في هذه المقالة، فسأتناول بالتحليل المتمعِّن والمتبصِّر الجزء الأول من الآية رقم 20 من سورة العنكبوت التي يقول فيها سبحانه وتعالى: "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (العنكبوت، 20). من هذه الآية، سأتناول بالتَّحليل الجزءَ الأول الذي هو : "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ…"
وقد قلتُ في مقالة سابقة أن مَن يفسِّر القرآنَ الكريمَ (أقصد مدارس تفسير القرآن) أو غير القرآن الكريم، فتفسيرُه ينطلق من خلفية فكرية، ثقافية، معرفية واجتماعية مُحدَّدة في الزمان والمكان. بمعنى أن هذه الخلفية الفكرية مرتبطة ارتباطا وثيقا بظروف الزمان والمكان اللذان يعيش فيهما المُفسِّر. وقد وضَّحتُ كذلك أن هذا التفسيرَ، ما دام صادرا عن بشرٍ، فهو تفسير نسبي، أي قابل للتَّغيير إن تغيَّرت ظروفُ الزمان والمكان. وأضفتُ أن العقلَ البشري ليس له القدرة على النفوذ إلى كُنهِ كلام الله الذي هو كلام مطلق، أي كلام مستقل عن الزمان والمكان.
بعد التَّذكير بهذه التوضيحات، أقول إن الهدفَ من مقالتي ليس تفسر الآية السالفة الذكر. لأن التفسير له مدارسه، كما أسلفتُ، وله قواعدٌ لا أدَّعي بامتلاكها ولن أدَّعيَ ذلك. لكن إن أي فردٍ يريد أن يتدبَّرَ آيات القرآن الكريم، من الضروري أن يُمرِّرَ هذه الآيات من تحليلٍ متمعِّنٍ ومتبصِّرٍ ومنطقي انطلاقا من خلفية فكرية، ثقافية ومعرفية معيَّنة. وهذا هو ما سأقوم به بالنسبة للجزء الأول من الآية المشار إليها أعلاه والذي هو : "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ…".
أولا، الآيةُ كاملة، في مُجملِها، تُبيِّن بوضوح أن اللهَ سبحانه وتعالى له القدرة على الخلق وإعادة هذا الخلق متى يشاء و وقتَ ما يشاء.
ثانيا، كلام الله في هذه الآية موجَّهٌ لرسوله ونبيه محمد (ص) طالبا منه أن يقولَ لمَن لا يُؤمنون بالبعث وبرسالتِه : "سِيرُوا فِي الْأَرْضِ…"
فما هو المقصود من "سِيرُوا فِي الْأَرْضِ"؟ المقصود هو الانتشار في الأرض أو الانتقال من مكان إلى آخر من هذه الأرض. وهنا، لا بدَّ من الوقوف، بعضَ الشيء، على مفردة "أرض".
في هذا الصدد، الله سبحانه وتعالى لم يقل سيروا في بُقعة معيَّنة من بقاع الأرض أو مكان معيَّن من أماكن الأرض. بل قال "سِيرُوا فِي الْأَرْضِ". والأرضُ، بالمنظور الجغرافي العلمي، شاسعة الأطراف حيث مساحتُها تفوق 510 مليون كيلومتر مربَّع.
فكيف للبشر الذين كانوا يعيشون في عهد الرسول (ص) أن ينتشروا في هذه المساحة الواسعة الأطراف علما أن البحارَ تشكِّل أكثر من 70% من مساحة الأرض الإجمالية، وعلما كذلك، أن وسائلَ التَّنقُّل كانت متواضعة، في ذلك العهد، وتتمثَّل في المشيِ على الأقدام أو في ركوب الدواب. فما هو الحل إذن؟
الحلُّ هو أن نعتبرَ عبارة "سِيرُوا فِي الْأَرْضِ"، بالنسبة للبشر، صورةً فكريةً une image mentale تُفيد بأن التَّنقُّلَ على سطح الأرض هو تنقُّل أو سيرٌ في الأرض في أي مكان أو في أية بقعة من بقاع هذا السطح. وبمعنى آخر، إن كل بقعة من بقاعِ البَرِّ هي أرض.
فانطلاقا من كون القرآن الكريم صالحا لكل زمان ومكان، وتذكيراً بأن الناس الذين لم يؤمنوا بالبعث وبرسالة محمد (ص)، كانوا موجودين في عهده ولا يزالوا موجودين إلى يومنا هذا، فجُملة "سِيرُوا فِي الْأَرْضِ"، تنطبق على غير المؤمنين بالبعث وبرسالة محمد (ص) في عهده وفي العصر الحديث.
ولهذا، فإذا تمعنا في جملة "سِيرُوا فِي الْأَرْضِ" من منظور فكر الزمان والمكان الحديثين أو، بالأحرى، بعين العصر الحديث، فإنها تعني الانتشارَ في جميع بقاع الأرض، براً وبحراً وجواً، ما دامت وسائل التنقُّل متوفِّرة وكثيرة ومتنوِّعة، وبالأخص، سريعة.
مات نبيُّ الله ورسوله (ص)، لكن الذين لا يؤمنون برسالة محمد (ص) لا يزالوا موجودين إلى يومنا هذا. فكلامَ الله كان موجَّهاً لهم في الماضي، ولا يزال موجَّهاً لهم في الحاضر. ثم إن كلامَ الله له مَن يحفظُه ويحافظ عليه مصداقا لقوله سبحانه وتعالى : "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" (الحجر، 9).
ما يثيرُ الانتباه في هذا الجزء من الآية، هو المعنى الذي تتَّخذُه مفردة "الأرض" حسب ما تقتضيه ظروفُ الزمان والمكان. في عهد الرسول (ص)، بحكم تواضع وسائل التنقُّل، المنطق يفرض علينا أن نعتبرَ الأرضَ هي كل مكان يعيش فيه الناس ويسيرون فيه. بينما، في العصر الحاضر، الأرض هي الكوكب الأرضي برمَّته، وخصوصا أن وسائلَ النقل سهَّلت التَّنقُّلَ من مكان إلى آخر، وبسرعة فائقة. بل إن وسائلَ النقل أصبحت تجوب البجارَ والمحيطاتِ والأنهارَ. بل اخترقت الأجواءَ والفضاء و وصلت إلى كواكبَ وعوالمَ أخرى.
فكون القرآن الكريم صالحا لكل زمان ومكان، يحتِّم علينا منطقِيا أن العديدَ من كلماتِه، من المفروض، أن تتكيَّفَ مع هذا التَّحوُّل الزمكاني. وبعبارة أوضح، إن ما تُشيرُ له هذه الكلمات في الماضي ليس هو ما تُشير له في العصور المتعاقبة. لماذا؟
لأن الحصيلة المعرفية البشرية تتطوَّر بانتظام وتساير تطوُّرَ وسائل البحث والتَّجريب. فكلما ارتقت هذه الوسائل إلى مستويات عالية، كلما أصبح إنتاجُ المعرفة غزيرا. ولهذا، فالرصيد المعرفي البشري يتوسَّع مع مرور الوقت.
وهذا هو ما يجب أخذُه بعين الاعتبار عند التَّمعُّن والتَّدبُّر في آيات القرآن الكريم. وهذا هو ما يجب نهجُه لكون هذا القرآن صالحا لكل زمان ومكان. اللهمَّ إذا أراد بعضُ الناس من الفقهاء ورجال الدين تجميدَ هذا القرآن فيما أرادوه له أن يكون علماً أنه موجَّه للبشرية جمعاء.
وما يثير الانتباهَ، هو أن كلمةَ "أرض" جاءت في القرآن في صيغة المفرد وليس في صيغة الجمع الذي هو أراضون أو أراضٍ. لماذا؟ ليبقى معناها واسعا ومفتوحا لكل الاحتمالات المعنوية.
فمثلا حين يقول سبحانه وتعالى :
1."…وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ…" (لقمان، 34).
في هذه الآية، "أرض" تعني أي مكان من أماكِن الكرة الأرضية. وفعلا، هناك من الناس مَن يموتون في رُقعة بلدانهم وهناك مَن يموتون خارج أرض بلدانهم.
2."وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ" (البقرة، 11).
إذا قاربنا الفسادَ، فقط، من منظور ديني، فالفساد، في هذه الآية، هو ارتكاب الذنوب والمعاصي. وهذا النوع من الفساد موجودٌ في كل مكان، على امتداد وجود البشرية على وجه الأرض. وإذا قاربنا الفسادَ من منظور بيئي أو طبيعي، فالعلم الحديث بيَّن لنا أن هذا النوعَ من الفساد، المتمثِّل في إلحاق أضرارٍ بالتوازنات الطبيعية، طال، هو الآخر، جميعَ بقاع الأرض برّاً، بحراً وجوّاً. إذن، المقصود من "أرض"، هو الكرة الأرضية برمتها.
3."وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ" (البقرة، 36)
في هذه الآية، المقصود من "أرض" هو السَّكن المؤقَّت للبشر.
4."... رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا …" (البقرة، 61)
في هذه الآية، المقصود من "أرض" هو التُّربة أو القشرة العُلوية من سطح الأرض الصالحة للزراعة والتي يتغيَّر سُمكُها أو عُمقُها وتركيبَتُها، خصوصا، الكيميائية، من مكان إلى آخر.
5."…وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ …" (البقرة، 255)
في هذه الآية، المقصود من "أرض" هو أنها جزءٌ من الكون.
6."فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ…" (المائدة، 31)
في هذه الآية، المقصود من "أرض" هو بُقعَة صغيرة جدا من سطح الأرض.
ما يُثيرُ الإعجابَ، في كلام الله، هو أن نفس الكلمة التي هي "أرض"، يمكن أن يكونَ لها معاني مختلفة حسب السياق الذي جاءت فيه. وما انطبق على كلمة "أرض"، في القرآن الكريم، ينطبق على كلمات أخرى. من بينها، مثلا، كلمة "كتاب". وفيما يلي، هذه ثلاثة آياتٍ وردت فيها كلمة "كتاب" بمعاني مختلة:
1."كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ" (ص، 29)
2."قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعْمَلُونَ" (آل عمران، 98)
3."مَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ" ،(الحجر، 4).
في الآية رقم 1، الكتاب هو القرآن الكريم. في الآية رقم 2، أهل الكتاب هم اليهود والنصاري. والمقصود من الكتاب، هو التوراة والإنجيل. في الآية رقم 3، الكتاب هو الأجل، أي الأجل المعلوم… وهكذا.
في أحاديثنا المتداولة، تعوَّدنا على اعتبار أن َالكتاب هو القرآن الكريم…وهكذا.
وفي الختام، إن كل كلمة في القرآن الكريم لها سياقٌ خاص بها. وهذا السياق هو الذي يُحدِّد المعنى الذي يليق بها.
وقد قلتُ في مقالة سابقة أن مَن يفسِّر القرآنَ الكريمَ (أقصد مدارس تفسير القرآن) أو غير القرآن الكريم، فتفسيرُه ينطلق من خلفية فكرية، ثقافية، معرفية واجتماعية مُحدَّدة في الزمان والمكان. بمعنى أن هذه الخلفية الفكرية مرتبطة ارتباطا وثيقا بظروف الزمان والمكان اللذان يعيش فيهما المُفسِّر. وقد وضَّحتُ كذلك أن هذا التفسيرَ، ما دام صادرا عن بشرٍ، فهو تفسير نسبي، أي قابل للتَّغيير إن تغيَّرت ظروفُ الزمان والمكان. وأضفتُ أن العقلَ البشري ليس له القدرة على النفوذ إلى كُنهِ كلام الله الذي هو كلام مطلق، أي كلام مستقل عن الزمان والمكان.
بعد التَّذكير بهذه التوضيحات، أقول إن الهدفَ من مقالتي ليس تفسر الآية السالفة الذكر. لأن التفسير له مدارسه، كما أسلفتُ، وله قواعدٌ لا أدَّعي بامتلاكها ولن أدَّعيَ ذلك. لكن إن أي فردٍ يريد أن يتدبَّرَ آيات القرآن الكريم، من الضروري أن يُمرِّرَ هذه الآيات من تحليلٍ متمعِّنٍ ومتبصِّرٍ ومنطقي انطلاقا من خلفية فكرية، ثقافية ومعرفية معيَّنة. وهذا هو ما سأقوم به بالنسبة للجزء الأول من الآية المشار إليها أعلاه والذي هو : "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ…".
أولا، الآيةُ كاملة، في مُجملِها، تُبيِّن بوضوح أن اللهَ سبحانه وتعالى له القدرة على الخلق وإعادة هذا الخلق متى يشاء و وقتَ ما يشاء.
ثانيا، كلام الله في هذه الآية موجَّهٌ لرسوله ونبيه محمد (ص) طالبا منه أن يقولَ لمَن لا يُؤمنون بالبعث وبرسالتِه : "سِيرُوا فِي الْأَرْضِ…"
فما هو المقصود من "سِيرُوا فِي الْأَرْضِ"؟ المقصود هو الانتشار في الأرض أو الانتقال من مكان إلى آخر من هذه الأرض. وهنا، لا بدَّ من الوقوف، بعضَ الشيء، على مفردة "أرض".
في هذا الصدد، الله سبحانه وتعالى لم يقل سيروا في بُقعة معيَّنة من بقاع الأرض أو مكان معيَّن من أماكن الأرض. بل قال "سِيرُوا فِي الْأَرْضِ". والأرضُ، بالمنظور الجغرافي العلمي، شاسعة الأطراف حيث مساحتُها تفوق 510 مليون كيلومتر مربَّع.
فكيف للبشر الذين كانوا يعيشون في عهد الرسول (ص) أن ينتشروا في هذه المساحة الواسعة الأطراف علما أن البحارَ تشكِّل أكثر من 70% من مساحة الأرض الإجمالية، وعلما كذلك، أن وسائلَ التَّنقُّل كانت متواضعة، في ذلك العهد، وتتمثَّل في المشيِ على الأقدام أو في ركوب الدواب. فما هو الحل إذن؟
الحلُّ هو أن نعتبرَ عبارة "سِيرُوا فِي الْأَرْضِ"، بالنسبة للبشر، صورةً فكريةً une image mentale تُفيد بأن التَّنقُّلَ على سطح الأرض هو تنقُّل أو سيرٌ في الأرض في أي مكان أو في أية بقعة من بقاع هذا السطح. وبمعنى آخر، إن كل بقعة من بقاعِ البَرِّ هي أرض.
فانطلاقا من كون القرآن الكريم صالحا لكل زمان ومكان، وتذكيراً بأن الناس الذين لم يؤمنوا بالبعث وبرسالة محمد (ص)، كانوا موجودين في عهده ولا يزالوا موجودين إلى يومنا هذا، فجُملة "سِيرُوا فِي الْأَرْضِ"، تنطبق على غير المؤمنين بالبعث وبرسالة محمد (ص) في عهده وفي العصر الحديث.
ولهذا، فإذا تمعنا في جملة "سِيرُوا فِي الْأَرْضِ" من منظور فكر الزمان والمكان الحديثين أو، بالأحرى، بعين العصر الحديث، فإنها تعني الانتشارَ في جميع بقاع الأرض، براً وبحراً وجواً، ما دامت وسائل التنقُّل متوفِّرة وكثيرة ومتنوِّعة، وبالأخص، سريعة.
مات نبيُّ الله ورسوله (ص)، لكن الذين لا يؤمنون برسالة محمد (ص) لا يزالوا موجودين إلى يومنا هذا. فكلامَ الله كان موجَّهاً لهم في الماضي، ولا يزال موجَّهاً لهم في الحاضر. ثم إن كلامَ الله له مَن يحفظُه ويحافظ عليه مصداقا لقوله سبحانه وتعالى : "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" (الحجر، 9).
ما يثيرُ الانتباه في هذا الجزء من الآية، هو المعنى الذي تتَّخذُه مفردة "الأرض" حسب ما تقتضيه ظروفُ الزمان والمكان. في عهد الرسول (ص)، بحكم تواضع وسائل التنقُّل، المنطق يفرض علينا أن نعتبرَ الأرضَ هي كل مكان يعيش فيه الناس ويسيرون فيه. بينما، في العصر الحاضر، الأرض هي الكوكب الأرضي برمَّته، وخصوصا أن وسائلَ النقل سهَّلت التَّنقُّلَ من مكان إلى آخر، وبسرعة فائقة. بل إن وسائلَ النقل أصبحت تجوب البجارَ والمحيطاتِ والأنهارَ. بل اخترقت الأجواءَ والفضاء و وصلت إلى كواكبَ وعوالمَ أخرى.
فكون القرآن الكريم صالحا لكل زمان ومكان، يحتِّم علينا منطقِيا أن العديدَ من كلماتِه، من المفروض، أن تتكيَّفَ مع هذا التَّحوُّل الزمكاني. وبعبارة أوضح، إن ما تُشيرُ له هذه الكلمات في الماضي ليس هو ما تُشير له في العصور المتعاقبة. لماذا؟
لأن الحصيلة المعرفية البشرية تتطوَّر بانتظام وتساير تطوُّرَ وسائل البحث والتَّجريب. فكلما ارتقت هذه الوسائل إلى مستويات عالية، كلما أصبح إنتاجُ المعرفة غزيرا. ولهذا، فالرصيد المعرفي البشري يتوسَّع مع مرور الوقت.
وهذا هو ما يجب أخذُه بعين الاعتبار عند التَّمعُّن والتَّدبُّر في آيات القرآن الكريم. وهذا هو ما يجب نهجُه لكون هذا القرآن صالحا لكل زمان ومكان. اللهمَّ إذا أراد بعضُ الناس من الفقهاء ورجال الدين تجميدَ هذا القرآن فيما أرادوه له أن يكون علماً أنه موجَّه للبشرية جمعاء.
وما يثير الانتباهَ، هو أن كلمةَ "أرض" جاءت في القرآن في صيغة المفرد وليس في صيغة الجمع الذي هو أراضون أو أراضٍ. لماذا؟ ليبقى معناها واسعا ومفتوحا لكل الاحتمالات المعنوية.
فمثلا حين يقول سبحانه وتعالى :
1."…وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ…" (لقمان، 34).
في هذه الآية، "أرض" تعني أي مكان من أماكِن الكرة الأرضية. وفعلا، هناك من الناس مَن يموتون في رُقعة بلدانهم وهناك مَن يموتون خارج أرض بلدانهم.
2."وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ" (البقرة، 11).
إذا قاربنا الفسادَ، فقط، من منظور ديني، فالفساد، في هذه الآية، هو ارتكاب الذنوب والمعاصي. وهذا النوع من الفساد موجودٌ في كل مكان، على امتداد وجود البشرية على وجه الأرض. وإذا قاربنا الفسادَ من منظور بيئي أو طبيعي، فالعلم الحديث بيَّن لنا أن هذا النوعَ من الفساد، المتمثِّل في إلحاق أضرارٍ بالتوازنات الطبيعية، طال، هو الآخر، جميعَ بقاع الأرض برّاً، بحراً وجوّاً. إذن، المقصود من "أرض"، هو الكرة الأرضية برمتها.
3."وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ" (البقرة، 36)
في هذه الآية، المقصود من "أرض" هو السَّكن المؤقَّت للبشر.
4."... رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا …" (البقرة، 61)
في هذه الآية، المقصود من "أرض" هو التُّربة أو القشرة العُلوية من سطح الأرض الصالحة للزراعة والتي يتغيَّر سُمكُها أو عُمقُها وتركيبَتُها، خصوصا، الكيميائية، من مكان إلى آخر.
5."…وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ …" (البقرة، 255)
في هذه الآية، المقصود من "أرض" هو أنها جزءٌ من الكون.
6."فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ…" (المائدة، 31)
في هذه الآية، المقصود من "أرض" هو بُقعَة صغيرة جدا من سطح الأرض.
ما يُثيرُ الإعجابَ، في كلام الله، هو أن نفس الكلمة التي هي "أرض"، يمكن أن يكونَ لها معاني مختلفة حسب السياق الذي جاءت فيه. وما انطبق على كلمة "أرض"، في القرآن الكريم، ينطبق على كلمات أخرى. من بينها، مثلا، كلمة "كتاب". وفيما يلي، هذه ثلاثة آياتٍ وردت فيها كلمة "كتاب" بمعاني مختلة:
1."كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ" (ص، 29)
2."قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعْمَلُونَ" (آل عمران، 98)
3."مَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ" ،(الحجر، 4).
في الآية رقم 1، الكتاب هو القرآن الكريم. في الآية رقم 2، أهل الكتاب هم اليهود والنصاري. والمقصود من الكتاب، هو التوراة والإنجيل. في الآية رقم 3، الكتاب هو الأجل، أي الأجل المعلوم… وهكذا.
في أحاديثنا المتداولة، تعوَّدنا على اعتبار أن َالكتاب هو القرآن الكريم…وهكذا.
وفي الختام، إن كل كلمة في القرآن الكريم لها سياقٌ خاص بها. وهذا السياق هو الذي يُحدِّد المعنى الذي يليق بها.