”لقد مات العالم القديم ولم يولد العالم الجديد بعد، وفي الظلمة تظهر اشباح الوحوش"
غرامشي
غرامشي
أولا / من قمع الحريات في الغرب الأورو أمريكي الى نقد الحريات
نوضح منذ البداية الموجهات الارشادية(براديغم) التي توجه رؤيتنا التحليلية النقدية. فنحن نعتقد أنه في سياق الهجمة الشرسة للاستعمار الاستيطاني الدموي الغربي الأوروأمريكي والصهيوني النازي الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، لا يمكن التفكير برفض الحريات والقيم الديمقراطية، التي وصل إليها الشرط الحضاري الإنساني في تطوره التاريخي الاجتماعي،بسبب الإبادة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، خاصة في غزة، من طرف التحالف الاستعماري الاستيطاني الأورو أمريكي الإسرائيلي الصهيوني. أو أيضا بسبب ما تعرضت له الحريات الأكاديمية والمهنية والإعلامية، والحريات السياسية الديمقراطية والمدنية من قمع وتهجم واقصاء. حيث وصل مستوى القمع الى التهديد بالقتل والاغتيال. بل نحن نرى منالضروري فكريا وفلسفيا وسياسيا وأخلاقيا الاشتغال على هذه الإبادة النازية، و القمع للحريات الفردية والجماعية، بكل ما يتيحه الفكر النقدي العلمي من خلفيات فلسفية ومعرفية وابستيمولوجية، ومن مقاربات ومنهجيات، مدعمة بأدوات ومفاهيم قادرة على إنتاج معرفة نقدية بإمكانها أن تتملك الواقع الحي، معرفيا وأخلاقيا، بكل معطياته التركيبية والمعقدة.
لكننا نقول هذا من زاوية النظر النقدي الجذري تجاه الفكر الغربي وقيمه المغلفة بالإنسانية والكونية. لأن هذا الفكر، بما في ذلك العلوم الاجتماعية، وقيمه الاجتماعية الثقافية، والسياسية الحداثية، قد وضع سابقا تاريخيا على محك الإبادات والمجازر والمذابح الاستعمارية والامبريالية. كما تم تفكيكه وتعرية سقف مفاهيمه العنصرية المفعمة بالحقد والكراهية والاحتقار للشعوب التي عانت من ويلات وفظاعات الآلة العسكرية الرهيبة، المسيجة بإيديولوجية الحضارة والحرية والديمقراطية، وكل منظومة ومبادئ حقوق الإنسان. نقول هذا ونحن نفكر على ضوء الفكر السوسيولوجي النقدي لكتابات فرانز فانون، ومن معه من معاصريه مرورا بإدوارد سعيد، والفكر الفلسفي الغربي النقدي، لكل من فوكو ودريدا...، وصولا الى الدراسات ما بعد استعمارية، الى جانب مدرسة التابع الهندية. بالإضافة الى التحولات النقدية التي عرفتها المراجعات النقديةللتراث العلمي النقدي الديكولونيالي للمعرفة والعلوم الاجتماعية، والقيم الاجتماعية السياسية الثقافيةللديمقراطية الغربية.
لذلك لا ينبغي لمن يؤسس فكره ووجهة نظره النقدية للخلفيات الفلسفية الفكرية والابستيمولوجية العنصرية الهمجية، الاستعمارية الإبادية، أن يستغرب ما يحدث اليوم من وحشية نازية صهيونية بدعم أورو أمريكي عسكري سياسي إعلامي...
لأن لدينا ما يكفي من الكتابات التاريخية العلمية و الفكريةوالسوسيولوجيةوالانثربولوجية، ومن الأعمال الفنية الإبداعية ما يوثق ويؤرخ ويفكك ويعري المشروع الاستعماري الاستيطاني من الجزائر الى فلسطين. مع استحضار الكثير من البلدان التي تعرضت للتطهير العرقي في كل من أمريكا، كندا، أستراليا...
ولا تزال الى اليوم هذه القوى الغربية المتغطرسة والإرهابية تجدد أسس وآليات معاودة سيطرتها وهيمنتها السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية...، معتمدة على كل الوسائل الناعمة المرنة، أو العسكرية الحربية، في خلق الاخضاع والإذعان. وتكريس القهر والاستبداد والطغيان في مستعمراتها القديمة، كشكل سياسي تتطلبه الصيرورة التاريخية، لاستمرار سيطرتها وهيمنتها، وتجريد الشعوب من قيمتها الإنسانية.
