"وحده الفن يُعطينا ما نعجز عن الوصول إليه، إنه يكسر القيود التي تحيط بنا من كل جانبٍ..."
القطيع تكوين بشري لاحم حول كيان الإنسان عقلاً وجسداً، أي أنَّه يُقيد الطبيعةَ والحياةَ الكامنتين فيه، لا يترك مساحةً لحركته ولا حتى لآفاقهِ الحُرة. القطيع هو( قدرتنا الفذة ) نحن الآدميين على أنْ نكون عبيداً. أجل الحرية استثناءٌ مرواغ على قاعدة طويلةٍ هي العبودية. وأقول قدرتنا الفذة، لكونها طاقةً وافرةً على الاحتمال. فلا توجد كائناتٌ تصل إلى مرحلة التحمُل الواعي مثلما يفعل البشرُ. ربما ستنفُر الكائنات الأخرى من القيود، ربما ستتململ من التهديد، ربما ستهرع إذا شعرت باقتراب أحدٌ منها، وربما ستتقافز عصياناً على الحواجز والأسوار!!
ولكن الآدميين يرغبون في ذلك بكامل قُواهم العقلية والنفسية. وقد يستنفدون جُل حياتهم داخل قطعانٍ تؤدي إلى بعضها البعض، بل إنَّ الاحتمال قد لا يكون موضُوعاً لوعي الإنسان الغارق في هكذا حالةٍ. هناك دائماً صُورة براقة تُؤطر المشهدَ، وتضعنا تحت غطاء الجُموع الواقي. لقد باتت القيود تجذبُ إليها قُطعاناً من كلِّ حدبٍ وصوبٍ. أنت وأنا ذاهبان - في حفلات تنكرية - إلى الالتحام بقطيعٍ ما دون تراجع. انقلبت القاعدةُ في عصر الديجيتال المفتوح: لم يعد الإنسانُ يقدر على تبعات فرادته وقُواه الحرة. عاد الناسُ بالحرية إلى عصر الحجر، عصر الطين كأصل لم ننفك عنه في أعقد الظروف المتأخرة.
السؤال الحيوي: هل ثمة أمل للخلاص من القطيع؟
تطرح بعض لوحات الفنان البولندي توماس كوبيرا kopera فرصةً لخلخلة الفرد من هيمنة القطيع، تضعه ولو مرةً على شفى الانفلات. تُصور اللوحات تلك العملية الوجودية على نطاق مصيري وتأصيلي ليس أقل. إنَّها ضرب من سرد الحقائق وتاريخ من تشكيل الطين لدينا نحن أبناء آدم، وفي الوقت عينه تتداعى التفاصيل عبر قراءة الواقع وأرشيف الآدميين في الحياة. بالعودة إلى التمثيل الرمزي، تعد لوحات توماس كوبيرا رتماً فنياً يشتغل على ما بين أيدينا، أنها تجسدنا جمالياً من الداخل بفرشاة حميميةٍ، فرشاة تنغمس فما نمتلك من موروثاتٍ غائرةٍ بعمر الكون. وذلك يبدو أكثر جلاء في لوحة( الخروج من القطيع ). فعلى المدى البعيد، تستنطق تشكيلاتها الفنية حياتَنا بما حدث لوجودنا، وكيف يكون الإنسان منظوراً إليه عبر هذا الطوق البشري؟!
الفن يقول فلسفياً ما تنوء الكلمات عن حمله. الفنون إحدى طاقات التعبير عن الفلسفة، اللوحات ضرب من الرسم الفلسفي بالمعاني والمضامين الفكرية. وحدُه الفن يستطيع أن يملأ عالمنا بكل ما تعد به أفكارنا العميقة في بضع لوحات أو لوحة واحدة. كل لوحة هي نص فلسفي مرسوم بيراع العقل اليقظ الذي يُؤشر دون أنْ يثرثر.
الطين
يبدو أنَّ الطين هو المادة القديمة للإنسان قدمَ الحياة، وليس يبعد عن بالنا الثقافي كون الطين يشد الإنسان إلى أسفل. والأسفل هو وزن الكتلة التي تضعه في متصل من الغرائز والرغبات والنوازع. وفوق هذا وذاك لا تترك المادة له فجوات حُرة أخرى، بل ستربطه بعملية من التماثل والتطابُق بين الأفراد. إذا رأينا طيناً، فلن يكون نثرات من القطع المتباعدة، لكنه ممتدٌ تحت البصر أو داخل تشكيلات طبيعية أو عبر مبان يشيدها الإنسانُ.
الشمع والطين – كما يظهران في لوحة كوبيرا- هما جدل الأصل والثقافة، المادة والوسيلة، الكينونة والكائن، وهو ما شكّل تاريخ العالم والحقائق الإنسانية. كلُّ فردٍ ينطوي على أصل بعيد ويقطع رحلته ثقافياً نحو المغايرة، إنَّ الفرد - أيا كان موقعه- لا يخلو من الطين والشمع. دلالة الطين ترمز إلى المادة الأولى للخلق والغرائز والكيان، بينما مادة الشمع، فهي رمز الهشاشة والإستنارة، وهي ما تأتي منها الشموع المضيئة كأيقونات للرؤية. فقط ينقص الشمع فتيلٌ قابل للإشتعال حتى يضيئ ما حوله. وتلك إمكانية مرسُومة في جوف اللوحة وتنعكس على الأجساد القريبة التي تحملت منازعة القطيع. وهي الإضاءة التي تميز وجه اللوحة، لتذيب تكلس الأشكال وتسمح للإنسان بإذابة كتل القطيع.
وسط الانشداد والإنخلاع من القطيع تقفز في منتصف اللوحة شمعةٌ من جنس الطين كسببٍ في إمكانية التحرر. لوحة كوبيرا بالغة التعبير عن تأثير مواد القطيع ارتباطاً وانخلاعاً عنه. اللوحة تريد أنْ تقول ( لنا وبنا ) أشياء ومعاني كثيرة في الآن ذاته. تقول لنا شيئاً مهماً يتعلق بوجودنا، لكونها تقدمُ مشهداً هو منا ونحن منه. فلا يُوجد بشر لم يمروا بحاشية القطيع، ولم يكونوا جزءاً لا يتجزأ من وجوده العام. وكذلك نحن منه، لأنَّ هناك حنيناً للإحتماء بالقطيع، انجذاباً للشكل على حساب المضون، تطلعاً للحضور معاً دون تحسب للنتائج. هذا الحنين رباط مقدس يصعب فصم عراه، ولذلك ترك الفنان بصمةً هي شكل الخلاص( الخروج) من القطيع.
إنه الخلاص العنيف لا السهل ولا الاعتيادي. كلُّ خلاصٍ من ربقة القطيع يتمُ بصعوبة بالغة إنْ لم تكن مستحيلةً. محاولة مستمرة في شكل التحرر لا الحرية المُعطاة. وكأن توماس كوبيراً حين يرسم شخصاً نازعاً لوجوده من القطيع إنما يؤكدُ على صعوبة الخروج. وهو الخروج الذي يتم بمخاضٍ وجودي عسير، مخاض كُلي يصل إلى حد الصراع المُنهك لكافة القوى.
علينا أنَّ نلاحظ كون انتزاع الذات من القطيع عملاً وجودياً على الأصالة. لن يقوى عليه سوى الذي يتحمل مسئولية الكينونة. حمل ثقيل يتحقق بحركة أنطولوجية أصيلة من الفرد في مقابل حركة بنائية من القطيع، حيث يعيد- إذا شعر بالتهديد- امتصاص وجود الأفراد. فالقطيع يظهر كتلةً واحدةً مثلما كان غير موجودٍ إلاَّ بهذه الطريقة. وعليه سيصبح الفردُ في المواجهة مباشرةً، وقد لا يجد مفراً من خوض غمار معركة المصير حتى الرمق الأخير. ليست هناك مهادنة ولا توقف.
عادة سيشدد القطيع قبضته في محاولة لإستعادة الفرد الشارد، وستكون ثمة مقاومةٌ على طول المدى. وربما لن يجد الفردُ خروجاً دون مواصلة المقاومة، حتى فيما لو نجح في انتزاع نفسه. والمقاومة تترك بصمة على كل حيوات الإنسان ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. فلن يتركه القطيع إلاَّ بالكاد أو الاستثناء النادر.
لكي ينخلغ الإنسان من انطولوجيا القطيع، عليه أنْ يمزق كلَّ الأنسخة الظاهرة والخفية التي تربطه به. وقد وثقت اللوحة ذلك التمزُق بصورة واضحةٍ. وهي لوحة تنحت العملية نحتاً، كأنّ الفنان يقصد تحويل الرسم إلى منحوتة مادية. ذلك من أجل إبلاغ المتلقي بمعنى أنَّ الفرد الذي يمزق علاقته بالقطيع قد جسّد الجانب الحجري – الصخري في المسألة. وأنه لا يوجد هكذا من غير تبعاتٍ، فالتواجد محكُوم بقوانين فيزيائية. وهي قوانين تحدد الاتجاهات وترسم جوانب الأفراد داخلياً وخارجياً.
تظهر العلاقة بين الكتلة والفرد كعلاقة شدٍ وجذبٍ، ولم تطرح اللوحة إجابةً عن سؤال الخروج من القطيع بشكلٍّ حاسمٍ. ومع صمت كهذا، لم تطرح خروجاً من التيه في جسم القطيع، ولكنها أصرت على توثيق العلاقة أثناء المقاومة. أراد كوبيرا القول: ليس القطيع كما تعتقدون مجرد صفوف متراصة ولا هو تصور مكاني مغلق، لكنه ( كيان حي ) يختزل سياقات الزمان والمكان. ولن يقف القطيع مكتوفَ الأيدي إزاء حركة الأفراد داخله. لأنَّه لو ترك الأمورَ هكذا لرغباتهم، سيفقد كيانه الذي دافع عن وجوده طوال الوقت.
وجوه بلا معالم
تبرز لوحةُ الخروج من القطيع وجُوه الأفراد دون معالم، هي وجوه سقطت إنسانيتها المتفردة، وباتت لحماً بارزاً فقط. وتعود الدلالة إلى صلصال الأرض الذي خُلق منه هؤلاء الأفراد. ففي طين الأرض، تتساوى جميع الوجوه وتبقى مجرد كتل من اللحم الغائم وراء ضباب الشكل العام. وجوه كأنها معماة ومعصوبة العينين تحت بصر المتلقي.
لعلَّ القطيع يمحُو آثار التميُز، إذْ يترك الافراد أجزاءً على خلفيةٍ بهماء. وإذا كان الإنسان بالأساس صاحبَ وجه، فإنه يصبحُ في مكانةٍ تتشابه مع الأشياء المادية. لقد أرجعه القطيع إلى حالةٍ من الاندماج العضوي، ليست أقل من صهر( كيان الإنسان ) داخل بوتقة الجُموع التي لا ترى ولا تختلف ولا تتنوع.
جاءت الوجوهُ في اللوحة غائمةً، بل مشوهة، ذلك لأنَّ القطيع يشوه المعالم. فالأهمية لديه للتراص والشكل العام بصرف النظر عن الاختلافات. وهذا التشوة آلية أولية تفعل مفعولها الساري قي كافة التفاصيل. وضعت فرشاة اللوحة الأفراد في طابور طويل من البشر وزحام ملئ خلف الشخص الذي يريد الخروج. وليس يوجد فارق بين فرد وآخر، بين سابق ولاحق، بين مُتقدم ومتأخر. الجميع ممتثل تماماً لحركة الكل، لإيقاع الحشد، ولا يدركون أنَّه في الموضع الذي يبادلنا التشويه بتشويه أكثر عمقاً. الأمر يستدعي الأحجار في صلابتها المعهودة، حين لا تبرُز من تلقاء نفسها. الأحجار واقفة بلا حراك، لأنَّ فيزياء المواد تجسد آليات التواجد والحركة.
والوجُوه ملونة بشكل مائل إلى الزرقة الباهتة، وهي لون الأرض العتيقة والمياة الراكدة، لون حواشي لوجود فاته الزمن وفارقته الحياة. إنها مرحلة ضياع كافة القسمات والفوارق التي تولد المعاني. وبدا الأفراد واقفين وراء بعضهم البعض. وقوف دون مبرر، دون منطق، دون هدف، فالمشهد العام يضعهم هكذا. عادةً الأهداف توجد حيثما تتكتل الجموع باعتبارها رأس حربةٍ قابلة للاستعمال. وتحيل الألوان الداكنة إلى الأرض الداكنة مع مسحة من السواد. الأرض الموات إذن. واللوحة تقول: لقد تحلل الإنسان وغدا جيفةً قيد المصادفة. ولعلنا نلاحظ هذا الجو الطاغي من القِدم. إنَّ سماء وفضاء اللوحة مُعبأن بكم مهول من رائحة الوجود العتيق. غبار سحيق أشبه بغبار كوني يلف كائنات القطيع ويشكل المادة الأولى للخلق.
وفي تنويعات على لوحة الخروج من القطيع، يرسم كوبيراً بعض كائناته تمارس عماء متبادلاً، أو بالأدق تقوم بفقأ عينيها حتى لا ترى. وتبدو حركة الفقأ مقصودة ومشوبة بالاصرار على الفعل. وكأنَّها تقول لا يستحق الحياة من يترك ذاته لقطيع هو العماء نفسه. ولئن كان أحدُنا مُبصراً، فلن يطول الأمد له كثيراً. وقد يقوم أحدهم بالاطباق على الآخر من أجل الاجهاز عليه. في إشارةٍ إلى كونه أولى بالموت إذا كان يريد مواصلة المشوار حتى النهاية. في الوقت ذاته، يضرب الشخص المقابل يديه داخل أعماق مقلتيه، حتى يخرجها من جوف الأحداق.
هكذا ثمة لوحة تجسد أحدهما يقتل الآخر، بينما يفقأ الأخر عيني القاتل بشكل حاد. الاثنان مشتركان في النصف الأسفل من وجودهما، من جسدهما. الوجود والجسد هما الطين كمادة للوحة القطيع. الإيقاع نفسه والمستوى الفني نفسه الذي شكل القطيع هو ما جعل الصراع الدامي بين فردين من القطيع محتدماً. وكأنَّ كوبيراً يؤكد أن من ينغمس في القطيع ماكان له أن يحيا على نحو حر وأنه ليس خليقاً بالعيش كما يعيش الأحرار. ولنتأمل مشهد ( القتل والعمى) سنجد أن وجوهي الفاعلين بلامعالم. إنَّ القتل هو مسح معالم الوجود بالنسبة للإنسان والعمي تأكيد لذلك الفعل.
ونظراً لأنَّ الاثنين مشتركان بالقطيع، فهما يعبران عن الطين، هذا الاتصال الظاهر في شخص اللوحة بالأرض. فالشخصان كأنهما فرعي شجرة مغروسة في الطين، وقد تفرعت إلى جزعين إحداهما يقتل الآخر والثاني يفقأ عينيه. أي أنهما من جنس التراب الذي يعبر عن الإنسان حين يعشق عبوديته الأصيلة. وتلك مرحلة المعاناة التي يجب أن يشعر بها شخص من أفراد القطيع. كيف لا يعاني هذا الشخص وجوده؟ ما السر وراء احتماله هذا الوجود بالتبعية؟
النور
يظهر على وجه الإنسان المقاوم للقطيع بوادر الأضواء عن استحياء، بواكير النور الآتي من جنس ما يعاني. والنور دوماً رمز التجلي والظهور. إنه الانكشاف الذي يعطي الشخص المتمرد قدرة على التطلع. إن الفنون والمعرفة والحكمة كانت ضروباً من النور الذي أُطلق في غابر الأزمان. وكان من يُرد عيشاً في النور عليه أن يصبح فناناً أو حكيماً أو عارفاً. المعرفة هي الضوء. الحكمة نور الباطن وإشعال جذوة الروح.
ولذلك يرسم كوبيراً لون النور على وجه الشخص المقاوم للقطيع حتى يخرج، إنه يريد القول بكونه قد أدركَ، قد عرفَ، قد فطن لوجوده، لقد امتلك حكمةَ كشف مصير القطيع. وأن المعرفة لن تتسق مع الإنغماس في طين الأرض. وأن الطين سيكون شموعاً مضيئة من الآن فصاعداً. كوبيراً يكتب مضامين التنوير، العقلانية، والحرية، الذات، الحقيقة، في متن لوحاته. يحاول أن يضرب فرشاته، لكي تفضي بمتون المجتمعات العاشقة للقطعان. هناك مجتمعات لا تستطيع مواصلة العيش دون القطعان. وهناك أشخاص يريدون العيش في الظلال، كل من يعيش في الظلال مهدد بالسقوط في القطيع.
إن النور، اللهب، يمثلان أصل الكشف ودلالة التحول إلى علاقات مختلفة، هو بدايات اليقظة حتى لو كان الإنسان بين مجموعةٍ من البشر. لأن القطيع ظلام وجسد معتم، بينما النور يضيئ لنا باطن الأفراد يجعلهم متقابلين في الوجوه. مع النور، يقف الإنسان وجهاً لوجه مع نظرائه الآدميين. النور قدرة على الولوج إلى داخل الآخرين، لأنه مادة كاشفة بالمقام الأول وهو عكس الطين. فلئن كان الأخير يضم الآدميين بجانب بعضهم البعض جاعلاً إياهم كتلةً، فالنور يميز، يرسم التفاصيبل ويكشف الظلال والمناطق المعتمة. في إحدى لوحاته، يرسم كوبيراً هذا المعنى العميق، فالضوء الذي يصل إلى درجة اللهب يربط بين ثلاثة أشخاص. حيث يتخلل الضوء الملتهب مادتهم الخِلْقية معبراً عن تواجدهم وجها لوجه. في القطيع هناك وجود مطروح مسبقاً بحكم الكتلة، لا أحد يعترض ولا أحد يتساءل ولا أحد يشذ عن القاعدة، بينما في إطار النور ثمة تواجد واع. هو حضور نتيجة إنكشاف الداخل والإتصال الإنساني لا الحيواني.
الضوء حين يتحول إلى لهب يحدث تغيراً جوهرياً بين الأشخاص. قد يكون الفرد واقعاً في جسد القطيع نتيجة كونه معتماً، ولكنه سيزيل ما علق به لو تعرض للضوء، وبخاصة إذا كان هو مصدر الضوء. أي أن يعطي أولوية للضوء والداخل وإحياء الروح الذي يميز الطين عن النار. فالطين يصبح صلصالاً وينضج ويصبح تشكيلاً آخر. ولكنه داخل الإنسان سيؤدي النور إلى إنسان حقيقي. يعي الآخر منذ أنْ يشعر باتقاد ذاته، النار تصقل الأشياء وتطهر الرواسب وتحرق الظلام.
في لوحة أخرى، يجسد مخاض تلك العملية في صورة حلمٍ، ذات منطلقة بعد أنْ عانت تحرراً من القطيع. فها هي الذات تنطلق على هيئة طائر كان مربوطاً بالداخل. أخطر ما يمُر به الإنسان أنْ يحبس ذاته في قفص الوجود. كل ذات تنطلق عبر ممارسات طويلة من التحرر وتتشكل في صورة حلم يجوب الآفاق. ولكن متى ينطلق الحلم؟ متى يتأهل الذات لقطع المسافة بين الطين والنور؟ تبدو المسافة قصيرة جداً، هي عمر الإنسان من الداخل.
أن نكتب أعمارنا يعني أن ندرك متى سينطلق الذات حراً. الحرية هي العمر الحقيقي لا الزمن. كلما يكون داخلك إحساس بالتحرر ورفض للعبودية، ستكون مصدراً للضوء وسينكسر قيد الطائر الذي يسكنك، فأنت من يرغب في الطيران والتحليق بعيداً. وكذا المجتمعات يجب عليها أن تنفتح على التنوع والتعددية، فلن تموت سوى بالقطيع الذي يجمد تطورها. إن حياة المجتمع تتعدد بطبيعتها، وما لم يُفسح المجال للاختلافات والحريات ستقع المجتمعات في قيود تدمي واقعها. وستخسر أول ما تخسر فكرة الإنسان التي تحافظ على علاقات أفرادها. فكرة هي الأمل الذي يحلق فوق رؤس الأفراد طوال الوقت ويعطيهم حرية التواجد والتطلع لغد أفضل. والفن والفلسفة يتفقان على كيفية إطلاق طائر الحلم، طائر الحرية.
القطيع تكوين بشري لاحم حول كيان الإنسان عقلاً وجسداً، أي أنَّه يُقيد الطبيعةَ والحياةَ الكامنتين فيه، لا يترك مساحةً لحركته ولا حتى لآفاقهِ الحُرة. القطيع هو( قدرتنا الفذة ) نحن الآدميين على أنْ نكون عبيداً. أجل الحرية استثناءٌ مرواغ على قاعدة طويلةٍ هي العبودية. وأقول قدرتنا الفذة، لكونها طاقةً وافرةً على الاحتمال. فلا توجد كائناتٌ تصل إلى مرحلة التحمُل الواعي مثلما يفعل البشرُ. ربما ستنفُر الكائنات الأخرى من القيود، ربما ستتململ من التهديد، ربما ستهرع إذا شعرت باقتراب أحدٌ منها، وربما ستتقافز عصياناً على الحواجز والأسوار!!
ولكن الآدميين يرغبون في ذلك بكامل قُواهم العقلية والنفسية. وقد يستنفدون جُل حياتهم داخل قطعانٍ تؤدي إلى بعضها البعض، بل إنَّ الاحتمال قد لا يكون موضُوعاً لوعي الإنسان الغارق في هكذا حالةٍ. هناك دائماً صُورة براقة تُؤطر المشهدَ، وتضعنا تحت غطاء الجُموع الواقي. لقد باتت القيود تجذبُ إليها قُطعاناً من كلِّ حدبٍ وصوبٍ. أنت وأنا ذاهبان - في حفلات تنكرية - إلى الالتحام بقطيعٍ ما دون تراجع. انقلبت القاعدةُ في عصر الديجيتال المفتوح: لم يعد الإنسانُ يقدر على تبعات فرادته وقُواه الحرة. عاد الناسُ بالحرية إلى عصر الحجر، عصر الطين كأصل لم ننفك عنه في أعقد الظروف المتأخرة.
السؤال الحيوي: هل ثمة أمل للخلاص من القطيع؟
تطرح بعض لوحات الفنان البولندي توماس كوبيرا kopera فرصةً لخلخلة الفرد من هيمنة القطيع، تضعه ولو مرةً على شفى الانفلات. تُصور اللوحات تلك العملية الوجودية على نطاق مصيري وتأصيلي ليس أقل. إنَّها ضرب من سرد الحقائق وتاريخ من تشكيل الطين لدينا نحن أبناء آدم، وفي الوقت عينه تتداعى التفاصيل عبر قراءة الواقع وأرشيف الآدميين في الحياة. بالعودة إلى التمثيل الرمزي، تعد لوحات توماس كوبيرا رتماً فنياً يشتغل على ما بين أيدينا، أنها تجسدنا جمالياً من الداخل بفرشاة حميميةٍ، فرشاة تنغمس فما نمتلك من موروثاتٍ غائرةٍ بعمر الكون. وذلك يبدو أكثر جلاء في لوحة( الخروج من القطيع ). فعلى المدى البعيد، تستنطق تشكيلاتها الفنية حياتَنا بما حدث لوجودنا، وكيف يكون الإنسان منظوراً إليه عبر هذا الطوق البشري؟!
الفن يقول فلسفياً ما تنوء الكلمات عن حمله. الفنون إحدى طاقات التعبير عن الفلسفة، اللوحات ضرب من الرسم الفلسفي بالمعاني والمضامين الفكرية. وحدُه الفن يستطيع أن يملأ عالمنا بكل ما تعد به أفكارنا العميقة في بضع لوحات أو لوحة واحدة. كل لوحة هي نص فلسفي مرسوم بيراع العقل اليقظ الذي يُؤشر دون أنْ يثرثر.
الطين
يبدو أنَّ الطين هو المادة القديمة للإنسان قدمَ الحياة، وليس يبعد عن بالنا الثقافي كون الطين يشد الإنسان إلى أسفل. والأسفل هو وزن الكتلة التي تضعه في متصل من الغرائز والرغبات والنوازع. وفوق هذا وذاك لا تترك المادة له فجوات حُرة أخرى، بل ستربطه بعملية من التماثل والتطابُق بين الأفراد. إذا رأينا طيناً، فلن يكون نثرات من القطع المتباعدة، لكنه ممتدٌ تحت البصر أو داخل تشكيلات طبيعية أو عبر مبان يشيدها الإنسانُ.
الشمع والطين – كما يظهران في لوحة كوبيرا- هما جدل الأصل والثقافة، المادة والوسيلة، الكينونة والكائن، وهو ما شكّل تاريخ العالم والحقائق الإنسانية. كلُّ فردٍ ينطوي على أصل بعيد ويقطع رحلته ثقافياً نحو المغايرة، إنَّ الفرد - أيا كان موقعه- لا يخلو من الطين والشمع. دلالة الطين ترمز إلى المادة الأولى للخلق والغرائز والكيان، بينما مادة الشمع، فهي رمز الهشاشة والإستنارة، وهي ما تأتي منها الشموع المضيئة كأيقونات للرؤية. فقط ينقص الشمع فتيلٌ قابل للإشتعال حتى يضيئ ما حوله. وتلك إمكانية مرسُومة في جوف اللوحة وتنعكس على الأجساد القريبة التي تحملت منازعة القطيع. وهي الإضاءة التي تميز وجه اللوحة، لتذيب تكلس الأشكال وتسمح للإنسان بإذابة كتل القطيع.
وسط الانشداد والإنخلاع من القطيع تقفز في منتصف اللوحة شمعةٌ من جنس الطين كسببٍ في إمكانية التحرر. لوحة كوبيرا بالغة التعبير عن تأثير مواد القطيع ارتباطاً وانخلاعاً عنه. اللوحة تريد أنْ تقول ( لنا وبنا ) أشياء ومعاني كثيرة في الآن ذاته. تقول لنا شيئاً مهماً يتعلق بوجودنا، لكونها تقدمُ مشهداً هو منا ونحن منه. فلا يُوجد بشر لم يمروا بحاشية القطيع، ولم يكونوا جزءاً لا يتجزأ من وجوده العام. وكذلك نحن منه، لأنَّ هناك حنيناً للإحتماء بالقطيع، انجذاباً للشكل على حساب المضون، تطلعاً للحضور معاً دون تحسب للنتائج. هذا الحنين رباط مقدس يصعب فصم عراه، ولذلك ترك الفنان بصمةً هي شكل الخلاص( الخروج) من القطيع.
إنه الخلاص العنيف لا السهل ولا الاعتيادي. كلُّ خلاصٍ من ربقة القطيع يتمُ بصعوبة بالغة إنْ لم تكن مستحيلةً. محاولة مستمرة في شكل التحرر لا الحرية المُعطاة. وكأن توماس كوبيراً حين يرسم شخصاً نازعاً لوجوده من القطيع إنما يؤكدُ على صعوبة الخروج. وهو الخروج الذي يتم بمخاضٍ وجودي عسير، مخاض كُلي يصل إلى حد الصراع المُنهك لكافة القوى.
علينا أنَّ نلاحظ كون انتزاع الذات من القطيع عملاً وجودياً على الأصالة. لن يقوى عليه سوى الذي يتحمل مسئولية الكينونة. حمل ثقيل يتحقق بحركة أنطولوجية أصيلة من الفرد في مقابل حركة بنائية من القطيع، حيث يعيد- إذا شعر بالتهديد- امتصاص وجود الأفراد. فالقطيع يظهر كتلةً واحدةً مثلما كان غير موجودٍ إلاَّ بهذه الطريقة. وعليه سيصبح الفردُ في المواجهة مباشرةً، وقد لا يجد مفراً من خوض غمار معركة المصير حتى الرمق الأخير. ليست هناك مهادنة ولا توقف.
عادة سيشدد القطيع قبضته في محاولة لإستعادة الفرد الشارد، وستكون ثمة مقاومةٌ على طول المدى. وربما لن يجد الفردُ خروجاً دون مواصلة المقاومة، حتى فيما لو نجح في انتزاع نفسه. والمقاومة تترك بصمة على كل حيوات الإنسان ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. فلن يتركه القطيع إلاَّ بالكاد أو الاستثناء النادر.
لكي ينخلغ الإنسان من انطولوجيا القطيع، عليه أنْ يمزق كلَّ الأنسخة الظاهرة والخفية التي تربطه به. وقد وثقت اللوحة ذلك التمزُق بصورة واضحةٍ. وهي لوحة تنحت العملية نحتاً، كأنّ الفنان يقصد تحويل الرسم إلى منحوتة مادية. ذلك من أجل إبلاغ المتلقي بمعنى أنَّ الفرد الذي يمزق علاقته بالقطيع قد جسّد الجانب الحجري – الصخري في المسألة. وأنه لا يوجد هكذا من غير تبعاتٍ، فالتواجد محكُوم بقوانين فيزيائية. وهي قوانين تحدد الاتجاهات وترسم جوانب الأفراد داخلياً وخارجياً.
تظهر العلاقة بين الكتلة والفرد كعلاقة شدٍ وجذبٍ، ولم تطرح اللوحة إجابةً عن سؤال الخروج من القطيع بشكلٍّ حاسمٍ. ومع صمت كهذا، لم تطرح خروجاً من التيه في جسم القطيع، ولكنها أصرت على توثيق العلاقة أثناء المقاومة. أراد كوبيرا القول: ليس القطيع كما تعتقدون مجرد صفوف متراصة ولا هو تصور مكاني مغلق، لكنه ( كيان حي ) يختزل سياقات الزمان والمكان. ولن يقف القطيع مكتوفَ الأيدي إزاء حركة الأفراد داخله. لأنَّه لو ترك الأمورَ هكذا لرغباتهم، سيفقد كيانه الذي دافع عن وجوده طوال الوقت.
وجوه بلا معالم
تبرز لوحةُ الخروج من القطيع وجُوه الأفراد دون معالم، هي وجوه سقطت إنسانيتها المتفردة، وباتت لحماً بارزاً فقط. وتعود الدلالة إلى صلصال الأرض الذي خُلق منه هؤلاء الأفراد. ففي طين الأرض، تتساوى جميع الوجوه وتبقى مجرد كتل من اللحم الغائم وراء ضباب الشكل العام. وجوه كأنها معماة ومعصوبة العينين تحت بصر المتلقي.
لعلَّ القطيع يمحُو آثار التميُز، إذْ يترك الافراد أجزاءً على خلفيةٍ بهماء. وإذا كان الإنسان بالأساس صاحبَ وجه، فإنه يصبحُ في مكانةٍ تتشابه مع الأشياء المادية. لقد أرجعه القطيع إلى حالةٍ من الاندماج العضوي، ليست أقل من صهر( كيان الإنسان ) داخل بوتقة الجُموع التي لا ترى ولا تختلف ولا تتنوع.
جاءت الوجوهُ في اللوحة غائمةً، بل مشوهة، ذلك لأنَّ القطيع يشوه المعالم. فالأهمية لديه للتراص والشكل العام بصرف النظر عن الاختلافات. وهذا التشوة آلية أولية تفعل مفعولها الساري قي كافة التفاصيل. وضعت فرشاة اللوحة الأفراد في طابور طويل من البشر وزحام ملئ خلف الشخص الذي يريد الخروج. وليس يوجد فارق بين فرد وآخر، بين سابق ولاحق، بين مُتقدم ومتأخر. الجميع ممتثل تماماً لحركة الكل، لإيقاع الحشد، ولا يدركون أنَّه في الموضع الذي يبادلنا التشويه بتشويه أكثر عمقاً. الأمر يستدعي الأحجار في صلابتها المعهودة، حين لا تبرُز من تلقاء نفسها. الأحجار واقفة بلا حراك، لأنَّ فيزياء المواد تجسد آليات التواجد والحركة.
والوجُوه ملونة بشكل مائل إلى الزرقة الباهتة، وهي لون الأرض العتيقة والمياة الراكدة، لون حواشي لوجود فاته الزمن وفارقته الحياة. إنها مرحلة ضياع كافة القسمات والفوارق التي تولد المعاني. وبدا الأفراد واقفين وراء بعضهم البعض. وقوف دون مبرر، دون منطق، دون هدف، فالمشهد العام يضعهم هكذا. عادةً الأهداف توجد حيثما تتكتل الجموع باعتبارها رأس حربةٍ قابلة للاستعمال. وتحيل الألوان الداكنة إلى الأرض الداكنة مع مسحة من السواد. الأرض الموات إذن. واللوحة تقول: لقد تحلل الإنسان وغدا جيفةً قيد المصادفة. ولعلنا نلاحظ هذا الجو الطاغي من القِدم. إنَّ سماء وفضاء اللوحة مُعبأن بكم مهول من رائحة الوجود العتيق. غبار سحيق أشبه بغبار كوني يلف كائنات القطيع ويشكل المادة الأولى للخلق.
وفي تنويعات على لوحة الخروج من القطيع، يرسم كوبيراً بعض كائناته تمارس عماء متبادلاً، أو بالأدق تقوم بفقأ عينيها حتى لا ترى. وتبدو حركة الفقأ مقصودة ومشوبة بالاصرار على الفعل. وكأنَّها تقول لا يستحق الحياة من يترك ذاته لقطيع هو العماء نفسه. ولئن كان أحدُنا مُبصراً، فلن يطول الأمد له كثيراً. وقد يقوم أحدهم بالاطباق على الآخر من أجل الاجهاز عليه. في إشارةٍ إلى كونه أولى بالموت إذا كان يريد مواصلة المشوار حتى النهاية. في الوقت ذاته، يضرب الشخص المقابل يديه داخل أعماق مقلتيه، حتى يخرجها من جوف الأحداق.
هكذا ثمة لوحة تجسد أحدهما يقتل الآخر، بينما يفقأ الأخر عيني القاتل بشكل حاد. الاثنان مشتركان في النصف الأسفل من وجودهما، من جسدهما. الوجود والجسد هما الطين كمادة للوحة القطيع. الإيقاع نفسه والمستوى الفني نفسه الذي شكل القطيع هو ما جعل الصراع الدامي بين فردين من القطيع محتدماً. وكأنَّ كوبيراً يؤكد أن من ينغمس في القطيع ماكان له أن يحيا على نحو حر وأنه ليس خليقاً بالعيش كما يعيش الأحرار. ولنتأمل مشهد ( القتل والعمى) سنجد أن وجوهي الفاعلين بلامعالم. إنَّ القتل هو مسح معالم الوجود بالنسبة للإنسان والعمي تأكيد لذلك الفعل.
ونظراً لأنَّ الاثنين مشتركان بالقطيع، فهما يعبران عن الطين، هذا الاتصال الظاهر في شخص اللوحة بالأرض. فالشخصان كأنهما فرعي شجرة مغروسة في الطين، وقد تفرعت إلى جزعين إحداهما يقتل الآخر والثاني يفقأ عينيه. أي أنهما من جنس التراب الذي يعبر عن الإنسان حين يعشق عبوديته الأصيلة. وتلك مرحلة المعاناة التي يجب أن يشعر بها شخص من أفراد القطيع. كيف لا يعاني هذا الشخص وجوده؟ ما السر وراء احتماله هذا الوجود بالتبعية؟
النور
يظهر على وجه الإنسان المقاوم للقطيع بوادر الأضواء عن استحياء، بواكير النور الآتي من جنس ما يعاني. والنور دوماً رمز التجلي والظهور. إنه الانكشاف الذي يعطي الشخص المتمرد قدرة على التطلع. إن الفنون والمعرفة والحكمة كانت ضروباً من النور الذي أُطلق في غابر الأزمان. وكان من يُرد عيشاً في النور عليه أن يصبح فناناً أو حكيماً أو عارفاً. المعرفة هي الضوء. الحكمة نور الباطن وإشعال جذوة الروح.
ولذلك يرسم كوبيراً لون النور على وجه الشخص المقاوم للقطيع حتى يخرج، إنه يريد القول بكونه قد أدركَ، قد عرفَ، قد فطن لوجوده، لقد امتلك حكمةَ كشف مصير القطيع. وأن المعرفة لن تتسق مع الإنغماس في طين الأرض. وأن الطين سيكون شموعاً مضيئة من الآن فصاعداً. كوبيراً يكتب مضامين التنوير، العقلانية، والحرية، الذات، الحقيقة، في متن لوحاته. يحاول أن يضرب فرشاته، لكي تفضي بمتون المجتمعات العاشقة للقطعان. هناك مجتمعات لا تستطيع مواصلة العيش دون القطعان. وهناك أشخاص يريدون العيش في الظلال، كل من يعيش في الظلال مهدد بالسقوط في القطيع.
إن النور، اللهب، يمثلان أصل الكشف ودلالة التحول إلى علاقات مختلفة، هو بدايات اليقظة حتى لو كان الإنسان بين مجموعةٍ من البشر. لأن القطيع ظلام وجسد معتم، بينما النور يضيئ لنا باطن الأفراد يجعلهم متقابلين في الوجوه. مع النور، يقف الإنسان وجهاً لوجه مع نظرائه الآدميين. النور قدرة على الولوج إلى داخل الآخرين، لأنه مادة كاشفة بالمقام الأول وهو عكس الطين. فلئن كان الأخير يضم الآدميين بجانب بعضهم البعض جاعلاً إياهم كتلةً، فالنور يميز، يرسم التفاصيبل ويكشف الظلال والمناطق المعتمة. في إحدى لوحاته، يرسم كوبيراً هذا المعنى العميق، فالضوء الذي يصل إلى درجة اللهب يربط بين ثلاثة أشخاص. حيث يتخلل الضوء الملتهب مادتهم الخِلْقية معبراً عن تواجدهم وجها لوجه. في القطيع هناك وجود مطروح مسبقاً بحكم الكتلة، لا أحد يعترض ولا أحد يتساءل ولا أحد يشذ عن القاعدة، بينما في إطار النور ثمة تواجد واع. هو حضور نتيجة إنكشاف الداخل والإتصال الإنساني لا الحيواني.
الضوء حين يتحول إلى لهب يحدث تغيراً جوهرياً بين الأشخاص. قد يكون الفرد واقعاً في جسد القطيع نتيجة كونه معتماً، ولكنه سيزيل ما علق به لو تعرض للضوء، وبخاصة إذا كان هو مصدر الضوء. أي أن يعطي أولوية للضوء والداخل وإحياء الروح الذي يميز الطين عن النار. فالطين يصبح صلصالاً وينضج ويصبح تشكيلاً آخر. ولكنه داخل الإنسان سيؤدي النور إلى إنسان حقيقي. يعي الآخر منذ أنْ يشعر باتقاد ذاته، النار تصقل الأشياء وتطهر الرواسب وتحرق الظلام.
في لوحة أخرى، يجسد مخاض تلك العملية في صورة حلمٍ، ذات منطلقة بعد أنْ عانت تحرراً من القطيع. فها هي الذات تنطلق على هيئة طائر كان مربوطاً بالداخل. أخطر ما يمُر به الإنسان أنْ يحبس ذاته في قفص الوجود. كل ذات تنطلق عبر ممارسات طويلة من التحرر وتتشكل في صورة حلم يجوب الآفاق. ولكن متى ينطلق الحلم؟ متى يتأهل الذات لقطع المسافة بين الطين والنور؟ تبدو المسافة قصيرة جداً، هي عمر الإنسان من الداخل.
أن نكتب أعمارنا يعني أن ندرك متى سينطلق الذات حراً. الحرية هي العمر الحقيقي لا الزمن. كلما يكون داخلك إحساس بالتحرر ورفض للعبودية، ستكون مصدراً للضوء وسينكسر قيد الطائر الذي يسكنك، فأنت من يرغب في الطيران والتحليق بعيداً. وكذا المجتمعات يجب عليها أن تنفتح على التنوع والتعددية، فلن تموت سوى بالقطيع الذي يجمد تطورها. إن حياة المجتمع تتعدد بطبيعتها، وما لم يُفسح المجال للاختلافات والحريات ستقع المجتمعات في قيود تدمي واقعها. وستخسر أول ما تخسر فكرة الإنسان التي تحافظ على علاقات أفرادها. فكرة هي الأمل الذي يحلق فوق رؤس الأفراد طوال الوقت ويعطيهم حرية التواجد والتطلع لغد أفضل. والفن والفلسفة يتفقان على كيفية إطلاق طائر الحلم، طائر الحرية.