لستُ أعرفُ الأسباب التي دفعتني إلى عدم الاطلاع على سيرة أحمد أمين الموسومة "حياتي"، ولا يجوز تلفيق أيّ سبب لذلك ما خلا الاهمال الذي حال دون ذلك مدة خمسين سنة تقريبا، مع أنها دائمة الذكر في كثير مما عرض لي؛ فقد بلغني أمرها في وقت مبكر تزامن مع ذكر سيرة طه حسين. وإذ تعلّقتُ ب"الأيام"، فقد جافيتُ "حياتي" مجافاة لا تليق بها، ولا تليق بي. وإذْ عكفتُ على كتب السيرة الذاتية، العربية والأجنبية، وأتيتُ على ما أحسبُ أنه أهمها، ثم خصصتها بجزء كامل في "موسوعة السرد العربي"، فلم أتجاسر على الاقتراب إلى سيرة أحمد أمين، لا خشيةً منها، بل من الجهل بأمرها. والحال، فما كنتُ على دراية بها، ولا بالسياق الذي كُتبتْ فيه، وربما تكون "الأيام" قد أخملتْ ذكرها، وصرفتْ الاهتمام عنها، أرجّح ذلك؛ لأن اهتمامي انصبّ على "الأيام"، ثم عليها انصبّ اهتمام غيري، حتى صرفتنا عن سواها، فحيثما أريد ضرب المثل بشيء عن السيرة الذاتية العربية ورد ذكر "الأيام"، فكان أن ارتفع حاجز حجب النظر إلى غيرها. ذلك أمر ينبغي الإقرار به، وتحمّل مسؤوليته، ومع ذلك، فلا يشفعُ لي الانصراف عنها، في وقت أكدتُ فيه على أنني أعدّ السيرة الذاتية من أهم الأنواع السردية في الآداب العالمية، وأنا شغوف بكلّ ما له علاقة بها.
كيف تأتّى لي الانتباه لذلك الخطأ، ومحاولة تداركه الأمر قبل انقضاء الأجل؟ حدث بالصورة الأتية على وجه التقريب: إبان زيارتي كركوك في ربيع عام ٢٠٢٤ كنت أقضي صباحاتي في مكتبتي، آلاف الكتب المتكدّسة في أرفف ممتلئة عن آخرها في انتظار أن أفرغ لتنظيمها، وما برحتْ تنتظر، وما برحتْ الظروف غير مؤاتية لذلك، وكدأب معظم القراء كنتُ أسلخ ساعة أو أكثر كلّ يوم في معاينة الكتب التي انتهت إليّ من موارد كثيرة. ولا أخفي سرّا إن قلتُ إنه بعد إحراق مكتبتي إبان أعمال الإرهاب، والحرب شبه الأهلية في العراق، أصبتُ بنوع من "الفوبيا" تجاه المكتبة الورقية؛ ففي غمضة عين توارت كنوز مكتبة داومت على رعايتها لأربعين سنة. كان نوعا من الرُهاب المتولّد عن خيبة أمل، بكلّ ما للخيبة من معنى؛ فإحراق مكتبتي ساوى عندي، بل فاق، إحراق كلّ الممتلكات الأخرى، وهي بمئات الملايين، وحتى أكثر من ذلك، وكان أن لذتُ بالكتب الرقمية، واستقامت لديّ آلافٌ منها. غير أنّ الحنين للورقية لم ينطفئ، وشددتُ عزمي، وشرعتُ في بناء مكتبتين، واحدة في منزلي بكركوك، والأخرى في بيتي باسطنبول. هل ينفع ذلك قبل فوات الأوان؟
لا أحسبني مغاليا في هوس تصفّح الكتاب قبل الإقدام على قراءته، وفي واحدة من تلك الحالات، شخص لي كتاب "حياتي" لأحمد أمين، كأنه يقول لي: ها أنذا، فأين أنت؟ لماذا نأيتَ عنّي طويلا؟ ولفوري شرعت فيه، ولم أنفكّ عنه إلا بالفراغ منه بعد أيام قليلة. وأنا في دهشة مما اطلعتُ عليه بعد طوال إغفال: إنْ كان كتاب عربي للسيرة الذاتية قد توفّر على أعرافها شبه الكاملة، في النصف الأول من القرن العشرين، فهو كتاب "حياتي" لأحمد أمين، وليس سواه. سيرة استقصائية استوعبت النموّ الشخصي والثقافي لرجل كان له دور عظيم الشأن في مصر. سيرة كتبت بلغة رفيعة، وثريّة الدلالة، وقدّمت شهادة بليغة عن أحوال المجتمع المصري في العهد الملكي حيث كان للثقافة معنى أعمق بكثير مما حدث بعد ذلك. كشفتْ تلك السيرة عن رجلّ حييّ شقّ طريقه الثقافي بعزم، وإنْ بقي محافظا على تقاليده الإجتماعية والدينية. وأحسبُ أن شهادته على عصره كانت من بين أعمق الشهادات الذاتية، وأكثرها إحاطة بزمنها.
قال أحمد أمين في توطئة السيرة "لم أتهيّب شيئًا من تأليف ما تهيبتُ من إخراج هذا الكتاب، فإنّ كلّ ما أخرجته كان غيرى المعروض وأنا العارض، أو غيرى الموصوف وأنا الواصف، وأمّا هذا الكتاب، فأنا العارض والمعروض، والواصف والموصوف، والعين لا ترى نفسها إلا بمرآة، والشىء إذا زاد قربه صعبت رؤيته، والنفس لا ترى شخصها إلا من قول عدوٍّ أو صديق، أو بمحاولة للتجرّد تم توزيعها على شخصيتين: ناظرة ومنظورة، وحاكمة ومحكومة، وما أشقّ ذلك وأضناه. ومع هذا فكيف يكون الإنصاف؟ إنّ النفسَ إمّا أن تغلو فى تقدير ذاتها؛ فتنسب إليها ما ليس لها، أو تبالغ فى تقدير ما صدر عنها، أو تبرر ما ساء من تصرفها، وإمّا أن تغمطها حقّها، ويحملها حبُّ العدالة على تهوين شأنها فتسلبها ما لها، أو تقلّل من قيمة أعمالها، أو تنظر بمنظار أسود لكلّ ما يأتى منها، أمّا أنْ تقفَ من نفسها موقف القاضى العادل، والحكم النزيه، فمطلبٌ عزّ حتى على الفلاسفة والحكماء". في توطئة الكتاب تكمن ما أحسبُ أنها الأعراف شبه الكاملة لكتابة السيرة الذاتية.
كيف تأتّى لي الانتباه لذلك الخطأ، ومحاولة تداركه الأمر قبل انقضاء الأجل؟ حدث بالصورة الأتية على وجه التقريب: إبان زيارتي كركوك في ربيع عام ٢٠٢٤ كنت أقضي صباحاتي في مكتبتي، آلاف الكتب المتكدّسة في أرفف ممتلئة عن آخرها في انتظار أن أفرغ لتنظيمها، وما برحتْ تنتظر، وما برحتْ الظروف غير مؤاتية لذلك، وكدأب معظم القراء كنتُ أسلخ ساعة أو أكثر كلّ يوم في معاينة الكتب التي انتهت إليّ من موارد كثيرة. ولا أخفي سرّا إن قلتُ إنه بعد إحراق مكتبتي إبان أعمال الإرهاب، والحرب شبه الأهلية في العراق، أصبتُ بنوع من "الفوبيا" تجاه المكتبة الورقية؛ ففي غمضة عين توارت كنوز مكتبة داومت على رعايتها لأربعين سنة. كان نوعا من الرُهاب المتولّد عن خيبة أمل، بكلّ ما للخيبة من معنى؛ فإحراق مكتبتي ساوى عندي، بل فاق، إحراق كلّ الممتلكات الأخرى، وهي بمئات الملايين، وحتى أكثر من ذلك، وكان أن لذتُ بالكتب الرقمية، واستقامت لديّ آلافٌ منها. غير أنّ الحنين للورقية لم ينطفئ، وشددتُ عزمي، وشرعتُ في بناء مكتبتين، واحدة في منزلي بكركوك، والأخرى في بيتي باسطنبول. هل ينفع ذلك قبل فوات الأوان؟
لا أحسبني مغاليا في هوس تصفّح الكتاب قبل الإقدام على قراءته، وفي واحدة من تلك الحالات، شخص لي كتاب "حياتي" لأحمد أمين، كأنه يقول لي: ها أنذا، فأين أنت؟ لماذا نأيتَ عنّي طويلا؟ ولفوري شرعت فيه، ولم أنفكّ عنه إلا بالفراغ منه بعد أيام قليلة. وأنا في دهشة مما اطلعتُ عليه بعد طوال إغفال: إنْ كان كتاب عربي للسيرة الذاتية قد توفّر على أعرافها شبه الكاملة، في النصف الأول من القرن العشرين، فهو كتاب "حياتي" لأحمد أمين، وليس سواه. سيرة استقصائية استوعبت النموّ الشخصي والثقافي لرجل كان له دور عظيم الشأن في مصر. سيرة كتبت بلغة رفيعة، وثريّة الدلالة، وقدّمت شهادة بليغة عن أحوال المجتمع المصري في العهد الملكي حيث كان للثقافة معنى أعمق بكثير مما حدث بعد ذلك. كشفتْ تلك السيرة عن رجلّ حييّ شقّ طريقه الثقافي بعزم، وإنْ بقي محافظا على تقاليده الإجتماعية والدينية. وأحسبُ أن شهادته على عصره كانت من بين أعمق الشهادات الذاتية، وأكثرها إحاطة بزمنها.
قال أحمد أمين في توطئة السيرة "لم أتهيّب شيئًا من تأليف ما تهيبتُ من إخراج هذا الكتاب، فإنّ كلّ ما أخرجته كان غيرى المعروض وأنا العارض، أو غيرى الموصوف وأنا الواصف، وأمّا هذا الكتاب، فأنا العارض والمعروض، والواصف والموصوف، والعين لا ترى نفسها إلا بمرآة، والشىء إذا زاد قربه صعبت رؤيته، والنفس لا ترى شخصها إلا من قول عدوٍّ أو صديق، أو بمحاولة للتجرّد تم توزيعها على شخصيتين: ناظرة ومنظورة، وحاكمة ومحكومة، وما أشقّ ذلك وأضناه. ومع هذا فكيف يكون الإنصاف؟ إنّ النفسَ إمّا أن تغلو فى تقدير ذاتها؛ فتنسب إليها ما ليس لها، أو تبالغ فى تقدير ما صدر عنها، أو تبرر ما ساء من تصرفها، وإمّا أن تغمطها حقّها، ويحملها حبُّ العدالة على تهوين شأنها فتسلبها ما لها، أو تقلّل من قيمة أعمالها، أو تنظر بمنظار أسود لكلّ ما يأتى منها، أمّا أنْ تقفَ من نفسها موقف القاضى العادل، والحكم النزيه، فمطلبٌ عزّ حتى على الفلاسفة والحكماء". في توطئة الكتاب تكمن ما أحسبُ أنها الأعراف شبه الكاملة لكتابة السيرة الذاتية.