عبدالرحيم التدلاوي - قراءة في أضمومة "كسكس الجمعة" للمبدع محمد إدارغة

يعد محمد إدارغة من الكتاب القلائل الذين جمعوا، بشكل متوازن، بين المبدع و الناقد، في ترنيمة واحدة غير ذات نشاز.
إنه قاص يمارس غواية النقد، يكتب لإبهاج قرائه، و ينتقد لإسعاد المبدعين؛ و بإصداره لأضمومته " كسكس الجمعة" ، يقع تحت أنظار النقاد ، ليتحول من ناقد إلى منقود.
صاحب هذه المجموعة، محمد إدارغة، كاتب وفي لهاجس الكتابة، مفتون بغوايتها و مباهجها، له عطاءات كثيرة و متنوعة في مجالي الإبداع و النقد.
عطاء إبداعي و نقدي جزيل، يشف عن تجذر هاجس الكتابة و الإبداع لديه، و إخلاصه له، و يشكل إبداعه القصصي بؤرة هذا العطاء. و قد وجد في الكتابة القصصية ضالته و مبتغاه، أي وجد فيه ذاته و أناه.
إنه يقرأ القصة القصيرة كنص، كما يقرأها كتاريخ. فهو ملم بالقصة المحلية و العربية و العالمية، بتدبر و تأمل و بحث من أجل الإضافة و التطوير و الابتكار الباني و المؤسس، حتى تتبوأ مكانتها اللائقة بها.
كما أن القصة لديه ليست لعبا لغويا مفرغا من الدلالة، و غير ذات ارتباط بالقضايا المجتمعية، فبالعكس، القصة القصيرة لديه ذات وظيفة جمالية و فنية لا مراء فيها، فهي نافذته على الواقع المعاصر، و على الإنسان الذي يعيش فيه.
نرى الناقد فيه، نقصد، في هاته المجموعة، يتوارى خلف السطور و يصير مرصد مراقبة ، يضبط حركات و سكنات الكتابة؛ أي صار الناقد الذي ينتقد و يقرأ ذاته، من بعد أن كان ينتقد و يقرأ غيره.
و لعل هذا ما يفسر لنا اهتمامه اللافت بطقوس الكتابة و صنعتها. إن كيفية القص عنده تضاهي في الأهمية مادة القص و حمولته.
إن الوعي القصصي الجمالي راجح على الوعي الايديولوجي_التاريخي الذي يتوارى خلف الوعي الأول، و يبقى ، في كثير من الأحيان ، مستترا و ثاويا بين ثنايا القص و حناياه، دون أن يضمحل. إنه حاضر يعلن عن نفسه ، في الوقت الذي يعلن عن الكتابة.
لقد قام الكاتب باقتناص موضوعاته من الواقع، بمختلف تفرعاته و تلويناته، و ما يتضمنه نت تناقضات، دون أن يعكس هذا الواقع في نصوصه، كما تنعكس الصورة على المرآة، و إنما قام بتركيب عناصر من الواقع بأسلوبه الخاص ليفصح عما يعتمل في داخله من أحلام و طموحات، و ليعبر عن وجهة نظره فيما يدور حوله نت أحداث، و ليبرز مواقفه منها.
و أثناء عملية التركيب هاته، يتدخل الخيال ، فيتيح للكاتب مساحة واسعة من الحرية ، تسعفه في ايصال آرائه و وجهات نظره إلى المتلقي وفق ما يؤمن به هذا الكاتب من أفكار ، و ما يدافع عنه من مواقف.
إن السردية ، في الأضمومة، تحلق بجناحي التخييل ، بمنتهى الحرية فوق كل الحدود و الارغامات، لتطشف عن الخرائط المجهولة في الوجود الذي يعجز الخطاب العقلي عن ترسيمها أو وصفها.
و المتتبع للنصوص سيجد أن الكاتب قد اعتمد في بناء موضوعاته على ثلاثة منابع أساسية :
_منبع الواقع ، و يحضر ،أساسا ، في النصوص التالية :
الحفرة، ص 103
التعميم اتجاه ممنوع، ص 65
حكاية عليوات مع الطبلاوي أفندي، ص 49.
_منبع الثقافة الشعبية، و من الأمثلة الدالة على ذلك :
بركات التينة المحروسة، ص 83.
_المنبع الداخلي، و نقصد بذلك النصوص المعتمدة على آلية التوالد السردي التي تفضي إلى توليد نصوص قصصية ذاتية.
و من الواضح أن الكتابة السردية تمتلك من الحرية ما يجعلها تتحرك في كل الاتجاهات ، و تتعمد تنويع المراجع، كما تعتمد على ذاتها في بناء نصوصها؛ أي أن رحمها قادر على إنجاب نصوص قصصية كثيرة. و لعل أبرز مثال دال على ذلك :
درس في الأدب، ص 57.
و بناء عليه، فإن القاص يمتلك كامل الحرية في أن يختار الطريقة التي تناسبه ، و الأسلوب الذي يرغب فيه، في كتابة نصوصه، و في كل الأحوال، لا يمكن الانفصال، مطلقا، عن البعد التخيلي كآلية أساسية في بناء القص.
و من الملاحظ أن الكاتب و هو يعالج الكثير من أعطاب الواقع، قد اعتمد على أسلوب السخرية كوسيلة فنية و بلاغية لنقد هذا الواقع المتردي، و لتحقيق التوازن لذاته المتذمرة، نقد توازنه المفقود بين ذاته المحترقة و واقعه المثخن بالجراح؛ إنها سخرية تروم ، كذلك، فضح ما يمارس من إقصاء و تهميش و استغلال على أناس بسطاء لا ذنب لهم سوى أنهم الطبقة الفقيرة التي تصارع بكد يمينها ، و عرق جبينها، من أجل كسب لقمة عيش كريمة.
ففي قصة" حكاية عليوات مع الطبلاوي أفندي"، تحضر السخرية كإحدى الآليات الفاضحة لممارسة الاستغلال البشع الذي مس الجانبين، المادي و المعنوي، للمستغل. فالطبلاوي ، و ينبغي التنبه للصفة، لم يكتف بممارسة طغيانه المادي على خديمه عليوات، باستنزاف طاقة جسده حتى آخر قطرة فيه، بل امتد طغيانه ليطال المستوى المعنوي، و يتمثل ذلك من خلال تشويه اسمه، إذ حوله من "علي"، كاسم شخصي دال على السمو و الرفعة ، إلى "عليوات" كنوع من التقزيم من جهة، و طريقة إخضاع، من جهة ثانية.
لقد اندهش السارد من جمع علي على عليوات، و هو الذي لا يعرف لهذا الجمع إلا : "عليون رفعا و عليين نصبا أو جرا" ص 50.
وقد قان ابن الرجل المهجن الاسم بتقديم تفسير يزيل اندهاش السارد، و يقنعه يمنحى الجمع الجديد، حيث يقول، على لسان السارد : " أصر على هذه الصيغة رغم تسليمه بأن المرحوم إياه المدعو بالاسم المذكور قبل قليل قد رفعه الطبلاوي إلى أعلى ، لا امتنانا و اعترافا بخدماته، و إنما ليقذف به أغوار الهلاك. فيدق جسمه و يتجرع أنفاسه في اتجاه دار البقاء . و أن الطبلاوي نصيه، بتشديد الصاد، عبدا رقيقا بنصب أو تعب ، و يقطف هو السيد ثمار جهاده الدؤوب.." ص 50.
إن المقتطف السابق يبين بجلاء أن الهدف من الجمع الذي طال اسم "علي"، لم يكن إلا بهدف تدجينه و من ثم احتوائه بغاية تسخيره لصالحه، و الاستفادة منه حتى آخر قطرة من حياته.
فالتشويه المعنوي هو تمهيد مهم لنشويه مادي ، إنه يفرش الأرض و يسويها لاستنزاف المشوه حتى النهاية.
و بمتابعة قراءة النص، سيتبين لنا بجلاء، أن هذا المسلك هو ديدن الطبلاوي ، الرجل الجشع، و البرجوازي المنتفخ، فهو يقوم باستغلال الناس ثم يقوم برمي بهم إلى مهاوي الهلاك، دون ندم و أو وازع نقد..فقد سلك النهج مع جميع الذين اشتغلوا عنده، و كانت الوصفة ناجحة لحد الساعة..
و بفعل واقع مترد، لا يجد السارد من وسيلة سوى السخرية لتعديل الكفة و تحقيق التوازن. و لذا، تحضر_أنقصد السخرية_ في مختلف نصوص المجموعة، و تبسط سلطانها على كل أرضها، فنراها حاضرة بقوة بين ثنايا النصوص جميعها..
و قبل أن نقدم بعض الأمثلة الدالة على ما سقناه آنفا، نود أن نشير إلى صورة كاريكاتورية ساخرة رسمها أحد الأطفال لشخصية "الطبلاوي" بوصفه أحد أعيان المدينة و ركائزها، في قوله : " و هبته بسطة في الجسم و المال"، ص 54. و هي صورة ساخرة حتى النخاع، انطلاقا من كونها تنزاح سلبا عن صورة "طالوت"، كما وردت في القرآن الكريم، الرجل المحارب للظلم و المناهض للعسف، إلى صورة نقيضة يجسدها "الطبلاوي"، كرجل لا تهمه سوى مصلحته، و لا يقيم اعتبارا للإنسان و مشاعره..
فالرجلان يشتركان في بسطة الجسم و يختلافان في كون طالوت ليس غنيا ماديا بل غني علما، بخلاف الطبلاوي ، الغني مالا و الأجوف علما..و من هنا جاءت الكنية، للتعبير عن فجاجة الرجل و فراغه، رغم كل ماله المكتسب بعرق جبين الآخرين..
قلنا إن السخرية تطال مجمل نصوص الأضمومة ، و تعد ميسمها الأبرز، و من الأمثلة الدالة على ذلك، قصة " قرار مهاجر"ص 21، حيث يرد هذا الشاهد المعبر : "..و دعاه في حاتمة المطاف إلى التوقيع على أقواله، و على التزام يتعهد فيه بألا يكلم أحمد ثانية في أمر التدخين، بل عليه أن يزوده كل صباح بمبلغ يمكنه من اقتناء علبة سجائره المفضلة" ص 24.
إن الالتزام يسير على النقيض مما يريده الأب، بل إنه يدمر سلطته، و يجعله أعزل من كل سلاح يمكنه من فرض إرادته على ابنه، و الإبقاء عليه تابعا غير متمرد. ما وقع عليه، يعد إقرارا بحرية الابن، من جهة، و إذعان له، من جهة ثانية.
و القصة أبانت على أن الأب، العامل المهاجر الذي اضطرته ظروفه إلى الهجرة، كان يبغي إبقاء أبنائه تحت جناحيه، و أن يجعلهم جميعا ينضبطون لأعراف و تقاليد بلدهم الأم ، لأن، في ذلك، بحسب ظنه، الوسيلة الأنجع لحمايتهم من التغريب و التبعية،هو من سيخضع لسلطة الدركي ، القوة القاهرة التي ستنتزع منه سلطته بشكل صاعق، و تدفع بالابن إلى الخروج عن طوع أبيه، و أكثر من ذلك، التمرد على الأعراف و التقاليد كلها، و هو ما سيعتبره الأب زلزالا لابد من البحث له عن حل قبل أن يقتلع جذور الانتماء.
لم يبق أمام المهاجر ، الرجل المهزوم، سوى حل واحد، يعتبره مخرجا من المأزق الذي وقع فيه، و من الورطة التي سقط فيها و المهددة لبنيان ثقافي عريق، الا و هو العودة إلى البلد الأم، لا للاستقرار فيه نهائيا، بل للتخلص من ابنه العاق، بتركه في الدوار ليتربى من جديد على القيم الأصيلة، و ينبذ القيم الدخيلة المهددة لمعمار الأسرة و القبيلة معا..
كما تحضر السخرية في الصفحات التالية: 11، 13، 14، 16، و 42،و غيرها من الصفحات، و تبلغ ذروتها في نص " الحفرة"، مما يؤكد على أنها إحدى آليات تعرية الواقع و الشخصيات، فالسارد يتغلغل عميقا في قراءة الواقع، و يعيد صياغته بشكل فني و جمالي بغية إبراز عيوبه و نتوءاته، و جعلها بارزة أمام أنظار المتلقي للضحك منها و من المسؤولين غير الأكفاء الذين سعوا إلى إخفاء العيوب بقشرة من تفاهاتهم ، و بكثير من البهرجة السطحية المخفية للصويتهم المتمثلة في نهبهم الممنهج لخيرات البلاد و العباد..
إن السخرية " تعبر عن الجوانب المختلة و المريضة في المجتمع، حيث يجتهد الأديب في رصد هذه الاختلالات و هذه الأمراض الاجتماعية بأسلوب ساخر. إنها كتابة توهم القارئ بصدق ما يقوله، لكنه في الحقيقة يهدف إلى إحداث رجة و خلخلة في نفسية القارئ، عن طريق الصدمة التي يحدثها العمل القصصي في نفسية المتلقي، و يدفعه، عبر خيوط هذا العمل و طريقة تطريز جمله القصصية و شخصياته المتقلبة بتقلب الأحداث للدخول في لعبة القص، لكي يصبح متورطا في تحديد الرؤية إلى العالم، و مشاركته بشكل مباشر في إعطاء الحلول الممكنة لعلاج هذا المرض و هذا الخلل في المجتمع . إنها كتابة تشتغل على عدة أصعدة، كتابة تترك الفراغ و البياض لتفسح المجال لمتخيل القارئ لملء هذا الفراغ."_1_
إنها تسعى إلى حث القارئ على اتخاذ مسافة من المقروء، تمكنه من إدراك أسباب اختلال الواقع، و العناصر التي تقف وراء هذا الاختلال ، لغرض اتخاذ موقف منه..
مميزات بعض شخصيات الأضمومة :
العديد من شخصيات الأضمومة تعيش تحت عتبة الفقر ، تعاني لهيبه، و تكافح من أجل تغيير أوضاعها البئيسة، و شخصيات كهاته لا يمكن أن تتجمع إلا في فضاءات بئيسة و كئيبة.
كما يحضر الأسلوب ذلته في نص " نجوم الليل" ص 63، فمن خلال النوم الذي راود الرجل بعد لأي، ندرك مدى المتاعب التي يعاني منها ، متاعب أبعدت النوم عن عينيه و صيرته مطلبا بعيد المنال..
الحلم الذي راوده كان ممتعا لكن الزوجة، و هي المعادل الموضوعي للواقع، ستقوم بإنهاضه من نومه بعنف، و إنهاء المتعة التي شعر بها للحظات: " توقظك مع مشرق الشمس صيحات الزوجة و هي تصرخ في الصغيرين، الأول يتلمس فطورا على عجل، و الرضيعة لا ينقطع بكاؤها. تطلب منك أن تنهض لترعاهما في انتظار غسل الركام الهائل من الملابس الوسخة، و أنت بعد في ظلال النشوة الحالمة تطمئنها أن الخلاص قد أتى، و عشية ستحمل إليها آلة تكفيها شر الغسيل.." ص 65.
نستشف من هذا الشاهد حضور المفارقة الصارخة بين واقع يؤثثه الفقر و العوز و الألم و حلم ينساب رائقا يدخل على النفس الراحة المفقودة، و لعل تشبث الرجل بحلمه رغم استيقاظه دليل على رفضه لواقعه المحبط، ذلك أنه سعى إلى التشبث بتلابيب ما راوده من أحلام و محاولته تصريفها في واقعه كنوع من التجاوز..و هنا تنبثق السخرية من الشخصية الحالمة و من أوهامها ، و السخرية من واقع مزر يشد بخناق الشخصيات و يدفعها إلى البحث عن سبل الخروج من مآزقها بحلول سرابية..
و لابد من الانتباه إلى أمر مهم يرتبط بالكتابة لدى محمد إدارغة، فالمبدع يوظف معجما موحيا و دالا له ارتباط بموضوع النص، و نقف هنا عند لفظة، ترعاهما، إذ بالاضافة إلى الرعاية ذات الارتباط بالاهتمام و الحماية، فإنها تشير إلى الرعي، أي البحث عن الكلأ، و كأن اللفظة تبغي الإشارة إلى أن القوت، و هو من الأوليات التي ينبغي أن يتوفر عليه الإنسان، لا يستطيع الرجل تحقيقة، مما يهدد مكانته، و يشعره بالإحباط..
و نهاية هذا النص تعد عنوان نص آخر يتقاطه و إياه في تيمة المعاناة، إنه نص " أضغاث أحلام"ص 38، حيث نشعر منذ سطره الأول بتذمر الشخصية الأساس من وضعها الحالي المتميز بالبؤس : " طرح بالفاس متذمرا حانقا."ص 38، و ما كان تذمره إلا لكون حياته يطبعها البؤس و العوز و انسداد الأفق، و يزداد البؤس حدة حين يمس المسكن و المأكل :" أتى كوخا قصبيا برسيميا صغيرا أعد أصلا للطبخ و الاغتسال الفضلي و أشياء أهرى . صب لشهيته المعتلة جرعات بقايا شاي أسود، قضم مضغتين من كسرة خبز متيبس ، أفرغ في جوفه حمولة ماء من القطع الكبير." ص 38و39.
و مفردات الشاهد تشير بشكل ساخر إلى وضعية الشاب الصعبة، فطعامه بئيس،و طريقة تناوله الطعام صورت بشكل كاريكاتوري..
و لا يكتفي السارد بوصف معالم فقر الشاب، بل يذهب إلى أبعد من ذلك، حيث يرسم وضعية أسرته المزرية، و يشير إلى عمل أبيه المتميز بالبساطة، و رغم ذلك فإنه يكافح من أجل تحصيل القوت بعرق الجبين، فالأب يعتمد على دفع عربته المحملة بحبات التين الشوكي بحثا عن زبائن محتملين يقتنون منه سلعته ..
هذا الوضع المزري كاد يعصف بتوازن الشاب، و يحمله على الانتحار، غير أنه تدارك الأمر لحظة الحسم، و أزاح عن ذهنه هذا الحل الهروبي و السلبي. فبدل وضع حد لحياته الضاجة بالعبث و اللاجدوى، نتيجة فشله في الحصول على عمل مناسب لشهادته العليا، سيضطر ، تحت إحساسه بالمهانة لكون أبيه هو من يصرف عليه حتى اللحطة الراهنة، إلى القيام بحمل الفأس و تصييره وسلة مخاطبة الأرض عساها تجود عليه بكرمها..فيستقل بنفسه و يدفع ن أسرته غائلة الفقر..و يساعد أباه الكهل في تدبير أمور الأسرة.
و موضوعة الشواهد في ارتباطها بالعطالة ستعاود طهورها في نصوص أخرى، و من أبرزها، نص " شهادة زبون معتوه" ص 75، حيث يخبرنا السارد ، و هو ليس معتوها بالمرة، عن أحد زبائن المقهى التي يرتادها، ألا وهو " إسماعيلوف"، الحاصل على شهادة الباك، و رغم ذلك، يعيش حالة من العطالة و الإفلاس، يقول عنه : " هو فتى يكون قد تجاوز العقد الثاني من عمره بقليل، عاطل أو معطل ، لست أدري، بلغني منه في لحظة استثنائية أنه بعد اختراقه لجدار " الباك" و عزوفه عن متابعة دراسته العليا بمدرجات الكلية، التحق بمدرسة خاصة لها فروع عديدة في مدن الوطن فأحرز منها ديبلوما لم ينقذه بعد من متاهة عطالته المسترسلة " ص 80.
فالشهادة، أيا كان نوعها، في بلدنا الحبيبن بناء على هذا النص، كما على سابقيه، تساوي العطالة، و من ثم الضياع. إذ لم تعد وسيلة ترق اجتماعي ، أو طريقا آمنا يحمي من وحش الفقر المفترس، إنها، على العكس من ذلك كله، مرحلة يقضيها الإنسان لبلوغها دون أن تفضي به إلى النجاة..
و نلاحظ أن السارد بقي حاملا لمشعل السخرية حتى أثناء حديثه على الواقع البئيس، بل بسببه، فمفردات : "اختراق"و " جدار"، فضلا عن دلالتي الصعوبة و المناعة، تحمل في طياتها تهكما على وضع تعليمي يدعو إلى الرثاء، فهو منظومة قائمة على وضع الحواجز في وجه عموم أبناء الشعب، بهدف إقصائهم، و إذا ما تمكن أحدهم من اختراق الحدود، ووجه بالعطالة..ففعل الاختراق معناه أن الفاعل قد أتى جرما فظيعا يستوجب عليه العقاب..و معناه أيضا التطاول على حقوق الغير و اعتداء عليها..
كما أن الشاهد يحمل في طياته نقدا لاذعا للتعليم المهني، و إظهار سوءته، و أنه لم يكن إلا رهانا لإبعاد أبناء الشعب من متابعة دراساتهم الجامعية لاعتبارات طبقية و أمنية..فالسارد، و من ورائه الكاتب، يتعمد فضح شعارات الدولة الجوفاء بإبراز خوائها ، فهي شعارات خادعة لا تنتج سوى السراب..
و هكذا نجد التعليمين معا، العام و المهني، لا يقودان إلا إلى العطالة و التعطل، و الثانية أكثر تعبيرا و عمقا.
إنهما يقتلان الأمل في النفوس.
فضاءات النصوص :
إن ما يميز هاته الفضاءات كونها مهمشة إلى أبعد الحدود، فهي فضاءات تؤثثها الأزبال و فضلات الدواب و جميع أنواع الحشرات الضارة ، و تفوح منها الروائح التي تزكم الأنوف و تخنق الأنفاس ، لا يسكنها إلا المقصيون بمختلف درجاتهم.
و أبرز مثال جامع و مانع لما قلناه آنفا، هو نص " الحفرة" ص 103.
إن شخصيات هاته الفضاءات ما هي إلا رموز للطبقة المسحوقة التي تتشرب يوميا الفقر و تتجرع القهر و الحرمان" عليوات مثال صارخ"، و رغم ذلك فإنها لا تستسلم، لكونها تستمد أملها من بؤسها لتواصل العيش، حتى و إن كان هذا العيش حقيرا " شاب نص " أضغاث أحلام " نوذجا".
فضاء المقهى :
نشير ، و بشكل سريع، إلى عنصر مهم ذي ارتباط بموضوعات النص، إنه فضاء المقهى، لا كمكان يستوعب الأحداث، و يحفل بالصراع، و لكن كمنصة ينظلق منها القاص لالتقاط موضوعاته و اقتناص المناسب منها.
فمن خلال متابعة العديد من النصوص، وجدنا أن هذا المكان يحتل مكانة مميزة ضمن قائمة باقي الفضاءات التي يطل منها القاص على الواقع قصد صوغ نصوصه.
فالقاص يتخذ المقهى مكانا لرؤية الخارج و ما يحفل به من تناقضات، و في الوقت نفسه، يلقي بنظره إلى الداخل الحافل بالتناقضات ذاتها. و الداخل نوعان، داخل المقهى و داخل نفس المبدع.
مما يعني أن المقهى خارجيا و داخليا مكان يسمح للقاص بتشكيل نصوصه، يستمد منه موضوعاته التي يحتاجها و القادرة على حمل همومه و تبليغ رسالته.
التيمات المعالجة :
تناولت المجموعة بالمعالجة العديد من الموضوعات، منها : الهجرة بنوعيها الداخلي و الخارجي، و المسلكيات الزائفة، و ألوان من الخرافة ذات الارتباط بأضرحة لأويلياء مفلسين أو مزيفين، تتغيا جهات ما إلى استغلالها لإدامة وضع سمته الأساس غياب العدالة الاجتماعية، و يغطي على فداحة استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، و إقناع الطبقات المستغلة أنه أمر طبعي ، لا يمكن إلا القبول به..
كما تناولت بالمعالجة مسألة الذكريات البعيدة و أثرها في الإنسان، بالإضافة إلى قضايا اجتماعية أخرى مختلفة، سبقت الإشارة إليها ..كل ذلك بأسلوب ساخر يهدف إلى تجاوز تعاسة اللحظة الراهنة..و قد كان السارد فيها كلها متابعا لهذا " السيرك الكبير" بتعبير ، عبدالرحيم مؤذن، في معرض قراءته للأضمومة..
حيث الشخصيات فيه لا تتوقف عن الضحك بما يشبه البكاء..و المثل يقول : كثرة الهم تضحك.
في خرافة القرية :
يشتغل متخيل القرية في نصين أساسين، هما : " الحريق" ص 26، و " بركات التينة المحروسة" ص 83، و هما معا يقرباننا من القرية بوصفها فضاء روحيا و صوفيا اعتصم به السارد مما مكنه من خلق نمط خاص من ألوان العيش و الحركة، و من التعرف على البنية الفكرية لقاطني هذا الفضاء.
ففي النص الأول، تلتهم النار سقف الضريح البرسيمي بعيد الغروب، و هو حدث كان بإمكانه أن يغير : " الكثير من المعتقدات السائدة، بل قد يهز مسلمات بعض النفوس، و هي ثغرة قد يستغلها الأبناء فيضحكون من الآباء، و الزوار قد لا يعودون في الموسم القادم.." ص 29.
لذا، فإن الإسراع بالالتفاف على الجدث المعري، و محاصرة انعكاساته السلبية على مصلحة السلطات و أصحاب النفوذ و المتنفعين، يعد أولوية قصوى، ينبغي إنجازها بأقصى سرعة.
انطلاقا من هاته الأهداف، سارعت السلطلت إلى البحث عن الجاني و في الوقت نفسه محاصرة النار و ترميم الجزء المحروق بدون إشعار الزوار و الحجاج بما يجري و يدور : " انعقد احتماع نصغر ضم الشيوخ و المقدمين و أسفر عن ضرورة إعادة بناء السقف قبل أن يصبح الصبح(...)، و لما أشرق صباح اليوم التالي كان الضريح قد استعاد هيئته الأولى." ص 30.
واضح أن الهدف من سرعة إعادة ترميم سقف الضريح كان بغاية إدامة الخرافة و جعلها سارية المفعول بين الناس لأن للسلطات مصلحة في ذلك، و تتباطأ حين يكون الأمر لا يمس هيبتها أو مصالحها، كما في نص "الحفرة" فقد ظلت الجهات المسؤولة غاضة الطرف عن إصلاح الطريق، و أبقت الحفرة مستمرة الحضور تمتلئ بكل المضار كنوع من العقاب الجماعي للسكان، و تحسيسهم بهوانهم ..
و يسير نص " بركات التينة المحروسة" في الاتجاه نفسه، حيث يتم موظيف الخرافة من طرف الدغوغي لإخفاء أسباب غناه الحقيقية.
و هكذا، نجد القصتين معا تنبشان في المهمش الجغرافي و ما يتصل بعوالمه المدهشة، فيصير الحكي القصصي انتهاكا للواقعي و الاجتماعي و الثقافي ، و إظهار مدى فظاعة تراجع فضاء القرية الإنساني و الثقافي و العقلاني.
كما أن الاحتفاء بالقرية على حساب مركظية المدينة، هو ميل إلى الاحتفاء بالثقافة الشعبية دون إهمال للعالمة، حيث ترى ميلا إلى رسم معالم الطقوس الفرجوية المصاحبة للاحتفال بصاحب الضريح، في مص " الجريق". و بخاصة الفانتازيا ، إذ تعد من توابل الاحتفال، من غير الممكن إغفالها، او تجاوزها، فهي من ثوابت ثقافتنا، و تعبر عن تجذرنا في التاريخ..
و يصير التشفير مضاعفا لأنه يحيل على الهامش الجغرافي و الهامش المعرفي.
صراع الأجيال :
و قد تضمن الحديث عن الخرافة في النصوص السالفة الحديث عن موضوع صراع الأجيال، بين جيل يؤمن بسلطات الأولياء و الصالحين، و حكايات الجن و الغيلان، و جيل شاب نال حظا من التعليم جعله يدمن طرح الأسئلة ، و النبش في أصل الأشياء، و لايقتنع بفكرة أو قضية إلا إذا انسجمت و عقلانيته. و طبعي أن يحدث صراع ، و الحالة هاته، بين الطرفين، و يسعى كل طرف إلى إزاحة أطروحة الطرف الآخر بعد تبيين تهافتها : " عبثا حاول الشيوخ تحويل أنظار الناشئة عن مثل هذه الانشغالات التي يرون فيها مجرد ترهات غير جديرة بالفصل فيها؛ و يصرون بقوة أن يستمر نفس الاعتقاد الموروث عن الأسلاف، و قد بلغ الأمر بالبعض أن هدد بأن تعلن القبيلة براءتها التامة ممن تسول له نفسه المساس بالحرمات المقدسة ." ص 27.
غير أن هذا الحظر و التهديد بالنبذ لم يثن الناشئة من النبش في ذاكرة القبيلة و : " إعادة النظر في العديد من أعرافها و تقاليدها و اعتقاداتها و في مقدمتها هذا الولاء التام لهذا الضريح الذي تتجذر هيمنته باستمرار.." ص 27.
إنه صراع بين إرادتين مختلفتين، و تصورين متعارضين، و رؤيات متباعدة، صراع بين جهة تريد تأبيد الخرافة بشتى الطرق، و تنهج لهذا الغرض سبل التهديد و الوعيد، و بين جهة تسعى إلى تحرير العقول من أثقال تعرق التحرر و تقف في وجه سنة التطور..
و الملاحظ أن السارد يقف إلى جانب الناشئة، و يساند أطروحتها، لكونه يقوم بتعرية المستور، و يفضح المتخفي، وصفا و لغة، و تعد كلمة " عبثا" معبرة عن هذا المنحى و مقوية لدلالته.
كما نجد السارد في نص آخر " شموخ اللون الأسود " ص 17، يعمد إلى وصف هاته الظاهرة و استشرائها بأسلوب ساخر ينم عن موقفه منها، حيث يقوم باستعراض آراء العامة و نمط تفكيرهم و تفسيرهم للظاهرة التي ووجهوا بها مقديمين تفسيرين اثنين لها :
_تفسير يربطها بموسم القحط و الجدب مما يفرض اللجوء إلى النومتجنبا للإنفاق و اعتماد الاقتصاد ، اقتداء بالحلزون رمز الطبيعة الفقيرة.
_تفسير يذهب إلى أن الواقعة من تدبير خارجي ، إذ قد تكون تلك الأجسام الغريبة المرصودة ليلا سببا في هذا الخمول.
و هما تفسيران يعكسان معا وعيا مجتمعيا منحطا لكونه يؤمن بالغيبيات و يجعلها منطلق تفسيره لكل الظواهر ، بعيدا عن كل تفسير منطقي عقلاني يعتمد الموضوعية في إصدار الأحكام و استخلاص النتائج.
و السارد لا يجد غضاضة في الإعلان عن موقف الرفض لمثل هذا التفسير جملة و تفصيلا، لكونه يتميز بالسطحية و الضحالة.معتمدا في رفضه هذا على الأسلوب الساخر باعتباره أقوى سلاح للفضح و التعرية.. فاللجوء إلى النوم يعد مخرجا لعدم الإنفاق ، كما يصبح العياء و كثرة النوم مرتبطين بأسباب غرائبية بعيدة كل البعد عن التفسير العلمي قادر على الإقناع العقلي..و المسلكان معا يتقنان الهروب من المشكل و يعبران عن عجز فاضح في مواجهته.
تيمة الهجرة و المعاناة :
و من الموضوعات المهمة التي أثارتها الأضمومة ، نجد الهجرة و ما يترتب عنها من معاناة.
و هي هجرة ذات بعدين تنتج معاناة مضاعفة.
فهناك، أولا ، الهجرة الداخلية، و تحضر أساسا، في نص، " حكاية عليوات مع الطبلاوي أفندي " ، حيث يبرز السارد كيف تتقلب البرجوازية الطفيلية في أعطاف البذخ و الثراء، و تتمتع بحلاوة العيش و رغده، لاهية بما عندها عن فيرها، مقابل طبقة كادحة تنهض بكل الأعباء ، و لا تحصل سوى على الفتاة، يطبع حياتها شظف العيش، و ضيق الحال..
إن السارد يقف موقف الناقد لهذا النموذج الاحتماعي المتكالب على جمع الأموال ، و الاستمتاع بملذات الحياة على حساب عرق جبين العمال الفقراء.
و هناك، ثانيا، الهجرة الخارجية، و تحضر في نص، " قرار مهاجر"ص 21، حيث، بالإضافة إلى الاستغلال البشع الذي يتعرض له المهاجر بديار الغربة، فهو يعاني من الإهانات الهادفة إلى محو هويته بهدف إلحاقه بهوية أخرى غريبة عنه، بدعوى الاندماج. فمهاجر نصنا، تعرض لصفعة أهدرت كرامته و زلزلت سلطته، و كادت تعصف بها، و ذلك حين سعى إلى تأديب ابنه المارق..وفضلا عن ذلك، يشير النص إلى صعوبة اندماج المهاجرين لكونهم غير قادرين على التخلي عن ثقافتهم ، فهدفهم ليس البقاء بأرض الغربة، بل هي محطة مؤقتة تنتهي بتحقيق الغاية المتمثلة في جمع قدر من المال يؤمن الحياة بأرض الوطن.
و في النصين السالفين، كما في بقية النصوص الأخرى، نجد الكاتب قد أصبح صوت من لا صوت لهم، مدافعا عن قضاياهم، دون أن يعني ذلك رصده للواقع بعين الكاميرا الباردة التي تصف و لا تتفاعل، بل رصده في لحظة تحوله، و هي لحظة متحركة شديدة التحول، و أفضل ناهض بهذا التحرك و مبرز له، نجد الشخصية القصصية المتخيلة.
و هو ما أشار إليه الباحث، مصطفى الشاوي، أثناء حديثه عن صورة القاص، محمد إدارغة، في الحكاية، بقوله : " إن فعالية القوى الفاعلة عند القاص، محمد إدارغة، تكمن أيضا في الخاصية الفنية التي يمنحها لشخصيات القصة حيث يفتح لها المجال لتشارك في الحكي، كما يمنحها المبادرة في صنع الحدث من داخل النص، الشيئ الذي يجعله لا يستأثر بالحكي و لا يستفرد بالمبادرة ." ص 3.*2
و هو ما يجرنا للحديث عن عنصر مهم من عناصر البناء في المجموعة، و نقصد به، الميتاسردي.
الميتاسردي :
تنوعت تقنيات الكتابة في المجموعة، من خلال الارتكاز على التناص، و الميتاسرد، و التضمين الحكائي..، مما جعلها كتابة تقدم نماذج مختلفة، و طروحات مغايرة.
فالكاتب لم يكتف بالتشخيص الواقعي و الاجتماعي و السياسي فحسب، بل قدم قصصا تندرج ضمن الميتاسردي أو الميتاحكائي، او ضمن ما يسمى بالقصة و هي تفكر في ذاتها، أو القصة داخل القصة.
و تعد من أهم مميزات القصة المغربية الحديثة، و مظهرا من مظاهر التجريب و التجديد و التميز الفني و الجمالي.
فعن طريق " الميتاسردي" يتم رصد عوالم الكتابة الحقيقية و الافتراضية و التخييلية، و استعراض طرائق الكتابة و تشكيل عوالم متخيل السرد، و تأكيد صعوبات الحرفة السردية، و رصد انشغالات المؤلفين السراد، و تبيان هواجسهم الشعوريةو اللاشعورية، و لا سيما المتعلقة بالأدب و ماهيته و وظيفته، و استعراض المشاكل التي يواجهها المبدعون و كتاب السرد بشكل عام.
و تتمظهر هاته الميتاسردية جلية في العديد من النصوص ، أبرزها، نص " كسكس الجمعة"، و ذلك، في قول السارد : " ليس معنى{سين} إن حطت في نميمته، فالواقع أشد وقعا من الخيال، و عسى أن يحيى لى جمعة انعطافية أخرى غير مكسكسة، فيستعيد توازنه في طبعة منقحة." ص 16، فالسارد يبين الاختلاف البين بين الواقع و الخيال، و يمنح التفوق للأول على حساب الثاني، و مثل هذا الحديث لا يمكن أن يكون دالا إلا إذا استحضرنا القارئ، فهو المستهدف بالقول الموضح، إذ قد يرد لديه تشكيك في الموضوع المعالج بكونه اعتمد بقوة على الواقع على حساب الخيال، و المقتطف يسعى إلى إقناعه بسطوة الواقع الذي كثيرا ما يكون متضمنا أحداثا تفوق الخيال و تتفوق عليه. هذا، فضلا عن حضور مفردة الطبعة المنقحة و ما تحبل به من إشارات ذات ارتباط بالميتاسردي.
و يزداد الأمر وضوحا في نص " حكاية عليوات مع الطبلاوي أفندي " فهو يستحضر معاناة الكتابة، و يشير إلى ما يكابده المبدع أثناء عملية الإنتاج، يقول السارد موضحا : " انظر العنوان يرد إليك طرفك خائبا نادما، فمبتدؤه يفيد أن شخصا سيبصم بإمضائه، فيما بعد أسفل الورقة، قد جلس ذات ساعة طائشة من زمنه الثقيل إلى قول اللغو ، جرد سنان القلم من جرابه الأسود، وراق له أن يجمع شتات كلمات شاردة راودها بوعد مغشوش فانصاعت له و أقبلت على قنة رأسه ، تتزاحم و تتدافع ، فقبض بذوائبها و قوادمها، جز سوالفها ، و من ندفها نسج نصا سماه حكاية ." ص 49.
فالشاهد يظهر بشكل جلي تلك المعاناة التي يكابدها القاص أثناء عملية الكتابة ، و يفضح في الوقت نفسه آليات الكتابة، كل ذلك باقتباس مفيد ، و تلوينات بلاغية لذيذة، تفتح شهية القارئ و تحمله على الإقبال، بفرح، على المقروء ، كاشفا و مستكشفا عوالم نسج الحكاية.
هذا القارئ المشار إليه يتم استحضاره في المقتطفات التالية :
_" أنا العاقر أستعيد بقدرة قادر قدرتي على الإنجاب، إنني أتخيل هنا و الآن نظرات التهكم في أعين بعض القراء، فبديهي أن يبدو لهم هذا الحل المفاجئ من قبل ما تختتم به بعض الأفلام أحداثها فيتنفس الأعزاء الصعداء." ص 48و 49.
واضح أن السارد على وعي بردود أفعال قرائه المحتملة، و بخاصة من تلك الفئة التي ستبدي استغرابا من الحل الذي آلت إليه أحداث النص، و يقفون موقف المتشكك منها . و لإقناع مثل هؤلاء ، يذهب إلى كونه ليس عاقرا بالمطلق، و إنما هو قادر على الإنجاب، و ما سبق سرده من أحداث لم يكن إلا نتيجة خطأ مطبعي كاد يعصف بحياته، إن السارد مقتنع بأنه سيصادف فئة من المتشككين، بفعل تعودهم على السخرية من تلك الأفلام التي تنتهي نهاية وردية، تمتع المشاهدين و تطفئ نار توترهم ، و تحمل إليهم النهاية المطلوبة، و تقوم بحل المشاكل على مستوى الخيال لا الواقع. و لذا يعمد إلى خلق أجواء النهاية المتفائلة دون أن يسير في الاتجاه التبسيطي الذي سارت عليه تلك الأفلام التجارية المسطحة. إنه يعمل على إقناع القارئ بحجج منطقية يراها قوية قادرة على تعديل موقف القارئ من المقروء.
_" أقول منذ البدء لقارئ ترسبت في مخه و مخيخه هذا الحكم الجاهز، رويدك، فبين يديك، حقا ، لا يعدو حكاية، لكني أريدها في هذا المقام أن تلسعك بشواظ و حنظل معجمها." ص 50
فالسارد يسمح لنفسه بالدخول في حوار مع قارئه، و بخاصة مع فئة من القراء ذوي الأحكام الجاهزة ، مبرزا، عبر هذا الشاهد، نقصديته المتجلية في إخراجه من حالة السلب إلى حالة الايجاب و الفاعلية، بإيقاظ حواسه و عقله بقاموس مؤلم ، لا بقصد معاقبته و إحداث وجع لديه، بل بقصد إبعاده عن السبيل القاتل لحساة النقد لديه. فبهاته الطريقة يستطيع إخراجه من ضيق التبعية إلى فساحة التأويل عبر المشاركة البناءة في كتابة النص..
فقارئ المجموعة يحس أن ما يعرضه السارد يمثل ما يستثير اهتمام القاص ، محمد إدارغة، مما يعضد العلاقة التفاعلية القائمة بين الذات الكاتبة و الذات الساردة، و بينهما و القارئ الفاعل حاضر الذهن و البديهة.
الحجاج :
يتأسس الخطاب الحجاجي على توافر وجهتي نظر_ في موقف مواجهة ايديولوجي_تدخلان معا في إطار علاقة نقدية محضة تتغيا ترسيخ وجهة النظر المتبناة و إقناع الآخر _ و من ثم المتلقي_ بها، و تعرية الوجهة المضادة بإبراز تهافتها، مع إعادة تفسيرها لصالح الوجهة المقابلة، و لابد أن ينتهي الأمر بانقضاء إحدى الوجهتني لصالح الأخرى. و هو ما يطلق عليه، في بعض الأحيان، " الميتانص" الذي يقصد به التفاعل بين نصين_داخل البنية الحكائية_ متجاورين، يتبادلان التأثير في إطارعلاقة نقدية، فالميتانص ، و نحدده ، هنا، بالنص الذي يعارض بنية نص آخر معبر عن ايديولوجيا مضادة له داخل النص السردي_ يتفاعل مع النص من خلال موقفه منه و انتقاده له، فهو البنية النصية التي تأتي لتقدم وجهة نظرها في النص، و لا يمكن أن تكون وجهة النظر، هنا، إلا نقدية. و يعد نص " التعميم اتجاه ممنوع" ص 65، علامة بارزة في هذا المجال، كيف ذلك ؟
النص يناقش جملة قضايا ، أبرزها قضية المرأة، حيث يفسح السارد لإحدى شخصياته الحاملة لأطروحة مضادة و المتمثلة في شيطنة الأنثى، باب القول لعرض قضيتها و بسط أطروحتها بكل حرية، من خلال طرح قصة لها ترمي ، بواسطتها، إلى تأكيد مشتملات تلك الأطروحة، و سعيها، عبرها، إلى إقناع الطرف الآخر بصدقية القول و حسن إصابة المرمى، و صوابية الطرح..
غير أننا نلمح معارضة السارد لمثل هاته الأطروحة، و يظهر ذلك من خلال بعض المؤشرات النصية، أهمها، وضع كلام الشخصية بين فاصلتين، و كأنه بذلك يشير إلى أن ما جاء في القصة ، ما هو إلا رأي خاص، لا يمكنه أن يرقى إلى مصاف الحقيقة المطلقة، و بالتالي الاعتماد عليه في صوغ قاعدة عامة لا يأتيها الباطل من أية جهة..كما أنه ، بوضع الكلام بين فاصلتين، يوحي بأنه جملة اعتراضية لا محل لها من الإعراب..إنه ، فقط، مجرد رأي، قد يختلف معه فيه الكثيرون، و من جملتهم السارد و من ورائه القاص.
كما أن الجمل المصاحبة و التي يرسلها السارد ، تلفظا و تبنيا، تظهر بجلاء هذا الموقف و تؤكد ما استنتجناه، و أبلغ مثال موضح لهذا، ما جاء على لسان السارد حين قال : " و من أين لك بهذا الحكم القاطع؟ " ص 69، و اعتماده على المثل الدارج في قوله : " صدق المثل الدارج القائل ما معناه أن سمكة واحدة فاسدة إذا ضوعت نتانتها تجعل المغفل يعتقد أن الصندوق فاسد بأكمله، و ما هو بفاسد.." ص 74.
جلي أن السارد من خلال الشاهدين السابقين، يدين بشدة حكم السارد الثاني و الحامل لأطروحة غير علمية و غير مقنعة بالمرة، و يقف منه موقف الرفض المطلق..فالقطع في مثل هاته القضايا يعد تجنيا و حكما بيئسا ينم عن جهل أو سوء نية، و لا يمكنه أن يرقى حتى إلى أطروحة تستوجب مناقشتها.
كما أن المعجم الموظف في الشاهدين يصب في اتجاه نقض و تسخيف أطروحة الشيطنة و الإدانة، فاعتماد السارد على المثل الدارج هو تقوية موقفه بحجة تيبن بوضوح أن عامة الناس تستغل معلومات وفق منطق محكم لا يبغي التجني و يستعين بالحذر في إطلاق الأحكام، و كأني بالسارد يبغي إظهار الموقف المعارض على أنه ضعيف و ساذج ، و عاجز عن إقناع الناس، حتى عامتهم، بصوابيته. و يزداد النقض وضوحا بالمفردات التالية : " المغفل" و " أخطأ الرجل "..
كما ان العنوان يعد مؤشرا على ما ذهبنا إليه، فهو يعمق بعد النقد ونقض الأحكام الجاهزة المعتمدة على التعميم و الساعية إلى إصدار أحكام قاطعة في حق المرأة، إنه، أي العنوان، يقيم الحجة و الدليل على أن التعميم تبسيط و تضليل، و اعتماده لن يقود إلا إلى نتائج مغلوطة، أي غير صائبة بالمطلق.
الشاعرية :
إن القصة القصيرة ، على غرار باقي الإنتاجات الأدبية المكتوبة بمادة لغوية، تميل إلى شعرنة خطابها.
فإذا كانت القوانين اللغوية تشكل المعرفة الضمنية لكل قاص، فإن الذي يريد أن يضفي على عمله طابعا شعريا يقوم بعملية تحقيق الانزياحات و اختراق القوانين التي تشكل معرفته الأصلية لقواعد اللغة التي يكتب بها.
إن إضفاء الطابع الشعري على قصة ما لا يعني انتقال القاص إلى مجال الممارسة الشعرية. هكذا تكون عملية شعرية اللغة القصصية خاضعة لتقاليد النوع القصصي ، إذ يقف الأمر عند حدود استخدام طرق و أشكال جديدة تهدف إلى تحديث و تطوير النوع، و لا ترمي إلى تدميره أو إلغائه.
بناء على هذا، نجد أن من بين أهم ما يميز هاته المجموعة، من منظور أولي، هو لغتها الشاعرية الشفافة و المجنحة التي تجعل النص وسطا بين السرد و الشعر، بين الكتابة الايقاعية_الإحبارية، و الكتابة البلاغية الإشارية ، بين أسلوب التصريح و أسلوب التلميح، أي تجعل النص ، إذا جاز التعبير، هجينا و فاتنا في هجنته و التباسه.
و لا يعني هذا جنوح النصوص باتجاه المنحى الذاتي و العاطفي، و إنما يعني أنها بقيت مشدودة إلى عالم القص القصير، و أقرب إليه منه إلى أجواء القصيدة الشعرية.
و من الأمثلة الدالة على حضور البعد الشاعري في النص، وجود ألوان من التشبيهات و الاستعارات المانحة للنصوص أبعادا إيحائية ماتعة ذات وظيفة تزيينية جمالية، من جهة، و دلالية، من جهة أخرى.
نصادف في ص " 61" العبارة الدالة :
" يأتي الضوء عصفورا ذهبيا خرافيا يرفرف بجناحين زاهيين يسوق جوا بهيجا ".
و الشاهد م هو إلا صورة بهيجة الألوان، عذبة الايحاء، و ذات ارتباط بمعنى النص، و مؤكدة لدلالته. فالشخصية الأساس تعاني أرقا مرده إلى وضعه الاقتصادي و الاجتماعي المتأزم، و لذا، نراه يطلب النوم بكل شوق ، و ينتظره بلوعة، و لانه بعيد المنال، فقد رآه بتلك الصورة الزاهية ، فهو مطلب غير متيسر. إن الشخصية تتمناه بكل جوارحها لكونه سيفا قادرا على تحقيق انتصار مهم و بالضربة القاضية على الواقع المر.
كما نجد المجموعة متضمنة العديد من التشبيهات و الاستعارات العابرة لنصوصها، ملونة أساليبها. و نود ان نقف عند استعارة واحدة مبرزين أهميتها في النص الواردة فيه..
و الاستعارة المعنية هي : " لما سكت عنا الغضب.."، ص 11، الواردة في نص ، " كسكس الجمعة".
إنها استعارة تكشف عن وعي عميق بما تحمله من أبعاد أصلية، يدرك السارد ذلك، كما ندرك نحن، أنها استعارة مهاجرة، ذات سمك دلالي و جمالي، و قد جاءت في سياق الحديث عن خرق المقدس.
و اعتمادا على هذا البعد الذي تحمله، تم توظيفها في النص القصصي أعلاه، و بذكاء، جعلها ترتفع إلى مصاف الاستعارات المبتكرة إن لم نقل تضاهيها أو تبرزها و بدت كأنها من ابتكار السارد، لكونه شغلها بكفاءة . فالتوظيف الحكيم لها في النص لم يكن اعتباطيا بقدر ما كان ايحائيا. فقد وظفت في سياق ذي ارتباط بالخرق المذكور: و الخرق الحاضر في القصة لم يكن دينيا بل دنيويا، يمس الجانب الرمزي، مما يؤهله ليكون خرقا دينيا هو الآخر. و هنا طرافة التوظيف.
فالكسكس لحزة ذات قدسية في عرف الأسر المغربية، لأنه يقوم بوظيفة اجتماعية تتمثل في لم شمل الأسر، و من أهم شروطه إلا يتناول من طرف فرد واحد، إذ لا بد من حضور جماعي، فهو احتفال رمزي يصهر الفرد في الجماعة، و يجعله يشترب قيمها..
و ليس بدعا أن يقوم المغاربة بربطه بزمن مقدس، و هو الجمعة.لكونه يضطلع بوظيفة توطيد أواصر المحبة بين أفراد العائلة. فالكسكس لا يأخذ من يوم الجمعة التعريف فقط، بل يستمد منه أيضا جانبه القدسي. و خرق هاته العادة يوازي خرق المقدس، بفعل التمزيق الذي يحدثه و ما يمكن أن يترتب عن ذلك من تشتيت للجماعة و تضييع لهويتها..
و بناء عليه، يمكن اعتبار تحويل الكسكس إلى مجرد استعراض ضربا لقدسيته، و تحويله إلى فرجة فلكلورية مفرغة من أبعادها الروحية و الاجتماعية..و محو للهوية التي هو أبرز عنوان لها.
و يؤكد ما ذهبنا إليه ، الباحث، عبدالرحيم مؤذن، حيث قال : " تحويل _ الكسكس_ بدلالته الرمزية، إلى مرادف للهوية.
_اختراق " الكسكس "، من قبيل : " العولمة إلى تظاهرة أكبر قصعة للكسكس في العالم".
_ دور العولمة _إعلاما و إعلانا و رؤية في تدمير :
* الأسرة " الهوية مرة أخرى" التي فضلت فيها ربة البيت تحضير الكسكس، تيليفزيوينيا_من جهة_ و تعويض _ من جهة ثانية_ لكسكس الجمهة المقدس، بطعام آخر أثار احتجاجات الأبناء و ندم رب الأسرة.
* تحويل_الكسكس_ برمزيته_ إلى منتوج " فلكلوري" موظف في الاستهلاك السياحي.
و بالإضافة إلى هذا و ذاك، ساهم الداخل المتهالك في خدمة الخارج المتأسد."*3
و تتمثل هاته المساهمة في تلك الحملات الانتخابية، ففيها يصبح طعام الكسكس وسيلة استقطاب الأصوات، و هو مسعى يصير أداة لغاية هي غير غايته النبيلة التي كان ينهض بها، و بذلك يتم تدمير الميثاق الرمزي الذي يربط الإنسان المغربي بطعامه.
توظيف طعام الكسكس في انتخابات يطبعها الزيف و الكذب، هو في المحصلة النهائية تدمير أحد أهم القيم التي يحققها الطعام، ألا و هي ربط صلة الرحم بين أفراد الأسرة، و من بعدها، بين أفراد المجتمع: " إن مثل هذه الانتخابات لا تشبع إلا القيم السلبية المدمرة للوحدة و التضامن لصالح قيم سلبية تتمثل أساسا في الانتهازية و الوصولية و الفردانية المقيتة فضلا عن الغش و الدسيسة و التناحر".
* الكسكس، إذن، لم يعد حافزا على تمتين الروابط بين الأفراد و الجماعات، و لم يعد مناسبة لتجاوز الأحقاد و الحسابات الضيقة، و لم يعد تجسيدا لزمن رخي يتقاسم فيه الناس السراء و الضراء، لم يعد لا هذا و لا ذاك، بل أصبح أداة لتدمير ما سبق بعد أن أفرغ من دلالته المادية و الرمزية التي كانت وراء هوية ثقافية تعكس التوحد و التضامن و الأصرة قبل الإيثار" *4.
من هنا، جاء قولنا، إنها استعارة مهاجرة تضاهي في توظيفها الذكي الاستعارات المبتركة، فقد نهضت بالمعنى بقوة، و بنت الاهداف التي تحملها بنجاح..

حضور النص القرآني

حضر النصّ القرآني الكريم، والأجواء الصوفيّة في المجموعة القصصية
وكأنّ المجموعة صدى لها جمع البدع بين دفتي عمله أنماطاً من حضورها النصيّ معلناً عن درجة انغماره في الأجواء القرآنيّة،
جامعا بين نصوص قرآنية ليدل بها على افتتانه بما فيها من دلالة تمارس تأثيرها المباشر في متنه القصصي، فالنصوص الكريمة تحمل بهجة الحضور القرآني في نصوص المجموعة.
إذ تدخل النصوص القرآنيّة في قصص المجموعة لتشكّل تناصّاً خطيّاً همّه الإرتقاء بالأسلوب السردي، والإحالة على مرجعيّة النصّ الخارجيّ التي تتعلق بلغة القرآن الكريم المشيرة إلى نواهي الذات الإلهيّة،
وهو تناص يعمد فيه الشاعر إلى إذابة الأنساق القرآنيّة في سياقات القصص بعد أن يضيف إليها شيئاً من لغته لتبدو الصورة السردية مزيجاً من لغتين مختلفتين تشتركان في إقامة نمط من التشكيل القصصي الحواري
وهكذا تظهر عناية (القاص) بالنصّ القرآني الكريم ، في تفاعليّة ثقافيّة تعطي انطباعا واضحا عن تمازجيّة نسقيّة هي أدخل إلى فضاء القص الذي يتبنى علاقات منفتحة على وهج (الكتابات) الأخرى التي يتمظهر في أنساقها صوت القاص الرافض لكلّ إشكالات الحياة بهدف إعلاء صوت الإنسان، وتأكيد تحولاته العابرة لحدود الشكل، والمقيمة في المعنى.
و على سبيل التمثيل لا الحصر ، نور الآيات التي تم التناص معها
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ ۖ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ
الأعراف 154
ترد في نص "كسكس الجمعة " ص 11، لتظهر فورة الغضب الهابطة إلى حدود الصفر ، بعد أن عض الجوع بطون المحتجين ، إنه تناص جرى توظيفه بغاية السخرية من احتجاج أرعن ، لم تكن الأم سببا فيه ، و من هنا ، جاء تغير الموقف السريع ، حين حضر الجوع ، فانتفى موجب التمرد ، و انتهى بالرضوخ لسلطة الأم الطاهية ، فهي من تمتلك لغة الطعام.
ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ
( قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم ) سورة البقرة.
و قد تم توظيف النص أعلاه مرتين ، فقد حضر ص 45 من نص " خطأ مطبعي " ، و في ص 49 من نص " حكاية عليوات مع الطبلاوي أفندي.
ففي الأولى جاء لتأكيد حقيقة الخيبة التي شعرت بها شخصية النص لما عرف بعقمه لحظة التحليل الأول ، قبل أن يتبين الخطأ في ما بعد ، و في الثانية ، جاء في معرض الإشارة للظلم الذي تعرض له عليوات . إنه تناص يدعو القارئ للتأمل و أخذ العبرة مما حصل ، بغية اتخاذ موقف من الاستغلال بعامة . و القصة نفسها تستحضر آية أخرى، لتصف شخصية الطبلاوي ، لكن ليس تمجيدا بل تحقيرا ، فإذا كانت شخصية " طالوت " محققة للإيجاب بفعل إرادة ربانية ، فالطبلاوي شخصية محققة للسلب بفعل نهما و جشعها ، و استغلالها للإنسان ، إنها شخصية على الطرف النقيض من شخصية " طالوت" إذ تفتقد العلم ، أي البنيان الأساس، و لا تتوفر سوى على الجسم /المادة ، بحيث تقترب من الحيوان.
( هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ( 1 ) إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا ( 2 ) )سورة الإنسان.
و قد حضرت في ص 56 من القصة نفسها ، و جاءت للتعبير عن قدم استغلال الانسان لأخيه الإنسان ، و قد وردت الآية بنوع من التغيير ، على لسان الشجرة التي وقفت موقف المساندة لعليوات ، و التنديد بأفعال الطبلاوي ، و كأنها بذلك ، تشير إلى أن الأرض لمن يحرثها .
على سبيل الختم :
"كسكس الجمعة " عمل جدير بالقراءة و المتابعة ، فقد جاء لترسيخ أقدام القص في المشهد الثقافي المغربي ، بتأكيده على أهمية تشغيل التخييل ، و العناية بالجوانب الفنية التي تشيد الواقع بشكل آخر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى