إعداد وتقرير المحامي علي ابوحبله
ونحن نستعرض ما آلت إليه حال الكيان الصهيوني نستذكر التاريخ ونعود إلى استحضار فكر ابن خلدون ونظرته لقيام العمران البشري وسقوطه، فصاحب المقولة الخالدة "الظلم مؤذن بخراب العمران" فسّر كيف تصل الدول إلى الظلم الطاغي وآثار هذا الظلم ومآلاته على المجتمع والناس والعمران، في مقدمته الشهيرة.
" الدولة من الشباب إلى الشيخوخة " تُعد الدولة عند ابن خلدون الامتداد المكاني والزماني لحكم عصبية (فئة) ما، وتقوم "العصبية" على الدين أو الولاء أو الفكر المشترك أو القومية أو ما إلى ذلك من مشتركات تصلح انطلاقا لبناء الدول واستمراره.
وبالعصبية القوية "يكون تمهيد الدولة وحمايتها من أولها" ويكون قيامها وسقوطها أيضا، ولا تقوم العصبية إلا بالركون إلى المجتمع/الاجتماع أو بمصطلح ابن خلدون "العمران". ولا يرى ابن خلدون قيام الحياة الاجتماعية إلا بالدولة، ويقول: "الدولة والملك والعمران (أي الاجتماع) بمثابة الصورة للمادة، وهو الشكل الحافظ بنوعه لوجودها، وقد تقرر في علوم الحكمة أنه لا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر، فالدولة دون العمران (الاجتماع/المجتمع) لا تُتصور، والعُمران دون الدولة والملك متعذّر؛ لما في طباع البشر من العدوان الداعي إلى الوازع"؛ فمهمة الدولة حماية المجتمع وأفراده، والمجتمع هو أساس الدولة.
ولاحظ ابن خلدون أن الدول تمر بعدة تطورات من ناحيتين هما: الأحوال العامة من السياسية والاقتصاد والعمران والأخلاق، والتطورات التي تحدث من ناحية العظمة والقوة والاتساع. ويقرر أن كل دولة تنتقل بين خمسة أطوار هي: الظفر، والانفراد بالمجد، ثم الفراغ والدعة، ثم طور القنوع والمسالمة، ثم الإسراف والتبذير.
ويربط ابن خلدون أطوار الدولة الخمسة بثلاثة أجيال فقط، فالجيل الأول يقوم بعملية البناء والعناية، والجيل الثاني يسير على خطا الجيل الأول من التقليد وعدم الحيد، أما الجيل الأخير فيمكن تسميته بالجيل الهادم، "فالدولة لها أعمار طبيعية كما للأشخاص"، على حد تعبيره.
فبعد البناء والعرق في زمن الجيل الأول، تتحول الدولة إلى الاستقرار والهدوء على يد الجيل الثاني، وتبدأ المنشآت الحضارية والعمرانية بالبزوغ، لكن في هذه المرحلة تنزلق الدولة إلى الاستبداد وحكم الفرد.
فبعدما كان الجميع يشترك في الحكم بشكل أو بآخر في الجيل الأول المؤسس للدول والحضارات، تنتقل إلى "انفراد الواحد وكسل الباقين عن السعي فيه، ومن عزّ الاستطالة إلى ذل الاستكانة، فتنكسر سورة العصبية بعض الشيء، وتؤنس منهم المهانة والخضوع".
وكما تكون "العصبية" مسئولة عن القيام والديمومة، فإنها أيضا السبب الأبرز للسقوط والانحدار، ويعزو ابن خلدون الضعف والسقوط إلى عدة عوامل أهمها الترف والانغماس في الملذات.
بحسب ابن خلدون فإن الجيل الأخير أو الثالث الذي تسقط في عهده الدول وتنهار الحضارات، هو الجيل/النخبة الحاكمة التي تحرص في سلوكها السياسي والأخلاقي على الطمع والترف، وينتقل الشعور بالمسؤولية الاجتماعية والسياسية والعسكرية والاقتصادية التي تقلّدوها منذ زمن التأسيس إلى شعور آخر، إلى "نخبة" تدوس الجميع من أجل مصالحها الخاصة وترفها الزائد ورفاهيتها وحدها دون غيرها.
ويقول عن هؤلاء: "ينسون عهد البداوة والخشونة كأن لم تكن، ويفقدون حلاوة العز والعصبية بما هم فيه من ملكة القهر، ويبلغ فيهم الترف غايته بما تبنقوه (تقلبوا فيه) من النعيم وغضارة العيش، فيصيرون عالة على الدولة، ويفقدون العصبية بالجملة، وينسون الحماية والمدافعة والمطالبة".
ويضيف مؤسس علم الاجتماع "بل إنهم مع هذا يحاولون إظهار القوة من خلال احتكار السلاح والجيش، وذلك لقمع الناس إذا أرادوا الثورة ومواجهة استئثار هذه النخبة الحاكمة للسلطة والثروة"، ويتابع: "يلبسون على الناس في الشارة والزي وركوب الخيل وحُسن الثقافة، يموهون بها، وهم في الأكثر أجبن من النساء على ظهورها".
ولا تجد هذه النخبة المترفة، المثقلة بالمال والدعة والقوة المسلحة، أمام الجماهير المطالبة بحقوقها إذا خرجوا ناقمين على هذا الظلم والاستئثار، إلا طلب الدعم من القوى الخارجية التي بدورها تجد في مثل هذه الأنظمة مصلحة سياسية في استمرارها وبقائها وقهرها لشعوبها، ويقول ابن خلدون "فإذا جاء المطالب لهم (أي إذا قامت الثورة عليهم)، لم يُقاوموا مدافعته، فيحتاج صاحب الدولة حينئذ إلى الاستظهار بسواهم من أهل النجدة، ويستكثر من الموالي (القوى الخارجية)، ويصطنع من يُغني عن أهل الدولة بعض الغناء، حتى يتأذن الله بانقراضها، فتذهب الدولة بما حملت".
وهذا يقودنا لمراحل ما وصل إليه حال الكيان الصهيوني منذ تأسيس هذا الكيان وحتى يومنا هذا وقد بلغت من جبروت الطغيان والقوه وشن الحروب ضد الفلسطينيين وحرب غزه خير شاهد على هذا الجبروت والطغيان وهي حرب متوحشه لابراز القوه ولكن في حقيقة هذه الحرب تعكس حالة التفكك والصراع الداخلي والانهزام الداخلي الذاتي ، هذا في الوقت الذي تبدو فيه إسرائيل وكأنها في تمدد جيوسياسي في المنطقة والعالم بانخراطها في الأحلاف والاتفاقيات السياسية والعسكرية والأمنية، فإن واقعها الداخلي لا يتوافق مع ذلك؛ حيث تشهد إسرائيل في الأشهر الأخيرة تزايدًا مطردًا وصراعا داخليا وبدا لافتًا استدعاء أحداث تاريخية قبل قرون، شهدت فيها سقوط "الممالك" اليهودية في حينها، والتحذير من تكررها. وقبل هذه التصريحات كان قد صدر، في مايو/أيار 2021، كتاب، للكاتب الإسرائيلي، آرييه شافيت، بعنوان "بيت ثالث: من شعب إلى قبائل إلى شعب"، يحلِّل فيه أوجه إخفاقات إسرائيل خلال أكثر من سبعين عامًا من إنشائها، ويبحث أهم تهديد وجودي لها ألا وهو مواجهة الصراعات والنزاعات الداخلية، وكيف يمكن إعادة جمع إسرائيل على رؤية واحدة، على اعتبار أنها الفرصة الأخيرة للشعب اليهودي
جملة تحذيرات تناولتها ألصحافه الاسرائيليه صادرة عن أبرز قادة الكيان الصهيوني ، من مختلف المستويات: السياسية والعسكرية والصحفية، وأجمعت على أنها تعيش لحظات حاسمة، وتوشك أن تصل لذات المصير الذي وصلته دول يهودية سابقة.
أكد رئيس الوزراء السابق ، نفتالي بينيت، للإسرائيليين "أن الدولة تقف أمام اختبار حقيقي ومفترق طرق تاريخي: إما استمرار العمل، أو العودة للفوضى، لأنها تشهد اليوم حالة غير مسبوقة تقترب من الانهيار، ومرة أخرى نواجه جميعًا لحظة مصيرية، فقد تفككت إسرائيل مرتين في السابق بسبب الصراعات الداخلية، الأولى عندما كان عمرها 77 عامًا، والثانية 80 عامًا، ونعيش الآن حقبتنا الثالثة، ومع اقترابها من العقد الثامن، تصل إسرائيل لواحدة من أصعب لحظات الانحطاط التي عرفتها على الإطلاق" جاء حديث بينيت في 3 يونيو/حزيران 2022، عبر مناشدة من 27 صفحة، وجَّهها للمجتمع الإسرائيلي بمناسبة مرور عام على تشكيل حكومته، محذرًا أن الدولة تواجه خطر السقوط والانهيار بسبب عدم الانسجام بين مكوناتها من جهة، ومن جهة أخرى بسبب جهود المعارضة اليمينية لإسقاط الحكومة.
وحذَّر وزير الدفاع، بيني غانتس، من أن "قلقًا يكتنف مستقبل إسرائيل بسبب فقدانها السيادة في النقب والجليل، وإمكانية خسارتهما في النهاية، بسبب تعاظم الثقل الديمغرافي للفلسطينيين، ومظاهر تشبثهم بالهوية الوطنية، وقد تتقلص جغرافيًّا لتصبح ممتدة فقط بين مدينتي الخضيرة جنوب حيفا، وغديرا جنوب تل أبيب". وَرَدَ تحذير غانتس في جلسة مغلقة، أوائل مايو/أيار 2022، للكتلة البرلمانية لحزبه "أزرق-أبيض" السابق ، معزِّزًا المخاوف السائدة لدى صنَّاع القرار الإسرائيلي مما يعتبرونه التهديد الديمغرافي، بسبب تزايد أعداد فلسطينيي 48 التدريجي، وفقًا لدائرة الإحصاء الإسرائيلية التي كشفت أن عددهم بلغ مليونين حتى مايو/أيار 2022، بما يزيد عن خمس سكان إسرائيل البالغين 9 ملايين نسمة
كما أن هؤلاء الفلسطينيين داخل إسرائيل لا يزالون يحتفظون بهويتهم الوطنية، وهو ما أثبتته هبَّة مايو/أيار 2021 المتزامنة مع أحداث المسجد الأقصى وحي الشيخ جراح وحرب غزة، حين اندلعت اشتباكات واسعة النطاق بين الفلسطينيين واليهود في عدد من المدن العربية الفلسطينية، أهمها مدينتا اللد وعكا، مما دفع بالشرطة والجيش الإسرائيليين لإجراء تدريب في مايو/أيار 2022 يحاكي وقوع مواجهات مماثلة مستقبلًا
وفي أحدث تصريح هدد وزير الدفاع الإسرائيلي السابق، بيني غانتس، من أن إسرائيل تسير نحو حرب أهلية، يتحمل نتنياهو المسؤولية عنها. ورأى مراقبون أن التصريح "غير المسبوق" لغانتس يعكس صورة نزاع حاد في إسرائيل، يتخطى الصراع السياسي، وسط تهديد المعارضة بالنزول إلى الشارع.
"حرب أهلية لا أقل من ذلك" وبمجرد التحدث عن مؤشر شرخ عميق في المجتمع الإسرائيلي المنقسم إلى "إسرائيل الأولى"، كما تسمى، وتمثل إلى حد كبير اليهود الغربيين من الطبقة الوسطى الذين يديرون الاقتصاد الإسرائيلي ويتحملون عبء الخدمة العسكرية ويمثلون إسرائيل العلمانية المناهضة لنتنياهو وائتلافه المتدين.
أما المعسكر الذي يمثله نتنياهو، فهو متدين وشرقي بغالبيته، استيطاني وبعيد عن الخدمة العسكرية، ويرى أن فوزه بالانتخابات تفويض كامل من أغلبية من في الشارع للقيام بكل ما يلزم للحفاظ على مصالح هذا المعسكر "إسرائيل الثانية"، والاستفادة قدر الإمكان من مقدرات الدولة، والإصلاحات في القضاء.
كما أبدى رئيس الوزراء الأسبق، إيهود باراك، في مقال صحفي مخاوفه من قرب زوال إسرائيل قبل حلول الذكرى الـ80 لتأسيسها، مستشهدًا في ذلك بـ"التاريخ اليهودي الذي يفيد بأنه لم تُعمَّر لليهود دولة أكثر من 80 سنة إلا في فترتين استثنائيتين، فترة الملك داوود وفترة الحشمونائيم، وكلتا الفترتين كانتا بداية تفككهما في العقد الثامن، وإن تجربة الدولة العبرية الصهيونية الحالية هي الثالثة، على وشك دخول عقدها الثامن، وأخشى أن تنزل بها لعنته كما نزلت بسابقتها، لأن العصف يتملكنا، والتجاهل الفظ لتحذيرات التلمود". وفق المعتقدات اليهودية، فقد قامت مملكتهم الأولى بين عامي 586-516 قبل الميلاد، أما حقبة الحشمونائيم فاستغرقت بين عامي 140-37 قبل الميلاد، وبالتالي فإن تجاوز إسرائيل للعقد الثامن يبدو مخالفًا لما درجت عليه سنن التاريخ اليهودي.
استحضر باراك في ذات المقال نماذج من شعوب العالم الذين أصابتهم "لعنة العقد الثامن"؛ فالولايات المتحدة نشبت فيها الحرب الأهلية في العقد الثامن، وإيطاليا تحولت إلى دولة فاشية خلاله، وألمانيا أصبحت دولة نازية فيه ما تسبب بهزيمتها وتقسيمها، وفي العقد الثامن من عمر الثورة الشيوعية تفكك الاتحاد السوفيتي وانهار.
أما تامير باردو، الرئيس السابق لجهاز الموساد، فأكد في محاضرة بكلية "نتانيا" أنه "بينما كثر الحديث عن التهديدات الكبيرة التي تحوم فوق إسرائيل، فإن التهديد الأكبر يتمثل بنا نحن الإسرائيليين، بظهور آلية تدمير الذات التي جرى إتقانها في السنوات الأخيرة، تمامًا مثل أيام تدمير الهيكل الثاني، مما يستدعي منَّا وقف هذا المسار الكارثي قبل نقطة عدم العودة، لأن إسرائيل تنهار ذاتيًّا. صحيح أنها غنية وميسورة، لكنها ممزقة ونازفة، والمخاطر لا تنقضي، وبعد قليل ستعمل آلية الإبادة الذاتية المتمثلة في الكراهية المتبادلة
أما رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، فقد سبق كل هؤلاء، بقوله في 2017: إنني "سأجتهد كي تبلغ إسرائيل عيد ميلادها المائة، لأن مسألة وجودنا ليست مفهومة ضمنًا، وليست بديهية، فالتاريخ يعلمنا أنه لم تُعمَّر دولة للشعب اليهودي أكثر من 80 سنة"
هناك قاسم مشترك تجمع هذه التصريحات وهو : الخوف من سقوط إسرائيل، وانهيارها، وعدم وصولها لعامها الثمانين، سواء لأسباب داخلية ذاتية تتعلق بغياب الانسجام بين مكوناتها، وأدائها الحكومي السيئ، وإمكانية تراجع الأغلبية اليهودية في الدولة، أو لعوامل خارجية متعلقة بتنامي المخاطر الأمنية والتهديدات العسكرية التي تحيط بالدولة من كل الجهات.
إسرائيل تعيش مرحلة تدمير الذات وفق كل التصريحات تنبئ عن مستقبل قاتم ينتظر الكيان الصهيوني وما يتم تداوله من معضلة تعيشها إسرائيل منذ قرابة عقدين من الزمن، وتسمى "غياب جيل التأسيس"، ويمكن اعتبارها التخوف الأول، خاصة مع دخول آرييل شارون، "ملك ملوك إسرائيل" في غيبوبته الأخيرة، أواخر 2005، وسرعان ما تبعه شمعون بيريز، المتوفى في 2016، ومن حينها بدأ الحديث الإسرائيلي عن نهاية عهد المؤسسين الأوائل.
تبدأ القائمة ولا تنتهي بسرد أهم مؤسسي الدولة، أمثال: ديفيد بن غوريون وموشيه ديان وغولدا مائير وإسحاق رابين وشمعون بيريز وإسحاق شامير، ممن وضعوا مصالح الدولة أولوية متقدمة. وأتى مَنْ بعدهم من الجيل الثاني ممن "لم يدفع في رأس المال"، ولم يعاصر حروبها التأسيسية، ليجعل من بقائه في السلطة أولوية حصرية، ولو كانت على حساب الكيان الصهيوني ، وفي عهدهم انتشر الفساد والرشاوى والمحسوبية، أمثال إيهود باراك وإيهود أولمرت وبنيامين نتنياهو وأفيغدور ليبرمان ونفتالي بينيت.
مع أن المرحلة التي أعقبت غياب شارون شهدت فيها منظومة الحكم في إسرائيل حالة من التردي والتدهور، فقد خلفه أولمرت في رئاسة الحكومة، وما لبث أن واجه تهمًا بالفساد، ليقضي بسببها عامًا ونصفًا في السجن في 2016، عقب إدانته بتلقي رشاوى عندما ترأَّس بلدية القدس بين 1993-2003(10). أتى بعده نتنياهو، الذي قضى في الحكم اثني عشر عامًا متواصلة، بين 2009-2021، تميزت بالعديد من الإخفاقات السياسية والعسكرية؛ حيث خاض أربع حروب على غزة في أعوام 2008، 2012، 2014، 2021، دون أن ينجح بالقضاء على المقاومة الفلسطينية، وفي عهده قصفت الأخيرة مدينة القدس في آخر حربين، واقتربت إيران من حدود إسرائيل، وباتت على وشك حيازة السلاح النووي.
كشف استطلاع معهد "فانلس بوليتيكس" الإسرائيلي في 2017، أن غالبية الإسرائيليين بنسبة 60% يعتقدون بفساد نتنياهو ، ورغم ذلك، فقد انفرد بقيادة الدولة طوال هذه الفترة.
بجانب هذه الإخفاقات السياسية والعسكرية، فقد كشف استطلاع معهد "فانلس بوليتيكس" الإسرائيلي في 2017، أن غالبية الإسرائيليين بنسبة 60% يعتقدون بفساد نتنياهو، ورغم ذلك، فقد انفرد بقيادة الدولة طوال هذه الفترة، وتفوق على بن غوريون في عدد سنوات الحكم، وكسر الرقم القياسي كأطول فترة حكم لرئيس وزراء إسرائيلي، وصلت 13 عامًا أي ما نسبته 19٪ من تاريخ إسرائيل وعودته للحكم بائتلافه الفاشي بات ينذر بانقسام داخلي ، وما يمكن أن يفضي إليه، لاسيما أن أهم مفردة لم تعد تخلو منها وسيلة إعلام إسرائيلية، هي "الحرب الأهلية". وتعود بدايات استخدامها بهذا الشكل إلى مرحلة اغتيال رئيس الوزراء الراحل، إسحق رابين، في نوفمبر/تشرين الثاني 1995، على يد ناشط يميني، ومنذ ذلك الوقت لم تعش أية حكومة إسرائيلية فترتها القانونية المحددة بأربع سنوات؛ إذ تولى شمعون بيريز الحكومة الانتقالية منذ اغتيال رابين وحتى خسارته في انتخابات مارس/آذار 1996، وبعد فوز نتنياهو في الانتخابات بقي رئيسًا للحكومة حتى 1999، ثم جرت انتخابات فاز فيها إيهود باراك وتولى رئاسة الحكومة حتى 2001، إلى أن تولى آرييل شارون حكومته الأولى حتى 2003، ثم ترأس حكومته الثانية حتى 2005، وحين دخل غيبوبته الأخيرة قاد الحكومة أيهود أولمرت حتى العام 2009، ومنذ ذلك الوقت تصدر نتنياهو المشهد السياسي حتى العام 2021، إلى أن جاء نفتالي بينيت وترأس حكومته لعام واحد حيث استقال في نهاية يونيو/حزيران 2022، وهي الفترة الأقصر في تاريخ الحكومات الإسرائيلية ليعود نتنياهو ليتصدر المشهد السياسي ويتعمق الانقسام .
نجاح نتنياهو بتشكيل حكومة تضم الأحزاب الدينية والاصوليه المتطرفة تنبئ بحالة من الترهل والإرباك والتدهور غير المسبوق، وتشهد تصاعدًا وصراع بين الأحزاب الاسرائيليه وتظاهرات غير مسبوقة ضد سياسة حكومة نتنياهو ومخاطر الانقسام والحرب الأهلية باتت محصلة أمر واقع حسب كل التنبؤات ،
وبالعودة للانقسام الداخلي وأسبابه التي أوصلت الحياة السياسية الإسرائيلية إلى التأزم والانسداد، لعل من أهم الأسباب عدم قدرة أيٍّ من الحكومات المتعاقبة منذ ربع قرن من الزمن على إيجاد حالة من الانسجام بين مختلف مكوناتها، فضلًا عن رؤية توحدها، فقد زاد عدد الأحزاب المؤتلفة في كل حكومة، بعد أن اقتصرت حكومات العقود الأربعة الأولى على عدد محدود من أحزاب الائتلاف، لكن السنوات الأخيرة شهدت تكاثرًا لأحزاب الائتلافات الحكومية ممن اختلفت توجهاتها وأيديولوجياتها، ولم تصمد أي منها أربع سنوات كاملة.
وصلت الأزمة السياسية الحكومية الإسرائيلية ذروتها في عام 2019؛ حيث شهدت الدولة أربع جولات انتخابية مبكرة، لأن أيًّا من الأحزاب الفائزة عقب كل جولة لم تحصل على 61 عضو كنيست، يجعلونها قادرة على تشكيل الحكومة ولو بأغلبية ضئيلة. جرت الانتخابات في أبريل/نيسان 2019، ومن ثم في سبتمبر/أيلول 2019، ومن بعده في مارس/آذار 2020، وكذلك في مارس/آذار 2021، و شهدت إسرائيل انتخابات خامسة جديدة في نوفمبر/تشرين الأول 2022. أدت إلى نجاح نتني اهو بائتلافها اليميني الفاشي وتداعيات ذلك تشظي المجتمع السياسي الإسرائيلي؛ إذ لم تعد الخلافات تقتصر على الخلاف بين العمل والليكود فقط، أو بين اليمين واليسار، بل زاد الأمر سوءًا واتساعًا ليشمل الخلافات بين اليمين واليمين المتطرف، وبين المتدينين والعلمانيين، وبين الشرقيين والغربيين، وبين العرب واليهود، فضلًا عن الانقسام حول علاقة الدين بالدولة.
تحذيرات القادة والمفكرين الإسرائيليين لم تأت من فراغ ، ، سبقهم في ذلك الخبير الإستراتيجي الأكثر شهرة في إسرائيل، البروفيسور يحزقيئيل درور، عضو لجنة "فينوغراد" للتحقيق في حرب لبنان الثانية، والمستشار السابق بوزارة الدفاع، الذي نشر في 2009 كتابًا بعنوان "التوجهات الأمنية والسياسية لإسرائيل"، وتحدث عن السيناريوهات السيئة المتوقَّعة لإسرائيل والمخاطر المحيطة بها، وطرح علامات استفهام حول مستقبل الدولة. من المخاطر الخارجية التي افترض "درور" وقوعها نشوب حرب مدمرة مع حزب الله، وتنفيذ هجمات صاروخية متعددة المصادر في آن واحد باتجاه إسرائيل، وتعرضها لهجمات كيماوية وبيولوجية، ونشوء ميليشيات مسلحة قوية تهددها، وتعرضها لهجمة معلوماتية ضارية تشوِّش أنظمتها المعلوماتية، وتنامي دعوات إقامة "دولة واحدة لشعبين" بسبب فشل المفاوضات مع الفلسطينيين، وتغيير الولايات المتحدة لسياستها الخارجية، وتخفيف تدخلها في الشرق الأوسط، وتقليل دعمها لإسرائيل، ورحيل جيشها عن المنطقة "
تشير تحذيرات درور إلى أن الخوف على إسرائيل من المخاطر الخارجية آخذ في التصاعد بدلًا من التراجع وتحديدًا في السنوات الأخيرة، وسببه الخوف من أداء المستويين السياسي والعسكري معًا، وهو التخوف الأول، وتؤكده الإخفاقات العملياتية والقتالية المتلاحقة، مع الأخذ بالاعتبار الفرق بين مرحلتين؛ مرحلة تشمل العقود الأربعة الأولى والتي شهدت إسرائيل فيها "إنجازات" عسكرية، لاسيما حروب 1948، 1956، 1967، 1982، ضد الفلسطينيين والعرب، وتضمنت احتلال الأراضي الفلسطينية والعربية في أيام معدودات. وبمقابلها، ما حصل في العقود الثلاثة الأخيرة من انتكاسات عسكرية وإخفاقات عملياتية، واحدة تتلوها الأخرى. تمثلت هذه الإخفاقات في اندلاع الانتفاضتين الفلسطينيتين، 1987 و2000، والانسحاب من جنوب لبنان في 2000، ثم تكراره من قطاع غزة في 2005، وصولًا لانتكاسات حرب لبنان الثانية 2006، وانتهاء بحروب غزة الأربعة الأخيرة: 2008، 2012، 2014، 2021، التي مُني فيها الجيش الإسرائيلي بإخفاقات لم يتمكن من إخفائها.
هذه الإخفاقات دفعت بالجنرال يتسحاق بريك، المفوض السابق لشكاوى الجنود، وقائد الكليات العسكرية، للتأكيد في مقال "تشريحي" عن أبرز مشاكل الجيش، أنه "رغم تجهيزاته العسكرية المتراكمة، واستعداداته التي لا تتوقف تحضيرًا لخوض مواجهات قتالية على أكثر من جبهة، لكن كارثة تنتظره، في ضوء تراجع ثقة الجمهور بقدراته العملياتية، وتدني مستوى رأس ماله البشري، وعدم قدرة التكنولوجيا العسكرية على تعويض التقهقر في الإمكانيات القتالية لجنوده، مما ساعد على نشر حالة الإحباط الآخذة في الانتشار والتوسع داخل أروقة الجيش، بالتزامن مع التهديدات التي تواجه إسرائيل". فيما كشف معهد الديمقراطية الإسرائيلي، في استطلاعه المنشورة نتائجه في أكتوبر/تشرين الأول 2021، أن تراجع ثقة الإسرائيليين بجيشهم بلغ النسبة الأدنى له منذ 2008 ووصلت 78٪
والتخوف الثاني في هذا السياق، عودة "المقاومة الفلسطينية" واستمرارها؛ حيث اعتقد الإسرائيليون أنهم تخلصوا من المقاومة الفلسطينية مرة واحدة وإلى الأبد، بعد ما قام به الجيش الإسرائيلي، عام 1982، بغزو بيروت في حرب لبنان الأولى، وتخلص من تهديد منظمة التحرير الفلسطينية بعد قتال دامٍ استمرَّ عدة أشهر، لاسيما أن هذه الأخيرة كانت تستهدف المستوطنات الشمالية بالكاتيوشا. أما اليوم، فإن ذات الجيش وبعد أربعة عقود، يرى المقاومة الفلسطينية في غزة، تتحول رويدًا رويدًا من خلايا و"عصابات" إلى جيش شبه نظامي، يقصف الجبهة الداخلية الإسرائيلية بالصواريخ والقذائف، ويفرض "حظر تجول" على ملايين الإسرائيليين، ويعطِّل العمل بمطار بن غوريون (في حرب 2014) ( 2021 ) ، وسط عجز إسرائيلي عن التخلص من هذا التهديد، باستثناء تكثيف القصف العسكري للقطاع، ولم ينجح إلا في مفاقمة الخطر القادم من الجبهة الجنوبية، واستمرار التوقعات والاستعدادات لحرب خامسة في الأفق
أما التخوف الثالث فيتركز في الجبهة الشمالية؛ حيث يشعر الإسرائيليون بمزيد من الضغط والقلق، رغم أن جيشهم دمَّر لبنان من أقصاه إلى أقصاه خلال الحرب الثانية 2006، وكبح جماح حزب الله عن إطلاق صواريخ باتجاه المستوطنات الشمالية طوال ستة عشر عامًا، إلا أن الأخير ذاته راكم قوته، وبات لديه -كما تعتقد إسرائيل- مشروع للصواريخ الدقيقة يهدد جبهتها الداخلية بأكملها، من إيلات إلى رأس الناقورة، وتتوقع أنه سيستخدم كل ترسانته الصاروخية ضدها في حال نشوب أية حرب أخرى بين الطرفين، لاسيما أن أسبابها تتزايد، وقد تشمل لبنان وسوريا وايران معًا هذه المرة وقد أضيف إلى هذه الجبهة نفسها أيضًا مخاطر أخرى؛ إذ بعد أن عاشت الحدود الإسرائيلية-السورية هدوءًا زاد عن العقود الأربعة منذ وقف إطلاق النار بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، تسببت الأزمة السورية منذ 2011 في تجدد التهديد الأمني القادم من الجولان، من خلال المجموعات المسلحة التابعة لإيران، وباتت تشكِّل مصدر تهديد لإسرائيل؛ مما يعني نشوء جبهة حربية لم تكن في الحسبان لدى المؤسسة العسكرية من قبل
والتخوف الرابع هو من الجبهة الشرقية وتحديدًا من إيران؛ حيث تخشى إسرائيل من دخول طهران النادي النووي وحيازتها للقنبلة، مما زاد من جرعة التحذيرات الإسرائيلية المتشائمة من التسبب باستهداف الدولة في وجودها، خاصة أن التصنيف الإسرائيلي للتهديد الإيراني يصل حدَّ "الوجودي"؛ لأن الأمر لا يتعلق بصواريخ جوية أو اجتياحات برية، بل بتهديدات نووية كفيلة بالقضاء على الدولة، وفي هذا السياق كانت الاستعادة لمفردات "الإبادة"، ولما حصل في "المحرقة" إبَّان الحرب العالمية الثانية
ويستذكر الإسرائيليون عند الحديث عن التهديد الإيراني ما فعله قادتهم الأوائل ضد مشاريع نووية مشابهة رغم أن تهديدها كان أقلَّ بكثير مما هي عليه الحال اليوم مع إيران، فمناحم بيغن، رئيس الوزراء الراحل، قضى على مفاعل تموز العراقي في 1981، وأولمرت لم يتردد بمهاجمة مفاعل دير الزور السوري في 2007 واليوم تُطرح أسئلة في إسرائيل عن سبب عدم قيام الحكومات والجيش بإجهاض المشروع النووي الإيراني منذ بداياته الأولى. حتى في المرة الأكيدة التي عزمت فيها إسرائيل على مهاجمة إيران في 2010 لم تنجح، لأن ساستها، نتنياهو وباراك، لم يستطيعا إقناع عسكرها بالهجوم (خاصة قائد الجيش، غابي أشكنازي، ورئيس الموساد، مائير داغان، والشاباك، يوفال ديسكين، والاستخبارات العسكرية، عاموس يادلين) ، والنتيجة الماثلة أمام الإسرائيليين اليوم، وبحسب تصريحات قادتهم، أن إيران على بعد أسابيع أو أشهر قليلة من حيازة القنبلة، بسبب "التردد والعجز والخوف" والحسابات الكثيرة التي حالت دون تنفيذهم للهجوم.
والتخوف الخامس سياسي، وهو الأبرز، ويتمثل بعدم التوصل إلى حل نهائي للصراع مع الفلسطينيين، الذي يتطلب من الإسرائيليين دفع أثمان بالانسحاب من أراض فلسطينية، وهو محل انقسام إسرائيلي، ما دفع إسرائيل إلى نظرية "إدارة الصراع، وليس حلَّه"، وأسفر ذلك عن استمرار "الجرح النازف في الخاصرة الإسرائيلية" بلا نهاية.
وتجدر الإشارة إلى أن رابين وبيريز إبَّان توقيع اتفاق أوسلو 1993 حاولا طي صفحة الصراع مع الفلسطينيين، عبر حلِّ الدولتين، لكن اليمين الإسرائيلي قرَّر "تصفية" هذا الحل بـ"تصفية" رابين جسديًّا في 1995، ومنذ ذلك الوقت دخلت القضية الفلسطينية بوابة التجميد، ولم يجرؤ أي رئيس حكومة، أو لم يُرد بالأساس، أن يدفع ثمن إنهاء الصراع مع الفلسطينيين، خاصة مع إمكانية خسارة مقاعد حزبية في معسكر اليمين
والمفارقة أن الإسرائيليين مع رفضهم دفع استحقاقات حل الدولتين مع الفلسطينيين، فإنهم يخشون من تحقق حلٍّ أكثر صعوبة عليهم، وهو حل الدولة الواحدة ثنائية القومية الذي يعني عمليًّا، كما يرون، نهاية المشروع "الصهيوني" والقضاء على حلم الدولة اليهودية، لأن قيام دولة واحدة "لكل مواطنيها" وليس لليهود فقط في كل فلسطين التاريخية، سيكون الفلسطينيون فيها هم الأغلبية العددية
أما التخوف السادس، فهو من فقدان دعم ورعاية الحليف الأميركي لإسرائيل في المنطقة خاصة بعد تراجعه النسبي مؤخرًا، لاسيما عقب ولايتي الرئيس الأسبق، باراك أوباما، بين 2008-2016، وما تبعهما من تراجع التأييد لإسرائيل في أوساط الحزب الديمقراطي وبشكل مطرد، وقد أظهر استطلاع رأي أجرته جامعة مريلاند الأميركية أن نسبة تقل عن 1% من أنصار الحزب الديمقراطي الأميركي يرون إسرائيل واحدة من أكبر حلفاء الولايات المتحدة، وأن 0.5% فقط منهم يعتبرونها أوثق حليف
وفي موضوع ذي صلة، فقد تراجعت قيمة إسرائيل لدى يهود الشتات، تحديدًا المقيمين في الولايات المتحدة، مما أشعل أضواء حمراء في تل أبيب ودفعها لمحاولة استدراك الأضرار الناجمة عن علاقاتها معهم بسبب تراجع أولوية إسرائيل لديهم، واعتبارهم الولايات المتحدة وطنهم الأول والأخير بعد أن تلقوا من إسرائيل في السنوات السابقة معاملة من الدرجة الثانية، والانزعاج الذي أبدوه بسبب نظرتها إليهم باعتبارهم فقط مصدرًا للدعم المالي والهجرات اليهودية .
الحرب على غزه والضفة الغربية تختلف عن سابقاتها هي حرب وجود كما يصفها المتطرفون في إسرائيل ، . ولا يرجع السبب في كونها مختلفة فقط إلى كبر وحجم العملية غير المسبوقة التي نفذتها حركة حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وما أعقبها من "انتقام جبار" تمارسه إسرائيل، كما وصفه رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو، والذي أدى إلى مقتل الآلاف من المدنيين الفلسطينيين وتدمير كل مقومات الحياة في غزه
تختلف هذه الحرب عن الحروب الأخرى لأنها تأتي في وقت تتداعى فيه خطوط الصدع التي تقسم الشرق الأوسط. فعلى مدى عقدين من الزمن على الأقل، كان الصدع الأكثر خطورة في المشهد الجيوسياسي الممزق في المنطقة هو بين أصدقاء وحلفاء إيران، وأصدقاء وحلفاء الولايات المتحدة.
يضغط وزراء اليمين المتطرف في إسرائيل لإفشال أية جهود دولية لوقف إطلاق النار في غزة مقابل إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين معتبرين ذلك هزيمة للدولة العبرية أمام حركة حماس ويطالبون بمواصلة الحرب البرية حتى القضاء على الحركة.
وهدد وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير الثلاثاء بحل الحكومة الإسرائيلية في حال توقفت الحرب بقطاع غزة في تدوينة مقتضبة له، بحسابه على منصة "إكس" بالتزامن مع حديث عن اتفاق جديد محتمل لهدنة إنسانية طويلة المدى بالقطاع وإنهاء الحرب الدائرة بين حركة حماس والجيش الإسرائيلي.
وقال بن غفير "وقف الحرب يساوي حل الحكومة" وهو ما يشير إلى الضغوط التي تواجهها حكومة بنيامين نتنياهو من قبل اليمين المتطرف.
وفي وقت سابق قال وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش إن وقف الحرب مقابل إطلاق سراح جميع المحتجزين في غزة "خطة للقضاء على إسرائيل" وذلك في تدوينة على منصة "إكس"، ردا على معلق الشؤون العربية بإذاعة الجيش الإسرائيلي جاكي حوجي.
وكتب حوجي "سيتم قريباً طرح اقتراح على الحكومة الإسرائيلية والمجتمع الإسرائيلي: إطلاق سراح جميع المختطفين بمن فيهم الجنود، مقابل إنهاء الحرب".
الحرب على غزه والضفة الغربية في أبعادها المتمثلة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والإقليمي والدولي اكتسب شرعية جميع الأحزاب في إسرائيل بكافة مكوناتهما موالاة ومعارضه ، و جميع الأحزاب الصهيونية يجمعهم موقف ثابت من إسرائيل الكبرى التي ترتكز على التوسع والاستيطان لأنهم جميعا محكومون بأيدلوجيه ومرجعيه جاب وتنسكي ومرجعيتها «نظرية الجدار الحديدي التي أطلقها وطوّرها الصّهيوني التصحيحي زئيف جابوتنسكي. يقصد جاب وتنسكي بالجدار الحديدي بناء القوة العسكرية الصهيونية التي تشكل جداراً من الحديد، لا توجد فيه أية تصدعات أو شقوق، بحيث كلما حاول العربي والفلسطيني مقاومة العدوّ الصّهيوني سيصطدم رأسه بهذا الجدار ويتعب وييأس، وفي هذه اللحظة بالذات يمكن التوصل إلى تسوية مع هذا العربي، بالنظرة الصهيونية. ووفق تلك النظرية الصهيونية فهم جميعا يعملوا لأجل ما يسمونه إسرائيل الكبرى ضد الشعب الفلسطيني والعرب جميعا بدون تفريق بين مطبع وغير مطبع .
عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول /أكتوبر 2023 حطمت نظرية الأمن الإسرائيلي ، وقد عدت أكبر ضربة تتعرض لها "إسرائيل" في تاريخها ، وشكلت ضربة قاسية لمفهوم الأمن القومي الصهيوني بما يطرح علامة استفهام على قابلية هذا الكيان على الحياة. إلا أنه على الرغم من ذلك، فإن قواعد العلوم السياسية التي تقوم عليها الكيانات السياسية لا تنطبق على "إسرائيل" لكونها ليست كيانا قائماً بحد ذاته بمقدار ما تشكل امتداداً للهيمنة الأميركية من جهة وللرأسمالية العالمية الصهيونية من جهة أخرى.
وبوجهة غلاة المتطرفين في إسرائيل فان معركة طوفان الأقصى شكلت ضربه قويه لأيدلوجية ونظرية " فلاديمير زئيف جابتونسكي " مؤسس التيار التنقيحي في الحركة الصهيوني، وجماعة الأرغون الإرهابية، والأب المؤسس لليكود واليمين الصهيوني بشكل عام. ، ومن لم يقرأ مقاله “الجدار الحديد (نحن والعرب)” فلن يعرف كيف يفكر نتني اهو وحزبه واليمين المتصهين والمتطرف ، تجاه الفلسطينيين والمفاوضات والمسيرة السلمية.
فكرته المحورية: لا يوجد إمكانية للتفاهم مع العرب (الفلسطينيين) والطريقة الوحيدة للتفاهم معهم هي السلاح، واقتلاع العرب بالقوة أمر أخلاقي ما دام من أجل مشروع نبيل (المشروع الصهيوني ومرتكزا ته الاستيطان والإحلال ) وهذا هو جوهر الحرب على غزه والضفة الغربية وهدفها التدمير المم نهج وتدمير كل مقومات الحياة وتقود للضم والترحيل ألقسري
يقول " جاب وتنسكي " لا يمكن أن يكون هنالك اتفاقية طوعية بيننا وبين عرب فلسطين، لا اليوم ولا في المستقبل المنظور، ولا أقول ذلك لأنني أريد إيذاء الصهاينة المعتدلين، ولا أظن أنهم سيتأذون باستثناء أولئك الذين ولدوا عميانًا، فقد أدركوا منذ زمن بعيد أنه من المستحيل أن يقبل عرب فلسطين طواعية بتحويل “فلسطين” من دولة عربية إلى دولة بأغلبية يهودية.
لقد ضربت عملية طوفان الأقصى مرتكزات نظرية الأمن الإسرائيلية وأصابت أيدلوجية جابتونسكي في مقتل ، ونجح الفلسطينيون في السيطرة على مساحات واسعة من الأراضي المحتلة للمرة الأولى. أيقظ هذا الانهيار مجددا هواجس احتمال انهيار دولة الاحتلال في ظل صمود الفلسطينيين وصلابتهم رغم القمع والحصار، كما قوّض الشعور بالأمان والاستقرار الذي أتاح المزيد من عمليات الهجرة والاستيطان خلال العقود الأخيرة.
بغض النظر عن تداعيات الحرب الإسرائيلية الوحشية الحالية على غزة، فقد انهارت نظرية الأمن الإسرائيلية، وتهاوت نظريات “كي الوعي” و”جز العشب”، وأثبتت مقاربة “المعركة بين الحروب” فشلها في تقويض قدرات المقاومة أو ردعها عن تنفيذ هجوم ضخم مثل الذي نفذته صبيحة 7 أكتوبر/تشرين أول. ولذا؛ تعكس تصريحات قادة الاحتلال على وقع الصدمة، وعلى وقع أزمة ثقة تهز الجيش وأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، بأن النموذج الأمني والاستراتيجي السابق انتهى، وهو ما يعني أنهم بصدد البحث عن فرض “نموذج جديد” وبناء نظرية أمن جديدة، ترمم جاذبية “إسرائيل” وسمعتها المنهارة كملاذ آمن لليهود من أنحاء العالم.
إسرائيل تعيش أزمة وجود بعد معركة طوفان الأقصى وتداعيات الحرب على غزه بفعل التباينات الداخلية والصراع بين الأحزاب اليمينية الاصوليه الحر يديم والأحزاب العلمانية على ضوء تداعيات الحرب على غزه ويمكن تلخيص ذلك وفق التحليلات وتتمثل في :-
أولاً: انقسام المجتمع الإسرائيلي بشكل عام إلى قسمين عموديين، يميني ويساري، وذلك وفقا للاعتبارات والمعايير الإسرائيلية طبعا، مع ميل كبير لصالح التوجهات اليمينية (حتى في أوساط اليسار)، سيما في المسائل الخاصة بالسياسة الخارجية، والمسألة الفلسطينية.
ثانيًا: بروز تناقضات في المجتمع الإسرائيلي ويمكن وصفه بالصراع القبلي من ناحية الثقافة في المجتمع الإسرائيلي في القضايا الداخلية والمجتمعية والدينية والإثنية. فثمة معسكر العلمانيين، الذي يضم قطاعات يسارية ويمينية وقومية، وثمة قطاع المتدينين، الذي يضم قطاعات من اليمين والقوميين أيضا، ناهيك عن وجود كتله صلبة للمعسكر الديني تتألف من حزبي شاس لليهود الشرقيين ويهوديت هاتوراه لليهود الغربيين وحزب الصهيونيه الصاعده لابن غفير ، وطبيعي أن تلك التناقضات تتمركز حول علاقة الدين بالدولة ومكانة الأحزاب الدينية، ومسألة الخدمة العامة، والموازنات، والأنشطة العامة في أيام السبت.
قانون التجنيد يعمق و يعظّم الخلافات في حكومة الاحتلال!
شدد زعيم المعارضة يائير لابيد على ضرورة تجنيد الشباب الحريديم على الفور، فيما هدد الوزير في مجلس الحرب بيني غانتس، بالانسحاب من الحكومة في حال تم إقرار قانون التجنيد.
وقالت القناة “12” العبرية إن زعيم المعارضة تطرق إلى مخطط تجنيد الحريديم قائلاً: “هذا احتيال كامل، لن يتم تجنيد حتى ولو متدين واحد بموجب هذه الخطة، سيكون ذلك ضرراً كبيراً على الاقتصاد والأمن”.
ودعا لابيد الوزير في مجلس الحرب الصهيوني بيني غانتس، ورئيس أركان جيش الاحتلال الإسرائيلي السابق وعضو مجلس الحرب غادي آيزنكوت، إلى استخدام الڤيتو ضد القانون، مطالباً بتجنيد الشباب الحريديم المتدينين على الفور.
وكان زعيم المعارضة قد قال في منشور عبر منصة “إكس”: “إن مشروع قانون التجنيد هو وجه لأفظع حكومة في تاريخ إسرائيل”.
وتابع قائلا: “هذا عار ومن يستمر في الجلوس في هذه الحكومة فهو مشارك في هذا العار”.
فيما هدد الحاخام الأكبر لليهود السفارديم، يتسحاق يوسف، بأن اليهود الأرثوذكس المتشددين سيغادرون إسرائيل بشكل جماعي إذا أنهت الحكومة الإعفاء من التجنيد الإلزامي.
ونقلت صحيفة تايمز أوف إسرائيل عن يوسف قوله خلال محاضرة أسبوعية: «إذا أجبرتهم (الحكومة) على الذهاب إلى الجيش، فسنغادر جميعًا إلى الخارج».
ويوسف هو نجل الزعيم الروحي لحزب شاس الراحل عوفاديا يوسف، ويتمتع بنفوذ كبير في الحزب الذي يشكل جزءا من ائتلاف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.
وأضاف: «كل هؤلاء العلمانيين لا يفهمون أنه بدون الكليات والمدارس الدينية، لن ينجح الجيش»، في إشارة إلى المؤسسات التي يدرس فيها رجال الدين النصوص اليهودية بدلا من العمل أو التجنيد.
وتابع أن «الجنود لا ينجحون إلا بفضل من يتعلمون التوراة».
والشهر الماضي، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إن حكومته ستجد سبيلا إلى إنهاء إعفاء اليهود المتشددين من أداء الخدمة العسكرية في مواجهة ضغوط سياسية تهدد مستقبل ائتلافه الحاكم.
وأضاف نتنياهو، في مؤتمر صحفي: «سنحدد أهدافا لتجنيد اليهود المتشددين في الجيش الإسرائيلي وفي الخدمات المدنية الوطنية، وسنحدد أيضا وسائل لتنفيذ هذه الأهداف».
وأبطلت المحكمة العليا في إسرائيل في 2018 قانونا لإعفاء الذكور المتشددين من التجنيد، مشيرة إلى أن الحاجة تستدعي مشاركة المجتمع الإسرائيلي كله في تحمل عبء الخدمة العسكرية.
وفي وقت سابق، دعا وزير جيش الاحتلال، يوآف غالانت، إلى سن قانون جديد يلغي إعفاءات التجنيد والخدمة العسكرية التي يحظى بها اليهود المتشددون (الحريديم)، وسط مخاوف من أن يؤدي ذلك إلى سقوط الائتلاف الحاكم، وفقا لما ذكر موقع «تايمز أوف إسرائيل».
وفشل الكنيست الإسرائيلي في التوصل إلى ترتيب جديد، وينتهي في مارس/ آذار سريان أمر أصدرته الحكومة بتعليق التجنيد الإلزامي للمتشددين.
ولطالما كانت الإعفاءات السارية على اليهود المتشددين مصدرا للخلاف مع المواطنين الأكثر ميلا للعلمانية، وتسببت التعبئة المكلفة من أجل حرب غزة في الوقت الحالي في إذكاء جذوة ذلك الخلاف.
ويشكل اليهود المتشددون 13% من سكان إسرائيل، وهي نسبة من المتوقع أن تزيد إلى 19% بحلول 2035 بسبب ارتفاع معدلات المواليد بينهم.
ويقول خبراء اقتصاديون إن الإعفاء من التجنيد يبقي بعضهم في المعاهد اللاهوتية بلا داعٍ وخارج القوة العاملة.
ثالثًا: مازالت إسرائيل تعاني من الانقسامات الإثنية، إذ عدا عن الانقسام التقليدي المعروف بين جمهور اليهود الشرقيين (السفارديم) واليهود الغربيين (الأشكناز)، فقد بات ثمة معسكر لليهود الروس، أيضا، من القادمين الجدد (في عقد التسعينيات) وعددهم حوالي مليونين أو يزيد ، وهؤلاء لهم حزب كبير ونشط هو “إسرائيل بيتنا”، بزعامة أفيغدور ليبرمان، اليميني القومي العلماني، كما ثمة العرب، أي الفلسطينيين من أهل البلد الأصليين، وهؤلاء يمثلون خمس سكان الكيان الصهيوني (20 بالمئة)، ولهم كتلة نيابية في الكنيست (للأحزاب العربية) تتألف من 10 نائبا، وهم باتوا يشغلون حيزا مهما في السياسة الإسرائيلية، إن بوجودهم داخلها، أو باعتبارهم جزءا من الشعب الفلسطيني.
رابعًا: انحسار الأحزاب التقليدية، بخاصة حزب العمل (وريث حزب الماباي)، والذي أسهم في إقامة الدولة وترسيخ وجودها (1948-1977)، إذ حصل في الانتخابات الحالية والسابقة على ستة مقاعد فقط، في حين كان حصل على 42 مقعدا في العام 1992، وذلك لصالح أحزاب أو تجمعات جديدة، كحزب “أزرق ـ أبيض” مثلا. أما حزب ليكود فهو بات يواجه تحديا كبيرا، للحفاظ على بقائه، أو قوته، سواء بسبب طول الفترة التي تزعمه فيها بنيامين نتنياهو، أو بسبب تصاعد قوة الاحزاب الدينيه والمتطرفين
ثمة استنتاجات كثيرة من وراء ذلك، ربما أهمها، أن إسرائيل بعد سبعة عقود ونيف على قيامها باتت تعيش تناقضاتها الخاصة، والمتحكمه بكل مفاصلها منذ إقامتها، بمعنى أن هذا الكيان ، التي طالما تعمدت طبقتها السياسية إعلاء شأن الصراع الوجودي لإسرائيل مع جوارها العربي، باتت من دون هذه المعزوفة، أي مع انحسار ذلك الصراع، غير قادرة على طمس تلك التناقضات، وهو ما باتت توضح ملامحه في هذه الفترة، في الصراع بين العلمانيين والمتدينين، وفي سعي كل مكون من مكونات المجتمع الإسرائيلي التعبير عن ذاته، أو عن هويته الخاصة، كشرقيين أو غربيين، وكعلمانيين أو متدينين، كروس أو مغاربة، كيهود أو كعرب، وهكذا. ويمكن القول أن تعنت نتني اهو في إطالة أمد الحرب يصب في صالح نتنياهو ومصالحه الضيقه وخشيته من انعكاس وقف الحرب على التحلل الداخلي للمجتمع الاسرائيلي المنقسم أصلا على نفسه
بيد أن الملاحظة المهمة التي يفترض إدراكها جيدا هنا مفادها أن إسرائيل، بفضل نظامها السياسي، وطريقة إدارتها لمجتمعها، قادرة على التخفيف من أثر تلك التناقضات، هذا من جهة. ومن الجهة الثانية، أن العرب في صراعهم مع إسرائيل غير قادرين على الاستثمار في التناقضات الإسرائيلية تلك بسبب التناقضات التي تستقطب الحالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية الفلسطينية ، وبسبب اختلافاتهم وتعدد محاورهم، وتضارب سياساتهم.
ونحن نستعرض ما آلت إليه حال الكيان الصهيوني نستذكر التاريخ ونعود إلى استحضار فكر ابن خلدون ونظرته لقيام العمران البشري وسقوطه، فصاحب المقولة الخالدة "الظلم مؤذن بخراب العمران" فسّر كيف تصل الدول إلى الظلم الطاغي وآثار هذا الظلم ومآلاته على المجتمع والناس والعمران، في مقدمته الشهيرة.
" الدولة من الشباب إلى الشيخوخة " تُعد الدولة عند ابن خلدون الامتداد المكاني والزماني لحكم عصبية (فئة) ما، وتقوم "العصبية" على الدين أو الولاء أو الفكر المشترك أو القومية أو ما إلى ذلك من مشتركات تصلح انطلاقا لبناء الدول واستمراره.
وبالعصبية القوية "يكون تمهيد الدولة وحمايتها من أولها" ويكون قيامها وسقوطها أيضا، ولا تقوم العصبية إلا بالركون إلى المجتمع/الاجتماع أو بمصطلح ابن خلدون "العمران". ولا يرى ابن خلدون قيام الحياة الاجتماعية إلا بالدولة، ويقول: "الدولة والملك والعمران (أي الاجتماع) بمثابة الصورة للمادة، وهو الشكل الحافظ بنوعه لوجودها، وقد تقرر في علوم الحكمة أنه لا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر، فالدولة دون العمران (الاجتماع/المجتمع) لا تُتصور، والعُمران دون الدولة والملك متعذّر؛ لما في طباع البشر من العدوان الداعي إلى الوازع"؛ فمهمة الدولة حماية المجتمع وأفراده، والمجتمع هو أساس الدولة.
ولاحظ ابن خلدون أن الدول تمر بعدة تطورات من ناحيتين هما: الأحوال العامة من السياسية والاقتصاد والعمران والأخلاق، والتطورات التي تحدث من ناحية العظمة والقوة والاتساع. ويقرر أن كل دولة تنتقل بين خمسة أطوار هي: الظفر، والانفراد بالمجد، ثم الفراغ والدعة، ثم طور القنوع والمسالمة، ثم الإسراف والتبذير.
ويربط ابن خلدون أطوار الدولة الخمسة بثلاثة أجيال فقط، فالجيل الأول يقوم بعملية البناء والعناية، والجيل الثاني يسير على خطا الجيل الأول من التقليد وعدم الحيد، أما الجيل الأخير فيمكن تسميته بالجيل الهادم، "فالدولة لها أعمار طبيعية كما للأشخاص"، على حد تعبيره.
فبعد البناء والعرق في زمن الجيل الأول، تتحول الدولة إلى الاستقرار والهدوء على يد الجيل الثاني، وتبدأ المنشآت الحضارية والعمرانية بالبزوغ، لكن في هذه المرحلة تنزلق الدولة إلى الاستبداد وحكم الفرد.
فبعدما كان الجميع يشترك في الحكم بشكل أو بآخر في الجيل الأول المؤسس للدول والحضارات، تنتقل إلى "انفراد الواحد وكسل الباقين عن السعي فيه، ومن عزّ الاستطالة إلى ذل الاستكانة، فتنكسر سورة العصبية بعض الشيء، وتؤنس منهم المهانة والخضوع".
وكما تكون "العصبية" مسئولة عن القيام والديمومة، فإنها أيضا السبب الأبرز للسقوط والانحدار، ويعزو ابن خلدون الضعف والسقوط إلى عدة عوامل أهمها الترف والانغماس في الملذات.
بحسب ابن خلدون فإن الجيل الأخير أو الثالث الذي تسقط في عهده الدول وتنهار الحضارات، هو الجيل/النخبة الحاكمة التي تحرص في سلوكها السياسي والأخلاقي على الطمع والترف، وينتقل الشعور بالمسؤولية الاجتماعية والسياسية والعسكرية والاقتصادية التي تقلّدوها منذ زمن التأسيس إلى شعور آخر، إلى "نخبة" تدوس الجميع من أجل مصالحها الخاصة وترفها الزائد ورفاهيتها وحدها دون غيرها.
ويقول عن هؤلاء: "ينسون عهد البداوة والخشونة كأن لم تكن، ويفقدون حلاوة العز والعصبية بما هم فيه من ملكة القهر، ويبلغ فيهم الترف غايته بما تبنقوه (تقلبوا فيه) من النعيم وغضارة العيش، فيصيرون عالة على الدولة، ويفقدون العصبية بالجملة، وينسون الحماية والمدافعة والمطالبة".
ويضيف مؤسس علم الاجتماع "بل إنهم مع هذا يحاولون إظهار القوة من خلال احتكار السلاح والجيش، وذلك لقمع الناس إذا أرادوا الثورة ومواجهة استئثار هذه النخبة الحاكمة للسلطة والثروة"، ويتابع: "يلبسون على الناس في الشارة والزي وركوب الخيل وحُسن الثقافة، يموهون بها، وهم في الأكثر أجبن من النساء على ظهورها".
ولا تجد هذه النخبة المترفة، المثقلة بالمال والدعة والقوة المسلحة، أمام الجماهير المطالبة بحقوقها إذا خرجوا ناقمين على هذا الظلم والاستئثار، إلا طلب الدعم من القوى الخارجية التي بدورها تجد في مثل هذه الأنظمة مصلحة سياسية في استمرارها وبقائها وقهرها لشعوبها، ويقول ابن خلدون "فإذا جاء المطالب لهم (أي إذا قامت الثورة عليهم)، لم يُقاوموا مدافعته، فيحتاج صاحب الدولة حينئذ إلى الاستظهار بسواهم من أهل النجدة، ويستكثر من الموالي (القوى الخارجية)، ويصطنع من يُغني عن أهل الدولة بعض الغناء، حتى يتأذن الله بانقراضها، فتذهب الدولة بما حملت".
وهذا يقودنا لمراحل ما وصل إليه حال الكيان الصهيوني منذ تأسيس هذا الكيان وحتى يومنا هذا وقد بلغت من جبروت الطغيان والقوه وشن الحروب ضد الفلسطينيين وحرب غزه خير شاهد على هذا الجبروت والطغيان وهي حرب متوحشه لابراز القوه ولكن في حقيقة هذه الحرب تعكس حالة التفكك والصراع الداخلي والانهزام الداخلي الذاتي ، هذا في الوقت الذي تبدو فيه إسرائيل وكأنها في تمدد جيوسياسي في المنطقة والعالم بانخراطها في الأحلاف والاتفاقيات السياسية والعسكرية والأمنية، فإن واقعها الداخلي لا يتوافق مع ذلك؛ حيث تشهد إسرائيل في الأشهر الأخيرة تزايدًا مطردًا وصراعا داخليا وبدا لافتًا استدعاء أحداث تاريخية قبل قرون، شهدت فيها سقوط "الممالك" اليهودية في حينها، والتحذير من تكررها. وقبل هذه التصريحات كان قد صدر، في مايو/أيار 2021، كتاب، للكاتب الإسرائيلي، آرييه شافيت، بعنوان "بيت ثالث: من شعب إلى قبائل إلى شعب"، يحلِّل فيه أوجه إخفاقات إسرائيل خلال أكثر من سبعين عامًا من إنشائها، ويبحث أهم تهديد وجودي لها ألا وهو مواجهة الصراعات والنزاعات الداخلية، وكيف يمكن إعادة جمع إسرائيل على رؤية واحدة، على اعتبار أنها الفرصة الأخيرة للشعب اليهودي
جملة تحذيرات تناولتها ألصحافه الاسرائيليه صادرة عن أبرز قادة الكيان الصهيوني ، من مختلف المستويات: السياسية والعسكرية والصحفية، وأجمعت على أنها تعيش لحظات حاسمة، وتوشك أن تصل لذات المصير الذي وصلته دول يهودية سابقة.
أكد رئيس الوزراء السابق ، نفتالي بينيت، للإسرائيليين "أن الدولة تقف أمام اختبار حقيقي ومفترق طرق تاريخي: إما استمرار العمل، أو العودة للفوضى، لأنها تشهد اليوم حالة غير مسبوقة تقترب من الانهيار، ومرة أخرى نواجه جميعًا لحظة مصيرية، فقد تفككت إسرائيل مرتين في السابق بسبب الصراعات الداخلية، الأولى عندما كان عمرها 77 عامًا، والثانية 80 عامًا، ونعيش الآن حقبتنا الثالثة، ومع اقترابها من العقد الثامن، تصل إسرائيل لواحدة من أصعب لحظات الانحطاط التي عرفتها على الإطلاق" جاء حديث بينيت في 3 يونيو/حزيران 2022، عبر مناشدة من 27 صفحة، وجَّهها للمجتمع الإسرائيلي بمناسبة مرور عام على تشكيل حكومته، محذرًا أن الدولة تواجه خطر السقوط والانهيار بسبب عدم الانسجام بين مكوناتها من جهة، ومن جهة أخرى بسبب جهود المعارضة اليمينية لإسقاط الحكومة.
وحذَّر وزير الدفاع، بيني غانتس، من أن "قلقًا يكتنف مستقبل إسرائيل بسبب فقدانها السيادة في النقب والجليل، وإمكانية خسارتهما في النهاية، بسبب تعاظم الثقل الديمغرافي للفلسطينيين، ومظاهر تشبثهم بالهوية الوطنية، وقد تتقلص جغرافيًّا لتصبح ممتدة فقط بين مدينتي الخضيرة جنوب حيفا، وغديرا جنوب تل أبيب". وَرَدَ تحذير غانتس في جلسة مغلقة، أوائل مايو/أيار 2022، للكتلة البرلمانية لحزبه "أزرق-أبيض" السابق ، معزِّزًا المخاوف السائدة لدى صنَّاع القرار الإسرائيلي مما يعتبرونه التهديد الديمغرافي، بسبب تزايد أعداد فلسطينيي 48 التدريجي، وفقًا لدائرة الإحصاء الإسرائيلية التي كشفت أن عددهم بلغ مليونين حتى مايو/أيار 2022، بما يزيد عن خمس سكان إسرائيل البالغين 9 ملايين نسمة
كما أن هؤلاء الفلسطينيين داخل إسرائيل لا يزالون يحتفظون بهويتهم الوطنية، وهو ما أثبتته هبَّة مايو/أيار 2021 المتزامنة مع أحداث المسجد الأقصى وحي الشيخ جراح وحرب غزة، حين اندلعت اشتباكات واسعة النطاق بين الفلسطينيين واليهود في عدد من المدن العربية الفلسطينية، أهمها مدينتا اللد وعكا، مما دفع بالشرطة والجيش الإسرائيليين لإجراء تدريب في مايو/أيار 2022 يحاكي وقوع مواجهات مماثلة مستقبلًا
وفي أحدث تصريح هدد وزير الدفاع الإسرائيلي السابق، بيني غانتس، من أن إسرائيل تسير نحو حرب أهلية، يتحمل نتنياهو المسؤولية عنها. ورأى مراقبون أن التصريح "غير المسبوق" لغانتس يعكس صورة نزاع حاد في إسرائيل، يتخطى الصراع السياسي، وسط تهديد المعارضة بالنزول إلى الشارع.
"حرب أهلية لا أقل من ذلك" وبمجرد التحدث عن مؤشر شرخ عميق في المجتمع الإسرائيلي المنقسم إلى "إسرائيل الأولى"، كما تسمى، وتمثل إلى حد كبير اليهود الغربيين من الطبقة الوسطى الذين يديرون الاقتصاد الإسرائيلي ويتحملون عبء الخدمة العسكرية ويمثلون إسرائيل العلمانية المناهضة لنتنياهو وائتلافه المتدين.
أما المعسكر الذي يمثله نتنياهو، فهو متدين وشرقي بغالبيته، استيطاني وبعيد عن الخدمة العسكرية، ويرى أن فوزه بالانتخابات تفويض كامل من أغلبية من في الشارع للقيام بكل ما يلزم للحفاظ على مصالح هذا المعسكر "إسرائيل الثانية"، والاستفادة قدر الإمكان من مقدرات الدولة، والإصلاحات في القضاء.
كما أبدى رئيس الوزراء الأسبق، إيهود باراك، في مقال صحفي مخاوفه من قرب زوال إسرائيل قبل حلول الذكرى الـ80 لتأسيسها، مستشهدًا في ذلك بـ"التاريخ اليهودي الذي يفيد بأنه لم تُعمَّر لليهود دولة أكثر من 80 سنة إلا في فترتين استثنائيتين، فترة الملك داوود وفترة الحشمونائيم، وكلتا الفترتين كانتا بداية تفككهما في العقد الثامن، وإن تجربة الدولة العبرية الصهيونية الحالية هي الثالثة، على وشك دخول عقدها الثامن، وأخشى أن تنزل بها لعنته كما نزلت بسابقتها، لأن العصف يتملكنا، والتجاهل الفظ لتحذيرات التلمود". وفق المعتقدات اليهودية، فقد قامت مملكتهم الأولى بين عامي 586-516 قبل الميلاد، أما حقبة الحشمونائيم فاستغرقت بين عامي 140-37 قبل الميلاد، وبالتالي فإن تجاوز إسرائيل للعقد الثامن يبدو مخالفًا لما درجت عليه سنن التاريخ اليهودي.
استحضر باراك في ذات المقال نماذج من شعوب العالم الذين أصابتهم "لعنة العقد الثامن"؛ فالولايات المتحدة نشبت فيها الحرب الأهلية في العقد الثامن، وإيطاليا تحولت إلى دولة فاشية خلاله، وألمانيا أصبحت دولة نازية فيه ما تسبب بهزيمتها وتقسيمها، وفي العقد الثامن من عمر الثورة الشيوعية تفكك الاتحاد السوفيتي وانهار.
أما تامير باردو، الرئيس السابق لجهاز الموساد، فأكد في محاضرة بكلية "نتانيا" أنه "بينما كثر الحديث عن التهديدات الكبيرة التي تحوم فوق إسرائيل، فإن التهديد الأكبر يتمثل بنا نحن الإسرائيليين، بظهور آلية تدمير الذات التي جرى إتقانها في السنوات الأخيرة، تمامًا مثل أيام تدمير الهيكل الثاني، مما يستدعي منَّا وقف هذا المسار الكارثي قبل نقطة عدم العودة، لأن إسرائيل تنهار ذاتيًّا. صحيح أنها غنية وميسورة، لكنها ممزقة ونازفة، والمخاطر لا تنقضي، وبعد قليل ستعمل آلية الإبادة الذاتية المتمثلة في الكراهية المتبادلة
أما رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، فقد سبق كل هؤلاء، بقوله في 2017: إنني "سأجتهد كي تبلغ إسرائيل عيد ميلادها المائة، لأن مسألة وجودنا ليست مفهومة ضمنًا، وليست بديهية، فالتاريخ يعلمنا أنه لم تُعمَّر دولة للشعب اليهودي أكثر من 80 سنة"
هناك قاسم مشترك تجمع هذه التصريحات وهو : الخوف من سقوط إسرائيل، وانهيارها، وعدم وصولها لعامها الثمانين، سواء لأسباب داخلية ذاتية تتعلق بغياب الانسجام بين مكوناتها، وأدائها الحكومي السيئ، وإمكانية تراجع الأغلبية اليهودية في الدولة، أو لعوامل خارجية متعلقة بتنامي المخاطر الأمنية والتهديدات العسكرية التي تحيط بالدولة من كل الجهات.
إسرائيل تعيش مرحلة تدمير الذات وفق كل التصريحات تنبئ عن مستقبل قاتم ينتظر الكيان الصهيوني وما يتم تداوله من معضلة تعيشها إسرائيل منذ قرابة عقدين من الزمن، وتسمى "غياب جيل التأسيس"، ويمكن اعتبارها التخوف الأول، خاصة مع دخول آرييل شارون، "ملك ملوك إسرائيل" في غيبوبته الأخيرة، أواخر 2005، وسرعان ما تبعه شمعون بيريز، المتوفى في 2016، ومن حينها بدأ الحديث الإسرائيلي عن نهاية عهد المؤسسين الأوائل.
تبدأ القائمة ولا تنتهي بسرد أهم مؤسسي الدولة، أمثال: ديفيد بن غوريون وموشيه ديان وغولدا مائير وإسحاق رابين وشمعون بيريز وإسحاق شامير، ممن وضعوا مصالح الدولة أولوية متقدمة. وأتى مَنْ بعدهم من الجيل الثاني ممن "لم يدفع في رأس المال"، ولم يعاصر حروبها التأسيسية، ليجعل من بقائه في السلطة أولوية حصرية، ولو كانت على حساب الكيان الصهيوني ، وفي عهدهم انتشر الفساد والرشاوى والمحسوبية، أمثال إيهود باراك وإيهود أولمرت وبنيامين نتنياهو وأفيغدور ليبرمان ونفتالي بينيت.
مع أن المرحلة التي أعقبت غياب شارون شهدت فيها منظومة الحكم في إسرائيل حالة من التردي والتدهور، فقد خلفه أولمرت في رئاسة الحكومة، وما لبث أن واجه تهمًا بالفساد، ليقضي بسببها عامًا ونصفًا في السجن في 2016، عقب إدانته بتلقي رشاوى عندما ترأَّس بلدية القدس بين 1993-2003(10). أتى بعده نتنياهو، الذي قضى في الحكم اثني عشر عامًا متواصلة، بين 2009-2021، تميزت بالعديد من الإخفاقات السياسية والعسكرية؛ حيث خاض أربع حروب على غزة في أعوام 2008، 2012، 2014، 2021، دون أن ينجح بالقضاء على المقاومة الفلسطينية، وفي عهده قصفت الأخيرة مدينة القدس في آخر حربين، واقتربت إيران من حدود إسرائيل، وباتت على وشك حيازة السلاح النووي.
كشف استطلاع معهد "فانلس بوليتيكس" الإسرائيلي في 2017، أن غالبية الإسرائيليين بنسبة 60% يعتقدون بفساد نتنياهو ، ورغم ذلك، فقد انفرد بقيادة الدولة طوال هذه الفترة.
بجانب هذه الإخفاقات السياسية والعسكرية، فقد كشف استطلاع معهد "فانلس بوليتيكس" الإسرائيلي في 2017، أن غالبية الإسرائيليين بنسبة 60% يعتقدون بفساد نتنياهو، ورغم ذلك، فقد انفرد بقيادة الدولة طوال هذه الفترة، وتفوق على بن غوريون في عدد سنوات الحكم، وكسر الرقم القياسي كأطول فترة حكم لرئيس وزراء إسرائيلي، وصلت 13 عامًا أي ما نسبته 19٪ من تاريخ إسرائيل وعودته للحكم بائتلافه الفاشي بات ينذر بانقسام داخلي ، وما يمكن أن يفضي إليه، لاسيما أن أهم مفردة لم تعد تخلو منها وسيلة إعلام إسرائيلية، هي "الحرب الأهلية". وتعود بدايات استخدامها بهذا الشكل إلى مرحلة اغتيال رئيس الوزراء الراحل، إسحق رابين، في نوفمبر/تشرين الثاني 1995، على يد ناشط يميني، ومنذ ذلك الوقت لم تعش أية حكومة إسرائيلية فترتها القانونية المحددة بأربع سنوات؛ إذ تولى شمعون بيريز الحكومة الانتقالية منذ اغتيال رابين وحتى خسارته في انتخابات مارس/آذار 1996، وبعد فوز نتنياهو في الانتخابات بقي رئيسًا للحكومة حتى 1999، ثم جرت انتخابات فاز فيها إيهود باراك وتولى رئاسة الحكومة حتى 2001، إلى أن تولى آرييل شارون حكومته الأولى حتى 2003، ثم ترأس حكومته الثانية حتى 2005، وحين دخل غيبوبته الأخيرة قاد الحكومة أيهود أولمرت حتى العام 2009، ومنذ ذلك الوقت تصدر نتنياهو المشهد السياسي حتى العام 2021، إلى أن جاء نفتالي بينيت وترأس حكومته لعام واحد حيث استقال في نهاية يونيو/حزيران 2022، وهي الفترة الأقصر في تاريخ الحكومات الإسرائيلية ليعود نتنياهو ليتصدر المشهد السياسي ويتعمق الانقسام .
نجاح نتنياهو بتشكيل حكومة تضم الأحزاب الدينية والاصوليه المتطرفة تنبئ بحالة من الترهل والإرباك والتدهور غير المسبوق، وتشهد تصاعدًا وصراع بين الأحزاب الاسرائيليه وتظاهرات غير مسبوقة ضد سياسة حكومة نتنياهو ومخاطر الانقسام والحرب الأهلية باتت محصلة أمر واقع حسب كل التنبؤات ،
وبالعودة للانقسام الداخلي وأسبابه التي أوصلت الحياة السياسية الإسرائيلية إلى التأزم والانسداد، لعل من أهم الأسباب عدم قدرة أيٍّ من الحكومات المتعاقبة منذ ربع قرن من الزمن على إيجاد حالة من الانسجام بين مختلف مكوناتها، فضلًا عن رؤية توحدها، فقد زاد عدد الأحزاب المؤتلفة في كل حكومة، بعد أن اقتصرت حكومات العقود الأربعة الأولى على عدد محدود من أحزاب الائتلاف، لكن السنوات الأخيرة شهدت تكاثرًا لأحزاب الائتلافات الحكومية ممن اختلفت توجهاتها وأيديولوجياتها، ولم تصمد أي منها أربع سنوات كاملة.
وصلت الأزمة السياسية الحكومية الإسرائيلية ذروتها في عام 2019؛ حيث شهدت الدولة أربع جولات انتخابية مبكرة، لأن أيًّا من الأحزاب الفائزة عقب كل جولة لم تحصل على 61 عضو كنيست، يجعلونها قادرة على تشكيل الحكومة ولو بأغلبية ضئيلة. جرت الانتخابات في أبريل/نيسان 2019، ومن ثم في سبتمبر/أيلول 2019، ومن بعده في مارس/آذار 2020، وكذلك في مارس/آذار 2021، و شهدت إسرائيل انتخابات خامسة جديدة في نوفمبر/تشرين الأول 2022. أدت إلى نجاح نتني اهو بائتلافها اليميني الفاشي وتداعيات ذلك تشظي المجتمع السياسي الإسرائيلي؛ إذ لم تعد الخلافات تقتصر على الخلاف بين العمل والليكود فقط، أو بين اليمين واليسار، بل زاد الأمر سوءًا واتساعًا ليشمل الخلافات بين اليمين واليمين المتطرف، وبين المتدينين والعلمانيين، وبين الشرقيين والغربيين، وبين العرب واليهود، فضلًا عن الانقسام حول علاقة الدين بالدولة.
تحذيرات القادة والمفكرين الإسرائيليين لم تأت من فراغ ، ، سبقهم في ذلك الخبير الإستراتيجي الأكثر شهرة في إسرائيل، البروفيسور يحزقيئيل درور، عضو لجنة "فينوغراد" للتحقيق في حرب لبنان الثانية، والمستشار السابق بوزارة الدفاع، الذي نشر في 2009 كتابًا بعنوان "التوجهات الأمنية والسياسية لإسرائيل"، وتحدث عن السيناريوهات السيئة المتوقَّعة لإسرائيل والمخاطر المحيطة بها، وطرح علامات استفهام حول مستقبل الدولة. من المخاطر الخارجية التي افترض "درور" وقوعها نشوب حرب مدمرة مع حزب الله، وتنفيذ هجمات صاروخية متعددة المصادر في آن واحد باتجاه إسرائيل، وتعرضها لهجمات كيماوية وبيولوجية، ونشوء ميليشيات مسلحة قوية تهددها، وتعرضها لهجمة معلوماتية ضارية تشوِّش أنظمتها المعلوماتية، وتنامي دعوات إقامة "دولة واحدة لشعبين" بسبب فشل المفاوضات مع الفلسطينيين، وتغيير الولايات المتحدة لسياستها الخارجية، وتخفيف تدخلها في الشرق الأوسط، وتقليل دعمها لإسرائيل، ورحيل جيشها عن المنطقة "
تشير تحذيرات درور إلى أن الخوف على إسرائيل من المخاطر الخارجية آخذ في التصاعد بدلًا من التراجع وتحديدًا في السنوات الأخيرة، وسببه الخوف من أداء المستويين السياسي والعسكري معًا، وهو التخوف الأول، وتؤكده الإخفاقات العملياتية والقتالية المتلاحقة، مع الأخذ بالاعتبار الفرق بين مرحلتين؛ مرحلة تشمل العقود الأربعة الأولى والتي شهدت إسرائيل فيها "إنجازات" عسكرية، لاسيما حروب 1948، 1956، 1967، 1982، ضد الفلسطينيين والعرب، وتضمنت احتلال الأراضي الفلسطينية والعربية في أيام معدودات. وبمقابلها، ما حصل في العقود الثلاثة الأخيرة من انتكاسات عسكرية وإخفاقات عملياتية، واحدة تتلوها الأخرى. تمثلت هذه الإخفاقات في اندلاع الانتفاضتين الفلسطينيتين، 1987 و2000، والانسحاب من جنوب لبنان في 2000، ثم تكراره من قطاع غزة في 2005، وصولًا لانتكاسات حرب لبنان الثانية 2006، وانتهاء بحروب غزة الأربعة الأخيرة: 2008، 2012، 2014، 2021، التي مُني فيها الجيش الإسرائيلي بإخفاقات لم يتمكن من إخفائها.
هذه الإخفاقات دفعت بالجنرال يتسحاق بريك، المفوض السابق لشكاوى الجنود، وقائد الكليات العسكرية، للتأكيد في مقال "تشريحي" عن أبرز مشاكل الجيش، أنه "رغم تجهيزاته العسكرية المتراكمة، واستعداداته التي لا تتوقف تحضيرًا لخوض مواجهات قتالية على أكثر من جبهة، لكن كارثة تنتظره، في ضوء تراجع ثقة الجمهور بقدراته العملياتية، وتدني مستوى رأس ماله البشري، وعدم قدرة التكنولوجيا العسكرية على تعويض التقهقر في الإمكانيات القتالية لجنوده، مما ساعد على نشر حالة الإحباط الآخذة في الانتشار والتوسع داخل أروقة الجيش، بالتزامن مع التهديدات التي تواجه إسرائيل". فيما كشف معهد الديمقراطية الإسرائيلي، في استطلاعه المنشورة نتائجه في أكتوبر/تشرين الأول 2021، أن تراجع ثقة الإسرائيليين بجيشهم بلغ النسبة الأدنى له منذ 2008 ووصلت 78٪
والتخوف الثاني في هذا السياق، عودة "المقاومة الفلسطينية" واستمرارها؛ حيث اعتقد الإسرائيليون أنهم تخلصوا من المقاومة الفلسطينية مرة واحدة وإلى الأبد، بعد ما قام به الجيش الإسرائيلي، عام 1982، بغزو بيروت في حرب لبنان الأولى، وتخلص من تهديد منظمة التحرير الفلسطينية بعد قتال دامٍ استمرَّ عدة أشهر، لاسيما أن هذه الأخيرة كانت تستهدف المستوطنات الشمالية بالكاتيوشا. أما اليوم، فإن ذات الجيش وبعد أربعة عقود، يرى المقاومة الفلسطينية في غزة، تتحول رويدًا رويدًا من خلايا و"عصابات" إلى جيش شبه نظامي، يقصف الجبهة الداخلية الإسرائيلية بالصواريخ والقذائف، ويفرض "حظر تجول" على ملايين الإسرائيليين، ويعطِّل العمل بمطار بن غوريون (في حرب 2014) ( 2021 ) ، وسط عجز إسرائيلي عن التخلص من هذا التهديد، باستثناء تكثيف القصف العسكري للقطاع، ولم ينجح إلا في مفاقمة الخطر القادم من الجبهة الجنوبية، واستمرار التوقعات والاستعدادات لحرب خامسة في الأفق
أما التخوف الثالث فيتركز في الجبهة الشمالية؛ حيث يشعر الإسرائيليون بمزيد من الضغط والقلق، رغم أن جيشهم دمَّر لبنان من أقصاه إلى أقصاه خلال الحرب الثانية 2006، وكبح جماح حزب الله عن إطلاق صواريخ باتجاه المستوطنات الشمالية طوال ستة عشر عامًا، إلا أن الأخير ذاته راكم قوته، وبات لديه -كما تعتقد إسرائيل- مشروع للصواريخ الدقيقة يهدد جبهتها الداخلية بأكملها، من إيلات إلى رأس الناقورة، وتتوقع أنه سيستخدم كل ترسانته الصاروخية ضدها في حال نشوب أية حرب أخرى بين الطرفين، لاسيما أن أسبابها تتزايد، وقد تشمل لبنان وسوريا وايران معًا هذه المرة وقد أضيف إلى هذه الجبهة نفسها أيضًا مخاطر أخرى؛ إذ بعد أن عاشت الحدود الإسرائيلية-السورية هدوءًا زاد عن العقود الأربعة منذ وقف إطلاق النار بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، تسببت الأزمة السورية منذ 2011 في تجدد التهديد الأمني القادم من الجولان، من خلال المجموعات المسلحة التابعة لإيران، وباتت تشكِّل مصدر تهديد لإسرائيل؛ مما يعني نشوء جبهة حربية لم تكن في الحسبان لدى المؤسسة العسكرية من قبل
والتخوف الرابع هو من الجبهة الشرقية وتحديدًا من إيران؛ حيث تخشى إسرائيل من دخول طهران النادي النووي وحيازتها للقنبلة، مما زاد من جرعة التحذيرات الإسرائيلية المتشائمة من التسبب باستهداف الدولة في وجودها، خاصة أن التصنيف الإسرائيلي للتهديد الإيراني يصل حدَّ "الوجودي"؛ لأن الأمر لا يتعلق بصواريخ جوية أو اجتياحات برية، بل بتهديدات نووية كفيلة بالقضاء على الدولة، وفي هذا السياق كانت الاستعادة لمفردات "الإبادة"، ولما حصل في "المحرقة" إبَّان الحرب العالمية الثانية
ويستذكر الإسرائيليون عند الحديث عن التهديد الإيراني ما فعله قادتهم الأوائل ضد مشاريع نووية مشابهة رغم أن تهديدها كان أقلَّ بكثير مما هي عليه الحال اليوم مع إيران، فمناحم بيغن، رئيس الوزراء الراحل، قضى على مفاعل تموز العراقي في 1981، وأولمرت لم يتردد بمهاجمة مفاعل دير الزور السوري في 2007 واليوم تُطرح أسئلة في إسرائيل عن سبب عدم قيام الحكومات والجيش بإجهاض المشروع النووي الإيراني منذ بداياته الأولى. حتى في المرة الأكيدة التي عزمت فيها إسرائيل على مهاجمة إيران في 2010 لم تنجح، لأن ساستها، نتنياهو وباراك، لم يستطيعا إقناع عسكرها بالهجوم (خاصة قائد الجيش، غابي أشكنازي، ورئيس الموساد، مائير داغان، والشاباك، يوفال ديسكين، والاستخبارات العسكرية، عاموس يادلين) ، والنتيجة الماثلة أمام الإسرائيليين اليوم، وبحسب تصريحات قادتهم، أن إيران على بعد أسابيع أو أشهر قليلة من حيازة القنبلة، بسبب "التردد والعجز والخوف" والحسابات الكثيرة التي حالت دون تنفيذهم للهجوم.
والتخوف الخامس سياسي، وهو الأبرز، ويتمثل بعدم التوصل إلى حل نهائي للصراع مع الفلسطينيين، الذي يتطلب من الإسرائيليين دفع أثمان بالانسحاب من أراض فلسطينية، وهو محل انقسام إسرائيلي، ما دفع إسرائيل إلى نظرية "إدارة الصراع، وليس حلَّه"، وأسفر ذلك عن استمرار "الجرح النازف في الخاصرة الإسرائيلية" بلا نهاية.
وتجدر الإشارة إلى أن رابين وبيريز إبَّان توقيع اتفاق أوسلو 1993 حاولا طي صفحة الصراع مع الفلسطينيين، عبر حلِّ الدولتين، لكن اليمين الإسرائيلي قرَّر "تصفية" هذا الحل بـ"تصفية" رابين جسديًّا في 1995، ومنذ ذلك الوقت دخلت القضية الفلسطينية بوابة التجميد، ولم يجرؤ أي رئيس حكومة، أو لم يُرد بالأساس، أن يدفع ثمن إنهاء الصراع مع الفلسطينيين، خاصة مع إمكانية خسارة مقاعد حزبية في معسكر اليمين
والمفارقة أن الإسرائيليين مع رفضهم دفع استحقاقات حل الدولتين مع الفلسطينيين، فإنهم يخشون من تحقق حلٍّ أكثر صعوبة عليهم، وهو حل الدولة الواحدة ثنائية القومية الذي يعني عمليًّا، كما يرون، نهاية المشروع "الصهيوني" والقضاء على حلم الدولة اليهودية، لأن قيام دولة واحدة "لكل مواطنيها" وليس لليهود فقط في كل فلسطين التاريخية، سيكون الفلسطينيون فيها هم الأغلبية العددية
أما التخوف السادس، فهو من فقدان دعم ورعاية الحليف الأميركي لإسرائيل في المنطقة خاصة بعد تراجعه النسبي مؤخرًا، لاسيما عقب ولايتي الرئيس الأسبق، باراك أوباما، بين 2008-2016، وما تبعهما من تراجع التأييد لإسرائيل في أوساط الحزب الديمقراطي وبشكل مطرد، وقد أظهر استطلاع رأي أجرته جامعة مريلاند الأميركية أن نسبة تقل عن 1% من أنصار الحزب الديمقراطي الأميركي يرون إسرائيل واحدة من أكبر حلفاء الولايات المتحدة، وأن 0.5% فقط منهم يعتبرونها أوثق حليف
وفي موضوع ذي صلة، فقد تراجعت قيمة إسرائيل لدى يهود الشتات، تحديدًا المقيمين في الولايات المتحدة، مما أشعل أضواء حمراء في تل أبيب ودفعها لمحاولة استدراك الأضرار الناجمة عن علاقاتها معهم بسبب تراجع أولوية إسرائيل لديهم، واعتبارهم الولايات المتحدة وطنهم الأول والأخير بعد أن تلقوا من إسرائيل في السنوات السابقة معاملة من الدرجة الثانية، والانزعاج الذي أبدوه بسبب نظرتها إليهم باعتبارهم فقط مصدرًا للدعم المالي والهجرات اليهودية .
الحرب على غزه والضفة الغربية تختلف عن سابقاتها هي حرب وجود كما يصفها المتطرفون في إسرائيل ، . ولا يرجع السبب في كونها مختلفة فقط إلى كبر وحجم العملية غير المسبوقة التي نفذتها حركة حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وما أعقبها من "انتقام جبار" تمارسه إسرائيل، كما وصفه رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو، والذي أدى إلى مقتل الآلاف من المدنيين الفلسطينيين وتدمير كل مقومات الحياة في غزه
تختلف هذه الحرب عن الحروب الأخرى لأنها تأتي في وقت تتداعى فيه خطوط الصدع التي تقسم الشرق الأوسط. فعلى مدى عقدين من الزمن على الأقل، كان الصدع الأكثر خطورة في المشهد الجيوسياسي الممزق في المنطقة هو بين أصدقاء وحلفاء إيران، وأصدقاء وحلفاء الولايات المتحدة.
يضغط وزراء اليمين المتطرف في إسرائيل لإفشال أية جهود دولية لوقف إطلاق النار في غزة مقابل إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين معتبرين ذلك هزيمة للدولة العبرية أمام حركة حماس ويطالبون بمواصلة الحرب البرية حتى القضاء على الحركة.
وهدد وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير الثلاثاء بحل الحكومة الإسرائيلية في حال توقفت الحرب بقطاع غزة في تدوينة مقتضبة له، بحسابه على منصة "إكس" بالتزامن مع حديث عن اتفاق جديد محتمل لهدنة إنسانية طويلة المدى بالقطاع وإنهاء الحرب الدائرة بين حركة حماس والجيش الإسرائيلي.
وقال بن غفير "وقف الحرب يساوي حل الحكومة" وهو ما يشير إلى الضغوط التي تواجهها حكومة بنيامين نتنياهو من قبل اليمين المتطرف.
وفي وقت سابق قال وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش إن وقف الحرب مقابل إطلاق سراح جميع المحتجزين في غزة "خطة للقضاء على إسرائيل" وذلك في تدوينة على منصة "إكس"، ردا على معلق الشؤون العربية بإذاعة الجيش الإسرائيلي جاكي حوجي.
وكتب حوجي "سيتم قريباً طرح اقتراح على الحكومة الإسرائيلية والمجتمع الإسرائيلي: إطلاق سراح جميع المختطفين بمن فيهم الجنود، مقابل إنهاء الحرب".
الحرب على غزه والضفة الغربية في أبعادها المتمثلة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والإقليمي والدولي اكتسب شرعية جميع الأحزاب في إسرائيل بكافة مكوناتهما موالاة ومعارضه ، و جميع الأحزاب الصهيونية يجمعهم موقف ثابت من إسرائيل الكبرى التي ترتكز على التوسع والاستيطان لأنهم جميعا محكومون بأيدلوجيه ومرجعيه جاب وتنسكي ومرجعيتها «نظرية الجدار الحديدي التي أطلقها وطوّرها الصّهيوني التصحيحي زئيف جابوتنسكي. يقصد جاب وتنسكي بالجدار الحديدي بناء القوة العسكرية الصهيونية التي تشكل جداراً من الحديد، لا توجد فيه أية تصدعات أو شقوق، بحيث كلما حاول العربي والفلسطيني مقاومة العدوّ الصّهيوني سيصطدم رأسه بهذا الجدار ويتعب وييأس، وفي هذه اللحظة بالذات يمكن التوصل إلى تسوية مع هذا العربي، بالنظرة الصهيونية. ووفق تلك النظرية الصهيونية فهم جميعا يعملوا لأجل ما يسمونه إسرائيل الكبرى ضد الشعب الفلسطيني والعرب جميعا بدون تفريق بين مطبع وغير مطبع .
عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول /أكتوبر 2023 حطمت نظرية الأمن الإسرائيلي ، وقد عدت أكبر ضربة تتعرض لها "إسرائيل" في تاريخها ، وشكلت ضربة قاسية لمفهوم الأمن القومي الصهيوني بما يطرح علامة استفهام على قابلية هذا الكيان على الحياة. إلا أنه على الرغم من ذلك، فإن قواعد العلوم السياسية التي تقوم عليها الكيانات السياسية لا تنطبق على "إسرائيل" لكونها ليست كيانا قائماً بحد ذاته بمقدار ما تشكل امتداداً للهيمنة الأميركية من جهة وللرأسمالية العالمية الصهيونية من جهة أخرى.
وبوجهة غلاة المتطرفين في إسرائيل فان معركة طوفان الأقصى شكلت ضربه قويه لأيدلوجية ونظرية " فلاديمير زئيف جابتونسكي " مؤسس التيار التنقيحي في الحركة الصهيوني، وجماعة الأرغون الإرهابية، والأب المؤسس لليكود واليمين الصهيوني بشكل عام. ، ومن لم يقرأ مقاله “الجدار الحديد (نحن والعرب)” فلن يعرف كيف يفكر نتني اهو وحزبه واليمين المتصهين والمتطرف ، تجاه الفلسطينيين والمفاوضات والمسيرة السلمية.
فكرته المحورية: لا يوجد إمكانية للتفاهم مع العرب (الفلسطينيين) والطريقة الوحيدة للتفاهم معهم هي السلاح، واقتلاع العرب بالقوة أمر أخلاقي ما دام من أجل مشروع نبيل (المشروع الصهيوني ومرتكزا ته الاستيطان والإحلال ) وهذا هو جوهر الحرب على غزه والضفة الغربية وهدفها التدمير المم نهج وتدمير كل مقومات الحياة وتقود للضم والترحيل ألقسري
يقول " جاب وتنسكي " لا يمكن أن يكون هنالك اتفاقية طوعية بيننا وبين عرب فلسطين، لا اليوم ولا في المستقبل المنظور، ولا أقول ذلك لأنني أريد إيذاء الصهاينة المعتدلين، ولا أظن أنهم سيتأذون باستثناء أولئك الذين ولدوا عميانًا، فقد أدركوا منذ زمن بعيد أنه من المستحيل أن يقبل عرب فلسطين طواعية بتحويل “فلسطين” من دولة عربية إلى دولة بأغلبية يهودية.
لقد ضربت عملية طوفان الأقصى مرتكزات نظرية الأمن الإسرائيلية وأصابت أيدلوجية جابتونسكي في مقتل ، ونجح الفلسطينيون في السيطرة على مساحات واسعة من الأراضي المحتلة للمرة الأولى. أيقظ هذا الانهيار مجددا هواجس احتمال انهيار دولة الاحتلال في ظل صمود الفلسطينيين وصلابتهم رغم القمع والحصار، كما قوّض الشعور بالأمان والاستقرار الذي أتاح المزيد من عمليات الهجرة والاستيطان خلال العقود الأخيرة.
بغض النظر عن تداعيات الحرب الإسرائيلية الوحشية الحالية على غزة، فقد انهارت نظرية الأمن الإسرائيلية، وتهاوت نظريات “كي الوعي” و”جز العشب”، وأثبتت مقاربة “المعركة بين الحروب” فشلها في تقويض قدرات المقاومة أو ردعها عن تنفيذ هجوم ضخم مثل الذي نفذته صبيحة 7 أكتوبر/تشرين أول. ولذا؛ تعكس تصريحات قادة الاحتلال على وقع الصدمة، وعلى وقع أزمة ثقة تهز الجيش وأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، بأن النموذج الأمني والاستراتيجي السابق انتهى، وهو ما يعني أنهم بصدد البحث عن فرض “نموذج جديد” وبناء نظرية أمن جديدة، ترمم جاذبية “إسرائيل” وسمعتها المنهارة كملاذ آمن لليهود من أنحاء العالم.
إسرائيل تعيش أزمة وجود بعد معركة طوفان الأقصى وتداعيات الحرب على غزه بفعل التباينات الداخلية والصراع بين الأحزاب اليمينية الاصوليه الحر يديم والأحزاب العلمانية على ضوء تداعيات الحرب على غزه ويمكن تلخيص ذلك وفق التحليلات وتتمثل في :-
أولاً: انقسام المجتمع الإسرائيلي بشكل عام إلى قسمين عموديين، يميني ويساري، وذلك وفقا للاعتبارات والمعايير الإسرائيلية طبعا، مع ميل كبير لصالح التوجهات اليمينية (حتى في أوساط اليسار)، سيما في المسائل الخاصة بالسياسة الخارجية، والمسألة الفلسطينية.
ثانيًا: بروز تناقضات في المجتمع الإسرائيلي ويمكن وصفه بالصراع القبلي من ناحية الثقافة في المجتمع الإسرائيلي في القضايا الداخلية والمجتمعية والدينية والإثنية. فثمة معسكر العلمانيين، الذي يضم قطاعات يسارية ويمينية وقومية، وثمة قطاع المتدينين، الذي يضم قطاعات من اليمين والقوميين أيضا، ناهيك عن وجود كتله صلبة للمعسكر الديني تتألف من حزبي شاس لليهود الشرقيين ويهوديت هاتوراه لليهود الغربيين وحزب الصهيونيه الصاعده لابن غفير ، وطبيعي أن تلك التناقضات تتمركز حول علاقة الدين بالدولة ومكانة الأحزاب الدينية، ومسألة الخدمة العامة، والموازنات، والأنشطة العامة في أيام السبت.
قانون التجنيد يعمق و يعظّم الخلافات في حكومة الاحتلال!
شدد زعيم المعارضة يائير لابيد على ضرورة تجنيد الشباب الحريديم على الفور، فيما هدد الوزير في مجلس الحرب بيني غانتس، بالانسحاب من الحكومة في حال تم إقرار قانون التجنيد.
وقالت القناة “12” العبرية إن زعيم المعارضة تطرق إلى مخطط تجنيد الحريديم قائلاً: “هذا احتيال كامل، لن يتم تجنيد حتى ولو متدين واحد بموجب هذه الخطة، سيكون ذلك ضرراً كبيراً على الاقتصاد والأمن”.
ودعا لابيد الوزير في مجلس الحرب الصهيوني بيني غانتس، ورئيس أركان جيش الاحتلال الإسرائيلي السابق وعضو مجلس الحرب غادي آيزنكوت، إلى استخدام الڤيتو ضد القانون، مطالباً بتجنيد الشباب الحريديم المتدينين على الفور.
وكان زعيم المعارضة قد قال في منشور عبر منصة “إكس”: “إن مشروع قانون التجنيد هو وجه لأفظع حكومة في تاريخ إسرائيل”.
وتابع قائلا: “هذا عار ومن يستمر في الجلوس في هذه الحكومة فهو مشارك في هذا العار”.
فيما هدد الحاخام الأكبر لليهود السفارديم، يتسحاق يوسف، بأن اليهود الأرثوذكس المتشددين سيغادرون إسرائيل بشكل جماعي إذا أنهت الحكومة الإعفاء من التجنيد الإلزامي.
ونقلت صحيفة تايمز أوف إسرائيل عن يوسف قوله خلال محاضرة أسبوعية: «إذا أجبرتهم (الحكومة) على الذهاب إلى الجيش، فسنغادر جميعًا إلى الخارج».
ويوسف هو نجل الزعيم الروحي لحزب شاس الراحل عوفاديا يوسف، ويتمتع بنفوذ كبير في الحزب الذي يشكل جزءا من ائتلاف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.
وأضاف: «كل هؤلاء العلمانيين لا يفهمون أنه بدون الكليات والمدارس الدينية، لن ينجح الجيش»، في إشارة إلى المؤسسات التي يدرس فيها رجال الدين النصوص اليهودية بدلا من العمل أو التجنيد.
وتابع أن «الجنود لا ينجحون إلا بفضل من يتعلمون التوراة».
والشهر الماضي، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إن حكومته ستجد سبيلا إلى إنهاء إعفاء اليهود المتشددين من أداء الخدمة العسكرية في مواجهة ضغوط سياسية تهدد مستقبل ائتلافه الحاكم.
وأضاف نتنياهو، في مؤتمر صحفي: «سنحدد أهدافا لتجنيد اليهود المتشددين في الجيش الإسرائيلي وفي الخدمات المدنية الوطنية، وسنحدد أيضا وسائل لتنفيذ هذه الأهداف».
وأبطلت المحكمة العليا في إسرائيل في 2018 قانونا لإعفاء الذكور المتشددين من التجنيد، مشيرة إلى أن الحاجة تستدعي مشاركة المجتمع الإسرائيلي كله في تحمل عبء الخدمة العسكرية.
وفي وقت سابق، دعا وزير جيش الاحتلال، يوآف غالانت، إلى سن قانون جديد يلغي إعفاءات التجنيد والخدمة العسكرية التي يحظى بها اليهود المتشددون (الحريديم)، وسط مخاوف من أن يؤدي ذلك إلى سقوط الائتلاف الحاكم، وفقا لما ذكر موقع «تايمز أوف إسرائيل».
وفشل الكنيست الإسرائيلي في التوصل إلى ترتيب جديد، وينتهي في مارس/ آذار سريان أمر أصدرته الحكومة بتعليق التجنيد الإلزامي للمتشددين.
ولطالما كانت الإعفاءات السارية على اليهود المتشددين مصدرا للخلاف مع المواطنين الأكثر ميلا للعلمانية، وتسببت التعبئة المكلفة من أجل حرب غزة في الوقت الحالي في إذكاء جذوة ذلك الخلاف.
ويشكل اليهود المتشددون 13% من سكان إسرائيل، وهي نسبة من المتوقع أن تزيد إلى 19% بحلول 2035 بسبب ارتفاع معدلات المواليد بينهم.
ويقول خبراء اقتصاديون إن الإعفاء من التجنيد يبقي بعضهم في المعاهد اللاهوتية بلا داعٍ وخارج القوة العاملة.
ثالثًا: مازالت إسرائيل تعاني من الانقسامات الإثنية، إذ عدا عن الانقسام التقليدي المعروف بين جمهور اليهود الشرقيين (السفارديم) واليهود الغربيين (الأشكناز)، فقد بات ثمة معسكر لليهود الروس، أيضا، من القادمين الجدد (في عقد التسعينيات) وعددهم حوالي مليونين أو يزيد ، وهؤلاء لهم حزب كبير ونشط هو “إسرائيل بيتنا”، بزعامة أفيغدور ليبرمان، اليميني القومي العلماني، كما ثمة العرب، أي الفلسطينيين من أهل البلد الأصليين، وهؤلاء يمثلون خمس سكان الكيان الصهيوني (20 بالمئة)، ولهم كتلة نيابية في الكنيست (للأحزاب العربية) تتألف من 10 نائبا، وهم باتوا يشغلون حيزا مهما في السياسة الإسرائيلية، إن بوجودهم داخلها، أو باعتبارهم جزءا من الشعب الفلسطيني.
رابعًا: انحسار الأحزاب التقليدية، بخاصة حزب العمل (وريث حزب الماباي)، والذي أسهم في إقامة الدولة وترسيخ وجودها (1948-1977)، إذ حصل في الانتخابات الحالية والسابقة على ستة مقاعد فقط، في حين كان حصل على 42 مقعدا في العام 1992، وذلك لصالح أحزاب أو تجمعات جديدة، كحزب “أزرق ـ أبيض” مثلا. أما حزب ليكود فهو بات يواجه تحديا كبيرا، للحفاظ على بقائه، أو قوته، سواء بسبب طول الفترة التي تزعمه فيها بنيامين نتنياهو، أو بسبب تصاعد قوة الاحزاب الدينيه والمتطرفين
ثمة استنتاجات كثيرة من وراء ذلك، ربما أهمها، أن إسرائيل بعد سبعة عقود ونيف على قيامها باتت تعيش تناقضاتها الخاصة، والمتحكمه بكل مفاصلها منذ إقامتها، بمعنى أن هذا الكيان ، التي طالما تعمدت طبقتها السياسية إعلاء شأن الصراع الوجودي لإسرائيل مع جوارها العربي، باتت من دون هذه المعزوفة، أي مع انحسار ذلك الصراع، غير قادرة على طمس تلك التناقضات، وهو ما باتت توضح ملامحه في هذه الفترة، في الصراع بين العلمانيين والمتدينين، وفي سعي كل مكون من مكونات المجتمع الإسرائيلي التعبير عن ذاته، أو عن هويته الخاصة، كشرقيين أو غربيين، وكعلمانيين أو متدينين، كروس أو مغاربة، كيهود أو كعرب، وهكذا. ويمكن القول أن تعنت نتني اهو في إطالة أمد الحرب يصب في صالح نتنياهو ومصالحه الضيقه وخشيته من انعكاس وقف الحرب على التحلل الداخلي للمجتمع الاسرائيلي المنقسم أصلا على نفسه
بيد أن الملاحظة المهمة التي يفترض إدراكها جيدا هنا مفادها أن إسرائيل، بفضل نظامها السياسي، وطريقة إدارتها لمجتمعها، قادرة على التخفيف من أثر تلك التناقضات، هذا من جهة. ومن الجهة الثانية، أن العرب في صراعهم مع إسرائيل غير قادرين على الاستثمار في التناقضات الإسرائيلية تلك بسبب التناقضات التي تستقطب الحالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية الفلسطينية ، وبسبب اختلافاتهم وتعدد محاورهم، وتضارب سياساتهم.