لهذا فإن ما يحدث اليوم في غزة فلسطين فيه الكثير من الوقائع والسياسات التاريخية الاستعمارية والامبريالية، في تأسيس الحريات والقيم الديمقراطية الغربية على أنقاض وأشلاء ودماء الشعوب التي تعرضت لجرائم ضد الإنسانية، ولا تزال تتعرضلفظاعات ما تنتجه العلاقة الكولونيالية، من خلال، فرض علاقات دولية خارجية اقتصادية وسياسية غير عادلة، وغيرمتكافئة. وفيها قهر سياسي واقتصادي ونزع القيمة الإنسانية في التمتع بالحرية، والاستقلال السيادي الحقيقي، المتحرر من أدوات ووسائل وآليات سياسية اقتصادية، ومالية، تتحكم في القرار السيادي، والمصيري للشعوب المستعمرة سابقا.
هذا يعني أننا لسنا عدميين كي يؤدي بنا رفض الغرب الاستعماري الامبريالي القديم والمستحدث، في سيطرته وهيمنته، وفي تاريخه الاجرامي، الى رفض الشرط الحضاري النقدي والعلمي والاخلاقي الإنساني. بل تفرض الضرورة التاريخية السياسية خوض الصراع ضد هذه الإبادات، والقمع الاخضاعي الذي يسعى الى تكريس الإذعان والاستعمار والعزل والالغاء الوجودي الإنساني.
تبدو علاقة بلدان الجنوب بالغرب الاستعماري الامبريالي، أقرب الى علاقة شعوبنا بجهاز دولنا الاستبدادية القهرية الذي يخفي ويتستر على حقيقته الاجتماعية كجهاز قمعي دموي رهيب. ففي مراحل خفوت واضمحلال الصراع السياسي الاجتماعي الاقتصادي تأخذ كل أشكال العلاقات المادية والرمزية بعدا طبيعيا كأمر واقع لا حيلة الى تغييره. فيتلبس الواقع قوانين الطبيعة المنزلة كقدر محتوم ومحسوم في الخضوع والخنوع والعبودية. لكن في ظل ظروف وسياقات تاريخية اجتماعية لاشتداد ديناميات حركة الصراع ينكشف المستور، وتسقط الأقنعة وتتضح المعطيات وتسمى الأشياء والعلاقات بأسمائها الحقيقية على المستوى المحلي الوطني أو على مستوى العلاقات البنيوية بالاستعمار المستحدث والامبريالية الجديدة.
هكذافإن الكثير من النقد الفكري السياسي، والسوسيولوجي الذي أنتج في الصراع مع الوجه الدموي العنصري الإرهابي للقيم الديمقراطية الغربية كاستعمار استيطاني إبادي، يمتلك - هذا النقد - القيمة العلمية والمعرفية والابستيمولوجية في أن هذا الوجه الدموي للديمقراطية في العلاقة الكولونيالية وما بعد استعمارية، لا يمكن أن تكون قيمه إنسانية، في علاقته البنيوية مع الخارج.وهذا ما يعطي مصداقية فكرية سياسية للفكر النقدي الفلسفي الأخلاقي في أنها قيم لا تملك جدارة وقيمة تمثيل القيم الإنسانية الكونية، إلا بارتباط بهذا النقد الذي يجدد تأسيسها وتأصيلها، ونقدها ونقضهاكي تشمل البشرية جمعاء، دون أي تمييز إثني لغوي ديني...
نعتقد أن هذا الكفاح السياسي والابستيمولوجي، والإنساني الديكولونيالي، أُنتج وتبلور في الصمود والمواجهة ضد المشروع الاستعماري الامبريالي على أرضية دحضالواجهة الأيديولوجية للديمقراطية الغربية، بقيمها الفكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية اللاإنسانية. والمجسدة فعلا للجرائم الحربية القذرة والإبادات ضد الإنسانية، في حق الشعوب التي استعمرتها. نقول هذا ونحن نتذكر، كما قلنا سابقا،على سبيل المثال لا الحصر، التراث السوسيولوجي الذي برز مع التفكير الفلسفي السياسي لأطنيوغرامشي، ثم بشكل أدق وأكثر وضوحا وارتباطا بالواقع التاريخي الاستعماري مع فرانز فانون...
حيث هناك كتابات سوسيولوجيةوأنثروبولوجية تناولت بالتحليل والنقد والتفكيك المضامين السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والقيمية للديمقراطية الغربية، في علاقاتها الخارجية الدولية، كاستعمار دموي إرهابي استيطاني عنصري. ولعل الوقائع التاريخية لفظاعات المجازر والإبادات التي ارتكبت في حق شعوب العالم التي تعرضت للاستعمار. ومختلف أشكال الاحتلال، شاهدة على أن قيم الغرب الحضارية الكونية ليست أكثر من إيديولوجية خصوصية في التاريخ، مرتبطة أحاديا وانغلاقيا وعنصريا ببلدانها داخليا، لا أقل ولا أكثر.
فما يحدث اليوم في غزة والضفة من فظاعات وإبادة للإنسان قبل أن يكون فلسطينيا، يؤكد بالملموس على عبء التاريخ الاستعماري الامبريالي في همجيته وسطوته، وعلى خصوصية قيمه الحضارية المشبعة بالدم والإرهاب والنهب والاستغلال والقتلالإبادي على الهوية الراغبة في الحرية والسيادة،و التحرر والاستقلال من القهر والهيمنة والسيطرة الكولونيالية الامبريالية. كما يتأكد أهمية الأبعاد التاريخية والعلمية للتراث الفكري والسياسي، والأبحاث والدراسات، ومختلف أشكال الكتابات الإبداعية التي كشفت نقديا وجماليا الأشلاء والأنقاض الدموية التي تنهض عليها القيم الديمقراطية الغربية، وتؤسس بناء على تلك الجرائم ضد الإنسانية أرضيتها الموضوعية السياسية والاقتصادية والثقافية، في تقدمها العلمي والعسكري، وشكل العلاقات القيمية الاجتماعية الثقافية التي تتمركز، من خلالها، حول نفسها وذاتها في عداء للآخر[H1] باعتباره حيوانا ما دون البشر.
بناء على هذا نعيد النظر نقديا في الأفكار السياسية والإعلامية الرائجة، التي تستبطنها معاني ودلالات عنوان مقالنا.ما الذي يجعل هذا العنوان لا يمتلك أية قيمة فلسفية، فكرية، معرفية، ابستيمولوجية، وإيديولوجية، أمام تحدي إبادة غزة للفكر الإنساني العالمي، بما في ذلك كل العلوم الاجتماعية بمختلف أسس أطرها النظرية ومقارباتها ومنهجياتها الحديثة الحداثية؟ هل لأن أصلا، بناء على التاريخ السياسي الحديث والمعاصر، يعني أن التاريخ الحي الاستعماري والعلاقة الكولونيالية ما بعد الاستعمار، قد أنتجا البداهة التالية: لا يمكن، للقيم الديمقراطية الأورو أمريكية، أن تفكر إنسانيا؟ وهل حقا هذا ما يجعل الفظاعات والمجازر والإبادات، شكلا سياسيا اقتصاديا ثقافيا لمعاودة إنتاج السيطرة والهيمنة الكولونيالية. وإلا لماذانزع الغرب أقنعة آلياته الإيديولوجية الحضارية والمدنية والديمقراطية والإنسانية للدفاع عن الاستعمار الاستيطاني الإبادي الإسرائيلي، كاشفا عن عمق أسسه التاريخية البنيوية في كونه استعمار عاود إنتاج نفسه في الهيمنة والسيطرة، في أشكال سياسية اقتصادية ثقافية توافق السيرورة التاريخية لحركة تطوره التاريخي الرأسمالي الامبريالي النيوليبرالي.
ثانيا/هل يمكن للقيم الديمقراطية الأورو أمريكية أن تفكر إنسانيا؟
عندما يطلع القارئ على الأقل، على الدراسات والكتابات، من فرانز فانون، إدوارد سعيد، والدراسات مابعد إستعمارية، إلى مدرسة التابع الهندية، التي استطاعت، وهي تكافح همجية التمدن الحضاري الديمقراطي الغربي، بوصفه استعمارا قتالا مجرما ضد الإنسانية، أن تمتلك الأسس الفلسفية والمعرفية، والفكرية السياسية،والابستيمولوجية التحليلية النقدية. التي مكنتها، بتوسط من الفكر النقدي، من إنتاج أدواتها المفاهيمية في تفكيك الأشكال والمضامين الأيديولوجية للاستعمار في ادعائه المدنية والتحضر والأخلاق الإنسانية. وفي رفض اللغة والمفاهيم المعرفية الغربية المتحيزة والعنصرية التي توجه الخطاب الاستعماري باعتباره عنفا رمزيا وسياسيا وسياديا. حيث أساليبه الخداع والتحايل والكذب، وأهدافه الاحتلال والمحو والاستيطان وتجرد الأصلانيين من إنسانيتهم وهويتهم وثقافتهم...
عندها يدرك القارئ حجم عذابات الألم العميق الذي كان يعانيه فرانز فانون، وهو يكتب على وقع القنابل والإبادات التي كان يقوم بها الجيش الفرنسي في حق الشعب الجزائري. فقد تمت تصفية الآلاف في المدن في يوم واحد بعد هزيمة فرنسا في معركة ديان بيان فو1954. وغير ذلك من الرعب المأساوي الذي احتضنته كتابات فانون. كان يسائل اللغة والمفاهيم والدلالات والمعاني والقيم الغربية المشبعة زورا وبهتانا بالمدنية والحضارية. كان يضع فكر الغرب وقيمه وعلومه الاجتماعية على محك الاستعمار والاستيطان والتجريف الرهيب الاقتصادي والثقافي والقيمي الإنساني للشعوب المستعمرة. كان واعيا على ضوء واقع المآسي التي كان شاهدا عليها بعين المناضل والمفكر والإنسان، أن الفكر الغربي بكل خلفياته الفلسفية والمعرفية والابستيمولوجية والايديولوجية، قاصر وعاجز ومحدود السقف الحضاري الإنساني. لهذا كان فكر فرانز بكل موضوعية معرفية وابستيمولوجية أرضية خصبة للأفكار والرؤى الفكرية والسياسية و النظرية والمنهجية النقدية. لذلك كان من الموضوعي أن تظهر كتابات نقدية مختلفة حاولت ، بشكل أو بآخر، أن تستوعب هذا النقد للفكر الغربي الاستعماري المشحون بالقهر والكراهية والعنصرية والاحتقار للشعوب المستعمرة. وهذا ما نلمسه كما قلنا في استشراق إدوارد سعيد والآخرين، من رواد ما بعد الاستعمار. وما تلى هذا من مراجعات نقدية للتجربة الاستعمارية الامبريالية التي كانت تغير من مرحلة تاريخية الأشكال السياسية للسيطرة الاقتصادية والهيمنة الثقافية والفكرية والابستيمولوجية المعرفية في الانتصار لمركزية الغرب والعداء للآخرين، بوصفهم همج وتوحش يهدد الحريات والحضارة الغربية.
ما يحدث اليوم من قهر وإبادات في غزة وغيرها من مناطق العالم، يؤكد على أن هذه القيم السياسية الديمقراطية، والاجتماعية والثقافية والعلمية، بمختلف تخصصاتها الاجتماعية والإنسانية، عاجزة عن القدرة على التفكير والتصرف إنسانيا. بما ينسجم مع القيم الإنسانية التي جعلت الكثير من الفعاليات والقوى الحية، الفردية والجماعية، عبر العالم تنتفض وتتظاهر ضد بشاعة الفظاعات المروعة التي ترتكب على ايقاعات القتل المادي والرمزي، العسكري والسياسي والإعلامي. حيث عرقلت، وعطلت المؤسسات القانونية والمحاكم الدولية من القيام بواجبها الأخلاقي والقانوني والإنساني.
وبالأمس القريب أيضا وقف هذا الغرب الاستعماري بأقنعة الصداقة والتأييد للثورات العربية. لكنه في ممارساته المنسجمة مع حماية مصالحه الاستعمارية والامبريالية،كان جزءا من الثورة المضادة التي ساهمت في تخريب وتدمير طموحات وتطلعات الشعوب الى التغيير والتخلص من القهر السياسي والسيطرة والهيمنة الاقتصادية الثقافية للغرب الاستعماري. فكان حليفا للكثير من الأنظمة الاستبدادية، المحلية والإقليمية، التي لعبت كأدوات دور وكالات الغرب في هدم وإفشال الانتفاضات و الثورات، وتكرس وتأبيد.
هكذا كان الغرب مزدوجا في طبيعته السياسية والثقافية والقيمية الأخلاقية. الشيء الذي جعله بعيدا عن التفكير إنسانيا، في علاقته الدولية الخارجية مع البلدان الأخرى. فكان مانعا للتقدم والتمدن والتحضر ولكل القيم الديمقراطية للحداثة النقدية الإنسانية. فكان ميالا للبطش والسيطرة بالقوة والمعرفة والسلطة. ومن خلال خرق المواثيق والقوانين والأعراف والمؤسسات والمنظمات القانونية. وتعطيل الخدمات والجمعيات الخيرية الإنسانية الصحية والتعليمية...
كما انتصر للدمار والحروب والإبادات، وللمعايير المزدوجة، بشكل علني سافر ولا أخلاقي. وفي تحد عدواني غاشم مفعم بالاستعلاء والغطرسة للضمير الإنساني، والاحتكار للقيمة الوجودية الإنسانية. والزج بالآخرين في محرقة الموت النازية دون شفقة ولا رحمة.
ثالثا / وماذا بعد :التطبيعهو الشكل السياسي للاستقلال المهدور
لم يكن التطبيع مرحلة فجائية في التاريخ الحديث والمعاصر للأنظمة العربية، بل هو التجلي الصريح للعلاقة الكولونيالية التي من خلالها حافظ الاستعمار المستحدث على الارتباط التبعي البنيوي بمستعمراته. حيث حاول الاستعمار بأليات سياسية واقتصادية سرقة مقاومة وثوراتالشعوب، بأشكال من التدخل الناعم أو العسكري المباشر. لقد قامت الشعوب بانتفاضات ومقاومات متعددة الأشكال سياسية ومسلحة لتصفية الاستعمار. وفي سياق ذلك دفعت الكثير من الدماء والشهداء، وتعرضت للاباداتو الخراب والدمار، حتى تمكنت من الحصول على استقلالها. إلا أن الظروف والملابسات التي أحاطت بمسألة التحرر الوطني، على المستوى الداخلي، وفي العلاقة بالمستعمر جعلت الصراعات، حول المضمون السياسي والاجتماعي والاقتصادي للاستقلال، تبرز بين الأنظمة الحاكمة والقوى السياسي المعارضة. وفي هذا الصراع على السلطة اضطرت كل الأطراف للبحث عن الشرعية الشعبية الاجتماعية، من خلال تبني قضايا وطنية وقومية، في تنافس حميم على القيم الوطنية والثقافية والدينية والقومية، بين الأنظمة والقوى المعارضة. وفي هذا السياق الداخلي ظهرت أزمات بنيوية كشفت حقيقة الاستقلال الشكلي، للبلدان العربية، المرتبط بظروف دولية، تميزت بالصراع بين المعسكر الشرقي والغربي. وظهور ما يسمى عالميا بامتداد الثورات، وانتصار حركات التحرر ضد الغرب الرأسمالي الاستعماري الامبريالي. الى جانب ما يسمى وقتئذ باليسار الجديد، بمختلف مرجعياته الفكرية والسياسية الماركسية واللينينية والستالينية والماوية والتروتسكية...
لهذا وجدت الأنظمة العربية نفسها في وضع موضوعي حرج، اضطرها لتبني ايديولوجيا قضايا شعوبها الوطنية والقومية والدينية، تقوية لشرعيتها السياسية والمجتمعية. وذلك نظرا لحداثة وجودها في السلطة، ولقوة الظرف الدولي الداعم لحق الشعوب في تقرير مصيرها. و المساند لمختلف أشكال مقاومة الاستعمار والامبريالية.
هذه القراءة التاريخية النقدية هي التي تجعلنا نفهم حاليا السيرورة التاريخية للسيطرة والهيمنة الغربية، المتمثلة في الشكل السياسي لما سمي بالدولة الوطنية. سواء في شكلها الشمولي ذات الحزب الواحد المتلبس للوطنية و التقدميةوالاشتراكية، أو في شكلها الرجعي المرتبط بنيويا صراحة بالدوائر الاستعمارية الاقتصادية والسياسية والثقافية الرأسمالية.
ومع الصيرورة التاريخية والتحولات العالمية لانتصار الرأسمالية المتوحشة في مرحلتها النيوليبرالية. وابتلاعها لكل بلدان العالم التي اعتقدت أنها ستقتحم جنات الحريات الديمقراطية المدنية والسياسية، وإذا بها تجد نفسها مجرد سلع تباع في السوق، بالمعنى الرأسمالي الذي سلعن/سلعة، حتى ما هو حميمي في الانسان. فظهرت حقيقة الاستعدادات الموضوعية الكامنة في أسس نشأة الدولة الاستبدادية العربية، التي ارتبطت في مصالحها وتطلعاتها الاقتصادية والسياسية بالغرب، أكثر من ارتباطها بالمصالح والقضايا الوطنية والطموحات والتطلعات الشعبية في التنمية والديمقراطية، وامتلاك القرار السيادي، والتحكم في المصير، واختيار المسارات المستقلة سياسيا واقتصاديا وثقافيا...
