كان يمرُّ في ظروفٍ شخصية صعبة، حين بدأ يكتب رسالته للدكتوراه بإشراف أستاذه لوي ألتوسير الذي أقنع التلميذ ميشيل فوكو بأن يحضر دروسه في قراءة كتاب رأس المال لماركس، لكن التلميذ الذي كان يعاني من الاكتئاب والعصبية المفرطة، قرّر أن يُنهي حياته التي وجدها بلا طموح ولا أمل كما أخبر صديقه جيل دولوز بعد سنوات: " كنت يائساً، وتمنيت لو انني أُنهي حياتي بضربة واحدة ". وكانت الضربة جرحاً عميقاً في صدره نُقل على أثره الى مصحة نفسية، ذهب الاب الى الجامعة ليخبر الاستاذ التوسير: "إن ميشيل مريض، وبحاجة إلى مساعدتك".
العلاج بالسياسة
"لكن ما طبيعة مرضك؟ ما هي الأعراض التي تنتابك؟ "، سأل التوسير تلميذه فوكو وهو يزوره في مصحة مستشفى سانت آن: " تنتابني حالات من الصداع. صداع شديد معذّب، ونوبات متواصلة من الغثيان، أحياناً لا أستطيع تناول الطعام،والأرق الذي يجعلنبي اتناول جرعات كبيرة من المهدئات " اجاب فوكو.
لم تكن قائمة الأعراض الطويلة التي سمعها التوسير من فوكو جديدة عليه، فقد عانى من قبل مثل هذه الاعراض، لكنه تخلّص منها بعد ان اكتشف ان، الاهتمام بالدراسة والبحث سيجعلانه يتغلب على متاعبه الصحية، وكانت نصيحة التوسير لفوكو ان يترك المصحة ويعود لمقاعد الدرس، ليكمل رسالته في التخرج من المدرسة العليا للمعلمين، كان الموضوع الذي اختاره بعنوان " المرض العقلي وعلم النفس "، وهو الأمر االذي دفعه الى ان يحضر فحوصات المرضى النفسيين في المصحة نفسها التي كان يتعالج فيها، إلا ان ألتوسير وجد ان اندماج تلميذه فوكو في الحركة السياسية سيساعده على التخلص من حالة العصبية والاكتئاب التي تنتابه بين الحين والاخر، فأقنعه عام 1950 بالانضمام الى الحزب الشيوعي الفرنسي:" كان من الصعب ألا يكون المرء ماركسيا في ذلك الزمن، كما كان من العبء ان يكون المرء قد كتب العديد من الصفحات في الفلسفة او علم النفس من دون ان يتطلع الى صورة ماركس ".
في عام 1950 يسأل الطالب ميشيل فوكو أستاذه لوي التوسير عن كتاب رأس المال، وهل يرى انه ما يزال يصلح لهذا العصر، بعد ان خرجت البشرية من حرب مدمرة؟ هذا السؤال ظل يدور بذهن الأستاذ ألتوسير لخمسة عشر عاماً كاملة، تفرّغ خلالها لمراجعة كتاب رأس المال ودراسته دراسة دقيقة ليصدر عام 1965 مؤلفاً يحدث ضجة كبيرة "قراءة رأس المال"، اتُهم من خلاله بأنه يريد تحريف أفكار ماركس. وتصدى له غارودي الذي قال ان التوسير يريد ان يحصل على الشهرة من خلال مشاكسة ماركس، فيما كتب سارتر في "الأزمنة الحديثة" ان صاحب هذه القراءة يريد ان يغازل البنيوية على حساب أفكار ماركس الأساسية. ويضيف سارتر ان التوسير يخلط بين التحليل النفسي والتحليل الثقافي للظواهر، لم يَرُد التوسير على الحملة ولا على قرار طرده من الحزب الشيوعي، فهو كان مهتماً بالدرجة الأولى بتخليص ماركس من الاشتراكيين الذين لا يرون فيه سوى وجه المنظّر السياسي، منبهاً الى ان السير في هذا الطريق سيؤدي الى ضياع ماركس الحقيقي.. ولهذا يكتب في قراءة رأس المال:"ان العودة الى ماركس فيلسوف التقنية والاقتصاد والاجتماع، أمر في غاية الإنصاف، لأنه يعيد الاعتبار الحقيقي لهذا المفكر الإنساني الكبير."
****
قراءة رأس المال
كان كتاب "قراءة رأس المال" في البداية قد بُني على ندوة حول مخطوطات كارل ماركس أُقيمت في باريس أوائل عام 1965، وكانت المخطوطات التي نشرت عام 1932 اثارت ضجة كبيرة، وجاءت ندوة باريس لتعيد الاعتبار الى ماركس الشاب، كان التوسير متحمساً للندوة التي دعا اليها عدداً من طلبته أبررزهم فوكو وجيل دولوز إلى جانب سارتر ورولان بارت والتوسير. وهذه الندوة، كما كتاب " قراءة رأس المال "، أثارت صخباً شديداً في الأوساط الماركسية التقليدية، لأن ألتوسير، الساعي يومها الى قراءة كتاب ماركس " راس المال " على ضوء أبعاده الفلسفية والاقتصادية، وربما الاجتماعية ايضاً، كان مهتماً بتخليص ماركس مما أسماه بـ " التبسيط الذي مارسته الانظمة الشيوعية على افكار ماركس ". وعلى ضوء هذا الاهتمام، لم يكن غريباً، ان يحاول ألتوسير ان يجمع بين راسين في الحلال كما كتب غارودي في نقده لكتاب قراءة راس المال ويقصد الجمع بين ماركس وفرويد، وهي المحاولة التي قال عنها التوسير في مقدمة كتابه انها، إعادة إحياء ماركس المفكر، وفرويد صاحب المنهج الفريد.
