دكتور زياد العوف - في التَّصوُّف السُّنّيّ...

لعلّ مفهوم "التّصوّف" من أكثر المفاهيم غموضاً والتباساً، ليس عند العامّة وحدَهم، بل لدى بعض الخاصّة أيضاً. لذا فقد وجدتُ من المناسب في هذا الشهر المبارك أنْ أقوم بتسليط بعض الأضواء على هذا المفهوم المتداول والملتبِس في آنٍ واحد، وذلك ابتغاء تبيانه وتوضيح معانيه.
جاء في (لسان العرب) لابن منظور:
" [التصوّف] علمٌ يدلّ على الأعمال الباطنة ويدعو إليها، والأعمال الباطنة هي أعمال القلوب، وسُمّى المتصوّفون أنفسهم أرباب الحقائق، وسمّوا مَن عداهم أهل الظواهر وأهل المرسوم، وجمهور الصوفية يذهب إلى القول بأنّ اللفظ مشتقّ من "الصفاء" ، ويذهب بعضهم إلى اشتقاقها من الصّفّ، بمعنى أنّ الصوفيّ في الصفّ الأوّل لاتّصاله بالله، أو من "الصُّفَّة" (١) وهو اسمٌ أُطلِق على بعض فقراء المسلمين في صدر الإسلام الذين كانوا يأوون إلى صُفّة بناها الرسول خارج المسجد بالمدينة، أو من الصوف، لأنّه كان لباس الأنبياء ورمز الأولياء. "
من الواضح إذن تشعّبَ هذا المفهوم وتعدّدَ مدلولاته، بدءاً من تعريفه اللغوي ومروراً بحدّه الاصطلاحيّ، وليس انتهاءً بمذاهبه وطرقه ومناهجه.
على أنّ هذه القراءة معنيّة أساساً بالتصوّف المعتدِل الذي يتّفقُ مع جوهر الإسلام ومبادئه وأصوله، أي بما يُعرَف بالتصوف السنّيّ.
هذا وقد وجدتُ في كتاب ( الحافظ ابن الجوزيّ والتّصوّف السُّنّي في القرن الرابع الهجري)* لمؤلّفته ابنة عمّنا الراحلة الدكتورة مؤمنة بشير العوف (١٩٤٢-٢٠١٣م) ما يلبّي هذا المطلب.
جاء في الفصل الأول من الباب الثالث من الكتاب تحت عنوان " تعريف التصوف السنّيّ وشرطه والأدوار التي مرّ بها :
"........وقد ظهرت نزعة التصوّف السنيّ في منتصف القرن الثالث الهجريّ إبّان اشتداد الخصومة بين أصحاب النقل وأصحاب العقل. يمثّل الفريق الأوّل الإمام أحمد بن حنبَل، ويمثّل الفريق الثاني المعتزلة.
وأصحاب النقل يقولون إنّ الدّين نَصّ تفسّره أسباب النزول واللغة والرواية. وأصحاب العقل يقولون إنّ الدّين نصّ يفسّره العقل. يوضّحه.
في ذلك الوقت ظهر المحاسبيّ (٢٤٣ للهجرة/٨٨٨م) ليعلنَ أنّ هناك حلّاً آخر غير الاعتماد الكلّيّ على ظاهر النصّ، وغير الاعتماد الكلّيّ على العقل. فألّف كتاباً سمّاه (فهمُ القرآن) إلّا أنّه لم يُعجِب أصحاب النقل النصّيين، لأنّه تحدّث عن أمور لم يألفوها كالحديث في المحبٍّة والأُنس والوحشة والقرب، كما تحدّث في الورع والزهد والخشوع الخالص لله.
وقد ذهب بعض فقهاء الصوفيّة إلى اعتبار الصوفية من أهل السّنّة، بل ويعتبرهم ممّا امتاز به أهل السنة فقط .
من هؤلاء الإسفراييني (١٠٢٧م) الذي يقول:
" إنّ سادس ما امتاز به أهل السنة هو علم التصوف والإشارات، وما لهم فيه من الدقائق والحقائق لم يكن لأهل البِدعة فيه حظّ...بل كانوا محرومين ممّا فيه من الراحة والسكينة."
ولكنّ التصوف في الواقع هو نزعة من النزعات لا فِرقة مستقلّة كالمعتزلة والشيعة وأهل السنّة، [وكما يقول أحمد أمين في كتابه (ظهر الإسلام)] : " لذلك يصحّ أن يكون الرجل معتزلياً وصوفياً، أو سنيّاً وصوفيّاً، أو يهودياً أو بوذياً وهو متصوّف" .
من المرجّح أنّ كون التصوّف أمراً مشتركاً بين مذاهب مختلفة، بل أديان مختلفة هو الذي حملَ الفقهاء على معارضته لما قد يعلق به من العقائد الأخرى المخالفة للشرع.
لذا استمرّت المعارضة بين الصوفية والفقهاء، تعنف حيناً وتركد حيناً حتى جاء الغزالي فأرسى قواعد التصوف السنيّ عندما ألّف كتاب ( أحياء علوم الدين ) .
ولكنّ ذلك لم يلغِ معارضة الفقهاء لا سيّما أتباع الإمام أحمد بن حنبل فاستمرّت حتى عهد ابن الجوزيّ -موضوع كتابنا هذا- ومِن ثَمّ الإمام ابن تيمية، وهو من كبار فقهاء الحنابلة، الذي تحدّث في رسالته الشهيرة "الصوفيّة والفقراء" عن الأدوار التي مرّ بها التصوف، فنراه، لا ينكر أحوالهم إنكاراً تامّاً، وإنّما يعتبر شيوخهم مجتهدين في طاعة الله، وللمجتهد ثواب إن أخطأ وإنْ أصاب."*
١- الصُّفّة: مكان مظلَّل في مسجد المدينة كان يأوي إليه فقراء المهاجرين ويرعاهم الرسول، وهم أصحاب الصُّفّة.


*- د.مؤمنة بشير العوف، الحافظ ابن الجوزي والتّصوّف السّنّيّ في القرن السادس الهجري،دمشق، المكتبة القانونية،٢٠١٣م، ط١، ص.ص١٥٨-١٥٩ .

دكتور زياد العوف

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى