ما أجمل/ أصعب أن تحمل صفة "الكاتب"، قبل أن تولد أصلًا! ذلك أنّ عائلة أبي همّت بتطليق أمّي لأنّ عشر سنواتٍ مرّت على زواجها منه من غير أن تنجب له ولدًا. ولأنّه يحبّها فقد عرض عليهم أمرًا لا يمكنهم رفضُه هو أن تتمّ استشارة ولّيٍّ صالح على قيد الحياة لا يُقضى أمر في عرش "أولاد جحيش" من غير الرّجوع إليه.
وصلت العائلة إلى مقرّ زاوية سبدي بلّعموري، في بلدة سيدي عيسى. ولاية المسيلة، وهي مستعدّة لأن تنفّذ وصيّته، التي كانت: "لا تطلّقوهما، فسينجبان ولدًا سمّوه "رزيق"، هكذا يُنادونني في البيت والقرية، وسيكتب كتبًا يقرأها النّاس. ولا تسألوه من أين جاء ولا إلى أين هو ذاهب. وسيستفيد كل من يتعامل معه ويتضرر كل من يؤذيه".
كان ذلك في شهر فيفري من عام 1977، وكانت ولادتي في نوفمبر من العام نفسِه.
حين أصدرتُ كتابي الأوّل "من دسّ خُفَّ سيبويه في الرّمل؟" في طبعة مشتركة بين المكتبة الوطنية الجزائرية ودار البرزخ عام 2004، حمل أبي نسخةً منه وهو يبتسم: "قالها الشّيخ قبل سبعة وعشرين عامًا!". وتوفي بعدها بسنة واحدة، فظلّت أمّي تردّد العبارة نفسَها كلّما صدر لي كتاب جديد: "أجنحة لمزاج الذّئب الأبيض" عام 2008، فائز في مسابقة بيروت 39، و"جلدة الظلّ: من قال للشّمعة أفّ؟" عام 2009، و"عطش السّاقية" عام 2010، و"نيوتن يصعد للتّفاحة" عام 2012، و"ندبة الهلالي: من قال للشّمعة أح؟" عام 2013، و"يبلّل ريق الماء" عام 2013، و"الثّلجنار" عام 2014، و"وحم أعلى المزاج" عام 2015، و"كفن للموت" عن دار العين المصرية عام 2016، و"يدان لثلاث بنات" عام 2017. إلخ.
إنّني كاتب صنعته نبوءة وقراءات مبكّرة كثيرة. إذ كنت القرويّ الذي يشتري بثمن الحذاء والسّروال كتبًا، مفضّلًا أن يحتفظ بالحذاء والسّروال القديمين. وكنت كلّما قرأت لكاتب يعجبني تمنّيت أن أكون مثله، طه حسين في "الأيّام" وجبران خليل جبران في "النّبي" ومحمود المسعدي في "حدّث أبو هريرة قال" والسّندباد في "ألف ليلة وليلة". لقد كنتُ عشراتِ الكتّاب قبل أن أصبح نفسي، وهذا لم يحدث لي إلا بعد أن تركت قريتي عام 2002 واقتحمت الجزائر العاصمة لأوّل مرّة في حياتي.
كانت الصّدمة التي سبّبها لي دخولي إلى الجزائر العاصمة، منطلقًا حقيقيًا لأقطع مع لغة اكتسبتها بالقراءة، وأعتنق لغةً اكتسبتها بالمعايشة مع لحظة جزائرية خارجة لتوّها من العنف والإرهاب، فأدّى بي ذلك إلى أن أحرق مخطوطي الشّعريَّ "أنثى الغيم"، الذي كتبته في مرحلة الرّومانسية الجامعية، وتصبح الكتابة عندي مشروعًا ورؤية للوجود.
إن ثراء اللحظة الإنسانية وكثافتها وقساوتها وانفتاحي على تعدّد الأصوات والوجوه والجهات، إذ أسافر مثلما أتنفّس، برمجني على تعدّد الأجناس الأدبية. فقد فتحت ورشاتٍ إبداعيةً في الشّعر بفصحاه ومحكيته والقصّة القصيرة والنصّ المسرحي والرّواية والمقال والسّيرة الذاتية، فكأنّني أريد أن أعرقل خصمي الذي هو الموت بكلّ الأسلحة، فأنا لا أكتب لأحقق نبوءة الشيخ أو لأخدم شيخا، أو لأصير نجمًا. أنا أكتب كي لا أصير حجرًا.
ربما ... يتبع
وصلت العائلة إلى مقرّ زاوية سبدي بلّعموري، في بلدة سيدي عيسى. ولاية المسيلة، وهي مستعدّة لأن تنفّذ وصيّته، التي كانت: "لا تطلّقوهما، فسينجبان ولدًا سمّوه "رزيق"، هكذا يُنادونني في البيت والقرية، وسيكتب كتبًا يقرأها النّاس. ولا تسألوه من أين جاء ولا إلى أين هو ذاهب. وسيستفيد كل من يتعامل معه ويتضرر كل من يؤذيه".
كان ذلك في شهر فيفري من عام 1977، وكانت ولادتي في نوفمبر من العام نفسِه.
حين أصدرتُ كتابي الأوّل "من دسّ خُفَّ سيبويه في الرّمل؟" في طبعة مشتركة بين المكتبة الوطنية الجزائرية ودار البرزخ عام 2004، حمل أبي نسخةً منه وهو يبتسم: "قالها الشّيخ قبل سبعة وعشرين عامًا!". وتوفي بعدها بسنة واحدة، فظلّت أمّي تردّد العبارة نفسَها كلّما صدر لي كتاب جديد: "أجنحة لمزاج الذّئب الأبيض" عام 2008، فائز في مسابقة بيروت 39، و"جلدة الظلّ: من قال للشّمعة أفّ؟" عام 2009، و"عطش السّاقية" عام 2010، و"نيوتن يصعد للتّفاحة" عام 2012، و"ندبة الهلالي: من قال للشّمعة أح؟" عام 2013، و"يبلّل ريق الماء" عام 2013، و"الثّلجنار" عام 2014، و"وحم أعلى المزاج" عام 2015، و"كفن للموت" عن دار العين المصرية عام 2016، و"يدان لثلاث بنات" عام 2017. إلخ.
إنّني كاتب صنعته نبوءة وقراءات مبكّرة كثيرة. إذ كنت القرويّ الذي يشتري بثمن الحذاء والسّروال كتبًا، مفضّلًا أن يحتفظ بالحذاء والسّروال القديمين. وكنت كلّما قرأت لكاتب يعجبني تمنّيت أن أكون مثله، طه حسين في "الأيّام" وجبران خليل جبران في "النّبي" ومحمود المسعدي في "حدّث أبو هريرة قال" والسّندباد في "ألف ليلة وليلة". لقد كنتُ عشراتِ الكتّاب قبل أن أصبح نفسي، وهذا لم يحدث لي إلا بعد أن تركت قريتي عام 2002 واقتحمت الجزائر العاصمة لأوّل مرّة في حياتي.
كانت الصّدمة التي سبّبها لي دخولي إلى الجزائر العاصمة، منطلقًا حقيقيًا لأقطع مع لغة اكتسبتها بالقراءة، وأعتنق لغةً اكتسبتها بالمعايشة مع لحظة جزائرية خارجة لتوّها من العنف والإرهاب، فأدّى بي ذلك إلى أن أحرق مخطوطي الشّعريَّ "أنثى الغيم"، الذي كتبته في مرحلة الرّومانسية الجامعية، وتصبح الكتابة عندي مشروعًا ورؤية للوجود.
إن ثراء اللحظة الإنسانية وكثافتها وقساوتها وانفتاحي على تعدّد الأصوات والوجوه والجهات، إذ أسافر مثلما أتنفّس، برمجني على تعدّد الأجناس الأدبية. فقد فتحت ورشاتٍ إبداعيةً في الشّعر بفصحاه ومحكيته والقصّة القصيرة والنصّ المسرحي والرّواية والمقال والسّيرة الذاتية، فكأنّني أريد أن أعرقل خصمي الذي هو الموت بكلّ الأسلحة، فأنا لا أكتب لأحقق نبوءة الشيخ أو لأخدم شيخا، أو لأصير نجمًا. أنا أكتب كي لا أصير حجرًا.
ربما ... يتبع