د. أحمد الحطاب - الله، سبحانه وتعالى، رؤوف ولطيف بعباده

حينما نقول إن اللهَ "لطيفٌ أو رؤوفٌ بعباده"، فالمقصود هو أنه، سبحانه وتعالى، رحيمٌ بهم وحليمٌ بهم، أو بعبارة أخرى، يرفق بهم ويريد لهم الخير، كل الخير، وفي كل الأحوال، يريد إسعادَهم ويعينهم على تجاوز الصِّعاب، مصداقا لقوله سبحانه وتعالى :

1.اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (الشورى، 19)

2.وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (النحل، 7).

في الآية الأولى، لُطف الله موجَّهٌ لجميع الناس. في الآية الثانية، لُطفُ الله يشمل كل الناس الذين كانوا، في الماضي، ولا يزالوا، في الحاضر، يعتمدون، في حمل أثقالهم وفي تنقلاتهم، على الدواب، منها الإبل والحمير والبغال…

فكيفما كان الحال، الله سبحانه وتعالى، لا يمكن، على الإطلاق، أن يخلقَ بني آدم وينفخَ فيهم من روحه ويُكرِّمَهم ويُرسلَ إليهم الرسلَ لهدايتهم إلى الصراط المستقيم، ليُشقِيَهم أو ليظلمَهم أو ليجعلَهم تعساء… مصداقا لقوله سبحانه وتعالى :

1."فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ" (الحجر، 29)

2."تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ" (آل عمران، 108)

3."وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا" (الإسراء، 70).

في الآية الأولى، الله سبحانه وتعالى نفخ من روحه في الإنسان، علما أن هناك فرقا بين النفس والروح. النفس هي التي تموت. بينما الروح لا يعلم مصيرَها إلا الله مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا" (الإسراء، 85).

في الآية الثانية، يُبيِّن لنا اللهُ، عزَّ وجلَّ، أنه لا يظلم أحدا من عباده، إلا إذا ظلموا أنفسَهم مصداقا لقوله له سبحانه وتعالى : "إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَـٰكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ" (يونس، 44).

في الآية الثالثة، الله، جلَّ جلالُه، يُخبرنا بأنه كرَّم الإنسانَ وفضَّله على كثير من مخلوقاتِه. ولعل أحسنَ تكريم ناله الإنسانُ من الله هو إنعَامُه على هذا الإنسان بالعقل وحُسن الصورة مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: "قَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ" (التين، 4).

اللهُ سبحانه وتعالى خلق الإنسانَ وكرَّمه بالعقل وحسن الصورة وسخَّر له ما في الأرض وما في السموات مصداقا لقوله سبحانه وتعالى : "وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (الجاثية، 13).

فهل يُعقل أن الله، جلَّ علاه، خلق الإنسانَ ليكونَ شقيا وليُعذبَه في الدنيا، وهو الذي، من بين أسمائه الحسنى، نجد الرحمان، الرحيم، الرؤوف، العفو، العدل، الحليم، الغفور، الغفَّار، الكريم، الودود، التواب، البَرُّ، المُعطي، النافع…، فضلا على أن اللهَ حرَّم الظلمَ على نفسه وحرَّمه بين الناس؟

لا أبدا! الله لطيف و رؤوف بعباده. لماذا؟ لأن الشقاءَ والسعادةَ من صُنع الإنسان، كما جاء في الآية رقم 286 من سورة البقرة: "لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ…"

في هذه الآية، يُبيِّن لنا، نحن البشر، أنه لا يُحمِّل الإنسانَ ما ليس في استطاعتِه أن يتحمَّلَه. وهذا، بالطبع، لطفٌ منه ورِفقٌ بعباده. وفي نفس الآية، يقول لنا، سبحانه وتعالى، إن ما يسعى الإنسانُ إليه من خيرٍ له ولغيره، يُحسب له، وما يسعى إليه من شرٍّ يحسَب عليه. وهذا يعني أن الإنسانَ، بواسطة العقل، هو الذي يختار، بمحض إرادته، إما طريقَ الشقاء أو طريقَ السعادة.

قد يقول قائلٌ إن اللهَ، سبحانه وتعالى، لم يكن لطيفا ولا رؤوفا بالأقوام الغابرة إذ كان يعذِّبهم في الأرض قبل الآخرة. نعم، وبدون أدنى شك، هذا صحيح. لماذا؟ لأن :

1.الأقوام الغابرة كانت، من الناحية الجغرافية، محدودةَ الانتشار، بمعنى أنها كانت تسكن في أماكن معينة معزولة بكيفيةٍ تسهِّل تسليطَ العذاب عليها دون أن يلحقَ الضررُ الآخرين. والله، سبحانه وتعالى، كان يبعث رسُلا مخصَّصين لهؤلاء الأقوام خلافا للنبي والرسول محمد (ص) الذي بعثه اللهُ للبشرية جمعاء. قوم نوح أغ قهم اللهُ بالطوفان، فرعون وجنودُه أغرقهم الله في البحر، قون ثمود سلَّطَ الله عليهم الصاعِقة…

2.ما يُثيرُ الانتباهَ في القرآن الكريم، هو أن تسليطَ العذابِ على الأقوام الغابرة يكون دائما مقترِنا بكلمة "قرية". ولو تمعَّنا قليلا في الآيات الكريمة التي وردت فيها كلمةُ "قرية"، فسنجد أن هذه الأخيرة هي مكانٌ يوجد فيه الظلمُ والفسادُ وتُقترف فيه المعاصي. ولهذا، حينما يُحدِّثنا اللهُ، سبحانه وتعالى، في القرآن الكريم عن القرى (جمعُ قرية)، المقصود هو أماكنٌ أهلها ظالمون، فاسدون ومُفسدون. وهذه الآيات كثيرة أذكر منها على سبيل المثال : "وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَٰلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا" (الإسراء، 58).

3.،الله، سبحانه وتعالى، لم يُعذب أهلَ القرى، إلا بعد إنذار هم ببَعثِه لهم رُسُلاً يحذرونهم بعواقب ما هم عليه من آثام ومعاصي، مصداقا لقوله، جلَّ جلالُه : "وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (هود، 117) أو مصداقا لقوله، جلَّ علاه: "وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَىٰ إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ" (القصص، 59).

لو لم يكن اللهُ، سبحانه وتعالى، لطيفا ورؤوفا بعباده (بأهل القرى)، لَمَا عذَّبهم (أهل القرى) دون أن يبعَثَ لهم رسّلاً. لكن أهل القرى تمادوا في ظلمهم وطغيانهم وفسادهم…، فحقَّ عليهم العذاب.

وقد يقول قائلٌ آخر : "لماذا توقف سبحانه وتعالى عن تعذيب الناس كما كان يفعل في الماضي؟" توقَّف اللهُ، سبحانه وتعالى، عن تعذيب العباد في الدنيا لعِدة أسباب، منها :

1.أن محمدا، النبي والرسول (ص)، هو خاتم الأنبياء والرسل مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا" (الأحزاب، 40). وهذا يعني أنه بلَّغ الرسالة التي كلَّفه الله بإبلاغها إلى البشرية.

2.والدليل على هذا التَّبليغ، هو أن اللهَ، جلَّ جلالُه، يقول في قرآنه الكريم : "…الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا…" (المائدة، 3).

3.اليوم، عندما ننظر إلى تركيبة العالم من الناحية الديمغرافية، سنجد أن سكانَ هذا العالم، سواءً كانوا قاطنين بالمُدن أو بالقُرى، مختلطون في المجتمعات، رغم اختلاف اجناسِهم وثقافاتِهم ودياناتِهم ومعتقداتِهم…، وبالتالي، اختلط المؤمنون بغير المؤمنين، ولم يعد هناك أماكن معزولة أهلُها كلهم فاسدون كما كان الشأنُ بالنسبة للأقوام الغابرة. واللهُ، سبحانه وتعالى، هو الذي أرادَ هذا الاختلاط مصداقا لقوله، عزَّ وجلَّ : "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ " (الحجرات، 13).

في هذه الآية الكريمة، فعل "لِتَعَارَفُوا" هو الذي يشير إلى اختلاط الناس في المجتمعات، المؤمنين منهم وغير المؤمنين، في المُدُن وفي القرى. علما أن اللهَ، سبحانه وتعالى، في نفس الآية، يُفضِّل من بين عباده مَن هُم أشدَّ تقوى وإيمانا به وبرسالاته.

فكل مَن يقول إن اللهَ يعاقب عبادَه في الدنيا لأنهم ارتكبوا المعاصي، فأقوالُه مجانية للصواب. وكيف يعاقب اللهُ الذين يرتكبون المعاصي؟ يقولون إنه يُسلِّط عليهم الزلازلَ والأوبئة والفيضانات وشُحَّ الأمطار والجفاف وحرائق الغابات وتغيُّر المناخ… فكل مَن يفكِّر هكذا، فكأنه يقول إن اللهَ ظالمٌ للعباد، حاشا أن يكونَ سبحانه وتعالى ظالِما للعباد. بل إن كلَّ مَن يفكِّر هكذا، فإن تفكيرَه مجانبٌ للصواب، أكثر من هذا وذاك، يتنكَّر لما أراده اللهُ، سبحانه وتعالى، من لُطفٍ ورأفةٍ بعباده.

الأوبئة والفيضانات وشُحَّ الأمطار والجفاف وحرائق الغابات وتغيُّر المناخ كلها آفات ناتجة عن تصرفات الإنسان، في الدنيا أو في الأرض، بطُرُق مخالفة لسُنَن الله في الأرض التي، بواسطتها، يُسيِّر اللهُ، سبحانه وتعالى، كوكبَ الأرض ليجعلَه مُسخَّرا كلَّه للبشر الذين أمرهم، جلَّ وعلا، أن يُعمِّروا الأرضَ حسب ما أوجده من سُنَنٍ.

غير أن نهجَ الإعمارَ الذي اتَّبعه البشرُ كان ولا يزال مخالفا لهذه السنن مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى: "ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" (الروم، 41). "بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ" تعني "من جراء ما قام به الناسُ من تصرُّفات مخالفة لسُنَنِ الله في الأرض.

الكون، بما في ذلك الأرض، له سُنَنُه ونواميسُه، علما أن العلمَ الحديث لم يكتشف منها إلا النزرَ القليل مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (59)

الله، سبحانه وتعالى، لطيف و رؤوف بعباده، وسيبقى لطيفا ورؤوفا بعباده إلى أن يَرِثَ الله الارضَ ومَن عليها. والدليل على ذلك أنه يقول لنا في كثيرٍ من آياته إنه غفورٌ رحيمْ. "غفور" تعني أنه يغفر الذنوب كلها إلا أن يُشركَ به. و"رحيم" تعني كثير الرحمة.

ما أختم به هذه المقالة، هو الاستشهاد بآيتين كريمتين تبيِّنان لنا أن اللهَ، سبحانه وتعالى، لطيف بعباده ولو كانوا من الطغاة والجبابرة. يُنذِرهم، فإن تابوا، فلهم التواب. وإن استمروا في طُغيانهم وجَبروتهم، فعليهم ما اكتسبوه من تصرُّف. يقول، سبحانه وتعالى : "اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ" (طه، 43 و 44).

في هاتين الآيتين، كلام الله موجَّهٌ إلى رسوله موسى وأخيه هارون، طالبا منهما الذهابَ إلى فرعون الطاغية ثمَّ محاورته بكلام ليِّنٍ، أي كلام ودود، ناعم وهادئ…، أي كلام ليس غليظا، فظّاً ولا جارحا. أهناك لُطفٌ بالعباد أكثر من هذا؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى