-4-
تتمة
تواليف الفتح وشئ من منظومه ومنثوره
الشائع المعروف أن ليس للفتح بن خاقان غير قلائد العقيان، ومطمح الأنفس، ولكن يجب أن يلحظ أن المطمح نسختان صغيرة وكبيرة؛ وقال أبن خلكان إن المطمح ثلاث نسخ صغرى ووسطى وكبرى. وللفتح غير قلائد العقيان والمطمح كتاب أسمه بداية المحاسن وغاية المحاسن، ذكر ذلك المقري وقال إن له أيضاً مجموعاً في ترسيله وتأليفاً صغيراً في ترجمة ابن السيد البطليوسي نحو الثلاثة كراريس على منهاج القلائد. . . ولمناسبة ذكر ابن السيد البطليوسي الأندلسي الأديب الكبير وصاحب شرح أدب الكاتب لابن قتيبة نقول: إنه كان بينه وبين الفتح علقة ومودة، ومن ثم قرظ ابن السيد كتاب القلائد بهذه الرقعة التي أرسلها إلى الفتح، قال: (تأملت - فسح الله لسيدي ووليي في أمد بقائه - كتابه الذي شرع في إنشائه، فرأيت كتاباً سينجد ويغور، ويبلغ حيث لا تبلغ البدور، وتبين به الذرى والمناسم، وتغتدى له غرر في أوجه ومواسم، فقد أسجد الله الكلام لكلامك، وجعل النيرات طوع أقلامك، فأنت تهدى بنجومها، وتردى برجومها، فالنثرة من نثرك، والشعرى من شعرك، والبلغاء لك معترفون، وبين يديك متصرفون، وليس يباريك مبار، ولا يجاريك إلى الغاية مجار، إلا وقف حسيراً وسبقت، ودعي أخيراً وتقدمت، لأعدمت شفوفاً، ولا برح مكانك بالآمال محفوفاً. بعزة الله. .). وقلائد العقيان كتاب قدمه الفتح لأبي إسحاق إبراهيم بن يوسف بن تاشفين أخي أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين ونائبه في الأندلس، وقد ألمعنا فيما سلف إلى بعض صفات هذا الكتاب وأنه هو والذخيرة لابن بسام، واليتيمة للثعالبي، والخريدة للعماد، ونظائها، لا تعد كتب تراجم بالمعنى المتعارف؛ وإنما هي حليّ وصفات لبعض أفاضل العصر وبلغائه بأسلوب منمق بليغ. ومختارات من منظومهم ومنثورهم.
أما تاريخ المترجم له ومنشؤه ونسبه ومولده ووفاته وكيف تصرفت به الأحوال فهذا ما ليسوا منه بسبيل ولا هو من عملهم وإنما هو من عمل المؤرخ. أما هم فأدباء يحلون أدباء معاصرين أو قريبين من عصورهم. . . وأسلوب الفتح في كتبه أسلوب لاشك جزل متين وإن كان كله مسجعاً؛ ومن ثم قد يعلو وقد يسفل، وقد يرى مطبوعاً وقد يرى عليه أثر التكلف والتعمل. وقد كان بلغاء الكتاب في تلك الأعصر يظنون السجع عملا فنياً في الذروة من الفن تلي مرتبته مرتبة الشعر للموسيقية التي فيه وإن كان النقدة من المتقدمين ينكرون الولوع به والإفراط فيه كما ننكره نحن اليوم. وقد اشترطوا به شروطاً أهمها: أن يكون اللفظ فيه تابعاً للمعنى، ولم يشترطوا ذلك في السجع فحسب؛ وإنما اشترطوه في كل المحسنات البديعية، قالوا: إن هذه المحسنات ولاسيما اللفظية منها لا تحل محلها من القبول، ولا تقع موقعها من الحسن، حتى يكون المعنى هو الذي استدعاها وساقها نحوه، وحتى تجدها لا تبتغي بها بدلاً ولا تجد عنها حولاً؛ ومن هنا ذم الاستكثار منها والولوع بها، لأن المعاني لا تدين في كل موضع لها، إذ هي في الغالب ألفاظ، والألفاظ خدم المعاني مصرفة في حكمها، فمن نصر اللفظ على المعنى كان كمن أزال الشيء عن جهته، وأحاله عن طبيعته، وذلك مظبة من الاستكراه، وفيه فتح أبواب العيب والتعرض للشين. ولهذه الحالة كان كلام المتقدمين الذين تركوا فضل العناية بالسجع ولزموا سجية الطبع أمكن في العقول، وأبعد من القلق، وأوضح للمراد، وأسلم من التفاوت، وأبعد من التصنع الذي هو ضرب من الخدع بالتزويق. والرضا بأن تقع النقيصة في نفس الصورة وذات الخلقة إذا أكثر فيها من الوشم والنقش؛ وأثقل صاحبها بالحلي والوشم، قياس الحلي على السيف الددان والتوسع في الدعوى بغير برهان، كما قال المتنبي:
إذا لم تشاهد غير حُسن شياتها ... وأعضائها فالحسن عنك مغيب
هكذا يقول إمام النقاد عبد القاهر الجرجاني المتوفى سنة 471هـ - سنة 1078 ميلادية - ويقول: وقد تجد في كلام المتأخرين كلاماً حمل صاحبه فرط شغفه بأمور ترجع إلى ماله اسم في البديع - ومنه السجع - إلى أن ينسى أنه يتكلم ليفهم، ويقول ليُبِين؛ ويخيل إليه أنه إذا جمع بين أقسام البديع في بيت فلا ضير أن يقع ما عناه في عمياء، وأن يوقع السامع من طلبه في خبط عشواء، وربما طمس بكثرة ما يتكلفه على المعنى وأفسده كمن ثقل على العروس بأصناف الحلي حتى ينالها من ذلك مكروه في نفسها. . . ولن تجد أيمن طائراً، وأحسن أولاً وآخراً، وأهدى إلى الإحسان، وأجلب للاستحسان، من أن ترسل المعاني على سجيتها، وتدعها تطلب لأنفسها الألفاظ، فإنها إذا تركت وما تريد لم تلبس إلا ما يليق بها، ولم تلبس من المعارض إلا ما يزينها. فأما أن تضع في نفسك أنه لابد من أن تجنس أو تسجع بلفظين مخصوصين فهو الذي أنت منه بعرض الاستكراه وعلى خطر من الخطأ والوقع في الذم الخ. (وبعد) فإن الكلام في هذا الموضوع يطول، ولنجتزئ بهذا المقدار. والآن، إلا يسمح لنا القارئ بأن نعرض عليه شيئاً من منظوم الفتح ومنثوره؟ وأنت تعلم أن شعر الكتاب في الأعم الأغلب إن هو إلا مقطعات من جهة، وليس من النسق العالي كشعر فحول الشعراء من الجهة الأخرى. ومن ثم كان ما رأيناه من شعر الفتح على قلته شعراً وسطاً كما قال لسان الدين بن الخطيب. فمن شعره مما لم يرد في كتبه:
لله ظبي من جنابك زارني ... يختال زهواً في ملاء ملاح
ولي التماسك في هواه كأنه ... مروان خاف كتائب السفاح
فخلعت صبري بالعرا ونبذته ... وركبت وجدي في عنان جماح
أهدي لي الورد المضعف خده ... فقطفته باللحظ دون جُناح
وأردت صبراً عن هواه فلم أطق ... وأريت جدا في خلال مزاح
وتركت قلبي للصبابة طائراً ... تهفو به الأشواق دون جَناح
ومنه قوله وقد أورده في قلائد يخاطب أبا يحيى بن الحاج:
أكعبة علياء وهضبة سؤدد ... وروضة مجد بالمفاخر تمطر
هنيئاً لملك زار أفقك نوره ... وفي صفحتيه من مضائك أسطر
وأين لخفاق الجناحين كلما ... سرى لك ذكر أو نسيم معطر
وقد كان واش هاجنا لتهاجر ... فبت وأحشائي جوى تتفطر
فهل لك في ود ذوى لك ظاهراً ... وباطنه يندى صفاء ويقطر
ومن منثوره مما لم يرد في القلائد ولا في المطمح قوله:
معاليك أشهر رسوماً، وأعطر نسيماً، من أن يغرب شهاب مسعاها، أو يجدب لرائد مرعاها، فان نبهتك فإنما نبهت عمرا، وإن استنرتك فإنما أستنير قمراً؛ والأمير أيده الله تعالى أجل من أعتصم في ملكه، وأنتظم في سلكه، فإنه حسام بيد الملك طلاقته فرنده، وشهامته حده، وقضيب في دوحة الشرق رطيب، بشره زهره، وبره ثمره، وقد توسمت نارك لعلي أفوز منها بقبس، أو تكون كنار موسى بالوادي المقدس. وعسى الأمل أن تعلو بكم قداحه، ويشف من أفقكم مصباحه. فجرد أيدك الله تعالى صارم عزم لا يفل غروبه، وأطلع كوكب سعد لا يخاف غروبه. . . (وأما بعد) فان أردت التروي من منثور الفتح وبدائعه، فعليك بالقلائد والمطمح، فهما بحق نهران يزخران بالمعجب والمطرب، رحمة الله على هذا الأديب الأندلسي العبقري المبدع. .
(تم البحث)
عبد الرحمن البرقوقي
مجلة الرسالة - العدد 129
بتاريخ: 23 - 12 - 1935
تتمة
تواليف الفتح وشئ من منظومه ومنثوره
الشائع المعروف أن ليس للفتح بن خاقان غير قلائد العقيان، ومطمح الأنفس، ولكن يجب أن يلحظ أن المطمح نسختان صغيرة وكبيرة؛ وقال أبن خلكان إن المطمح ثلاث نسخ صغرى ووسطى وكبرى. وللفتح غير قلائد العقيان والمطمح كتاب أسمه بداية المحاسن وغاية المحاسن، ذكر ذلك المقري وقال إن له أيضاً مجموعاً في ترسيله وتأليفاً صغيراً في ترجمة ابن السيد البطليوسي نحو الثلاثة كراريس على منهاج القلائد. . . ولمناسبة ذكر ابن السيد البطليوسي الأندلسي الأديب الكبير وصاحب شرح أدب الكاتب لابن قتيبة نقول: إنه كان بينه وبين الفتح علقة ومودة، ومن ثم قرظ ابن السيد كتاب القلائد بهذه الرقعة التي أرسلها إلى الفتح، قال: (تأملت - فسح الله لسيدي ووليي في أمد بقائه - كتابه الذي شرع في إنشائه، فرأيت كتاباً سينجد ويغور، ويبلغ حيث لا تبلغ البدور، وتبين به الذرى والمناسم، وتغتدى له غرر في أوجه ومواسم، فقد أسجد الله الكلام لكلامك، وجعل النيرات طوع أقلامك، فأنت تهدى بنجومها، وتردى برجومها، فالنثرة من نثرك، والشعرى من شعرك، والبلغاء لك معترفون، وبين يديك متصرفون، وليس يباريك مبار، ولا يجاريك إلى الغاية مجار، إلا وقف حسيراً وسبقت، ودعي أخيراً وتقدمت، لأعدمت شفوفاً، ولا برح مكانك بالآمال محفوفاً. بعزة الله. .). وقلائد العقيان كتاب قدمه الفتح لأبي إسحاق إبراهيم بن يوسف بن تاشفين أخي أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين ونائبه في الأندلس، وقد ألمعنا فيما سلف إلى بعض صفات هذا الكتاب وأنه هو والذخيرة لابن بسام، واليتيمة للثعالبي، والخريدة للعماد، ونظائها، لا تعد كتب تراجم بالمعنى المتعارف؛ وإنما هي حليّ وصفات لبعض أفاضل العصر وبلغائه بأسلوب منمق بليغ. ومختارات من منظومهم ومنثورهم.
أما تاريخ المترجم له ومنشؤه ونسبه ومولده ووفاته وكيف تصرفت به الأحوال فهذا ما ليسوا منه بسبيل ولا هو من عملهم وإنما هو من عمل المؤرخ. أما هم فأدباء يحلون أدباء معاصرين أو قريبين من عصورهم. . . وأسلوب الفتح في كتبه أسلوب لاشك جزل متين وإن كان كله مسجعاً؛ ومن ثم قد يعلو وقد يسفل، وقد يرى مطبوعاً وقد يرى عليه أثر التكلف والتعمل. وقد كان بلغاء الكتاب في تلك الأعصر يظنون السجع عملا فنياً في الذروة من الفن تلي مرتبته مرتبة الشعر للموسيقية التي فيه وإن كان النقدة من المتقدمين ينكرون الولوع به والإفراط فيه كما ننكره نحن اليوم. وقد اشترطوا به شروطاً أهمها: أن يكون اللفظ فيه تابعاً للمعنى، ولم يشترطوا ذلك في السجع فحسب؛ وإنما اشترطوه في كل المحسنات البديعية، قالوا: إن هذه المحسنات ولاسيما اللفظية منها لا تحل محلها من القبول، ولا تقع موقعها من الحسن، حتى يكون المعنى هو الذي استدعاها وساقها نحوه، وحتى تجدها لا تبتغي بها بدلاً ولا تجد عنها حولاً؛ ومن هنا ذم الاستكثار منها والولوع بها، لأن المعاني لا تدين في كل موضع لها، إذ هي في الغالب ألفاظ، والألفاظ خدم المعاني مصرفة في حكمها، فمن نصر اللفظ على المعنى كان كمن أزال الشيء عن جهته، وأحاله عن طبيعته، وذلك مظبة من الاستكراه، وفيه فتح أبواب العيب والتعرض للشين. ولهذه الحالة كان كلام المتقدمين الذين تركوا فضل العناية بالسجع ولزموا سجية الطبع أمكن في العقول، وأبعد من القلق، وأوضح للمراد، وأسلم من التفاوت، وأبعد من التصنع الذي هو ضرب من الخدع بالتزويق. والرضا بأن تقع النقيصة في نفس الصورة وذات الخلقة إذا أكثر فيها من الوشم والنقش؛ وأثقل صاحبها بالحلي والوشم، قياس الحلي على السيف الددان والتوسع في الدعوى بغير برهان، كما قال المتنبي:
إذا لم تشاهد غير حُسن شياتها ... وأعضائها فالحسن عنك مغيب
هكذا يقول إمام النقاد عبد القاهر الجرجاني المتوفى سنة 471هـ - سنة 1078 ميلادية - ويقول: وقد تجد في كلام المتأخرين كلاماً حمل صاحبه فرط شغفه بأمور ترجع إلى ماله اسم في البديع - ومنه السجع - إلى أن ينسى أنه يتكلم ليفهم، ويقول ليُبِين؛ ويخيل إليه أنه إذا جمع بين أقسام البديع في بيت فلا ضير أن يقع ما عناه في عمياء، وأن يوقع السامع من طلبه في خبط عشواء، وربما طمس بكثرة ما يتكلفه على المعنى وأفسده كمن ثقل على العروس بأصناف الحلي حتى ينالها من ذلك مكروه في نفسها. . . ولن تجد أيمن طائراً، وأحسن أولاً وآخراً، وأهدى إلى الإحسان، وأجلب للاستحسان، من أن ترسل المعاني على سجيتها، وتدعها تطلب لأنفسها الألفاظ، فإنها إذا تركت وما تريد لم تلبس إلا ما يليق بها، ولم تلبس من المعارض إلا ما يزينها. فأما أن تضع في نفسك أنه لابد من أن تجنس أو تسجع بلفظين مخصوصين فهو الذي أنت منه بعرض الاستكراه وعلى خطر من الخطأ والوقع في الذم الخ. (وبعد) فإن الكلام في هذا الموضوع يطول، ولنجتزئ بهذا المقدار. والآن، إلا يسمح لنا القارئ بأن نعرض عليه شيئاً من منظوم الفتح ومنثوره؟ وأنت تعلم أن شعر الكتاب في الأعم الأغلب إن هو إلا مقطعات من جهة، وليس من النسق العالي كشعر فحول الشعراء من الجهة الأخرى. ومن ثم كان ما رأيناه من شعر الفتح على قلته شعراً وسطاً كما قال لسان الدين بن الخطيب. فمن شعره مما لم يرد في كتبه:
لله ظبي من جنابك زارني ... يختال زهواً في ملاء ملاح
ولي التماسك في هواه كأنه ... مروان خاف كتائب السفاح
فخلعت صبري بالعرا ونبذته ... وركبت وجدي في عنان جماح
أهدي لي الورد المضعف خده ... فقطفته باللحظ دون جُناح
وأردت صبراً عن هواه فلم أطق ... وأريت جدا في خلال مزاح
وتركت قلبي للصبابة طائراً ... تهفو به الأشواق دون جَناح
ومنه قوله وقد أورده في قلائد يخاطب أبا يحيى بن الحاج:
أكعبة علياء وهضبة سؤدد ... وروضة مجد بالمفاخر تمطر
هنيئاً لملك زار أفقك نوره ... وفي صفحتيه من مضائك أسطر
وأين لخفاق الجناحين كلما ... سرى لك ذكر أو نسيم معطر
وقد كان واش هاجنا لتهاجر ... فبت وأحشائي جوى تتفطر
فهل لك في ود ذوى لك ظاهراً ... وباطنه يندى صفاء ويقطر
ومن منثوره مما لم يرد في القلائد ولا في المطمح قوله:
معاليك أشهر رسوماً، وأعطر نسيماً، من أن يغرب شهاب مسعاها، أو يجدب لرائد مرعاها، فان نبهتك فإنما نبهت عمرا، وإن استنرتك فإنما أستنير قمراً؛ والأمير أيده الله تعالى أجل من أعتصم في ملكه، وأنتظم في سلكه، فإنه حسام بيد الملك طلاقته فرنده، وشهامته حده، وقضيب في دوحة الشرق رطيب، بشره زهره، وبره ثمره، وقد توسمت نارك لعلي أفوز منها بقبس، أو تكون كنار موسى بالوادي المقدس. وعسى الأمل أن تعلو بكم قداحه، ويشف من أفقكم مصباحه. فجرد أيدك الله تعالى صارم عزم لا يفل غروبه، وأطلع كوكب سعد لا يخاف غروبه. . . (وأما بعد) فان أردت التروي من منثور الفتح وبدائعه، فعليك بالقلائد والمطمح، فهما بحق نهران يزخران بالمعجب والمطرب، رحمة الله على هذا الأديب الأندلسي العبقري المبدع. .
(تم البحث)
عبد الرحمن البرقوقي
مجلة الرسالة - العدد 129
بتاريخ: 23 - 12 - 1935