كان التوسير يسعى الى تخليص فكر ماركس من كل نزعة مؤدلجة وإعادته الى مركزيته التاريخية. فـكتاب "رأس المال" بالنسبة إليه، ليس كتاباً يبني فكراً ونظاماً بديلين للرأسمالية، بل هو كتاب يدرس الرأسمالية نفسها، على ضوء معطيات تاريخها وارتباطها بالمجتمعات التي نمت داخلها.
ويتذكر فوكو انه عندما زار استاذه ألتوسير في مصحته العقلية بسانت آن في ضواحي باريس عام 1981 سأله: هل ما زلت ماركسياً؟ أجابه ألتوسير: ومن نكون نحن بغير صاحب اللحية الكثّة؟ لكن ماركس هو الذي ينبذنا دوماً.
****
موت فيلسوف عظيم
في الساعة الواحدة والربع بعد ظهر الخامس والعشرين من تموز عام 1984 قطع التلفزيون الفرنسي برامجه ليعلن موت ميشيل فوكو، بمستشفى " لاسالبيتر" في باريس أثر تعقيدات صحية اصابت جهازه العصبي نتيجة لحالة من التسمم في الدم، لم يقل البيان انه مات بسبب ألايدز، لان معظم المقربين منه لم يكونوا يعرفون شيئا عن طبيعة مرضه، فقد كان يحب الخصوصية، ولم يكن مستعدا لأن يشاركه احد اسرار حياته، في اليوم التالي ظهرت اللوموند وعلى صفحتها الاولى مقال كتبه زميله جيل دولوز بعنوان " موت فيلسوف عظيم: " لقد بدا لي أنه كان يرغب في أن يبقى وحيدا، وأن يسير إلى حيث لا أحد يستطيع اقتناء خطواته، باستثناء بعض من ربطته بهم حميمية، كانت حاجتي إليه أكبر من حاجته إلي ". فيما يكتب جاك دريدا:" أن ميشيل فوكو ورحيله، هو إعادة النظر لما نعرفه عنه، لتفكيرنا عنه، هل نحن نكتب عن فوكو أم عن انعكاسه فينا ".فيما أصدر الرئيس الفرنسي ميتران تأبينا تحدث فيه عن الخسارة الفادحة التي يمثلها موت فوكو بالنسبة للأمة الفرنسية، فيما ارسلت سيمون دي بوفوار خطاباً اكدت فيه ان فوكو كان يمثل صورة ازدهار الحركة الفكرية الفرنسية في القرن العشرين ووضعته الى جانب سارتر وميرلوبونتي ورولان بارت وغولدمان وكامو والتوسير، وتتذكر دي بوفوار ان فوكو كان قد اتصل بها بعد سماعه خبر وفاة سارتر بساعات عام 1980، ورغم الخلاف الذي نشب بينهما – سارتر وفوكو – إلا انه تحدث معها بحب عن سارتر مؤكداً لها ان وفاة فيلسوف الوجودية الأكبر هو ايضا ولادة لافكاره من جديد، وفي النيويورك تايمز كتب الفلسطيني أدورد سعيد: " لاشك ان قراء فوكو سوف يتذكرون انهم عندما قرأوا اعماله للمرة الاولى شعروا بصدمة خاصة عند لقاء هذا المفكر الحاد الشيق، الذي يعرض نفسه في شكل شحنات كهربائية متتالية، وفي اسلوب حساس لايتوفر لكاتب في عمق فوكو وصعوبته ".
ولد ميشيل فوكو في 15 تشرين الاول عام 1926 لعائلة من سلالة البرجوازية الفرنسية، كان والده جراحاً مشهوراً، فيما والدته من اسرة غنية لديها الكثير من الاملاك، كان الوالد صارماً جداً الامر الذي دفع فوكو أن يتمرد في فترة المراهقة، وحين اختار له الاب مهنة الطب، رفض وقرر ان يتخصص في الفلسفة، فدخل مدرسة المعلمين العالية ليدرس تحت اشراف ميرلو بونتي فلسفة هيجل، فيما كان التوسير يعيد معه ترتيب اوراق ماركس، وكمعظم طلبة الفلسفة تأثر في بداية حياته بنيتشه وسارتر وقرأ معظم اعمال هيدجر، وقد حاول من خلال الجمع بين سارتر وهيدجر ونيتشه وماركس وفرويد، أن يجد طريقة جديدة لاستكشاف جذور الواقع الذي يعيش فيه. اثناء دراسته تعرّض لحالات من الاكتئاب، واكتشف فيما بعد ميوله الجنسية المثلية التي سببت له حالة من الشعور بالذنب رافقته حتى اخر لحظة في حياته، حصل عام 1949 على شهادة عليا في علم النفس، وقد قضى هذه السنوات بمراقبة تصرفات المرضى النفسيين ومتابعة احوالهم، وكان يؤكد لاستاذه التوسير انه يرغب بالتخصص بالطب النفسي، عام 1952 يحصل على منصبه التدريسي الاول، مدرسا لمادة علم النفس لطلبة الفلسفة في مدرسة المعلمين العليا.
****
في انتظار النهاية
في عام 1953 شاهد فوكو مسرحية صمويل بيكيت " في انتظار جودو" وشعر ان المسرحية ساعدته في التحرر من الروح الفلسفية التي سيطرت عليها الماركسية والوجودية، لقد كان ينظر الى المتشردون على خشبة المسرح، وهم يتلقون دروسا عن الموت والحياة والحب.
بعد ان خرج من المسرح كتب مقالاً حماسيا بعنوان " ولادتنا كانت ابرز خساراتنا "، ويكتب الى صمويل بيكيت رسالة يقول فيها:" انني مثلك اصارع الحالة التي تركني عليها العدم ". وفي السنة نفسها قرأ كتاب نيتشه " تأملات في غير أوانها " بعد ذلك بسنوات سيعترف فوكو ان مسرحية " في انتظار جودو كانت كشفاً ملهما له، أدى به الى قطيعة مع مشهد ثقافي فرنسي كان يبدو أسيراً لتنظيرات سارتر وظلال الستالينية، وقد أوحت له المسرحية بأن يتحرك باتجاه فكري مختلف، رافضا سارتر لأن فلسفته " لاتزال تحتوي ذلك الافتراض المفلس عن الانسان كموضوع لاحترام الذات "، وسوف يؤكد فوكو في اشهر كتبه " الكلمات والاشياء " أن الصورة الغربية عن الانسان ليست افتراضا يدافع عنه وانما هي عمليات اجتماعية وتاريخية وهي في آخر المطاف نتاج الحضارة الرأسمالية.ويكتب في مقال بعنوان " الانسان الغربي ان: " الكائن البشري لم يعد له اي تاريخ او بالأحرى، فانه يجد نفسه منذ ان يتكلم ويعمل ويعيش قد اصبح متداخلا في نسيج وجوده الخاص مع اكثر من تواريخ، لاهي تابعة له ولا متجانسة معه ".
ويتوصل فوكو الى نتيجة مفادها ان الانسان المعاصر معرض لشكل جديد من الاغتراب، اعمق مما كان يتخيل ماركس او اصحاب مدرسة فرانكفورت: " انه مغترب منذ اللحظة الاولى لوجوده " ويضيف في المقال:" غريب جدا ان لايكون الانسان اكثر من صدع في نظام الاشياء.. ومن المريح جداً والباعث على السلوى الاعتقاد بان الانسان اختراع جديد فقط، تغصن جديد.. وسوف يختفي مرة أخرى " هذا القول اثار استهجان التيار الوجودي الذي اعتبر مقولات فوكو محاولة لدفع الوجودية الى زاوية من زوايا النسيان.
كان نيتشه ايضا بالنسبة لفوكو اشبه بالكشف، لقد صعقته على وجه الخصوص مقالة نيتشه عن معلمه شوبنهور والتي يؤكد فيها ان السعي الانساني هو ان يصبح المرء ما هو عليه، ويجد في مقولة نيتشه ان كل انسان تقوده روح حارسة، وعلى المرء ان يتبع تلك الروح الحارسة، في ذلك الوقت، اصبح فوكو مبهوراً بفكرة الانتحار، ويحلم بالموت العنيف كتحقيق للوجود، في تلك الفترة ايضا سحرته كتابات جورج باتاي، الذي كان يصر على ان:" ما من وسيلة للتآلف مع الموت أفضل من رَبْطِهِ بفكرة داعرة، لقد اثبت نيتشه وباتاي ان لديهم مزيجا فلسفيا وفكرياً مناسبا لمزاج فوكو، في ذلك الوقت كان فوكو يمارس الجنس على انه " مسرح إيروتيكي للقسوة "، في العام 1955 يقطع فوكو علاقته مع التعليم، حيث يتم تعينه ملحقا ثقافيا في السفارة الفرنسية بالسويد، وفي هذه السنوات ايضا تبدا القطيعة مع الحزب الشيوعي، لكنه يبقى مخلصا للمعلم ماركس ونراه يعلن:" وداعا للمرجعيات المتماشية مع ما يُعلم في الجامعة "، في السويد يعكف على دراسة المركيز دي ساد، وتراوده من جديد فكرة الانتحار:" ان الحياة الحقة هي التي تنزلق من طرف أنشوطة " وهو يقصد متعة الانتحار شنقاً.
****
تاريخ الجنون
عام 1960 يعود الى باريس ليمارس التدريس استاذا للفلسفة، وفي تلك الفترة تزداد سمعته الاكاديمية بعد ان نشر كتابه الكبير تاريخ الجنون عام 1961، وفيه يحلل كيف تغير مفهوم المجتمع للجنون بعد عام 1500م، قبل ذلك التاريخ يخبرنا فوكو ان المجانين كانوا يعاملون باحترام ويعتبر ان لديهم منظوراً روحيا بينما اصبح الجنون يعامل لاحقاً كمرض يتطلب السيطرة الاجتماعية والعلاج وفي مقابلة معه يقول: " بعد دراسة الفلسفة اردتُ معرفة ما هو الجنون، كنت مجنوناً كفاية لأدرس العقل، وأصبحت الآن عاقلاً كفاية لأدرس الجنون.
في عام 1963 نشر فوكو كتابه ولادة العيادة حيث استكشف مشاكل الانتحار والسادية والمازوشية والمخدرات، الا ان كتابه الأهم الذي اثار ضجة كبرى كان كتاب " الكلمات والاشياء" الصادر عام 1966 وهو اول كتاب بعد كتب سارتر يلقى رواجا كبيرا عند القراء، ويعاد طبعه مرات عديدة في نفس سنة صدورة، وقد خصصت له مجلة الازمنة الحديثة التي كان يشرف عليها سارتر ملفا خاصا، حيث تم تلخيص الكتاب، الحقته فيما بعد بمقال كتبه سارتر نفسه يهاجم فيه الكتاب:" يقدم فوكو للناس ما هم بحاجة اليه، اي خليطا انتقائيا نجد فيه ألان روب غريبه والبنيوية والالسنيات ولاكان، وقد استخدمت بالتناوب كلها من اجل استحالة اي فكر تاريخي.. لعل المستهدف من كتاب فوكو هو بالطبع الماركسية، ان الامر يتعلق بتشكيل أيديولوجيا فكرية جديدة تكون بمثابة آخر حاجز تقيمه البرجوازية ضد ماركس "
كان سارتر يشعر في قرارة نفسه ان فوكو يحاول ان يضع حدا فاصلا بين عالمين فلسفيين، عالم ما قبل سارتر وعالم ما بعد سارتر واعتبر البعض ان فوكو يحاول ان يحل محل سارتر ويتخذ وظيفته نفسها كقائد للفكر الفرنسي الجديد، الا ان فوكو وهو يرد على مقال سارتر كان يحاول ان يلتزم حدود الاحترام للاستاذ كما كان يسمي سارتر:" وجدنا أنفسنا منذ نحو خمسة عشر عاما اننا بعيدون عن الجيل السابق، اي جيل سارتر وميرلو بونتي، جيل الازمنة الحديثة الذي كان فيما مضى قانون فكرنا وطرازنا في الوجود.. لقد عرفنا جيل سارتر كجيل شجاع وكريم بالتاكيد ورايناه جيلا مولّها بالحياة السياسية والاجتماعية والوجود، ولكننا نحن فيما يخصنا اكتشفنا شيئا آخر بالتاكيد وولهاً آخر.. انه الوله بالمفهوم، وبما سوف أدعوه بالنظام الضابط.. ان نقطة الانقطاع او القطيعة بيننا وبين سارتر تتموضع في اللحظة التي اكتشف فيها ليفي شتراوس وجاك لاكان، الاول فيما يخص المجتمعات والثاني فيما يخص اللاوعي ".
ولعل نقطة الخلاف بين سارتر وفوكو هي اعلان الاخير في كتابه عن موت الانسان، وقد احدثتت هذه العبارة الكثير من سوء الفهم، ليس فقط عند القارئ العادي وانما عند كبار المفكرين، حيث راح الكثيرون يتساءلون كيف يمكن ان يموت الانسان؟ وهل من الممكن ان ينقرض نهائيا من على سطح الكرة الارضية؟ وماذا يبقى اذن؟ ويتساءل سارتر بسخرية ان السيد فوكو اما يمزح، ام انه قد جن فعلا.
وحين حاول بعض الصحفيين احداث وقيعة بين سارتر وفوكو قال:" لا أقبل إطلاقا بأن يتدخل الناس بيني وبين سارتر لكي يزيدوا من اتساع الشقة والخلاف، أو لكي يصطادوا في الماء العكر.. فأنا لست الا تلميذاً صغيراً لسارتر! ويبدو ان هذه العبارة اعجبت سارتر جدا فعندما سألوه بعد سنوات عن فوكو قال: ليست لي مشكلة معه. نحن نشتغل معاً، ونناضل من أجل نفس القضايا.
ينهي فوكو كتابه الكلمات والاشياء بعبارات شاعرية:" ذات يوم سيختفي الانسان مثل وجه في الرمال على حافة البحر " وتبدو هذه العبارة متوافقه مع نيتشه الذي كتب ذات يوم:" هل نتمنى ان تنتهي البشرية في النار والضوء او في الرمال.
****
الناشط السياسي
حقق كتاب الكلمات والاشياء شهرة لفوكو مع كثير من سوء الفهم، الذي دفعه للسفر الى تونس للعمل في احدى جامعاتها، وبقى فيها حتى ايار عام 1968حيث اندلعت تظاهرات الطلبة، وفي مناخ مليء بالسياسة اصبح فوكو رئيسا لقسم الفلسفة في جامعة فينسين، وفي خضم الأحتجاجات الطلابية، قال فوكو ان ثورة الطلبة هي ما اخرجه من شغفه بالحوار واعادته من جديد الى السياسة، وسرعان ما وجد فوكو نفسه يتصدر الاحتجاجات وهو يحمل مكبر الصوت الى جانب سارتر، كان في الثانية والاربعين حليق الراس، وقد حاول ان يميز مظهره بملابس غير رسميه تجعله بعيدا عن شكل الاستاذ الجامعي المعتاد، نظارات طبية بلا اطار وسترة جلدية وقمصان بيضاء لماعة، كان يبدو شكله غريبا وهو يلقي محاضرات الفلسفة في الجامعة ونراه يقوم بتوزيع صحيفة " قضية الشعب " التي كان يصدرها مجموعة من الطلبة الماويين، كانت الصحيفة تحمل في صفحاتها الاولى صورة لقائد الثورة الصينية ماوتسي تونغ، كان معجبا بشعارهم " العنف، العقوبة، الاخلاق".
عام 1976 نشر كتابه الكبير " تاريخ الجنسانية" في ثلاث اجزاء ظهر الجزء الاول منها بعنوان ارادة المعرفة، ونشر الجزءان الثاني والثالث قبل وفاته بايام فقط وفي هذا الكتاب انتقل تركيزه باتجاه فهم الاخلاقيات في سياق تاريخي كيف فهم الناس في ازمنة سابقة أخلاقية تصرفاتهم. وبينما كان في الجزء الاول يبحث في الجنسانية في العصر الحديث، فقد استكشف في الاجزاء الأخرى الجنسانية في اليونان وروما القديمتين وفي المجلد الرابع الذي لم ينشر الا بعد وفاته يعود الى دراسة استخدام السلطة في المجتمع، لانه آمن بان القيود المطبقة على الناس تمنعهم من التعبير عن قواهم، مما يجعلهم يجدون مخرجا لهم في التخيلات الجنسية.
طوال السبعينيات كان ناشطا سياسيا، وأيد قيام دولة فيتنام، ودعم الثورة في ايران، في الثمانينيات بدات اعراض المرض عليه، وبعد تسليم المطبعة للمجلد الثاني والثالث من تاريخ الجنسانية انهارت في شقته ليتم الكشف عن اصابته بمرض الايدز، عند موته وجدوا عند سريره الاعمال الكاملة لانطوان آرتو وقد وضع فوكو تحت هذه العبارة خطا كبيراً: "انا لست من عالمكم.. عالمي هو الجانب الآخر من كل شيء، يعرف، وعلى وعي بنفسه، ويرغب، ويصنع نفسه".
اذا كانت قصة فوكو الشخصية تبدو غريبة ومزعجة احيانا، فذلك لانه واصل فلسفته الى اقصى مداها المنطقي، وكما يقول جيل دولوز: "فوكو عمل بنصيحة نيتشه أن يصبح الانسان ما هو عليه بكل جدية، أو بمعنى آخر ان يصبح كائناً جوهره، هو إرادة القوة لديه".
* عن جريدة المدى
العلاج بالسياسة
"لكن ما طبيعة مرضك؟ ما هي الأعراض التي تنتابك؟ "، سأل التوسير تلميذه فوكو وهو يزوره في مصحة مستشفى سانت آن: " تنتابني حالات من الصداع. صداع شديد معذّب، ونوبات متواصلة من الغثيان، أحياناً لا أستطيع تناول الطعام،والأرق الذي يجعلنبي اتناول جرعات كبيرة من المهدئات " اجاب فوكو.
لم تكن قائمة الأعراض الطويلة التي سمعها التوسير من فوكو جديدة عليه، فقد عانى من قبل مثل هذه الاعراض، لكنه تخلّص منها بعد ان اكتشف ان، الاهتمام بالدراسة والبحث سيجعلانه يتغلب على متاعبه الصحية، وكانت نصيحة التوسير لفوكو ان يترك المصحة ويعود لمقاعد الدرس، ليكمل رسالته في التخرج من المدرسة العليا للمعلمين، كان الموضوع الذي اختاره بعنوان " المرض العقلي وعلم النفس "، وهو الأمر االذي دفعه الى ان يحضر فحوصات المرضى النفسيين في المصحة نفسها التي كان يتعالج فيها، إلا ان ألتوسير وجد ان اندماج تلميذه فوكو في الحركة السياسية سيساعده على التخلص من حالة العصبية والاكتئاب التي تنتابه بين الحين والاخر، فأقنعه عام 1950 بالانضمام الى الحزب الشيوعي الفرنسي:" كان من الصعب ألا يكون المرء ماركسيا في ذلك الزمن، كما كان من العبء ان يكون المرء قد كتب العديد من الصفحات في الفلسفة او علم النفس من دون ان يتطلع الى صورة ماركس ".
في عام 1950 يسأل الطالب ميشيل فوكو أستاذه لوي التوسير عن كتاب رأس المال، وهل يرى انه ما يزال يصلح لهذا العصر، بعد ان خرجت البشرية من حرب مدمرة؟ هذا السؤال ظل يدور بذهن الأستاذ ألتوسير لخمسة عشر عاماً كاملة، تفرّغ خلالها لمراجعة كتاب رأس المال ودراسته دراسة دقيقة ليصدر عام 1965 مؤلفاً يحدث ضجة كبيرة "قراءة رأس المال"، اتُهم من خلاله بأنه يريد تحريف أفكار ماركس. وتصدى له غارودي الذي قال ان التوسير يريد ان يحصل على الشهرة من خلال مشاكسة ماركس، فيما كتب سارتر في "الأزمنة الحديثة" ان صاحب هذه القراءة يريد ان يغازل البنيوية على حساب أفكار ماركس الأساسية. ويضيف سارتر ان التوسير يخلط بين التحليل النفسي والتحليل الثقافي للظواهر، لم يَرُد التوسير على الحملة ولا على قرار طرده من الحزب الشيوعي، فهو كان مهتماً بالدرجة الأولى بتخليص ماركس من الاشتراكيين الذين لا يرون فيه سوى وجه المنظّر السياسي، منبهاً الى ان السير في هذا الطريق سيؤدي الى ضياع ماركس الحقيقي.. ولهذا يكتب في قراءة رأس المال:"ان العودة الى ماركس فيلسوف التقنية والاقتصاد والاجتماع، أمر في غاية الإنصاف، لأنه يعيد الاعتبار الحقيقي لهذا المفكر الإنساني الكبير."
****
قراءة رأس المال
كان كتاب "قراءة رأس المال" في البداية قد بُني على ندوة حول مخطوطات كارل ماركس أُقيمت في باريس أوائل عام 1965، وكانت المخطوطات التي نشرت عام 1932 اثارت ضجة كبيرة، وجاءت ندوة باريس لتعيد الاعتبار الى ماركس الشاب، كان التوسير متحمساً للندوة التي دعا اليها عدداً من طلبته أبررزهم فوكو وجيل دولوز إلى جانب سارتر ورولان بارت والتوسير. وهذه الندوة، كما كتاب " قراءة رأس المال "، أثارت صخباً شديداً في الأوساط الماركسية التقليدية، لأن ألتوسير، الساعي يومها الى قراءة كتاب ماركس " راس المال " على ضوء أبعاده الفلسفية والاقتصادية، وربما الاجتماعية ايضاً، كان مهتماً بتخليص ماركس مما أسماه بـ " التبسيط الذي مارسته الانظمة الشيوعية على افكار ماركس ". وعلى ضوء هذا الاهتمام، لم يكن غريباً، ان يحاول ألتوسير ان يجمع بين راسين في الحلال كما كتب غارودي في نقده لكتاب قراءة راس المال ويقصد الجمع بين ماركس وفرويد، وهي المحاولة التي قال عنها التوسير في مقدمة كتابه انها، إعادة إحياء ماركس المفكر، وفرويد صاحب المنهج الفريد.
كان التوسير يسعى الى تخليص فكر ماركس من كل نزعة مؤدلجة وإعادته الى مركزيته التاريخية. فـكتاب "رأس المال" بالنسبة إليه، ليس كتاباً يبني فكراً ونظاماً بديلين للرأسمالية، بل هو كتاب يدرس الرأسمالية نفسها، على ضوء معطيات تاريخها وارتباطها بالمجتمعات التي نمت داخلها.
ويتذكر فوكو انه عندما زار استاذه ألتوسير في مصحته العقلية بسانت آن في ضواحي باريس عام 1981 سأله: هل ما زلت ماركسياً؟ أجابه ألتوسير: ومن نكون نحن بغير صاحب اللحية الكثّة؟ لكن ماركس هو الذي ينبذنا دوماً.
****
موت فيلسوف عظيم
في الساعة الواحدة والربع بعد ظهر الخامس والعشرين من تموز عام 1984 قطع التلفزيون الفرنسي برامجه ليعلن موت ميشيل فوكو، بمستشفى " لاسالبيتر" في باريس أثر تعقيدات صحية اصابت جهازه العصبي نتيجة لحالة من التسمم في الدم، لم يقل البيان انه مات بسبب ألايدز، لان معظم المقربين منه لم يكونوا يعرفون شيئا عن طبيعة مرضه، فقد كان يحب الخصوصية، ولم يكن مستعدا لأن يشاركه احد اسرار حياته، في اليوم التالي ظهرت اللوموند وعلى صفحتها الاولى مقال كتبه زميله جيل دولوز بعنوان " موت فيلسوف عظيم: " لقد بدا لي أنه كان يرغب في أن يبقى وحيدا، وأن يسير إلى حيث لا أحد يستطيع اقتناء خطواته، باستثناء بعض من ربطته بهم حميمية، كانت حاجتي إليه أكبر من حاجته إلي ". فيما يكتب جاك دريدا:" أن ميشيل فوكو ورحيله، هو إعادة النظر لما نعرفه عنه، لتفكيرنا عنه، هل نحن نكتب عن فوكو أم عن انعكاسه فينا ".فيما أصدر الرئيس الفرنسي ميتران تأبينا تحدث فيه عن الخسارة الفادحة التي يمثلها موت فوكو بالنسبة للأمة الفرنسية، فيما ارسلت سيمون دي بوفوار خطاباً اكدت فيه ان فوكو كان يمثل صورة ازدهار الحركة الفكرية الفرنسية في القرن العشرين ووضعته الى جانب سارتر وميرلوبونتي ورولان بارت وغولدمان وكامو والتوسير، وتتذكر دي بوفوار ان فوكو كان قد اتصل بها بعد سماعه خبر وفاة سارتر بساعات عام 1980، ورغم الخلاف الذي نشب بينهما – سارتر وفوكو – إلا انه تحدث معها بحب عن سارتر مؤكداً لها ان وفاة فيلسوف الوجودية الأكبر هو ايضا ولادة لافكاره من جديد، وفي النيويورك تايمز كتب الفلسطيني أدورد سعيد: " لاشك ان قراء فوكو سوف يتذكرون انهم عندما قرأوا اعماله للمرة الاولى شعروا بصدمة خاصة عند لقاء هذا المفكر الحاد الشيق، الذي يعرض نفسه في شكل شحنات كهربائية متتالية، وفي اسلوب حساس لايتوفر لكاتب في عمق فوكو وصعوبته ".
ولد ميشيل فوكو في 15 تشرين الاول عام 1926 لعائلة من سلالة البرجوازية الفرنسية، كان والده جراحاً مشهوراً، فيما والدته من اسرة غنية لديها الكثير من الاملاك، كان الوالد صارماً جداً الامر الذي دفع فوكو أن يتمرد في فترة المراهقة، وحين اختار له الاب مهنة الطب، رفض وقرر ان يتخصص في الفلسفة، فدخل مدرسة المعلمين العالية ليدرس تحت اشراف ميرلو بونتي فلسفة هيجل، فيما كان التوسير يعيد معه ترتيب اوراق ماركس، وكمعظم طلبة الفلسفة تأثر في بداية حياته بنيتشه وسارتر وقرأ معظم اعمال هيدجر، وقد حاول من خلال الجمع بين سارتر وهيدجر ونيتشه وماركس وفرويد، أن يجد طريقة جديدة لاستكشاف جذور الواقع الذي يعيش فيه. اثناء دراسته تعرّض لحالات من الاكتئاب، واكتشف فيما بعد ميوله الجنسية المثلية التي سببت له حالة من الشعور بالذنب رافقته حتى اخر لحظة في حياته، حصل عام 1949 على شهادة عليا في علم النفس، وقد قضى هذه السنوات بمراقبة تصرفات المرضى النفسيين ومتابعة احوالهم، وكان يؤكد لاستاذه التوسير انه يرغب بالتخصص بالطب النفسي، عام 1952 يحصل على منصبه التدريسي الاول، مدرسا لمادة علم النفس لطلبة الفلسفة في مدرسة المعلمين العليا.
****
في انتظار النهاية
في عام 1953 شاهد فوكو مسرحية صمويل بيكيت " في انتظار جودو" وشعر ان المسرحية ساعدته في التحرر من الروح الفلسفية التي سيطرت عليها الماركسية والوجودية، لقد كان ينظر الى المتشردون على خشبة المسرح، وهم يتلقون دروسا عن الموت والحياة والحب.
بعد ان خرج من المسرح كتب مقالاً حماسيا بعنوان " ولادتنا كانت ابرز خساراتنا "، ويكتب الى صمويل بيكيت رسالة يقول فيها:" انني مثلك اصارع الحالة التي تركني عليها العدم ". وفي السنة نفسها قرأ كتاب نيتشه " تأملات في غير أوانها " بعد ذلك بسنوات سيعترف فوكو ان مسرحية " في انتظار جودو كانت كشفاً ملهما له، أدى به الى قطيعة مع مشهد ثقافي فرنسي كان يبدو أسيراً لتنظيرات سارتر وظلال الستالينية، وقد أوحت له المسرحية بأن يتحرك باتجاه فكري مختلف، رافضا سارتر لأن فلسفته " لاتزال تحتوي ذلك الافتراض المفلس عن الانسان كموضوع لاحترام الذات "، وسوف يؤكد فوكو في اشهر كتبه " الكلمات والاشياء " أن الصورة الغربية عن الانسان ليست افتراضا يدافع عنه وانما هي عمليات اجتماعية وتاريخية وهي في آخر المطاف نتاج الحضارة الرأسمالية.ويكتب في مقال بعنوان " الانسان الغربي ان: " الكائن البشري لم يعد له اي تاريخ او بالأحرى، فانه يجد نفسه منذ ان يتكلم ويعمل ويعيش قد اصبح متداخلا في نسيج وجوده الخاص مع اكثر من تواريخ، لاهي تابعة له ولا متجانسة معه ".
ويتوصل فوكو الى نتيجة مفادها ان الانسان المعاصر معرض لشكل جديد من الاغتراب، اعمق مما كان يتخيل ماركس او اصحاب مدرسة فرانكفورت: " انه مغترب منذ اللحظة الاولى لوجوده " ويضيف في المقال:" غريب جدا ان لايكون الانسان اكثر من صدع في نظام الاشياء.. ومن المريح جداً والباعث على السلوى الاعتقاد بان الانسان اختراع جديد فقط، تغصن جديد.. وسوف يختفي مرة أخرى " هذا القول اثار استهجان التيار الوجودي الذي اعتبر مقولات فوكو محاولة لدفع الوجودية الى زاوية من زوايا النسيان.
كان نيتشه ايضا بالنسبة لفوكو اشبه بالكشف، لقد صعقته على وجه الخصوص مقالة نيتشه عن معلمه شوبنهور والتي يؤكد فيها ان السعي الانساني هو ان يصبح المرء ما هو عليه، ويجد في مقولة نيتشه ان كل انسان تقوده روح حارسة، وعلى المرء ان يتبع تلك الروح الحارسة، في ذلك الوقت، اصبح فوكو مبهوراً بفكرة الانتحار، ويحلم بالموت العنيف كتحقيق للوجود، في تلك الفترة ايضا سحرته كتابات جورج باتاي، الذي كان يصر على ان:" ما من وسيلة للتآلف مع الموت أفضل من رَبْطِهِ بفكرة داعرة، لقد اثبت نيتشه وباتاي ان لديهم مزيجا فلسفيا وفكرياً مناسبا لمزاج فوكو، في ذلك الوقت كان فوكو يمارس الجنس على انه " مسرح إيروتيكي للقسوة "، في العام 1955 يقطع فوكو علاقته مع التعليم، حيث يتم تعينه ملحقا ثقافيا في السفارة الفرنسية بالسويد، وفي هذه السنوات ايضا تبدا القطيعة مع الحزب الشيوعي، لكنه يبقى مخلصا للمعلم ماركس ونراه يعلن:" وداعا للمرجعيات المتماشية مع ما يُعلم في الجامعة "، في السويد يعكف على دراسة المركيز دي ساد، وتراوده من جديد فكرة الانتحار:" ان الحياة الحقة هي التي تنزلق من طرف أنشوطة " وهو يقصد متعة الانتحار شنقاً.
****
تاريخ الجنون
عام 1960 يعود الى باريس ليمارس التدريس استاذا للفلسفة، وفي تلك الفترة تزداد سمعته الاكاديمية بعد ان نشر كتابه الكبير تاريخ الجنون عام 1961، وفيه يحلل كيف تغير مفهوم المجتمع للجنون بعد عام 1500م، قبل ذلك التاريخ يخبرنا فوكو ان المجانين كانوا يعاملون باحترام ويعتبر ان لديهم منظوراً روحيا بينما اصبح الجنون يعامل لاحقاً كمرض يتطلب السيطرة الاجتماعية والعلاج وفي مقابلة معه يقول: " بعد دراسة الفلسفة اردتُ معرفة ما هو الجنون، كنت مجنوناً كفاية لأدرس العقل، وأصبحت الآن عاقلاً كفاية لأدرس الجنون.
في عام 1963 نشر فوكو كتابه ولادة العيادة حيث استكشف مشاكل الانتحار والسادية والمازوشية والمخدرات، الا ان كتابه الأهم الذي اثار ضجة كبرى كان كتاب " الكلمات والاشياء" الصادر عام 1966 وهو اول كتاب بعد كتب سارتر يلقى رواجا كبيرا عند القراء، ويعاد طبعه مرات عديدة في نفس سنة صدورة، وقد خصصت له مجلة الازمنة الحديثة التي كان يشرف عليها سارتر ملفا خاصا، حيث تم تلخيص الكتاب، الحقته فيما بعد بمقال كتبه سارتر نفسه يهاجم فيه الكتاب:" يقدم فوكو للناس ما هم بحاجة اليه، اي خليطا انتقائيا نجد فيه ألان روب غريبه والبنيوية والالسنيات ولاكان، وقد استخدمت بالتناوب كلها من اجل استحالة اي فكر تاريخي.. لعل المستهدف من كتاب فوكو هو بالطبع الماركسية، ان الامر يتعلق بتشكيل أيديولوجيا فكرية جديدة تكون بمثابة آخر حاجز تقيمه البرجوازية ضد ماركس "
كان سارتر يشعر في قرارة نفسه ان فوكو يحاول ان يضع حدا فاصلا بين عالمين فلسفيين، عالم ما قبل سارتر وعالم ما بعد سارتر واعتبر البعض ان فوكو يحاول ان يحل محل سارتر ويتخذ وظيفته نفسها كقائد للفكر الفرنسي الجديد، الا ان فوكو وهو يرد على مقال سارتر كان يحاول ان يلتزم حدود الاحترام للاستاذ كما كان يسمي سارتر:" وجدنا أنفسنا منذ نحو خمسة عشر عاما اننا بعيدون عن الجيل السابق، اي جيل سارتر وميرلو بونتي، جيل الازمنة الحديثة الذي كان فيما مضى قانون فكرنا وطرازنا في الوجود.. لقد عرفنا جيل سارتر كجيل شجاع وكريم بالتاكيد ورايناه جيلا مولّها بالحياة السياسية والاجتماعية والوجود، ولكننا نحن فيما يخصنا اكتشفنا شيئا آخر بالتاكيد وولهاً آخر.. انه الوله بالمفهوم، وبما سوف أدعوه بالنظام الضابط.. ان نقطة الانقطاع او القطيعة بيننا وبين سارتر تتموضع في اللحظة التي اكتشف فيها ليفي شتراوس وجاك لاكان، الاول فيما يخص المجتمعات والثاني فيما يخص اللاوعي ".
ولعل نقطة الخلاف بين سارتر وفوكو هي اعلان الاخير في كتابه عن موت الانسان، وقد احدثتت هذه العبارة الكثير من سوء الفهم، ليس فقط عند القارئ العادي وانما عند كبار المفكرين، حيث راح الكثيرون يتساءلون كيف يمكن ان يموت الانسان؟ وهل من الممكن ان ينقرض نهائيا من على سطح الكرة الارضية؟ وماذا يبقى اذن؟ ويتساءل سارتر بسخرية ان السيد فوكو اما يمزح، ام انه قد جن فعلا.
وحين حاول بعض الصحفيين احداث وقيعة بين سارتر وفوكو قال:" لا أقبل إطلاقا بأن يتدخل الناس بيني وبين سارتر لكي يزيدوا من اتساع الشقة والخلاف، أو لكي يصطادوا في الماء العكر.. فأنا لست الا تلميذاً صغيراً لسارتر! ويبدو ان هذه العبارة اعجبت سارتر جدا فعندما سألوه بعد سنوات عن فوكو قال: ليست لي مشكلة معه. نحن نشتغل معاً، ونناضل من أجل نفس القضايا.
ينهي فوكو كتابه الكلمات والاشياء بعبارات شاعرية:" ذات يوم سيختفي الانسان مثل وجه في الرمال على حافة البحر " وتبدو هذه العبارة متوافقه مع نيتشه الذي كتب ذات يوم:" هل نتمنى ان تنتهي البشرية في النار والضوء او في الرمال.
****
الناشط السياسي
حقق كتاب الكلمات والاشياء شهرة لفوكو مع كثير من سوء الفهم، الذي دفعه للسفر الى تونس للعمل في احدى جامعاتها، وبقى فيها حتى ايار عام 1968حيث اندلعت تظاهرات الطلبة، وفي مناخ مليء بالسياسة اصبح فوكو رئيسا لقسم الفلسفة في جامعة فينسين، وفي خضم الأحتجاجات الطلابية، قال فوكو ان ثورة الطلبة هي ما اخرجه من شغفه بالحوار واعادته من جديد الى السياسة، وسرعان ما وجد فوكو نفسه يتصدر الاحتجاجات وهو يحمل مكبر الصوت الى جانب سارتر، كان في الثانية والاربعين حليق الراس، وقد حاول ان يميز مظهره بملابس غير رسميه تجعله بعيدا عن شكل الاستاذ الجامعي المعتاد، نظارات طبية بلا اطار وسترة جلدية وقمصان بيضاء لماعة، كان يبدو شكله غريبا وهو يلقي محاضرات الفلسفة في الجامعة ونراه يقوم بتوزيع صحيفة " قضية الشعب " التي كان يصدرها مجموعة من الطلبة الماويين، كانت الصحيفة تحمل في صفحاتها الاولى صورة لقائد الثورة الصينية ماوتسي تونغ، كان معجبا بشعارهم " العنف، العقوبة، الاخلاق".
عام 1976 نشر كتابه الكبير " تاريخ الجنسانية" في ثلاث اجزاء ظهر الجزء الاول منها بعنوان ارادة المعرفة، ونشر الجزءان الثاني والثالث قبل وفاته بايام فقط وفي هذا الكتاب انتقل تركيزه باتجاه فهم الاخلاقيات في سياق تاريخي كيف فهم الناس في ازمنة سابقة أخلاقية تصرفاتهم. وبينما كان في الجزء الاول يبحث في الجنسانية في العصر الحديث، فقد استكشف في الاجزاء الأخرى الجنسانية في اليونان وروما القديمتين وفي المجلد الرابع الذي لم ينشر الا بعد وفاته يعود الى دراسة استخدام السلطة في المجتمع، لانه آمن بان القيود المطبقة على الناس تمنعهم من التعبير عن قواهم، مما يجعلهم يجدون مخرجا لهم في التخيلات الجنسية.
طوال السبعينيات كان ناشطا سياسيا، وأيد قيام دولة فيتنام، ودعم الثورة في ايران، في الثمانينيات بدات اعراض المرض عليه، وبعد تسليم المطبعة للمجلد الثاني والثالث من تاريخ الجنسانية انهارت في شقته ليتم الكشف عن اصابته بمرض الايدز، عند موته وجدوا عند سريره الاعمال الكاملة لانطوان آرتو وقد وضع فوكو تحت هذه العبارة خطا كبيراً: "انا لست من عالمكم.. عالمي هو الجانب الآخر من كل شيء، يعرف، وعلى وعي بنفسه، ويرغب، ويصنع نفسه".
اذا كانت قصة فوكو الشخصية تبدو غريبة ومزعجة احيانا، فذلك لانه واصل فلسفته الى اقصى مداها المنطقي، وكما يقول جيل دولوز: "فوكو عمل بنصيحة نيتشه أن يصبح الانسان ما هو عليه بكل جدية، أو بمعنى آخر ان يصبح كائناً جوهره، هو إرادة القوة لديه".
* عن جريدة المدى