قال الزاهد الرحالة أبو إسحاق إبراهيم بن إسماعيل الخواص. .
. . . وفي يوم جميل صفت سماؤه واعتدل هواؤه ركبت البحر في لفيف من الصوفية نريد بعض البلاد الإسلامية التي انتهى إلينا من أخبارها ما حبب إلينا السفر إليها وزيارة العارفين وأهل العلم فيها؛ أولئك الذين فرقهم الله في الأرض كما فرق النجوم في السماء للنور والهداية. ودلالة الخلق على الخالق؛ ونحن في التماس النور عند هؤلاء بالتنقل والأسفار أشبه بالتجار بيد أن بضاعتنا لا تكون من زهرة الدنيا ومتاعها بل هي من زاد الآخرة وكفا والسفر عندنا بعض أساليبنا الصوفية في رياضة النفس المؤمنة على الرضا بالقدر وقبول الحياة الدنيا في مختلف أشكالها وأحوالها. ومن سنن الحياة الثابتة أنها لا تثبت على حال؛ وقد لا يشق على النفس إذا اعتادت التحول عن مكان إلى آخر ومفارقة الأهل والأحباب وما ألفت من العوائد والمشاهد أن تتحول مع الحياة على الحلو والمر؛ وأن تصبر لصروف الدهر فلا يغرب عنها صوابها أو يضل ضلالها إذا جرت عليها الأحداث والمكارة. . . بلى. . . وأن من سنن هذه الحياة أن لا تستقيم للأحياء على الأرض إلا بنور من السماء، فإذا ما حادت منهم جماعة عن ذلك النور السماوي تناولتها سنة بقاء الأصلح بالمحور والانقراض فلم تبق منها إلا آثارها لتحدث أخبارها لأمثالنا من السائحين في الأرض للنظر والمعرفة والاعتبار.
. . . وسارت بنا السفينة باسم الله مجريها ومرساها في جو صحو وماء رقراق، وذهب قرص الشمس يتهادى بجوارها على صفحة الماء الفضية التي رفت عليها أشعة الأصيل فتماوجت بألوان كبريق الذهب والفضة وراح الشاطئ الأخضر يتباعد رويدا رويدا حتى اختفى وأمسينا بين الأزرقين. . . البحر والسماء، ثم أقبل الليل فتوارى عنا قرص الشمس كأنما خر عن الأفق الفاني إلى أعماق المحيط، وما أروع الطبيعة إذا خلعت بياض النهار وغشيها الليل بظلامه المطبق وصمته الرهيب.
. . قال أبو إسحاق. . . وفي روعة الجلال السافر ومظاهر الإبداع الباهر وجمال الطبيعة الساحر نسينا نفوسنا وحلقت أرواحنا في ملكوت السموات والأرض، وغنى الملاحون حبورا بهذا الجو الجميل وتعالت أصواتنا بالتهليل والتكبير والثناء على رب هذا الكون العظيم فإنما الطبيعة لدينا محراب كبير تتجلى فيه مظاهر القدرة الأزلية في شتى المرائي والصور، فلا تكون نظرات العارف في مشاهد الطبيعة إلا كتأملاته في سور القرآن. والطبيعة كتاب الله المنشور والقرآن كتابه المسطور، وكلاهما تعبير عن وجود الله وكماله، بيد أن التعبير هنا بالآيات والسور المحكمة، وهناك بالمناظر والصور المجسمة؛ ومن ثم نجد القرآن كثيرا ما يحيل العقل في فهم معانيه وتحقيق براهينه على كتاب الطبيعة الخالد.
. . . قال وإنا لكذلك في نشوى وتأمل، وخشوع وتبتل، وقد فاتنا أن البحر أشبه ما في الحياة بالحياة فما ينفك يتلون ويتبدل وتتعاقب عليه المكارة والأهوال، ودوام الحال فيه من المحال، إذا بالسماء الصافية وقد غارت نجومها وتلبدت غيومها، وإذا بالريح الرخاء تهب علينا عاتية هوجاء، فهاج البحر وماج، وعج العجاج وتلاطمت من حولنا الأمواج وترنحت الفلك وجعلت الأعاصير الهوجاء تصارعها والأمواج الثائرة تتقاذفها هنا وهناك وهنالك. . . هاجت الريح فهاجت بنا المخاوف وأرعدت السماء فارتعدت الفرائص واضطربت القلوب بين الجوانح، وأشرفنا على الغرق واشتد الهول فزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، هنالك أقبلنا على الله منيبين إليه تائبين، وبسطنا أيدينا بالتوسل والدعاء، ولو أن أشد الناس عنادا وأظلهم إلحادا ركب البحر فجاءته ريح عاصف وأحاط به الموج من كل مكان وبدا له شبح الموت الرهيب يسعى إليه في اللجة بين ريح عاصف ورعد قاصف وبرق خاطف وسحاب مركوم لانجابت الغشاوة عن بصيرته ولآمن لساعته؛ ذلك بأن دواعي الإيمان تلم آنئذ بأمراض النفس الضالة كما تسقط أشعة الشمس على قطع الجليد. من هنا دعا الإسلام إلى الإيمان بالرحمة والخوف، وناضل عن الحق بالبرهان وبالسيف. . . ثم وقعت الواقعة وارتطمت السفينة واندفعت بها الأعاصير إلى صخرة عظيمة فتحطمت وتناثر في اليم أشلاؤها وركابها جميعا.
. . . قال أبو إسحاق: تحطمت سفينتنا ولكن لم تتحطم ثقتنا بالله ورحمته ولطفه فتشبثنا بحطامها وجرفنا التيار الزاخر فجعلنا نغوص ونطفو والأمواج تتقاذفنا وقد غبنا عن الوجود حتى انتهينا إلى شاطئ لا ندري أي شاطئ هو فوقعنا على البر ساجدين شكرا لله الذي نجانا من هاته المحنة الرهيبة، فلما أصبحنا وجدنا أنفسنا بأرض كأنها واحدة من هاتيك السيارات الوعرة التي بخلت عليها الطبيعة بالحياة؛ فإذا رأيت ثم رأيت هضابا شامخة وكثبانا عريضة وصخورا متراكمة وصحراء قاحلة تترامى حتى كأنها تلتقي بالسماء عند الأفق البعيد، وكأن البحر قد اغتال متاعنا كما اغتال سفينتنا فانتشرنا في هذه الأرض المجهولة باحثين عن شيء يمسك علينا رمق الحياة من صيد أو نبات، وذهب النهار وذهبت جهودنا أدراج الرياح وعدنا من حيث أتينا وقد أنهكنا التعب وألح علينا الجوع فقضينا على الطوى ليلة أخرى، وعند مطلع الفجر قمنا إلى الصلاة ثم تفرقنا في جهات شتى بحثا عن القوت حتى انقضى اليوم ولم نعثر على شيء فبتنا بليل أليم. فلما تنفس الصبح وصلينا الفجر لبثنا في موضعنا منهوكين حيارى حتى قال قائل منا ما ينبغي لنا أن نستسلم للموت هكذا ولن نرزق ونحن هاهنا قعود يائسون ولكن يطلب الرزق بثلاثة: العمل والأمل والتوكل على الله، فانتشروا في الأرض ينشر لكم ربكم من رحمته. وقال آخر تعالوا نجعل لله على أنفسنا شيئا إن هو خلصنا من هذه الشدة؛ فنذر بعضنا صياما ونذر بعضنا صدقة. وقال آخر أصلي كذا وكذا ركعة، ونذر بعضنا حجا إلى أن قال كل منا شيئا وبقيت أنا مطرقا لا أتكلم، فقال أحدهم. ما لك لا تجعل لله عليك نذرا فعساه يفرج ما بك فإنك حري بأن تطلب الخير إن نؤتيه وإلا فإنك لا تجني من الشوك العنب؛ فقلت لله على أن لا آكل لحم فيل أبدا، فتصايح رفاقي غاضبين وقالوا: أو تهزل في مثل هذا الظرف العصيب؟ قلت تالله ما الهزل أردت ولا قصدت بقولي مزاحا ولا دعابة ولكنني فكرت مليا فيما أدعه لله فما خطر ببالي ولا جرى على لساني إلا هذا النذر العجيب. ولعله وقع مني كما وقعنا نحن على هاته الأرض الغامضة لأمر يراد؛ فانظروا ماذا بعدها مما كتبته لنا الأقدار على صفحات الليل والنهار.
. . . قال وتفرقنا في فجاج الأرض وتوغلنا في مسالكها حتى مال ميزان النهار واصفر وجه الشمس وطفقت تطوى ذيولها الوردية عن الآكام والرمال حتى توارت بالحجاب. وعاد رفاقي تباعا دون أن يجدوا شيئا إلا واحدا منا أبطأ في العودة حتى ظننا أنه قد هلك في أحشاء الصحراء من فرط التعب والإعياء. فارتمينا على الأرض منهوكين حيارى لا نكاد نقوى حتى على الكلام وإنا لكذلك إذا بصاحبنا الغائب مقبلا علينا يلهث ويرتعد مما به من التعب فألقى عن كاهله شيئا وإذا هو ولد فيل صغير فاجتمع عليه رفاقي فاحتالوا به حتى ذبحوه وجعلوه سليخا مشويا وأقبلوا ينهشون من لحمه إلا أنا فقد لزمت موضعي فقالوا تقدم وكل ولا عليك من نذرك السابق فإن لك فيه عذرا. . . قلت إني لأعلم أن الضرورات تبيح المحذورات ولكن قلبي يحدثني أن من وراء هذا الاتفاق العجيب سرا في ضمير القدر، وقد علمتم أني تركت لحم الفيل منذ ساعة تقربا إلى الله وما كنت لأرجع في شيء تركته له ومن يدري. فقد يكون هذا الذي جرى على لساني وأنكرتموه مني إنما هو لحضور أجلي من دونكم لأني ما أكلت شيئا منذ أيام وما أطمع في شيء آخر وما يراني الله أنقض عهده ولو مت وأني لمؤمن بالقدر راض بتصاريفه مهما تراءت الآن عجيبة قاسية فصبر جميل حتى يبلغ الكتاب أجله. . واعتزلتهم وأكلوا حتى فرغوا وسرعان ما غشيهم النوم فراحوا في سبات عميق وارتفع غطيطهم وبقيت وحدي ساهرا أتململ مما في أحشائي من آلام الجوع وهيهات يأوي النوم إلى عين استبد بها الخوف أو برح بها الألم وألح عليها الجوع القاسي؛ فذهبت أتشاغل بالإنصات إلى صفير الرياح في الصحراء وهدير الموج في البحر الخضم وأتأمل البدر المتألق في صدر السماء العاري وهو يرسل أشعته الفضية على الرمال والآكام ويشق طريقه بين النجوم متثاقلا واجما كأنه يرثي لحالي التعسة وقد ساد السكون وخيم الليل الموحش على المكان فتولاني خشوع عميق شغلني بعض الوقت عما أعانيه من الحيرة والألم.
قال أبو إسحاق وفي جوف الليل الصامت وسكون السحر الرهيب ترامى إلى سمعي صياح بعيد جعل يقترب ويرتفع في الفضاء سريعا وإذا أنا بفيل ضخم أقبل يقتفي أثر ولده حتى وقف علينا وعاين أشلاء ولده الذبيح فصاح صيحة نكرا. أفزعت رفاقي من سباتهم بيد أنهم لم يستطيعوا النهوض أو الفرار مما أخذهم من الفزع والذهول؛ فأقبل عليهم الفيل وجعل يمد خرطومه إلى الواحد منهم فيشمه فإذا وجد منه ريح لحم ولده رفع رجله فوضعها عليه وتحامل حتى يهشم أضلاعه فيقتله ثم يميل إلى صاحبه فيفعل به كذلك وقد انطرح القوم على الأرض وذهبوا يرددون الشهادة التي هي آخر الزاد من الدنيا. ورحت أنظر الفيل وهو يبطش برفاقي واحدا واحدا وقد جمد الدم في عروقي وانعقد من الروع لساني وخارت قواي ونضح جسدي بالعرق البارد وطارت نفسي شعاعا فرحت أتمتم بالاستغفار والشهادة التي أشرقت بها روحي المودعة حتى انتهى إلي الفيل فمد خرطومه إلى فمي فانخلع قلبي ووجدت ريح الموت من أنفاسه فشم كل مكان في جسدي من رأسي إلى أخمص قدمي ثم رفع خرطومه وصاح صياحا منكرا خلت أنه زلزل الصحراء ثم أقبل علي ثانيا يقلبني ظهرا لبطن ويشمني هنا وهناك وقد غبت عن الوجود. . . وأخيرا لف علي خرطومه فرفعني في الهواء فقلت حضر الأجل ولكنه وضعني على ظهره ثم انكفأ راجعا فجهدت أن أثبت مكاني وانطلق بي الفيل يشتد عدوا فتارة يصعد بي في الهضاب وتارة ينحدر بي في الأودية ويسعى في الدروب الملتوية ويقتحم الأحراج والأدغال الكثيفة والليل الحالك مخيم على الوجود وصفير الرياح يقرع أذني في جوف الغابة الحالكة كأنه عزيف المردة التي تريد أن تتخطفني من كل مكان؛ وكان الفيل يهدأ أحيانا فيساورني الأمل الضئيل قي النجاة ثم يشتد عدوه فأتوقع أنه سيثور بي فيقتلني فأعاود الاستغفار والتشهد.
. . . قال وانتهى الفيل إلى أرض عريضة وكان الفجر قد أطل على الدنيا ونشر أشعته الفضية الحالمة فاستبانت لي طريق تشق المزارع الخضراء إلى حيث لا أدري؛ فدنا منها الفيل فرفعني عن ظهره فقلت إنا لله جاء الموت؛ بيد أنه أقامني على الطريق ثم ولى مدبرا. واتخذ سبيله في الأرض هربا فما عدت إلى صوابي إلا حين برزت الغزالة من خدرها وأضاءت المكان بنورها الذهبي الجميل فانبعثت أعدو في الطريق وأنا لا أصدق بالخلاص حتى بلغت قرية آويت إليها فعجب مني أهلوها وسألوني عن أمري فقصصت عليهم ما كان فزعموا أن الفيل سار بي في هذه الليلة مسيرة أيام واستطرفوا سلامتي فلبثت فيهم أياما حتى صلحت حالي من تلك الشدائد، وتندى بدني وعادت نفسي سيرتها الأولى. ثم خرجت في نفر من التجار إلى بلد على شاطئ البحر فركبته وأقلعت بنا الفلك في يوم طيب. ورزقني الله السلامة إلى أن عدت إلى بلدي وبقيت نفسي مليئة بهذه الذكريات الحزينة. ما عشت فلن أنسى أولئك الرفاق البررة الذين طالما طوفت معهم في الآفاق حتى ألقوا عصا التسيار. وأطبقوا جفونهم إلى الأبد على الشاطئ المجهول.
أحمد شاهين
13 - 11 - 1950
. . . وفي يوم جميل صفت سماؤه واعتدل هواؤه ركبت البحر في لفيف من الصوفية نريد بعض البلاد الإسلامية التي انتهى إلينا من أخبارها ما حبب إلينا السفر إليها وزيارة العارفين وأهل العلم فيها؛ أولئك الذين فرقهم الله في الأرض كما فرق النجوم في السماء للنور والهداية. ودلالة الخلق على الخالق؛ ونحن في التماس النور عند هؤلاء بالتنقل والأسفار أشبه بالتجار بيد أن بضاعتنا لا تكون من زهرة الدنيا ومتاعها بل هي من زاد الآخرة وكفا والسفر عندنا بعض أساليبنا الصوفية في رياضة النفس المؤمنة على الرضا بالقدر وقبول الحياة الدنيا في مختلف أشكالها وأحوالها. ومن سنن الحياة الثابتة أنها لا تثبت على حال؛ وقد لا يشق على النفس إذا اعتادت التحول عن مكان إلى آخر ومفارقة الأهل والأحباب وما ألفت من العوائد والمشاهد أن تتحول مع الحياة على الحلو والمر؛ وأن تصبر لصروف الدهر فلا يغرب عنها صوابها أو يضل ضلالها إذا جرت عليها الأحداث والمكارة. . . بلى. . . وأن من سنن هذه الحياة أن لا تستقيم للأحياء على الأرض إلا بنور من السماء، فإذا ما حادت منهم جماعة عن ذلك النور السماوي تناولتها سنة بقاء الأصلح بالمحور والانقراض فلم تبق منها إلا آثارها لتحدث أخبارها لأمثالنا من السائحين في الأرض للنظر والمعرفة والاعتبار.
. . . وسارت بنا السفينة باسم الله مجريها ومرساها في جو صحو وماء رقراق، وذهب قرص الشمس يتهادى بجوارها على صفحة الماء الفضية التي رفت عليها أشعة الأصيل فتماوجت بألوان كبريق الذهب والفضة وراح الشاطئ الأخضر يتباعد رويدا رويدا حتى اختفى وأمسينا بين الأزرقين. . . البحر والسماء، ثم أقبل الليل فتوارى عنا قرص الشمس كأنما خر عن الأفق الفاني إلى أعماق المحيط، وما أروع الطبيعة إذا خلعت بياض النهار وغشيها الليل بظلامه المطبق وصمته الرهيب.
. . قال أبو إسحاق. . . وفي روعة الجلال السافر ومظاهر الإبداع الباهر وجمال الطبيعة الساحر نسينا نفوسنا وحلقت أرواحنا في ملكوت السموات والأرض، وغنى الملاحون حبورا بهذا الجو الجميل وتعالت أصواتنا بالتهليل والتكبير والثناء على رب هذا الكون العظيم فإنما الطبيعة لدينا محراب كبير تتجلى فيه مظاهر القدرة الأزلية في شتى المرائي والصور، فلا تكون نظرات العارف في مشاهد الطبيعة إلا كتأملاته في سور القرآن. والطبيعة كتاب الله المنشور والقرآن كتابه المسطور، وكلاهما تعبير عن وجود الله وكماله، بيد أن التعبير هنا بالآيات والسور المحكمة، وهناك بالمناظر والصور المجسمة؛ ومن ثم نجد القرآن كثيرا ما يحيل العقل في فهم معانيه وتحقيق براهينه على كتاب الطبيعة الخالد.
. . . قال وإنا لكذلك في نشوى وتأمل، وخشوع وتبتل، وقد فاتنا أن البحر أشبه ما في الحياة بالحياة فما ينفك يتلون ويتبدل وتتعاقب عليه المكارة والأهوال، ودوام الحال فيه من المحال، إذا بالسماء الصافية وقد غارت نجومها وتلبدت غيومها، وإذا بالريح الرخاء تهب علينا عاتية هوجاء، فهاج البحر وماج، وعج العجاج وتلاطمت من حولنا الأمواج وترنحت الفلك وجعلت الأعاصير الهوجاء تصارعها والأمواج الثائرة تتقاذفها هنا وهناك وهنالك. . . هاجت الريح فهاجت بنا المخاوف وأرعدت السماء فارتعدت الفرائص واضطربت القلوب بين الجوانح، وأشرفنا على الغرق واشتد الهول فزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، هنالك أقبلنا على الله منيبين إليه تائبين، وبسطنا أيدينا بالتوسل والدعاء، ولو أن أشد الناس عنادا وأظلهم إلحادا ركب البحر فجاءته ريح عاصف وأحاط به الموج من كل مكان وبدا له شبح الموت الرهيب يسعى إليه في اللجة بين ريح عاصف ورعد قاصف وبرق خاطف وسحاب مركوم لانجابت الغشاوة عن بصيرته ولآمن لساعته؛ ذلك بأن دواعي الإيمان تلم آنئذ بأمراض النفس الضالة كما تسقط أشعة الشمس على قطع الجليد. من هنا دعا الإسلام إلى الإيمان بالرحمة والخوف، وناضل عن الحق بالبرهان وبالسيف. . . ثم وقعت الواقعة وارتطمت السفينة واندفعت بها الأعاصير إلى صخرة عظيمة فتحطمت وتناثر في اليم أشلاؤها وركابها جميعا.
. . . قال أبو إسحاق: تحطمت سفينتنا ولكن لم تتحطم ثقتنا بالله ورحمته ولطفه فتشبثنا بحطامها وجرفنا التيار الزاخر فجعلنا نغوص ونطفو والأمواج تتقاذفنا وقد غبنا عن الوجود حتى انتهينا إلى شاطئ لا ندري أي شاطئ هو فوقعنا على البر ساجدين شكرا لله الذي نجانا من هاته المحنة الرهيبة، فلما أصبحنا وجدنا أنفسنا بأرض كأنها واحدة من هاتيك السيارات الوعرة التي بخلت عليها الطبيعة بالحياة؛ فإذا رأيت ثم رأيت هضابا شامخة وكثبانا عريضة وصخورا متراكمة وصحراء قاحلة تترامى حتى كأنها تلتقي بالسماء عند الأفق البعيد، وكأن البحر قد اغتال متاعنا كما اغتال سفينتنا فانتشرنا في هذه الأرض المجهولة باحثين عن شيء يمسك علينا رمق الحياة من صيد أو نبات، وذهب النهار وذهبت جهودنا أدراج الرياح وعدنا من حيث أتينا وقد أنهكنا التعب وألح علينا الجوع فقضينا على الطوى ليلة أخرى، وعند مطلع الفجر قمنا إلى الصلاة ثم تفرقنا في جهات شتى بحثا عن القوت حتى انقضى اليوم ولم نعثر على شيء فبتنا بليل أليم. فلما تنفس الصبح وصلينا الفجر لبثنا في موضعنا منهوكين حيارى حتى قال قائل منا ما ينبغي لنا أن نستسلم للموت هكذا ولن نرزق ونحن هاهنا قعود يائسون ولكن يطلب الرزق بثلاثة: العمل والأمل والتوكل على الله، فانتشروا في الأرض ينشر لكم ربكم من رحمته. وقال آخر تعالوا نجعل لله على أنفسنا شيئا إن هو خلصنا من هذه الشدة؛ فنذر بعضنا صياما ونذر بعضنا صدقة. وقال آخر أصلي كذا وكذا ركعة، ونذر بعضنا حجا إلى أن قال كل منا شيئا وبقيت أنا مطرقا لا أتكلم، فقال أحدهم. ما لك لا تجعل لله عليك نذرا فعساه يفرج ما بك فإنك حري بأن تطلب الخير إن نؤتيه وإلا فإنك لا تجني من الشوك العنب؛ فقلت لله على أن لا آكل لحم فيل أبدا، فتصايح رفاقي غاضبين وقالوا: أو تهزل في مثل هذا الظرف العصيب؟ قلت تالله ما الهزل أردت ولا قصدت بقولي مزاحا ولا دعابة ولكنني فكرت مليا فيما أدعه لله فما خطر ببالي ولا جرى على لساني إلا هذا النذر العجيب. ولعله وقع مني كما وقعنا نحن على هاته الأرض الغامضة لأمر يراد؛ فانظروا ماذا بعدها مما كتبته لنا الأقدار على صفحات الليل والنهار.
. . . قال وتفرقنا في فجاج الأرض وتوغلنا في مسالكها حتى مال ميزان النهار واصفر وجه الشمس وطفقت تطوى ذيولها الوردية عن الآكام والرمال حتى توارت بالحجاب. وعاد رفاقي تباعا دون أن يجدوا شيئا إلا واحدا منا أبطأ في العودة حتى ظننا أنه قد هلك في أحشاء الصحراء من فرط التعب والإعياء. فارتمينا على الأرض منهوكين حيارى لا نكاد نقوى حتى على الكلام وإنا لكذلك إذا بصاحبنا الغائب مقبلا علينا يلهث ويرتعد مما به من التعب فألقى عن كاهله شيئا وإذا هو ولد فيل صغير فاجتمع عليه رفاقي فاحتالوا به حتى ذبحوه وجعلوه سليخا مشويا وأقبلوا ينهشون من لحمه إلا أنا فقد لزمت موضعي فقالوا تقدم وكل ولا عليك من نذرك السابق فإن لك فيه عذرا. . . قلت إني لأعلم أن الضرورات تبيح المحذورات ولكن قلبي يحدثني أن من وراء هذا الاتفاق العجيب سرا في ضمير القدر، وقد علمتم أني تركت لحم الفيل منذ ساعة تقربا إلى الله وما كنت لأرجع في شيء تركته له ومن يدري. فقد يكون هذا الذي جرى على لساني وأنكرتموه مني إنما هو لحضور أجلي من دونكم لأني ما أكلت شيئا منذ أيام وما أطمع في شيء آخر وما يراني الله أنقض عهده ولو مت وأني لمؤمن بالقدر راض بتصاريفه مهما تراءت الآن عجيبة قاسية فصبر جميل حتى يبلغ الكتاب أجله. . واعتزلتهم وأكلوا حتى فرغوا وسرعان ما غشيهم النوم فراحوا في سبات عميق وارتفع غطيطهم وبقيت وحدي ساهرا أتململ مما في أحشائي من آلام الجوع وهيهات يأوي النوم إلى عين استبد بها الخوف أو برح بها الألم وألح عليها الجوع القاسي؛ فذهبت أتشاغل بالإنصات إلى صفير الرياح في الصحراء وهدير الموج في البحر الخضم وأتأمل البدر المتألق في صدر السماء العاري وهو يرسل أشعته الفضية على الرمال والآكام ويشق طريقه بين النجوم متثاقلا واجما كأنه يرثي لحالي التعسة وقد ساد السكون وخيم الليل الموحش على المكان فتولاني خشوع عميق شغلني بعض الوقت عما أعانيه من الحيرة والألم.
قال أبو إسحاق وفي جوف الليل الصامت وسكون السحر الرهيب ترامى إلى سمعي صياح بعيد جعل يقترب ويرتفع في الفضاء سريعا وإذا أنا بفيل ضخم أقبل يقتفي أثر ولده حتى وقف علينا وعاين أشلاء ولده الذبيح فصاح صيحة نكرا. أفزعت رفاقي من سباتهم بيد أنهم لم يستطيعوا النهوض أو الفرار مما أخذهم من الفزع والذهول؛ فأقبل عليهم الفيل وجعل يمد خرطومه إلى الواحد منهم فيشمه فإذا وجد منه ريح لحم ولده رفع رجله فوضعها عليه وتحامل حتى يهشم أضلاعه فيقتله ثم يميل إلى صاحبه فيفعل به كذلك وقد انطرح القوم على الأرض وذهبوا يرددون الشهادة التي هي آخر الزاد من الدنيا. ورحت أنظر الفيل وهو يبطش برفاقي واحدا واحدا وقد جمد الدم في عروقي وانعقد من الروع لساني وخارت قواي ونضح جسدي بالعرق البارد وطارت نفسي شعاعا فرحت أتمتم بالاستغفار والشهادة التي أشرقت بها روحي المودعة حتى انتهى إلي الفيل فمد خرطومه إلى فمي فانخلع قلبي ووجدت ريح الموت من أنفاسه فشم كل مكان في جسدي من رأسي إلى أخمص قدمي ثم رفع خرطومه وصاح صياحا منكرا خلت أنه زلزل الصحراء ثم أقبل علي ثانيا يقلبني ظهرا لبطن ويشمني هنا وهناك وقد غبت عن الوجود. . . وأخيرا لف علي خرطومه فرفعني في الهواء فقلت حضر الأجل ولكنه وضعني على ظهره ثم انكفأ راجعا فجهدت أن أثبت مكاني وانطلق بي الفيل يشتد عدوا فتارة يصعد بي في الهضاب وتارة ينحدر بي في الأودية ويسعى في الدروب الملتوية ويقتحم الأحراج والأدغال الكثيفة والليل الحالك مخيم على الوجود وصفير الرياح يقرع أذني في جوف الغابة الحالكة كأنه عزيف المردة التي تريد أن تتخطفني من كل مكان؛ وكان الفيل يهدأ أحيانا فيساورني الأمل الضئيل قي النجاة ثم يشتد عدوه فأتوقع أنه سيثور بي فيقتلني فأعاود الاستغفار والتشهد.
. . . قال وانتهى الفيل إلى أرض عريضة وكان الفجر قد أطل على الدنيا ونشر أشعته الفضية الحالمة فاستبانت لي طريق تشق المزارع الخضراء إلى حيث لا أدري؛ فدنا منها الفيل فرفعني عن ظهره فقلت إنا لله جاء الموت؛ بيد أنه أقامني على الطريق ثم ولى مدبرا. واتخذ سبيله في الأرض هربا فما عدت إلى صوابي إلا حين برزت الغزالة من خدرها وأضاءت المكان بنورها الذهبي الجميل فانبعثت أعدو في الطريق وأنا لا أصدق بالخلاص حتى بلغت قرية آويت إليها فعجب مني أهلوها وسألوني عن أمري فقصصت عليهم ما كان فزعموا أن الفيل سار بي في هذه الليلة مسيرة أيام واستطرفوا سلامتي فلبثت فيهم أياما حتى صلحت حالي من تلك الشدائد، وتندى بدني وعادت نفسي سيرتها الأولى. ثم خرجت في نفر من التجار إلى بلد على شاطئ البحر فركبته وأقلعت بنا الفلك في يوم طيب. ورزقني الله السلامة إلى أن عدت إلى بلدي وبقيت نفسي مليئة بهذه الذكريات الحزينة. ما عشت فلن أنسى أولئك الرفاق البررة الذين طالما طوفت معهم في الآفاق حتى ألقوا عصا التسيار. وأطبقوا جفونهم إلى الأبد على الشاطئ المجهول.
أحمد شاهين
13 - 11 - 1950