إذا كانت قصيدة النثر عند أدونيس وأنسى الحاج ، مجدت حضورها بالغموض والإمعان المجازى المنتشي برموز وإشارات المتصوفة و تجلياتهم ، فإنها في سياق آخر ـ أدركت أنها تستبدل سجن التفعيلة الذي تمردت عليه بسجن الوصفات المجهزة، التي جعلت الكثيرين من كتابها كما لو كانوا مقلدين لرموز قصيدة النثر وكأنهم يكتبون قصيدة واحدة، أو على حد تعبير أحد النقاد.. مريدون يدورون في فلك الأقطاب، ويهيمون في عشق الطريقة،غير أن قصيدة النثر لم تكن مجرد اكتشاف لطريقة جديدة بقدر ماهى تمرد على مطلق الطريقة ، فالتمرد هو وسيلتها فى سبيل رؤى جديدة للعالم، ومن ثم فإن الرؤية، وأحيانا الرؤيا، هي غاية الغموض وارتياد المجهول الواعد برؤية جديدة للعالم، وحيث لا يمكن اكتشاف الجديد بالاتباع والتقليد مهما كانت قيمة المتبوع.
والذين أدركوا الجوهر أو الاسترتيجية النثرية هم الذين اكتشفوا طرائقهم الخاصة من أمثال محمد الماغوط وعباس بيضون وسعدى يوسف ووديع سعادة ..ألخ ، غير أن ثقافتنا العربية لم تكن قد تخلصت بعد من صورة البطل الفرد، وربما أمضينا عقدي السبعينيات والثمانينيات في الخلاص الشعري من آلية الاتباع ولهذا فإن الانفجار النثرى للقصيدة المؤسس على جوهر الاحتجاج والتناقض لم يبدأ حقيقة إلا فى التسعينات.
فمع بداية هذا العقد كان هناك جيل جديد من كتاب قصيدة النثر لاحظوا أن ما نظنه واضحًا وعاديًا قد يكون كذلك بحكم الألفة والاعتياد، وربما هو جدير بالنظر وإعادة اكتشافه أكثر من الغامض والمجهول، فهو الأكثر تأثيراً فى الواقع الحى، وهكذا توجه شعراء نثر التسعينات إلى اليومي والمعاش والعادي، ووضعوا الغامض والمجهول وراء ظهورهم.
ومع تغير صورة الذات التى بدأت تخلص شيئا فشيئا من همومها الجمعية كنتيجة لانهيار الكثير من الرهانات الكلية الكبرى، ازداد الشعور بالعزلة والاغتراب والإحساس بانعدام القيمة وضآلة شأن الفرد الذى وجد نفسه بعد ثورة التكنولوجيا في عالم واسع ومتغير وشديد التعقيد.
إن أول مظاهر هذا النزوع الجديد هو العزوف عن المشاركة في صنع وإنتاج العالم، حتى أن إعادة تشكيل الواقع لم يعد جزءً من طموح الشاعر بقدر ما هو معنيّ بتأمل الذات في صورتها الفردية ومراجعة مواقفها، ومحاولة فهمها و الوقوف على أبعادها وقدراتها المؤثرة في الواقع دون مبالغة في شأن هذا التأثير أو في قدرات تلك الذات، ومن ثم فهي تقنع بالخبرات الشخصية المعاشة تلك التى تمثل أول مواطن الذات وأكثرها تأثيرًا في تشكلها .
تستدعي الخبرات الشخصية الممارسات اليومية والعادية المألوفة من الواقع، كما تستدعي أيضاً ألذاكراتي. ويبدو أن الذاكرة وعمقها الممتد في تاريخ الشخصية هو بمثابة الطموح المحدود لامتداد الذات في التاريخ، ولهذا فإن الاشتباك مع التراث والاستفادة منه، تلك التي تظهر في النزوعين الصوفي والأسطوري عند كتاب الجيل الأول، لم يعد مطلباً فى قصيدة النثر الجديدة التى تأثرت كثيراً بمقولات الحداثة وما بعد الحداثة، فالتاريخ يبدأ هنا والآن، أي أن العالم يبدأ مع وجود الذات، فكل شيء خارج هذه الذات لا وجود له، وهكذا فإن تطابق الذات والموضوع هو ملمح أهم يسم قصيدة النثر الجديدة، أي أن موضوع القصيدة هو في حقيقته صورة من صور الذات، وهو ما يعنيه جاستون باشلار بشعرية أحلام اليقظة.
وإذا كان الأمر كذلك فإن ملمح الغموض الذى مجده (بودلير) وأكد على قيمته أنسى الحاج وأدونيس وأرجعنا أسبابه إلى التناص الصوفي لم يعد هدفاً في القصيدة الجديدة، بل على العكس تماماً، فهي تميل في طابعها السردى إلى رصد اللحظات القريبة والحميمة، وتمنحها صياغات أليفة تتخلص كثيراً من التأثيرات البلاغية والمجازية المغرقة.
ستهمل القصيدة البيان والبديع إهمالها الأوزان والقوافي وكل صور الإيقاع وكأنها تريد أن تُسكت كل الأصوات لتمنح الذات الشاعرة فرصة أكبر للحضور والتعبيرعن نفسها.
إن هذا الحضور اليقظ للذات الفردية في موضوع القصيدة الجديدة، جعلها تميل إلى استكشاف الشعرية في أفق آخر غير أفق اللغة، وهو أفق الفعل الإنساني والممارسة الحية، فراح الشعراء يتحدثون عن شعرية الأشياء، ويحتفون بحالات السرد بغية اكتشاف طاقات شعرية عبر المشهد البصري، ومن ثم تحضر صورة الذات بأبعادها الواقعية لا المجازية، ومن ناحية أخرى، فإن هذا الحضور للذات في الموضوع وفر في المقابل تنوعاً مثيراً في موضوع القصيدة يماثل تنوع النزعات الإنسانية وتفردها ويعكس ارتباكها وتناقضاتها وربما إحساسها العميق بانعدام التأثير في الواقع وضآلة الشأن وانبهام الرؤية، حتى أن أكثر الأشياء بساطة قد تصبح موضوعاً شعرياً، وربما هذا هو أول مأخذ يتحدث عنه نقاد القصيدة الجديدة.
إذا كانت قصيدة النثر الجديدة تبحث عن مفهوم مختلف للذات فهي ليست تلك الذات المستقرة المتمكنة من وعيها بالعالم وحكمها علي الأشياء، إنها ذات مضطربة ومحتشدة بالكثير من التناقضات ومفعمة بالشك والسخرية من كثير من الثوابت المعرفية .
ومن الطبيعي أن تظهر كل هذه الملامح في القصيدة لتؤدي إلى نوع من الفوضى والارتباك، فالقصيدة الجديدة ضد النظم والنظام والانتظام وكل تداعيات فعل (نظم) ولعل هذه الفوضى تصل القارئ فتحدث لديه شعوراً شبيهاً بالغموض الذي رأيناه في القصيدة السبعينية عند أدونيس وأنسي الحاج، ولذلك فإن أي محاولة لإخضاع القصيدة الجديدة في سياق فكري ودلالي منتظم هو أمر ضد طبيعتها ومحكوم عليه بالفشل، فالشاعر يمكنه أن يقفز فوق الإحداث والمفاهيم دونما شعور بالخطيئة.
ومن هنا تنشأ مشكلة القارئ فهو معتاد علي تلقي الرسائل الجمالية من خلال وضعها في سياق وإدخالها في نظام من المرجعيات المعرفية التي يفهمها، أما كتّاب القصيدة الجديدة فيرون أن عدم الانتظام ربما يكون أقرب إلى مفهوم الشعرية، وإدراك الجمال عبر تيار من الشعور والحواس فالجمال يدل بذاته علي وجوده، ولا يحتاج إلى فهمه أو تبريره.
المشكلة الأخرى التي تصٌدر للقارئ ، وتنشأ عن الفوضى والشعور العميق بالفردية، إن القصيدة الجديدة لم تسع إلى خلق المناخ الدلالي والقرائي الذى يعين القارئ علي سهولة تناولها، بعكس قصيدة السبعينات التي رغم سعيها إلى الغموض، ثبتت مجموعة من الرموز وخلقت لنفسها معجماً لغوياً وشفرياً يمكن لمن يمتلكه فهمها علي نحو ما، ومع ذلك يمكن القول إن الغموض لم يكن هدفاً من أهداف قصيدة النثر الجديدة بل على العكس تماماً، فهي قصيدة لا ترفع شعارات العمق.
أما السمات المشتركة بين كتاب القصيدة الجديدة فهي سمات تقنية أكثر منها لغوية أو موضوعية وهي سمات تبدو كآفاق واسعة يمكن أن يتحرك الشاعر فيها بحرية تامة، بحيث تبدو القواسم المشتركة شديدة الخفوت، ليس فقط بين شاعر وآخر، بل بين قصائد الديوان الواحد، الأمر الذي يجعل التجربة شديدة التنوع والتعدد ، وهذا في تصوري يزيدها ثراء، ويضع الشعر في أفق مطلق من الحرية.
كما أن هذه السمات، المشتركة ـ بالكاد ـ مؤسسة علي نسبية الواقع، ومن ثم نسبية الحقيقة والمعرفة وهو تصور أصيل في فكر الحداثة امتد لما بعدها، وهو بلا شك مسؤول إلى حد كبير عن مشكلة القارئ الذي وجد نفسه منفصلاً تماماً أو إلى حد كبير – علي الأقل- عن تناول القصيدة الجديدة، فالقارئ عندما يتناول النص، فهو في الحقيقة يبحث عما يخصه فيه .
نقاد وشعراء القصيدة الجديدة يعترفون بمشكلة القارئ، ولكنهم يرون أن وجود المشكلة هو فى حد ذاته دليل على تحقق مبدأ نسبية الحقيقة، فما يخص الشاعر وما يكتبه ليس بالضرورة يخص القارئ أو يتلاقي معه، كما أن هذا ـ أيضاً ـ يدعم وجهة نظر اللذين يتحدثون عن موت القارئ، ويقصد به القارئ العام، ذلك الذي يستطيع قراءة وتذوق وإدراك كل قصيدة، ومن ثم فإن القصيدة الجديدة بحكم خصوصيتها تتوجه إلى قارئ خاص، أي أن كل قصيدة تخلق قارئها ، وتحقق بذلك مبدأ فردية التلقي إلى جانب فردية الإبداع، غير أن بعض الأفكار تأخذ موقفاً مغالياً من القارئ ، فتنفيه تماماً ، ولا تعتد بوجوده ، بل تقول إن النص الجديد موجه للكاتب وليس للقارئ ، مثله مثل كل نصوص وفكر ما بعد الحداثة .
وليس الموقف من القارئ هو كل ما تستدعيه القصيدة الجديدة من أفكار ما بعد الحداثة، بل هي في تأسيسها الجمالي واستراتيجيتها البنائية تميل إلى أفكار ما بعد حداثية، علي نحو ما ورد في كتاب مارجريت روز (ما بعد الحداثة) فالنص بعد الحداثي ضد الشكل، وهو ضد التأويل وضد القراءة المنضبطة، ولا يقدم نفسه كعمل فني مكتمل بل كأداء أو فعل.
إن ملامح مثل هذه ، تبدو كآفاق تقنية شديدة الاتساع ، فليس من وظيفتها أن تؤطر التجربة الشعرية بل تطلق صراحها من كل إطار وتضعها في (مدارات ) لا تنتهي . أما أهم المرتكزات التي تراهن عليها القصيدة الجديدة، ويمكن رصدها كمفاهيم عامة فهي (المفارقة – المحاكاة التهكمية - التحريك الذاكراتى – الأيروتيكية أو الاهتمام بالجسد – وكذلك الاهتمام بالعادي من الأحداث والممارسات الإنسانية البسيطة والهامشية) إنها في الواقع قصيدة لا توغل في عمق العالم بقدر ما تهتم بهوامشه، وتحدوها قناعة بأن لسطوح الأشياء قيماً جمالية لاتقل أهمية عن أعماقها.
والذين أدركوا الجوهر أو الاسترتيجية النثرية هم الذين اكتشفوا طرائقهم الخاصة من أمثال محمد الماغوط وعباس بيضون وسعدى يوسف ووديع سعادة ..ألخ ، غير أن ثقافتنا العربية لم تكن قد تخلصت بعد من صورة البطل الفرد، وربما أمضينا عقدي السبعينيات والثمانينيات في الخلاص الشعري من آلية الاتباع ولهذا فإن الانفجار النثرى للقصيدة المؤسس على جوهر الاحتجاج والتناقض لم يبدأ حقيقة إلا فى التسعينات.
فمع بداية هذا العقد كان هناك جيل جديد من كتاب قصيدة النثر لاحظوا أن ما نظنه واضحًا وعاديًا قد يكون كذلك بحكم الألفة والاعتياد، وربما هو جدير بالنظر وإعادة اكتشافه أكثر من الغامض والمجهول، فهو الأكثر تأثيراً فى الواقع الحى، وهكذا توجه شعراء نثر التسعينات إلى اليومي والمعاش والعادي، ووضعوا الغامض والمجهول وراء ظهورهم.
ومع تغير صورة الذات التى بدأت تخلص شيئا فشيئا من همومها الجمعية كنتيجة لانهيار الكثير من الرهانات الكلية الكبرى، ازداد الشعور بالعزلة والاغتراب والإحساس بانعدام القيمة وضآلة شأن الفرد الذى وجد نفسه بعد ثورة التكنولوجيا في عالم واسع ومتغير وشديد التعقيد.
إن أول مظاهر هذا النزوع الجديد هو العزوف عن المشاركة في صنع وإنتاج العالم، حتى أن إعادة تشكيل الواقع لم يعد جزءً من طموح الشاعر بقدر ما هو معنيّ بتأمل الذات في صورتها الفردية ومراجعة مواقفها، ومحاولة فهمها و الوقوف على أبعادها وقدراتها المؤثرة في الواقع دون مبالغة في شأن هذا التأثير أو في قدرات تلك الذات، ومن ثم فهي تقنع بالخبرات الشخصية المعاشة تلك التى تمثل أول مواطن الذات وأكثرها تأثيرًا في تشكلها .
تستدعي الخبرات الشخصية الممارسات اليومية والعادية المألوفة من الواقع، كما تستدعي أيضاً ألذاكراتي. ويبدو أن الذاكرة وعمقها الممتد في تاريخ الشخصية هو بمثابة الطموح المحدود لامتداد الذات في التاريخ، ولهذا فإن الاشتباك مع التراث والاستفادة منه، تلك التي تظهر في النزوعين الصوفي والأسطوري عند كتاب الجيل الأول، لم يعد مطلباً فى قصيدة النثر الجديدة التى تأثرت كثيراً بمقولات الحداثة وما بعد الحداثة، فالتاريخ يبدأ هنا والآن، أي أن العالم يبدأ مع وجود الذات، فكل شيء خارج هذه الذات لا وجود له، وهكذا فإن تطابق الذات والموضوع هو ملمح أهم يسم قصيدة النثر الجديدة، أي أن موضوع القصيدة هو في حقيقته صورة من صور الذات، وهو ما يعنيه جاستون باشلار بشعرية أحلام اليقظة.
وإذا كان الأمر كذلك فإن ملمح الغموض الذى مجده (بودلير) وأكد على قيمته أنسى الحاج وأدونيس وأرجعنا أسبابه إلى التناص الصوفي لم يعد هدفاً في القصيدة الجديدة، بل على العكس تماماً، فهي تميل في طابعها السردى إلى رصد اللحظات القريبة والحميمة، وتمنحها صياغات أليفة تتخلص كثيراً من التأثيرات البلاغية والمجازية المغرقة.
ستهمل القصيدة البيان والبديع إهمالها الأوزان والقوافي وكل صور الإيقاع وكأنها تريد أن تُسكت كل الأصوات لتمنح الذات الشاعرة فرصة أكبر للحضور والتعبيرعن نفسها.
إن هذا الحضور اليقظ للذات الفردية في موضوع القصيدة الجديدة، جعلها تميل إلى استكشاف الشعرية في أفق آخر غير أفق اللغة، وهو أفق الفعل الإنساني والممارسة الحية، فراح الشعراء يتحدثون عن شعرية الأشياء، ويحتفون بحالات السرد بغية اكتشاف طاقات شعرية عبر المشهد البصري، ومن ثم تحضر صورة الذات بأبعادها الواقعية لا المجازية، ومن ناحية أخرى، فإن هذا الحضور للذات في الموضوع وفر في المقابل تنوعاً مثيراً في موضوع القصيدة يماثل تنوع النزعات الإنسانية وتفردها ويعكس ارتباكها وتناقضاتها وربما إحساسها العميق بانعدام التأثير في الواقع وضآلة الشأن وانبهام الرؤية، حتى أن أكثر الأشياء بساطة قد تصبح موضوعاً شعرياً، وربما هذا هو أول مأخذ يتحدث عنه نقاد القصيدة الجديدة.
إذا كانت قصيدة النثر الجديدة تبحث عن مفهوم مختلف للذات فهي ليست تلك الذات المستقرة المتمكنة من وعيها بالعالم وحكمها علي الأشياء، إنها ذات مضطربة ومحتشدة بالكثير من التناقضات ومفعمة بالشك والسخرية من كثير من الثوابت المعرفية .
ومن الطبيعي أن تظهر كل هذه الملامح في القصيدة لتؤدي إلى نوع من الفوضى والارتباك، فالقصيدة الجديدة ضد النظم والنظام والانتظام وكل تداعيات فعل (نظم) ولعل هذه الفوضى تصل القارئ فتحدث لديه شعوراً شبيهاً بالغموض الذي رأيناه في القصيدة السبعينية عند أدونيس وأنسي الحاج، ولذلك فإن أي محاولة لإخضاع القصيدة الجديدة في سياق فكري ودلالي منتظم هو أمر ضد طبيعتها ومحكوم عليه بالفشل، فالشاعر يمكنه أن يقفز فوق الإحداث والمفاهيم دونما شعور بالخطيئة.
ومن هنا تنشأ مشكلة القارئ فهو معتاد علي تلقي الرسائل الجمالية من خلال وضعها في سياق وإدخالها في نظام من المرجعيات المعرفية التي يفهمها، أما كتّاب القصيدة الجديدة فيرون أن عدم الانتظام ربما يكون أقرب إلى مفهوم الشعرية، وإدراك الجمال عبر تيار من الشعور والحواس فالجمال يدل بذاته علي وجوده، ولا يحتاج إلى فهمه أو تبريره.
المشكلة الأخرى التي تصٌدر للقارئ ، وتنشأ عن الفوضى والشعور العميق بالفردية، إن القصيدة الجديدة لم تسع إلى خلق المناخ الدلالي والقرائي الذى يعين القارئ علي سهولة تناولها، بعكس قصيدة السبعينات التي رغم سعيها إلى الغموض، ثبتت مجموعة من الرموز وخلقت لنفسها معجماً لغوياً وشفرياً يمكن لمن يمتلكه فهمها علي نحو ما، ومع ذلك يمكن القول إن الغموض لم يكن هدفاً من أهداف قصيدة النثر الجديدة بل على العكس تماماً، فهي قصيدة لا ترفع شعارات العمق.
أما السمات المشتركة بين كتاب القصيدة الجديدة فهي سمات تقنية أكثر منها لغوية أو موضوعية وهي سمات تبدو كآفاق واسعة يمكن أن يتحرك الشاعر فيها بحرية تامة، بحيث تبدو القواسم المشتركة شديدة الخفوت، ليس فقط بين شاعر وآخر، بل بين قصائد الديوان الواحد، الأمر الذي يجعل التجربة شديدة التنوع والتعدد ، وهذا في تصوري يزيدها ثراء، ويضع الشعر في أفق مطلق من الحرية.
كما أن هذه السمات، المشتركة ـ بالكاد ـ مؤسسة علي نسبية الواقع، ومن ثم نسبية الحقيقة والمعرفة وهو تصور أصيل في فكر الحداثة امتد لما بعدها، وهو بلا شك مسؤول إلى حد كبير عن مشكلة القارئ الذي وجد نفسه منفصلاً تماماً أو إلى حد كبير – علي الأقل- عن تناول القصيدة الجديدة، فالقارئ عندما يتناول النص، فهو في الحقيقة يبحث عما يخصه فيه .
نقاد وشعراء القصيدة الجديدة يعترفون بمشكلة القارئ، ولكنهم يرون أن وجود المشكلة هو فى حد ذاته دليل على تحقق مبدأ نسبية الحقيقة، فما يخص الشاعر وما يكتبه ليس بالضرورة يخص القارئ أو يتلاقي معه، كما أن هذا ـ أيضاً ـ يدعم وجهة نظر اللذين يتحدثون عن موت القارئ، ويقصد به القارئ العام، ذلك الذي يستطيع قراءة وتذوق وإدراك كل قصيدة، ومن ثم فإن القصيدة الجديدة بحكم خصوصيتها تتوجه إلى قارئ خاص، أي أن كل قصيدة تخلق قارئها ، وتحقق بذلك مبدأ فردية التلقي إلى جانب فردية الإبداع، غير أن بعض الأفكار تأخذ موقفاً مغالياً من القارئ ، فتنفيه تماماً ، ولا تعتد بوجوده ، بل تقول إن النص الجديد موجه للكاتب وليس للقارئ ، مثله مثل كل نصوص وفكر ما بعد الحداثة .
وليس الموقف من القارئ هو كل ما تستدعيه القصيدة الجديدة من أفكار ما بعد الحداثة، بل هي في تأسيسها الجمالي واستراتيجيتها البنائية تميل إلى أفكار ما بعد حداثية، علي نحو ما ورد في كتاب مارجريت روز (ما بعد الحداثة) فالنص بعد الحداثي ضد الشكل، وهو ضد التأويل وضد القراءة المنضبطة، ولا يقدم نفسه كعمل فني مكتمل بل كأداء أو فعل.
إن ملامح مثل هذه ، تبدو كآفاق تقنية شديدة الاتساع ، فليس من وظيفتها أن تؤطر التجربة الشعرية بل تطلق صراحها من كل إطار وتضعها في (مدارات ) لا تنتهي . أما أهم المرتكزات التي تراهن عليها القصيدة الجديدة، ويمكن رصدها كمفاهيم عامة فهي (المفارقة – المحاكاة التهكمية - التحريك الذاكراتى – الأيروتيكية أو الاهتمام بالجسد – وكذلك الاهتمام بالعادي من الأحداث والممارسات الإنسانية البسيطة والهامشية) إنها في الواقع قصيدة لا توغل في عمق العالم بقدر ما تهتم بهوامشه، وتحدوها قناعة بأن لسطوح الأشياء قيماً جمالية لاتقل أهمية عن أعماقها.