(٦)
مدينة تموج بالقلاقل:
عمر بن الخطاب الذي فتح فلسطين ذات التاريخ الحافل وموطيء الأنبياء ومسرى نبينا وأولى القبلتين دخل تنور مشتعل، وهو الذي لم يأتي فاتحا لإيغار الصدور أو شحن النفوس المشحونة بل لنشر صحيح الدين ومن ثم إحلال السلام «الحقيقي» بين قاطنيها كي يتفرغوا لما هم معنيون به، فبدأوا ببناء فسطاط يخصهم، والبناء يتطلب تحقيق الأمن والاطمئنان لأولئك المتشاحنون الذي ورثوا أخطاء السابقين وأصبح لزاما عليهم المضي قدما في ذات الدرب، ذلك التوازن المنشود كيف للحكومة الجديدة أن تحققه إن لم يكن المتن الذي بين أيديهم كامل متكامل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا خلفه فلا يمكنهم البتة جمع شمل الفرقاء.
وفي هذا الصدد تقول كارين:
لم يكن من المستغرب إذن أن يرحب أناس مثل النسطوريين والمسيحيين من أتباع الطبيعة الواحدة لـ«المسيح» بالمسلمين، وأن يجدوا الإسلام أفضل من بيزنطة، ويقول المؤرخ ميخائيل السرياني إن المسلمين لم يستعلموا عن عقائد الناس المعلنة ولم يضطهدوا أحدا بسبب إعلانه عن عقيدته وذلك خلافا لما فعله اليونانيون الذين هم أمة من الهراطقة، أما المسيحيون الأرثوذكس فكان عليهم توفيق أوضاعهم بأسلوب أشد صعوبة، فقد بكى صفرونيوس وهو يشاهد عمر واقفا على جبل المعبد وتذكر ما تنبأ به النبي دانيال من «الشعور البغيض بالدمار» وكان البطريرك طلب من عمر عدم سكنى اليهود معهم في الأماكن التي يسكنوها فحقق له مراده في البداية ولكنه فيما بعد لم يجد سببا منطقيا لعدم سكنى اليهود في أي بقعة (وحدهم المسلمون هم من أنزلوهم مكانة لائقة دائما)، فقام باستدعاء سبعين عائلة يهودية من طبرية للاستيطان في بيت المقدس (مدينة داوود) وهذا هو سلوك المسلمين تجاه اليهود مقابل تجريمهم من قبل البيزنطيين، وهرقل الذي أمر بتعميدهم قسرا، هذا التسامح من قبل المسلمين جعل اليهود يشعرون أن الإسلام هو مرحلة سيتحول بعدها أولئك «الإسماعيليون» إلى صحيح الدين (اليهودية) وتقول كارين أن المسلمين لم يحرروهم فقط من البيزنطيين ولكن سمحوا لهم بالإقامة الدائمة في المدينة المقدسة، وفي خطاب كتبه بعض الحاخامات في القرن الحادي عشر تذكر هؤلاء الرحمة التي أظهرها الإله لشعبه حين سمح لـ«مملكة إسماعيل» أن تفتح فلسطين وعبروا عن غبطتهم لوصول المسلمين إلى أورشاليم.
(الرومان كانوا لا يحبون اليهود، يشعرون بالقرف والاشمئزاز منهم وكذلك المسيحيين ولم يفسح لهم الطريق دائما سوى المسلمون، حتى تلاقت مصالح الفرقاء فيما بعد فاتحدوا جميعا لمواجهة الإسلام!!)
وأصبح واضحًا للعيان أن القسطنطينية قد نسيت كل ما يتعلق بهم، فلم تعين بطريرك خلفا لصفرونيوس، أطلق المسلمون العنان لسكان بيت المقدس الحرية الدينية وقاموا ببناء وترميم كنائسهم وأقام المسلمون حول المسجد الأقصى وكعادتهم في فتوحهم لا يسكنون مع غيرهم في أماكنهم ولا يتدخلون في أنماط حياتهم وعبادتهم التي تخصهم، عدا اليهود فقط هم من سمحوا لهم بالإقامة معهم في نفس البقاع التي سكنوها، وهذا نهج الذين يبنون ولا يهدمون، يؤلفون القلوب ويسعون إلى تحقيق السلام الاجتماعي الحقيقي بين الجموع كي لا يثيرون حفيظتهم، ذلك أن المقصد والهدف الرئيس الذي من أجله تركوا بلادهم هو نشر الدعوة وتبليغ الرسالة.
تقول كارين:
«وبعد تلك البداية المبشرة بدأت الإمبراطورية الإسلامية تتعرض للتمزق حينما قام سجين حربي فارسي باغتيال عمر عام 644م ، ومن الأمور المسلم بها أن أحد مآسي الأديان هي عدم استطاعة معتنقيها العيش وفقا مثلها، فقد عبرت المسيحية التي هي ديانة المحبة عن نفسها في أورشاليم بالكراهية والازدراء، ثم تعرض الإسلام وهو دين الوحدة والتكامل إلى التمزق والطائفية، فمنذ وفاة محمد صلى الله عليه وسلم كانت هناك حالة من التوتر بين الخلفاء من جهة وآل بيت الرسول من جهة أخرى حول قيادة الأمة وقد أدى ذلك الصراع إلى انقسام الأمة إلى شيعة وسنة وبعد مقتل عمر تولى عثمان بن عفان الخلافة وكان أحد صحابة الرسول صلى الله عليه وسلموينسب إلى عشيرة أمية الارستقراطية»
لماذا يقدس المسلمون قبة الصخرة؟
سؤال تطرحه كارين، فهل هي لا تعلم أن نبينا صلى الله عليه وسلم عرج إلى السماء الدنيا منها؟! وقد تعرضت لها بشيء من التشويش والذي مبعثه الاختلاف العقائدي ولكنها حتى وهي تتطرق لها من خلال موروثها الديني لم تقطع أو تجزم بتصورها عن تلك الصخرة، فهي الصخرة الملقاة على دكة هيرود، أو أن بناء المسجد حولها كان رد فعل الخليفة عبد الملك بن مروان على الفخامة البيزنطية، كما أعاد الأمويون بناء المسجد الأقصى بديلا عن البناء الخشبي الذي بناه عمر بن الخطاب ليحاكي تلك الفخامة الماثلة
(قد يكون هذا التصور صحيحا ولكن ما لايمكن إنكاره أن حب الفخامة في البناء والرياش والملبس كان من صميم ما اتصف به الأمويون بعامة)
وكان الملك سليمان بن الوليد بن عبد الملك (715 م- 717م) ينوي جعل بيت المقدس عاصمة للخلافة الإسلامية ولكنه تراجع لما ارتأى عدم القدرة على إمكانية تحقيق ذلك نظرا لرفض الأمويين جعل مدينة أغلب سكانها مسيحيين عاصمة للخلافة، فبنى مدينة رام الله قرب اللد.
القدس:
لأول مرة كما تقول كارين أرسى المسلمون نظاما تمكن بواسطته المسلمون والمسيحيون واليهود من العيش معا في بيت المقدس، فاليهود منذ العودة من بابل يرون استبعاد الغرباء من المدينة، أي كل من هم دونهم،بينما فكرة المسلمين عن المقدس كانت أكثر شمولية، فلم يكن لديهم مانع من العيش معا مع احتفاظ كل اتباع عقيدة بخصوصيتهم.
تقول كارين أنه مع تولي العباسيين الخلافة تغيرت تلك الصورة المثالية بعد أن حاد المسلمون عن الأمثولة القرآنية للإسلام كون دينهم فقط هو دين التوحيد وهو فقط الدين الصحيح ودونهم نقيض ذلك مما مثل تحدي ماثل لأتباع اليهودية والمسيحية على حد سواء فزاد من التوتر بين الكل.
تقول كارين عن مسجد قبة الصخرة:
«وكان المسلمون أقلية في بيت المقدس، ومن المحتمل أن الغالبة المسيحية كانت تنظر إلى الفاتحين بازدراء وتراهم برابرة بدائيين، غير أن قبة الصخرة وهي تشمخ بمهابة تفوق مهابة أكثر الأماكن القديمة قدسية في المدينة، كانت بمثابة تأكيد درامي أن الإسلام قد أتى ليستمر، كما أنها أطلقت رسالة ملحة إلى المسيحيين كي يراجعوا معتقداتهم ويعودوا إلى عقيدة إبراهيم التوحيدية الخالصة».
وفي موضع آخر تقول:
«بيد أنه كان لصخرة القبة رسالة أخرى لليهود، فقد قيل أنها كانت تحتل موقع معبدهم الذي كان قد أقيم في المكان الذي «ادعوا» أن إبراهيم قدم ابنه أضحية فيه، والرسالة المتضمنة هي أن اليهود ليسوا أبناء إبراهيم الوحديدين وعليهم أيضا أن يتذكروا أنه لم يكن يهوديا ولا نصرانيا بل كان مسلما».
سيرة ومسيرة:
منذ الخروج الأول للمسلمين الفاتحين لتبليغ الدعوة وتحرير البشر من عبادة الشيطان (كل عبادة لغير الله هي عبادة للشيطان) ومامن بلد فتحوه إلا وقاموا ببناء بقعة تخصهم حتى لا يستفزوا سكان البلد الأصليين بما يمكن أن يأتي بنتائج عكس المرجوة، كما أنهم اتبعوا النهج الإلهي في دعوة الغير إلى صحيح الدين، يدفعهم أو يدعمهم في ذلك نصوصا دينية صريحة:
(ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) 125 النحل
(لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 256) البقرة
﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا﴾ 29 الكهف (وهذا بخلاف حكم المرتد)
عمر باب الفتنة:
ذكرت كارين أن الخلافات التي دبت بين المسلمين بدأت بعد حادثة اغتيال عمر بن الخطاب وهذا يوافق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن عمر هو باب الفتنة:
«قالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عنْه: أيُّكُمْ يَحْفَظُ حَدِيثَ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عَنِ الفِتْنَةِ؟ قالَ: قُلتُ: أنا أحْفَظُهُ كما قالَ، قالَ: إنَّكَ عليه لَجَرِيءٌ، فَكيفَ؟ قالَ: قُلتُ: فِتْنَةُ الرَّجُلِ في أهْلِهِ، ووَلَدِهِ، وجارِهِ، تُكَفِّرُها الصَّلاةُ، والصَّدَقَةُ والمَعْرُوفُ -قالَ سُلَيْمانُ: قدْ كانَ يقولُ: الصَّلاةُ والصَّدَقَةُ، والأمْرُ بالمَعروفِ- والنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ، قالَ: ليسَ هذِه أُرِيدُ، ولَكِنِّي أُرِيدُ الَّتي تَمُوجُ كَمَوْجِ البَحْرِ، قالَ: قُلتُ: ليسَ عَلَيْكَ بها يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ بَأْسٌ بيْنَكَ وبيْنَها بابٌ مُغْلَقٌ، قالَ: فيُكْسَرُ البابُ أوْ يُفْتَحُ، قالَ: قُلتُ: لا بَلْ يُكْسَرُ، قالَ: فإنَّه إذا كُسِرَ لَمْ يُغْلَقْ أبَدًا، قالَ: قُلتُ: أجَلْ، فَهِبْنا أنْ نَسْأَلَهُ مَنِ البابُ فَقُلْنا لِمَسْرُوقٍ: سَلْهُ، قالَ: فَسَأَلَهُ، فقالَ: عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عنْه، قالَ: قُلْنا، فَعَلِمَ عُمَرُ مَن تَعْنِي؟ قالَ: نَعَمْ، كما أنَّ دُونَ غَدٍ لَيْلَةً وذلكَ أنِّي حَدَّثْتُهُ حَدِيثًا ليسَ بالأغالِيطِ».
ما فعله المسلمون فيما بعد بفلسطين من تأكيدهم على أن الدين عند الله الإسلام وأنه فقط العقيدة التوحيدية الخالصة، هو نوع من التذكير الذي لا ينبغي أن نغفل عنه أبدا، فلم يأتوا ببدع من القول، وهذا من صميم تبليغ الدعوة أن يعرف كل من كان أنه لو مات على غير الإسلام فهو في هلاك محقق، وهذا في الوقت نفسه لا يمنع تنظيم العلاقات بين جموع البشر أيا كانوا، فإن لم نكسبهم في صفوف المؤمنين فلا نخسرهم كقوة فاعلة في المشروع البشري الكبير.
كارين ترى أن هذا هو الذي أثار حفيظة اليهود والمسيحيون فكرهوا المسلمين على غير نظرتهم للرعيل الأول، ولكنها نسيت أن أرض جزيرة العرب كان بها من أتباع الديانتين ويعلمون يقينا قول الإسلام فيهم، وعندما فتحوا فلسطين كانت بقعة تموج بالصراع الدائم بين سكانها فأرادوا أن يقدموا نموذج لإمكانية العيش معا مهما كان الاختلاف العقائدي ولكن دون الحياد عن الدعوة إلى صحيح الدين.
وللحديث بقية إن شاء الله
مدينة تموج بالقلاقل:
عمر بن الخطاب الذي فتح فلسطين ذات التاريخ الحافل وموطيء الأنبياء ومسرى نبينا وأولى القبلتين دخل تنور مشتعل، وهو الذي لم يأتي فاتحا لإيغار الصدور أو شحن النفوس المشحونة بل لنشر صحيح الدين ومن ثم إحلال السلام «الحقيقي» بين قاطنيها كي يتفرغوا لما هم معنيون به، فبدأوا ببناء فسطاط يخصهم، والبناء يتطلب تحقيق الأمن والاطمئنان لأولئك المتشاحنون الذي ورثوا أخطاء السابقين وأصبح لزاما عليهم المضي قدما في ذات الدرب، ذلك التوازن المنشود كيف للحكومة الجديدة أن تحققه إن لم يكن المتن الذي بين أيديهم كامل متكامل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا خلفه فلا يمكنهم البتة جمع شمل الفرقاء.
وفي هذا الصدد تقول كارين:
لم يكن من المستغرب إذن أن يرحب أناس مثل النسطوريين والمسيحيين من أتباع الطبيعة الواحدة لـ«المسيح» بالمسلمين، وأن يجدوا الإسلام أفضل من بيزنطة، ويقول المؤرخ ميخائيل السرياني إن المسلمين لم يستعلموا عن عقائد الناس المعلنة ولم يضطهدوا أحدا بسبب إعلانه عن عقيدته وذلك خلافا لما فعله اليونانيون الذين هم أمة من الهراطقة، أما المسيحيون الأرثوذكس فكان عليهم توفيق أوضاعهم بأسلوب أشد صعوبة، فقد بكى صفرونيوس وهو يشاهد عمر واقفا على جبل المعبد وتذكر ما تنبأ به النبي دانيال من «الشعور البغيض بالدمار» وكان البطريرك طلب من عمر عدم سكنى اليهود معهم في الأماكن التي يسكنوها فحقق له مراده في البداية ولكنه فيما بعد لم يجد سببا منطقيا لعدم سكنى اليهود في أي بقعة (وحدهم المسلمون هم من أنزلوهم مكانة لائقة دائما)، فقام باستدعاء سبعين عائلة يهودية من طبرية للاستيطان في بيت المقدس (مدينة داوود) وهذا هو سلوك المسلمين تجاه اليهود مقابل تجريمهم من قبل البيزنطيين، وهرقل الذي أمر بتعميدهم قسرا، هذا التسامح من قبل المسلمين جعل اليهود يشعرون أن الإسلام هو مرحلة سيتحول بعدها أولئك «الإسماعيليون» إلى صحيح الدين (اليهودية) وتقول كارين أن المسلمين لم يحرروهم فقط من البيزنطيين ولكن سمحوا لهم بالإقامة الدائمة في المدينة المقدسة، وفي خطاب كتبه بعض الحاخامات في القرن الحادي عشر تذكر هؤلاء الرحمة التي أظهرها الإله لشعبه حين سمح لـ«مملكة إسماعيل» أن تفتح فلسطين وعبروا عن غبطتهم لوصول المسلمين إلى أورشاليم.
(الرومان كانوا لا يحبون اليهود، يشعرون بالقرف والاشمئزاز منهم وكذلك المسيحيين ولم يفسح لهم الطريق دائما سوى المسلمون، حتى تلاقت مصالح الفرقاء فيما بعد فاتحدوا جميعا لمواجهة الإسلام!!)
وأصبح واضحًا للعيان أن القسطنطينية قد نسيت كل ما يتعلق بهم، فلم تعين بطريرك خلفا لصفرونيوس، أطلق المسلمون العنان لسكان بيت المقدس الحرية الدينية وقاموا ببناء وترميم كنائسهم وأقام المسلمون حول المسجد الأقصى وكعادتهم في فتوحهم لا يسكنون مع غيرهم في أماكنهم ولا يتدخلون في أنماط حياتهم وعبادتهم التي تخصهم، عدا اليهود فقط هم من سمحوا لهم بالإقامة معهم في نفس البقاع التي سكنوها، وهذا نهج الذين يبنون ولا يهدمون، يؤلفون القلوب ويسعون إلى تحقيق السلام الاجتماعي الحقيقي بين الجموع كي لا يثيرون حفيظتهم، ذلك أن المقصد والهدف الرئيس الذي من أجله تركوا بلادهم هو نشر الدعوة وتبليغ الرسالة.
تقول كارين:
«وبعد تلك البداية المبشرة بدأت الإمبراطورية الإسلامية تتعرض للتمزق حينما قام سجين حربي فارسي باغتيال عمر عام 644م ، ومن الأمور المسلم بها أن أحد مآسي الأديان هي عدم استطاعة معتنقيها العيش وفقا مثلها، فقد عبرت المسيحية التي هي ديانة المحبة عن نفسها في أورشاليم بالكراهية والازدراء، ثم تعرض الإسلام وهو دين الوحدة والتكامل إلى التمزق والطائفية، فمنذ وفاة محمد صلى الله عليه وسلم كانت هناك حالة من التوتر بين الخلفاء من جهة وآل بيت الرسول من جهة أخرى حول قيادة الأمة وقد أدى ذلك الصراع إلى انقسام الأمة إلى شيعة وسنة وبعد مقتل عمر تولى عثمان بن عفان الخلافة وكان أحد صحابة الرسول صلى الله عليه وسلموينسب إلى عشيرة أمية الارستقراطية»
لماذا يقدس المسلمون قبة الصخرة؟
سؤال تطرحه كارين، فهل هي لا تعلم أن نبينا صلى الله عليه وسلم عرج إلى السماء الدنيا منها؟! وقد تعرضت لها بشيء من التشويش والذي مبعثه الاختلاف العقائدي ولكنها حتى وهي تتطرق لها من خلال موروثها الديني لم تقطع أو تجزم بتصورها عن تلك الصخرة، فهي الصخرة الملقاة على دكة هيرود، أو أن بناء المسجد حولها كان رد فعل الخليفة عبد الملك بن مروان على الفخامة البيزنطية، كما أعاد الأمويون بناء المسجد الأقصى بديلا عن البناء الخشبي الذي بناه عمر بن الخطاب ليحاكي تلك الفخامة الماثلة
(قد يكون هذا التصور صحيحا ولكن ما لايمكن إنكاره أن حب الفخامة في البناء والرياش والملبس كان من صميم ما اتصف به الأمويون بعامة)
وكان الملك سليمان بن الوليد بن عبد الملك (715 م- 717م) ينوي جعل بيت المقدس عاصمة للخلافة الإسلامية ولكنه تراجع لما ارتأى عدم القدرة على إمكانية تحقيق ذلك نظرا لرفض الأمويين جعل مدينة أغلب سكانها مسيحيين عاصمة للخلافة، فبنى مدينة رام الله قرب اللد.
القدس:
لأول مرة كما تقول كارين أرسى المسلمون نظاما تمكن بواسطته المسلمون والمسيحيون واليهود من العيش معا في بيت المقدس، فاليهود منذ العودة من بابل يرون استبعاد الغرباء من المدينة، أي كل من هم دونهم،بينما فكرة المسلمين عن المقدس كانت أكثر شمولية، فلم يكن لديهم مانع من العيش معا مع احتفاظ كل اتباع عقيدة بخصوصيتهم.
تقول كارين أنه مع تولي العباسيين الخلافة تغيرت تلك الصورة المثالية بعد أن حاد المسلمون عن الأمثولة القرآنية للإسلام كون دينهم فقط هو دين التوحيد وهو فقط الدين الصحيح ودونهم نقيض ذلك مما مثل تحدي ماثل لأتباع اليهودية والمسيحية على حد سواء فزاد من التوتر بين الكل.
تقول كارين عن مسجد قبة الصخرة:
«وكان المسلمون أقلية في بيت المقدس، ومن المحتمل أن الغالبة المسيحية كانت تنظر إلى الفاتحين بازدراء وتراهم برابرة بدائيين، غير أن قبة الصخرة وهي تشمخ بمهابة تفوق مهابة أكثر الأماكن القديمة قدسية في المدينة، كانت بمثابة تأكيد درامي أن الإسلام قد أتى ليستمر، كما أنها أطلقت رسالة ملحة إلى المسيحيين كي يراجعوا معتقداتهم ويعودوا إلى عقيدة إبراهيم التوحيدية الخالصة».
وفي موضع آخر تقول:
«بيد أنه كان لصخرة القبة رسالة أخرى لليهود، فقد قيل أنها كانت تحتل موقع معبدهم الذي كان قد أقيم في المكان الذي «ادعوا» أن إبراهيم قدم ابنه أضحية فيه، والرسالة المتضمنة هي أن اليهود ليسوا أبناء إبراهيم الوحديدين وعليهم أيضا أن يتذكروا أنه لم يكن يهوديا ولا نصرانيا بل كان مسلما».
سيرة ومسيرة:
منذ الخروج الأول للمسلمين الفاتحين لتبليغ الدعوة وتحرير البشر من عبادة الشيطان (كل عبادة لغير الله هي عبادة للشيطان) ومامن بلد فتحوه إلا وقاموا ببناء بقعة تخصهم حتى لا يستفزوا سكان البلد الأصليين بما يمكن أن يأتي بنتائج عكس المرجوة، كما أنهم اتبعوا النهج الإلهي في دعوة الغير إلى صحيح الدين، يدفعهم أو يدعمهم في ذلك نصوصا دينية صريحة:
(ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) 125 النحل
(لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 256) البقرة
﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا﴾ 29 الكهف (وهذا بخلاف حكم المرتد)
عمر باب الفتنة:
ذكرت كارين أن الخلافات التي دبت بين المسلمين بدأت بعد حادثة اغتيال عمر بن الخطاب وهذا يوافق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن عمر هو باب الفتنة:
«قالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عنْه: أيُّكُمْ يَحْفَظُ حَدِيثَ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عَنِ الفِتْنَةِ؟ قالَ: قُلتُ: أنا أحْفَظُهُ كما قالَ، قالَ: إنَّكَ عليه لَجَرِيءٌ، فَكيفَ؟ قالَ: قُلتُ: فِتْنَةُ الرَّجُلِ في أهْلِهِ، ووَلَدِهِ، وجارِهِ، تُكَفِّرُها الصَّلاةُ، والصَّدَقَةُ والمَعْرُوفُ -قالَ سُلَيْمانُ: قدْ كانَ يقولُ: الصَّلاةُ والصَّدَقَةُ، والأمْرُ بالمَعروفِ- والنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ، قالَ: ليسَ هذِه أُرِيدُ، ولَكِنِّي أُرِيدُ الَّتي تَمُوجُ كَمَوْجِ البَحْرِ، قالَ: قُلتُ: ليسَ عَلَيْكَ بها يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ بَأْسٌ بيْنَكَ وبيْنَها بابٌ مُغْلَقٌ، قالَ: فيُكْسَرُ البابُ أوْ يُفْتَحُ، قالَ: قُلتُ: لا بَلْ يُكْسَرُ، قالَ: فإنَّه إذا كُسِرَ لَمْ يُغْلَقْ أبَدًا، قالَ: قُلتُ: أجَلْ، فَهِبْنا أنْ نَسْأَلَهُ مَنِ البابُ فَقُلْنا لِمَسْرُوقٍ: سَلْهُ، قالَ: فَسَأَلَهُ، فقالَ: عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عنْه، قالَ: قُلْنا، فَعَلِمَ عُمَرُ مَن تَعْنِي؟ قالَ: نَعَمْ، كما أنَّ دُونَ غَدٍ لَيْلَةً وذلكَ أنِّي حَدَّثْتُهُ حَدِيثًا ليسَ بالأغالِيطِ».
ما فعله المسلمون فيما بعد بفلسطين من تأكيدهم على أن الدين عند الله الإسلام وأنه فقط العقيدة التوحيدية الخالصة، هو نوع من التذكير الذي لا ينبغي أن نغفل عنه أبدا، فلم يأتوا ببدع من القول، وهذا من صميم تبليغ الدعوة أن يعرف كل من كان أنه لو مات على غير الإسلام فهو في هلاك محقق، وهذا في الوقت نفسه لا يمنع تنظيم العلاقات بين جموع البشر أيا كانوا، فإن لم نكسبهم في صفوف المؤمنين فلا نخسرهم كقوة فاعلة في المشروع البشري الكبير.
كارين ترى أن هذا هو الذي أثار حفيظة اليهود والمسيحيون فكرهوا المسلمين على غير نظرتهم للرعيل الأول، ولكنها نسيت أن أرض جزيرة العرب كان بها من أتباع الديانتين ويعلمون يقينا قول الإسلام فيهم، وعندما فتحوا فلسطين كانت بقعة تموج بالصراع الدائم بين سكانها فأرادوا أن يقدموا نموذج لإمكانية العيش معا مهما كان الاختلاف العقائدي ولكن دون الحياد عن الدعوة إلى صحيح الدين.
وللحديث بقية إن شاء الله