا ... ء والموت مني كحبل الوريد
دعوتك لما براني البلي ... وأوْهن رجلىِ ثقلُ الحديد
وقد كان مشيهما في النعال ... فقد صار مشيهما في القيود
وكنت من الناس في محفل ... فها أنا في محفل من قرود
يريد المسجونين من اللصوص والجناة المختلفي الطبقات السيئي السلوك تعجل فِيَّ وجوب الحدود ... وحدِّيَ قبل وجوب السجود
يريد أنه صغير لم تجب عليه الصلاة فكيف يجب عليه الحد؟
وقيل عدوت على العالميـ ... ن بين ولادي وبين القعود
يريد أنهم اتهموه بالعدوان على العالمين في حال الطفولة قبل أن يستطيع القعود. وليلاحظ القارئ نوع التهمة فهي منحصرة في الخروج، ولو كانت ادعاء النبوة لما قالت عدوت على العالمين:
فماَلك تَقبلُ زُ ورَ الكلام ... وقدرُ الشهادة قدرُ الشهود
يريد أن الشهود من سفلة الناس فشهادتهم مردودة لعدم تورعهم عن الكذب:
فلا تسمعنَّ من الكاذبين ... ولا تعبأنَّ بمحكِ اليهود
وكن فارقا بين دعوى أردت ... ودعوى فعلتُ بشأو بعيد
وفي جود كفك ما جدت لي ... بنفسي ولو كنت أشقي ثمود
فهذا كلامه في حال صباه قبل أن يناصبه العداء أحد من المنافسين له والحانقين عليه، لم يتضمن شيئا من الإشارة إلى دعوى النبوءة، ولا يمكن ان تفهم منه بحال. فلو كان قال هذه القصيدة في إبان شهرته وانتشار ذكره لقلنا إنه جمجمفيها ودارى عن نفسه، ولكنه كما علمت قالها في صباه، وهي من أوائل شعره بلا نزاع عليها وصحة الاستشهاد بها. بل نحن نسلم جدلا انه أدعى النبوة وبسببها سجن، فكيف يصح قوله حينئذ:
بين دعوى أردت ... ودعوى فعلت بشأو بعيد؟
وهل من يريد إدعاء النبوة متنبئ بالفعل؟ وهل هذه الإرادة مما يمكن الاطلاع عليه قبل إظهارها حتى تأتي الوشاية به؟ وذلك بخلاف الخروج فان بوادره تظهر للناس قبل الإقدام عليه، لأنه لا بد له من دعاوة كبيرة، إذ أن الفرد لا يمكن أن يرفع وحده علم الثورة في وجه الدولة! ومع تأكيدنا أن الذين وشوا به لم يتهموه إلا بالخروج، لا نستبعد أنهم الذين لمزوه بذلك اللقب المشنوء لما رأوا تعاليه عليهم وتقريعه لهم مع تشبيههم باليهود وتشبيه نفسه بالأنبياء كما في قوله:
ما مقامي بأرض نخلةَ إلا ... كمقام المسيح بن اليهود
وقوله: فلا تسمعن من الكاذبين ... ولا تعبأنَّ بمحك اليهود
بل إننا لا نكاد نميل عن هذا الرأي في سبب تلقينه بالمتني حتى تقوم الحجة، والحجة القاطعة على خلافه. وأما أقوال خصومه في ذلك فمرجد ادكار قوله انه سمام العدا وغيظ الحسود تضعف وتضمحل حتى لا يبقى لها اعتبار ما.
وأما عقيدته فهي مما كثر كلام الناس فيه؛ ولسوء حظ المتنبي لم يتناولها إلا منتقد، وليس هناك معتقد فيما نعلم تولي رد ما رمى به من الزبغ والإلحاد. فنحن نبين ما يعتمد إليه متهموه فيها ونعقب عليه بما يلوح لنا من ذلك صحيحا أو باطلا. غير أنه لابد من القول أن مثل المتنبي في أدبه وشعره وروحه الفلسفية لا يطمع منه أن يكون متدينا خالصا إلى حد التبتل والانقطاع للعابدة ومحاسبة نفسه على الخطرات وحبس لسانه عن فضول الكلام، فان التدين بهذه الصفة مما لا يكاد يفهمه إخوانه من الشعراء وأهل الأدب على وجه العموم. وقديما مثلوا برقة إيمان الأدباء، فكيف نريد منالمتنبي أن يتستر على جمهورهم ويقدم لنا من نفسه (أويسا) في ثوب شاعر، أو شاعار في ثوب (أويس)؟ ولئن قال علي بن حمزة عن المتنبي إنه ما صام ولا صلى ولا قرأ القرآن فلقد قال عنه إنه ما كذب ولا زنا ولا لاط. وهذه إن لم تقم بتلك فان تلك لا اعتداد بها مع هذه. وهل كان الشعراء الذين لم يتنزهوا عن الكذب والزنا واللواط يصمون ويصلون ويقرأون القرآن؟
وبهذا تعلم أن عدوان الخصومة على المتنبي قد ستر من محاسنه ما لو ظهر لكان له في النفوس مكان أسمى مما له فيها الآن ولأقص على سمعك بعد هذه المقدمة بعض الأبيات التي يزن بسبها بضعف العقيدة. قال يمدح بدر بن عمار:
تَتَقاَصرُ الأفهامُ عن إدراكه ... مِثُل الذي الأفلاكُ فيه والدُّنى
فقالوا: لقد أفرط جدا لأنه شبه ممدوحة بالحق سبحانه وتعالى، لأن الذي فيه الأفلاك والدنى هو علمه عز وجل. ونقول إن هذا تعسف ظاهر، فمن الذي نقل عنه أنه يريد ما ذكرتم؟ وماذا حسن في بلاغتكم؟ التعبير عن علم الله بالذي الأفلاك فيه والدنى حتى رجحتموه على أن يكون المراد به هذا الفضاء الواسع الذي يحتوي الأفلاك والدنى حقيقة ممتدا وراء الآفاق التي تتقاصر عن إدراكها العقول؟
وقال المتنبي: أنا مُبصرٌ وأظن أني نائمٌ ... من كان يحلم بالآله فأحلما؟
فقالوا: هذه مبالغة مذمومة وإفراط وتجاوز حد، ثم هو غلط في إنكار رؤية الله تعالى في النوم فان الأخبار يقد تواترت بذلك ونقول: إن البيت رواية أخرى وهي الأشهر هكذا:
من كان يحلم ما يراه فاحلما، وهي كذلك في نسختنا، والمعنى عليها أظهر من الأولى فلا يبعد أن تكون تحريفا
(البقية في العدد القادم)
(طنجة)
عبد الله كنون الحسني
مجلة الرسالة - العدد 129
بتاريخ: 23 - 12 - 1935