هكذا خضع كل شيء لمنطق السوق في سيرورته الرأسمالية الجهنمية، ليس فقط في جانبه المادي والاقتصادي والمالي والسياسي...،بل وصل أيضا في جنونه البشع الاستغلالي الى ما هو رمزي في بعد الروح الإنساني، كتشكل ثقافي لرؤية العالم ونمط الوجود في الحياة، الى حد التجكم في الحريات الديمقراطية، كما أشرنا الى ذلك سابقا. لهذا يتم استنفاد دواخل الانسان الحميمية فيما يصهر، ويشكل انفعالاته وأحاسيسه وارتعاشاته النفسية والجسدية العميقة،إزاء الفن والجمال والغناء والكتابة والفكر والرياضة...، وحتى القبلة الحميمة لاتفلت من سباق هذا السعار الخبيث في الإشهار، وغيره من سباقات المسافات القصيرة والطويلة، كفعاليات رأسمالية...
أن يتم استنفاد كل هذا العمق في الحدس والحس والبصر والإدراك...،و بكلمة واحدة كل ما يميز إنسانيتنا ضد المسخ، في صنم السلعة (اللاشيء) الأجمل والأجود و الأقوى والفائز الأول الواحد الأوحد الذي لاشريك له، و النجم الساطع بنوره الوهاج في الفن و الجمال والرياضة... فذاك يعني الكارثة الحقيقية لانسحاب الأخلاق، و الجود والمحبة و الإنسان، والوجود، أمام هذا الطوطم/السوق، الاله الجديد.
تبعا لهذه التحولات والسياقات برزت الحقيقة السياسية للاستقلالات المهدورة في الوطنية والتنمية والسيادة. لذلك لم يكن التطبيع سوى إحدىالتمظهرات لجوهر الأنظمة التي ثبتت أقدامها الاستبدادية القهرية ولم تعد في حاجة الى أخذ بالحسبان ردود أفعال شعوبها، خاصة وأنها نجحت في خلق نوع من التصحر السياسي في امتلاك الناس الفعل السياسي في المشاركة في القرارات الوطنية والسيادية. أو في الارتباط بالقضايا القومية والإنسانية، كجزء عضوي وطني متلازم بنيويا مع كل أشكال الحرية والتحرر، بوصفها إطارا موضوعيا للمصير المشترك لكل شعوب المنطقة من المغرب الى المشرق.
بناء على هذا نفهم تطبيع السبعينات المصري ثم الأردني الذي حافظ بشكل مخجل على بعض الإشارات لحق الشعب الفلسطيني تجاه الاستعمار الاستيطاني. أما تطبيع إبراهيم( المغرب، الامارات، السودان، العربية السعودية في الطريق والحبل على الجرار)، فقد نزع أقنعة اللعب بالقضية الفلسطينية، ولم تعد الأنظمة في حاجة، أمام مصالحها الاقتصادية والأمنية والجيوسياسية، لضمان ديمومتها في السلطة القهرية، وتكريس ارتباطها البنيوي التبعي، الى ارتداء الأقنعة القيمية الاخلاقية في حفلة الرقص على منصة أبراهام للاستعمار الغربي المستحدث، والصهيوني الاسرائيلي الاستيطاني.
والجميل أيضا أن محك إبادة غزة جعل السلطة الفلسطينية تنهار سياسيا وأخلاقيا وواقعيا ومبدئيا، وتتعرى كليا اتفاقيات أوسلو جملة وتفصيلا، بوصفها شكلا سياسيا لمحو الفلسطيني وابتلاع الأرض الفلسطينية.
ولم يستثن محك إبادة غزة الشعوب العربية والإسلامية، والإنسانية، رغم احتجاجاتها المتواصلة ضد همجية الإبادة، من غصة القهر الأخلاقي النابع من العجز عن الفعل في وجه التحدي الرهيب للنظام العالمي الرأسمالي الامبريالي المتوحش، في ضربه عرض الحائط بكل الأسس الأخلاقية للقيم الإنسانية، والقواعد والأعراف القانونية، والمؤسساتية الدولية للانتظام الاجتماعي الحضاري الإنساني.
[HR][/HR]
[H1]