حق الليلة الفلسطيني

لا أذكر في طفولتي سماح أمّي لي ولأيٍّ من إخوتي بمرافقة أطفال "الفريج" للمشاركة في حق الليلة. تجتمعُ الفتيات في نهاية اليوم الدراسي للحديث عن مغامرات حق الليلة، يتفقن على ميعاد اللقاء ونقطة الانطلاق، فأنصت إليهن في حسرة طفلةٍ فضولية راغبة في الانطلاق واستكشاف العالم من حولها، قبل أن أومئ بالنّفي ردًّا على سؤال صديقاتي: "ألن تذهبي معنا؟ سنمرّ على بيتك أيضًا!"

في تلك المرحلة أحَلتُ رفض أمي القاطع إلى طَبعها البيتوتيّ؛ فهي لا تشارك الجارات لا في "فوالة الصباح" ولا في "سهرات المساء" رغم محاولاتهن الجادّة معها، مكتفيةً بالواجبات الاجتماعية القاطعة مثل حضور حفلات الزفاف التي تُدعى إليها، أو المشاركة في واجب العزاء ومساندة أهل المتوفى ماديًّا ومعنويًّا. رأيها في هذا أن المرأة الصالحة لا تخرجُ من بيتها إلا ويدها في يد زوجها، وأن اجتماع النساء المتكرر هو بابٌ للنميمة ووجع الرأس.

وعلى هذا الحال، تروح البنات وتجيء كل عامٍ بأكياس الحلوى الشهية والدراهم المتناثرة في قاع الكيس، حتى أخي الذي يكبرني بعامين لم يُسمح له بمشاركة أولاد الفريج في حق الليلة، رغم أنه ولدٌ – دائمًا ما كانت أمي تذكرني بأن الولد غير البنت في محاولاتها لتشذيب طِباعي الصبيانية وفرط حركتي وصوتي العالي – ويُسمح له باللعب في الفريج بعد عودته مع المدرسة حتى هبوط الليل.

عندما أدقق في تفاصيل الذاكرة مسترجعةً كلمات أمي وانطباعاتها الآن، أجدُ بُعدًا فلسطينيًّا غاب عن إدراك طفولتي؛ إذ إنها كانت تكرر على الدوام أنها لن تسمح لي بالخروج مع الفتيات لـ"أشحدَ الحلوى"، وإن كل أنواع الحلوى وأشكالها مُتاحة في بيتنا، بل الأغلى ثمنًا منها؛ فأنا آخر العنقود المدللة، وكانت الحلويات آخر ما ينقصني. لكني في تلك الفترة مِلتُ للبحث عن الرفقة ومتعة مشوار حق الليلة، وحرية التجوال كالأولاد في الفريج.. الحرية التي لمن أنلها أبدًا في طفولتي واستبدلتها بصحبة الكتب والحيوانات الأليفة.

كان كبرياء أمي يرفض رفضًا قاطعًا أن ترى يدَ ابنتها ممدودةً لغريبٍ تطلبُ منه الحلوى. هي التي عاشت وتغذّت كبرياءً منذ وُلدت في النكبة، وربّاها أخوها الأكبر على الأنفة وعزّة النفس. تظلّ تردّد – في توصياتها المباشرة وغير المباشرة أثناء تربيتنا – "تجوع الحرّة ولا تأكل بثدييها"، و"ذلّ قِرشَك ولا تذلّ نفسك"، وتصدح بصوتها الإذاعيّ المميز "ارفع رأسك يا أخي؛ فقد مضى عصر الاستعباد".

هكذا إذن، في أعماق أمّي يكمنُ بُعدٌ آخر: "صورة الفلسطيني" التي غرستها فينا، صورة الكرامة والكبرياء والعطاء، و"العين الشّبعانه". الصورة التي عزّزها أبناؤها كلهم أينما تفرقت بهم السّبل وغرّبتهم الحياة. أذكُر كم كان يسعدها قولي إنّي منحتُ صديقةً مالًا من مصروفي، أو اشتريتُ لها طعامًا من مقصف المدرسة وبِتُّ على جوع. كانت تشجّعني وتردّد على مسمعي سعيدةً "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خَصاصة"، بينما تقول زميلتي في الصفّ "إنتِ هبله؟ تجوعي إنتِ وهيَ تاكل بمصروفِك؟"

رُعب أمي من حق الليلة تجلّى في مد اليد للغريب الذي لم تألَفهُ بعد، الصّورة المحمّلة بالكرامة والكبرياء وعزة النفس الفلسطينية.. معاملة الندّ للندّ. ذلك الرعب من خدش الصورة التي طالما أطّرتها لنا "لا تمُت قبل أن تكون نِدًّا". وعندما صارت نِدًّا، وأصبحنا جزءًا من البلد وعاداته، صارت هي بنفسها من تجهّز أكياس الحلوى لتوزعها على أحفادها، وتُلبسهم الملابس التقليديّة وتُرسلهم ليوزعّوا الحلوى على الجيران قبل حتى أن يطلبوها، ثم يرافقوا أولاد الفريج مستمتعين بأجواء حق الليلة، بينما نجتمع كلنا في بيت العائلة وسط أجواء حميمة نتشارك حق الليلة بمواصفات الكبار بعدما أصبحنا جميعًا آباء وأمهات.

الآن صرنا بالنسبة لأمي أندادًا، وجوهنا تَألفُ وتؤلف، ويدُنا ممدودةٌ للغَير أولًا، حاضرةٌ في كلّ مناسبةٍ واجبة، تشدّ من أزر الجميع بلا قيدٍ أو شرط. صار حقّ الليلة بالنسبة لها فلسطينيًّا بامتياز، مناسبةٌ يتوحّد فيها الأطفال مذكرين الناس ببراءة الطفولة، بالتعاضد، بالدعم، بأننا هُنا.. لا نطلبُ الحلوى إنما نطلبُ حق الاعتراف – أطفالًا – بالوجود في عالم الكبار، كل الكبار، بندّية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى