د. زياد العوف - قراءة في رواية "الّلاز" للكاتب الجزائريّ الطاهر وطّار*

تمثّلُ روايات الكاتب والصحفيّ الجزائريّ المعروف الطاهر وطّار ( ١٩٣٦-٢٠١٠م ) مثالاً واضحاً على الأدب الجزائريّ "الملتزِم" المكتوب باللغة العربية منذ استقلال الجزائر في مطلع الستينيات من القرن المنصرِم وحتى الآن.
تركَ الكاتب الراحل لقرّاء العربية إرثاً أدبياً مهمّاً تمثّلَ في ثلاث مجموعات قصصيّة، وثلاث مسرحيّات، وإحدى عشرةَ رواية، كان آخرها تلك التي تحمل عنوان ( قصيدٌ في التّذلّل ) وقد صدرت في القاهرة عام (٢٠١٠م)
ولعلّ روايات ( الّلاز )** و ( الزلزال ) و
( رمّانة ) هي الأهم والأكثر تمثيلاً للكاتب، وكان صدورها في عقد السبعينيات من القرن العشرين.
هذا، وقد طُبِعت معظم أعمال الكاتب عدّة طبعات في كلّ من الجزائر والقاهرة وبيروت. كما تُرجم بعضها إلى لغة أجنبية أو أكثر.
وتُعَدُّ رواية ( الّلاز ) التي كانت باكورة أعمال الطاهر وطّار الروائية من أهم رواياته على الإطلاق، وهي التي أرْسَت أسس إبداعه الروائي، وحقّقت له صِيتاً ورواجاً أدبياً كبيراً،
بل إنّ بعض مؤرّخي الأدب ونقّاده يصنّفها ،جنباً إلى جنب، مع بعض الروايات العالمية الكبرى المعنيّة بقضايا تحرّر الشعوب والعدالة الاجتماعية والصراع الطبقيّ، كرواية ( الأم ) الشهيرة للكاتب والروائيّ الروسي الكبير ( مكسيم غوركي )، وكذا رواية
( العقب الحديدية ) للروائيّ الأميركيّ المبدِع ذي الميول الاشتراكية( جاك لندن )
لذا فإنّ قراءتنا النقدية هذه تسعى لتسليط الأضواء على أهم الخصائص الموضوعية والفنية لهذه الرواية المهمّة.
يقدّم الكاتب للرواية بكلمة يؤكّد فيها على الهويّة الفنية للقصّة بعيداً عن التوثيق التاريخي، مع اعترافه بالصلات الوشيجة القائمة بين أحداث ووقائع ثورة التحرير الجزائرية، وبين كثير من الأحداث التي تعرضها الرواية . ( الرواية، ص ص. ٧-٨ )
على أنّ هذه الخاصيّة الفنّية هي الغالبة على جُلّ الأعمال الأدبية التي ترتكز في موضوعها ووقائعها على أحداث التاريخ دون الالتزام الدقيق بهذه الأحداث.
رواية " الّلاز " إذاً هي عمل أدبيّ يستلهم التاريخ ويستند إليه لكنّه لا يخضع لوقائعه وتفصيلاته وحيثيّاته.

1712052629450.png

يذكر الكاتب أنّه عكف على كتابة هذه الرواية، في فترات متفاوتة، خلال سنواتٍ سبع في الفترة بين عامي (١٩٦٥) و (١٩٧٢) وقد يكون من المفيد الإشارة هنا إلى أنّّ هذه السنوات السبع هي أيضاً الفترة الزمنية التي احتوت وشهِدتْ أحداث الثورة الجزائرية الكبرى بين عامَي (١٩٥٤) و( ١٩٦٢م).
تبدأ الرواية بمشهد معبِّر حيث يصطف رتلٌ طويل من ذوي الشهداء أمام " مكتب المِنَح" للحصول على المساعدات المالية المخصّصة لهم بعد أن نالت الجزائر استقلالها، ما يتيح لهم تجاذبَ أطراف الحديث مستذكرين بعض وقائع الثورة، ومآثر وبطولات ذويهم من الشهداء،
أو مُسْلِمين أنفسهم إلى تأمّل سريع واستبطان داخليّ عميق لما انطوتْ عليه نفوسهم من أحاسيس وذكريات ترسّبت في أعماقهم ووجدانهم، لكنّها ما تلبثُ أن تطفوَ على السطح كلّما وجدتْ لها مناسبة أو متنفّساً ما.
جاء في مفتَتَح الرواية على لسان ( الشيخ الربيعي) والد الشهيد قدّور- أحد شخوص الرواية-:
" إنهم كعادتهم، كلّما تجمّعوا في الصفّ الطويل أمام مكتب المِنح، لا يتحدّثون إلّا عن شهدائهم، والحقّ إنّه ليست هناك، غير هذه الفرصة لتذكّرهم، والتّرحّم على أرواحهم، والتّغنّي بمفاخرهم.. فهم ككلّ ماضٍ يسيرون إلى الخلف، ونحن ككلّ حاضر، نسير إلى الأمام..ولعلّ هذا اليأس المطبِق من التقاء الزمانين، ما يجعلنا أنانيين نرضى أن يتحوّل شهداؤنا الأعزّاء إلى مجرّد بطاقات في جيوبنا، نستظهرها أمام مكتب المنح، مرّة كلّ ثلاثة أشهر...ثمّ نطويها مع دريهمات في انتظار المنحة القادمة..
علّق الشيخ الربيعيّ في نفسه، على ما التقطتْ أذناه، من تأوّهات شيخين يقفان أمامه، وعجوز وأرمل،
تقفان إلى جنبه، ثمّ سرح بصره الذابل في الصفّ الطويل أمامه.."
( الرواية، ص. ٩ )
وتنتهي الرواية بالعودة إلى المشهد الافتتاحي ذاته، تحت عنوان " الخاتمة" حيث يتنبّه الشيخ الربيعي على طلب الموظّف في مكتب المنح:
" - هات بطاقتك ياعمّي الربيعي.
أيقظ موظّف مكتب المنح، القابع خلف الشبّاك، الربيعي من سهومه، فناوله بطاقته، وقال في قلبه، وهو يتناول النقود:
- في البدء، لم أكن أطيق النظر إلى هذا الشاب الخائن. لكن ها أنّني أتعوّده شيئاً فشيئاً. الدوام يثقب الرخام.
وعندما بلغ الباب قابله الّلاز، يقف في أُبّهة وتطاول، رغم ثيابه العسكرية الممزّقة المتّسخة، وهو يهتف:
- ما يبقى في الوادي غير حجاره.
يقولون إنّه ظلّ طيلة السنوات التي قضاها لاجئاً مشرّداً يطوف من مركز عسكري إلى آخر، ومن خيمة لاجئ إلى أخرى، يهتف دون وعي:
- ما يبقى في الوادي غير حجارة.. والناس يتساءلون عمّا يمكن أن يكون يعنيه. " ( الرواية، ص. ٢٧٥ )
تدور أحداث الرواية كما يعرضها الراوي، أي من الناحية الفنية،ما بين المشهد الافتتاحي و" الخاتمة" ،
فهل من الممكن لهذا الحيّز الزمني الضيّق من الانتظار أمام "مكتب المنح" وما رافقه من حوار آنيّ سريع، وتأمل واسستبطان فرضه الانتظار أمام هذا المكتب، أن يتيح المجال لاستيعاب واحتواء أحداث الثورة؟ هذه ملاحظة.
الملاحظة الأخرى تتعلّق بما سمّاه الكاتب، لا الراوي، - الكاتب هو المؤلّف، أمّا الراوي فهو شخص من ورق يقوم برواية كلّ أو بعض فصول الرواية تَبَعاً للتوجّه الفنّي للكاتب- " الخاتمة " حيث انتهى الراوي من سرد الأحداث ، ليتسلّم الكاتب الزمام ب" خاتمة " يعيدنا من خلالها إلى مشهد الانتظار أمام مكتب المنح؛ ففي هذا تجاوز لمبدأ أساسيّ يقوم عليه العمل الروائي، ألا وهو مبدأ ( الإيهام بالواقع ) بعيداً عن تدخّل الكاتب الذي يُفترَض أنّه خارج أحداث العمل الروائي.
تتناول الرواية بعض وقائع وأحداث ثورة الجزائر التّحرّريّة، فتصفُ وتحلّل مجريات الصراع والمعارك التي يخوضها الثوّار " المجاهدون " ضدّ الغزاة الفرنسيين وعملائهم المتواطئين معهم من " الحركيين "
مع التركيز على البعد الاجتماعيّ والطبقيّ لهذه الثورة، طِبقاً للرواية.
جاء في الرواية:
" ويبذل حمو كلّ ما يملك من جهد فكريّ لإقناع قدّور بما أقنعه به أخوه زيدان....
الصحّ هو الحقّ...وهذه البلاد ليس فيها حقّ، لكن سيأتي يوم، ولا يبقى في الوادي إلّا الحجارة، إلا الصحّ، إلا الحقّ.
يخرج الفرنسيون، يفتقر الأغنياء وينعدمون، ينام الجميع على الشِّبع.
نقرأ كلّنا، نتعلّم العربية والرومية، بما فيها الإنكليزية والألمانية والروسية..
لسنا وحدنا نطمح لكلّ هذا..هناك أيضاً المصريون والتونسيون والمغاربة، وحتّى الكفار أيضاً...."
( الرواية، ص ص. ٤٣- ٤٤ )
إنّها إذاً ثورة تحرّر وطنيّ واجتماعيّ في آنٍ معاً.
وتمثّل شخصية( زيدان )القائد العسكريّ الثوري بؤرة الفكر الثوري الاشتراكي الواعي في الرواية، يتجلّى ذلك في حواراته مع الآخرين، وكذا في تأمّلاته الذاتية..
نقرأ في الرواية:
" - نعم. نعم. أفهم . فهمت .
ظلّ رمضان يكرّر، وهو ينظر بإعجاب إلى زيدان، الذي أطرق ...
لو كانوا كلّهم عمالاً، لو كانت الأغلبية، أو حتى النصف من العمال، لكانت المهمّة سهلة............................
المهم في الوقت الراهن أنْ يقوى إيمانهم بوطنهم وبحريته...وعلى مرّ الزمن سيكتشفون بأنفسهم أنّ الأغنياء، مثَلُهم مثَلُ المستعمرين، أعداء اليوم وسيظلون أعداء ما داموا موجودين.... "
( الرواية، ص ص. ١٦١-١٦٢ )
كما تتناول الرواية بعض فصول الصراع داخل الثورة بين مكوّناتها، وبخاصة بين الإسلاميين والشيوعيين، حيث يبلغ الأمر ذروته بقرار احتجاز القائد زيدان وتصفيته مع " رفاقه " وفيهم بعض الأوربيين من المتطوّعين إلى جانب الثوار.
جاء في الرواية:
" غمز الشيخ أحد نوّابه، فأبعد الّلاز والكابران رمضان في الحين وأخلى المكان، بعد أنْ تشكّل من بعيد شبه أهلّة من الجنود للحراسة ولتهديد زيدان والأوربيين الخمسة............
- اتُّخِذَ القرار في شأنكم. بالنسبة لزيدان لا بدّ من تبرّئه من العقيدة وانسلاخه من الحزب وإعلانه الانضمام إلى الجبهة....وبالنسبة لكم أنتم، التبرّؤ أيضاً، والدخول في الإسلام.
...........................................
وإذا لم تتمّ الاستجابة لهذه الطلبات، فهل هناك حلّ آخر؟
- آه. نعم. الذّبح !
قال الشيخ بهدوء....."
( الرواية، ص ص. ٢٢١- ٢٢٢ )
أمّا الّلاز ، الشخصية التي عُنونَتْ الرواية باسمه، فهو في نظر بني جلدته مجرّد لقيط خائن...
نقرأ في الرواية:
" كان الربعي، مثل كلّ سكان القرية، يبغض اللاز، ويتمنّى من صميم قلبه أن تلحقه المصيبة القاضية..يرتكب جريمة لن يخرج بعدها من السجن، أو يُقضى عليه، سواء من طرف العسكر، أو من طرف الثورة..هذا اللقيط الذي لاتتذكّر، حتى أمّه، مَن هو أبوه، وكأنّما التقطته من الرماد مثل الدجاجة..برز إلى الحياة يحمل كلّ الشرور." ( الرواية، ص. ١٢ )
وكذلك هو الشأن مع الفرنسيين، رغم اختلاف المنظور والمواقع.
يخاطبُ الضابط الفرنسيّ المثليّ نفسه، وهو الذي كان يمتهن الّلاز ويستغلّه جسدياً ونفسيّاً:
" آه. أيها الّلاز، اللاز، اللاز! حتى اسمك لا يحمل معنى محدّداً............
المعنى المجازي للّاز هو البطل، في غير لغة قومه، أمّا عندهم، فإنّه اللقيط، أو كلّ أعور يُتشاءَمُ منه.
آه أيها القذِر، إنّك لا تمثّل شيئاً، إنّك لا تمثّل غير هذا الشعب اللقيط، غير هذه القضية المفتعَلَة التي انفلتت من دُبُر التاريخ." ( الرواية، ص. ١٣٠)
على أنّ الّلاز الممزّق بالسؤال الوجودي عن حقيقة أصله، وبما يلقاه من الفريقين من اشمئزاز وكراهية واحتقار، وهو المناضل الوطنيّ الباسل الذي يعمل سرّاً في صفوف الثوّار، لم يكن في حقيقة الأمر سوى ابن القائد الثوري زيدان.
جاء في الرواية:
" تنهّد زيدان من أغوار صدره وراح يردّد:
- الّلاز المسكين.....ايه، ايه ياللاز..
لوتعرف يا أخي حمو ماذا يمثّل اللاز بالنسبة لأخيك، بالنسبة لنا معاً.
- أعرف أنّه يمثّل اللاز لا غير..لازاً مناضلاً.
- وهل تعرف أنّه ابن أخيك وأنّك عمّه؟
- ماذا، ماذا..الّلاز ابن مَن؟
- ابني، ابني يا حمو يابن أمي.........
ولو لم يكن شرعيّاً....ابني، ابن كامل الدوّار، ابن جميع الناس، ابن ذلك الزمن، ابن ماضينا كلّه ياحمو يا ولد أمي...... ........لا تتصوّر يابن أمي مبلغ حبي له..إنّه ثمرة حبّ اندلع في غمار مأساة...."
( الرواية، ص ص. ١٠٢-١٠٣ )
على أنّ الّلاز قد تجرّع مرارة طعم اليُتم وعدم الانتماء مرّتين؛ مرّة حين كان يهيم على وجهه لا يعرف له نسباً أو أصلاً قبل أنْ يكتشف أنّ أباه هو زيدان، ومرّة أخرى عندما تمّت تصفية أبيه بقرار ثوريّ، فاستشعر يُتم النسب، ويُتم الانتماء للثورة التي تحقّقت فيها مقولة أحد قادة الثورة الفرنسية " إنّ الثورة كالقطّة تأكل أولادها ".
نقرأ في الفصل الأخير من الرواية:
" ظلّ الّلاز لحظات يقف مشدوهاً لا يصدّق عينيه، وعندما انفجرت الدماء من قفا أبيه، صاح في رعب:
- ما يبقى في الوادي غير حجاره.
ثمّ ارتخت عضلاته، ودارت به الأرض، ومدّ يديه يحاول التّشبّث بشيء ما، ثمّ هوى."
( الرواية، ص.٢٧٣)
يبقى أنّ الطاهر وطّار قد قدّم في "الّلاز" عملاً روائياً أصيلاً يستحقّ الاحترام، يكشف فيه عن رؤيته الخاصة للثورة الجزائرية وملابساتها، تاركاً للتاريخ وللمؤرّخين التدقيق فيها واستخلاص النتائج والعِبر من وقائعها وملابساتها لكي تقف الأجيال الصاعدة واللاحقة على الحقائق التاريخية المجرّدة لثورة الجزائر المجيدة.


*- الدكتور زياد العوف، في الأدب الروائيّ-دراسات وقراءات نقدية- المكتبة القانونية، مكتبة النوري، دمشق،٢٠٢٢م، ص.ص ١٣١-١٣٨ .

**- الطاهر وطّار، الّلاز، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، ط٣، ١٩٨٣م.

دكتور زياد العوف

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى