لم ألتقِ غابريئيل غارثيا ماركيز (غابو) في حياتي، لكنه كان أحد أساتذتي الكبار. فالأدب الذي كتبه وأبدعه حمل معه، إلى جانب المتعة، الكثير من الأخيلة والأشباح الأدبية التي أكسبتني الشجاعة -وأنا غضّ طريّ- على كسر أقسى القبضات التي تُحكم على أيّ شخص يحاول كتابة الأدب: الواقعية وقيودها و”ما يُفترض بالأدب أن يكون”. هذا لا يعني أنّ الخيال والتخيّل والمخيال تحلّ في الكتابة السحرية أو العجائبية أو الفنتازية محلّ الواقع، بل هو حاضر بقوّة، ولولا الواقع لما تأسّس الخيال. لكنّ الخلط بينهما، حين يُغذّي الواحدُ الآخرَ، يجعل من الكتابة أمرًا خارقًا لا حدود لقوّته وجبروته.
إذا سألتموني الآن عن التفاصيل الدقيقة لرواية “مئة عام من العزلة” فإنني سأفشل في امتحان الأسماء وتسلسل الأجيال وتشعّبات القصص فيها. لكنّ ما يحضر من هذه الرواية في البال ويستوطن في اللاوعي الممارَس، أنّ الأديب خالق قادر على كلّ شيء، وما عليه إلا أن يتحلّى ببعض الشجاعة كي يمارس طغيانه. قد يبدو هذا للكثيرين أمرًا سهلاً من باب “تخيّل واكتب ما تريد”، لكنّ الممارسة المنهكة للعبة الواقع والخيال جبت أرواح الكثيرين من الشجعان (والمتهوّرين) وهم في طريقهم إلى قرية ماكوندو. لقد تحوّلت هذه القرية الأدبية إلى مرادف لمدينة الألدورادو الأسطورية المبنيّة من الذهب. من يصلها يملك زمام الكون.
في كتابه المثير الرائع، “رسائل إلى روائيّ شاب”، يكتب ماريو بارغاس يوسا عن “مستوى الواقع” في النصّ الروائيّ ويرى أنّ هذا المستوى هو “العلاقة القائمة بين مستوى أو طبقة الواقع التي يقف فيها الراوي لكي يروي الرواية من جهة، ومستوى أو طبقة الواقع التي تدور فيها أحداث ما يُروى من جهة أخرى. (…) ويمكن لمستوييْ الراوي وما يُروى، أن يتطابقا أو أن يكونا مختلفين”. سأنطلق من هذه النقطة تحديدًا كي أحاول توضيح تأثير ماركيز (ويوسا بالمناسبة) عليّ كفلسطينيّ بالأساس: نحن الفلسطينيين ممسوسون بالواقعية في أدبنا ومسرحنا (أساسًا، ومعذرة على التعميم). كأننا نسعى في كلّ كلمة وفاصلة لتوثيق القصة والتفاصيل قبل أن تضيع في معمعان الحياة والحروبات. وفي سعينا هذا نحو الواقعية المفرطة خفّفنا طواعية عن أهمّ ما يملكه الأدب: الخيال والتخييل. في هذا القول تعميم طبعًا (أستثني بحرارة إميل حبيبي ومحمود شقير)، لكنه يفيدني في إبراز سطوة أدب ماركيز عليّ في بداية تشكّل وعيي الأدبيّ، والحرارة التي كانت تنبعث في أصابع اليديْن حين أنتهي من قصة قصيرة أو رواية له، مُتأمّلاً ما فعله هذا السّاحر، وأسأل نفسي بسذاجة: لماذا لا نكتب هكذا؟
الخيال سلاح من يتمرّد على الواقع، ولذلك ما زلتُ محتارًا حتى اليوم في لجوء الفلسطينيين (المُعظم) إلى الواقعية وليس إلى الفنتازيا والسّحر. هكذا يقول ماركيز في “عشت لأروي”: “كانت حكاياتي في معظمها أحداثا بسيطة من الحياة اليومية أجعلها أكثر جاذبية بتفاصيل متخيلة كي يصغي إليّ الكبار، وكانت أفضل مصادر إلهامي الأحاديث التي يتبادلها الكبار أمامي لأنهم يظنون أنني لا أفهمها فيشفّرونها عمداً كي لا أفهمهما، لكن الأمر كان خلاف ذلك؛ كنت أمتصّها مثل إسفنجة ثم أفكّكها إلى أجزاء وأقلّبها لكي أخفي الأصل، وعندما أرويها للأشخاص أنفسهم الذين رووها تتملّكهم الحيرة للتوافق الغريب بين ما أقوله وما يفكرون فيه”. أليست هذه حرفة الأدب في جملة واحدة؟ أليس التفكيك وإعادة التركيب هما (سوية) الفعل الأهمّ في القراءة والكتابة؟
لم تكن واقعية ماركيز السحريّة عائقًا أمام تصديق الناس لما يكتب. فلا تجد قارئًا(ة) يلقي بالكتاب ويقول: هذا لا يحدث في الواقع، كما أنّ السحرية في كتاباته لم تجنح نحو الفنتازيا المبالغ بها أو الاستعراضية، بل نبعت بشكل عضويّ من الشخصيات والأحداث، ولا يمكنك إلا تقبّلها واحتضانها كما لو أنها “واقعية”. يوسا مرة أخرى: “هذه القدرة على الإقناع بـ “حقيقية” الرواية و”مصداقيتها”، لا تأتي أبدًا من تشابهها أو تطابقها مع العالم الواقعيّ الذي نعيش فيه نحن القراء. إنها تأتي، حصرًا، من كيانها ذاته، المصنوع من كلمات، ومن تنظيم رؤى المكان والزمان ومستوى الواقع التي تؤلفها”.
ماركيز فنان السّرد بجدارة. وأكاد أجزم أنّ سنواته الطويلة في الكتابة الصحفية عزّزت لديه من القدرة الفطرية اللازمة لكلّ كاتب أيًا كان: القدرة على تبيان ما هو مثير، ما هو دراميّ، ما هو صالح للمادة الأدبية. فالصحافة تصقل هذه القدرة وتطوّرها إلى أبعد الحدود، باعتبار أنّ الصحافة تكسب رزقها اليوميّ من “المثير والهام والجدير بالنشر”. وحتى حين يخبرك ماركيز بالنهاية منذ البداية مثل “تسجيلات موت معلن”، حين نعرف أنّ سانتياغو قد قُتل وقتلته معروفون، إلا أنّ التشويق لا يخفت للحظة. وفي “الحب في زمن الكوليرا” يثبت ماركيز مجدًدا أنه عدّاء ماهر للمسافات الطويلة، حيث يروي قصة عاشق عنيد لا يتنازل عن محبوبته إلى أن يستردّها في خريف عمرهما، لكنها بنظري لم تكن يومًا قصة عن الحب؛ فماركيز حمّل على قصة الحبّ الغريبة هذه ما يريد قوله عن الزمان والمكان اللذيْن تجري فيهما الأحداث، فيما يبرز الزمن مرة أخرى كلاعب مركزيّ في تقنياته السردية.
مات ماركيز وهو شبه منقطع عن العالم الخارجيّ بسبب مرضه، ولكنه سيظلّ يحوم فوق رؤوسنا، هو وشبحه وأدبه، كما يليق بأيّ ساحر يصبغ الواقع بألوان زاهية وأخرى مظلمة، كي يقول شيئًا أو اثنين عن الطبيعة البشرية.
* نقلا عن موقع علاء حليحل
إذا سألتموني الآن عن التفاصيل الدقيقة لرواية “مئة عام من العزلة” فإنني سأفشل في امتحان الأسماء وتسلسل الأجيال وتشعّبات القصص فيها. لكنّ ما يحضر من هذه الرواية في البال ويستوطن في اللاوعي الممارَس، أنّ الأديب خالق قادر على كلّ شيء، وما عليه إلا أن يتحلّى ببعض الشجاعة كي يمارس طغيانه. قد يبدو هذا للكثيرين أمرًا سهلاً من باب “تخيّل واكتب ما تريد”، لكنّ الممارسة المنهكة للعبة الواقع والخيال جبت أرواح الكثيرين من الشجعان (والمتهوّرين) وهم في طريقهم إلى قرية ماكوندو. لقد تحوّلت هذه القرية الأدبية إلى مرادف لمدينة الألدورادو الأسطورية المبنيّة من الذهب. من يصلها يملك زمام الكون.
في كتابه المثير الرائع، “رسائل إلى روائيّ شاب”، يكتب ماريو بارغاس يوسا عن “مستوى الواقع” في النصّ الروائيّ ويرى أنّ هذا المستوى هو “العلاقة القائمة بين مستوى أو طبقة الواقع التي يقف فيها الراوي لكي يروي الرواية من جهة، ومستوى أو طبقة الواقع التي تدور فيها أحداث ما يُروى من جهة أخرى. (…) ويمكن لمستوييْ الراوي وما يُروى، أن يتطابقا أو أن يكونا مختلفين”. سأنطلق من هذه النقطة تحديدًا كي أحاول توضيح تأثير ماركيز (ويوسا بالمناسبة) عليّ كفلسطينيّ بالأساس: نحن الفلسطينيين ممسوسون بالواقعية في أدبنا ومسرحنا (أساسًا، ومعذرة على التعميم). كأننا نسعى في كلّ كلمة وفاصلة لتوثيق القصة والتفاصيل قبل أن تضيع في معمعان الحياة والحروبات. وفي سعينا هذا نحو الواقعية المفرطة خفّفنا طواعية عن أهمّ ما يملكه الأدب: الخيال والتخييل. في هذا القول تعميم طبعًا (أستثني بحرارة إميل حبيبي ومحمود شقير)، لكنه يفيدني في إبراز سطوة أدب ماركيز عليّ في بداية تشكّل وعيي الأدبيّ، والحرارة التي كانت تنبعث في أصابع اليديْن حين أنتهي من قصة قصيرة أو رواية له، مُتأمّلاً ما فعله هذا السّاحر، وأسأل نفسي بسذاجة: لماذا لا نكتب هكذا؟
الخيال سلاح من يتمرّد على الواقع، ولذلك ما زلتُ محتارًا حتى اليوم في لجوء الفلسطينيين (المُعظم) إلى الواقعية وليس إلى الفنتازيا والسّحر. هكذا يقول ماركيز في “عشت لأروي”: “كانت حكاياتي في معظمها أحداثا بسيطة من الحياة اليومية أجعلها أكثر جاذبية بتفاصيل متخيلة كي يصغي إليّ الكبار، وكانت أفضل مصادر إلهامي الأحاديث التي يتبادلها الكبار أمامي لأنهم يظنون أنني لا أفهمها فيشفّرونها عمداً كي لا أفهمهما، لكن الأمر كان خلاف ذلك؛ كنت أمتصّها مثل إسفنجة ثم أفكّكها إلى أجزاء وأقلّبها لكي أخفي الأصل، وعندما أرويها للأشخاص أنفسهم الذين رووها تتملّكهم الحيرة للتوافق الغريب بين ما أقوله وما يفكرون فيه”. أليست هذه حرفة الأدب في جملة واحدة؟ أليس التفكيك وإعادة التركيب هما (سوية) الفعل الأهمّ في القراءة والكتابة؟
لم تكن واقعية ماركيز السحريّة عائقًا أمام تصديق الناس لما يكتب. فلا تجد قارئًا(ة) يلقي بالكتاب ويقول: هذا لا يحدث في الواقع، كما أنّ السحرية في كتاباته لم تجنح نحو الفنتازيا المبالغ بها أو الاستعراضية، بل نبعت بشكل عضويّ من الشخصيات والأحداث، ولا يمكنك إلا تقبّلها واحتضانها كما لو أنها “واقعية”. يوسا مرة أخرى: “هذه القدرة على الإقناع بـ “حقيقية” الرواية و”مصداقيتها”، لا تأتي أبدًا من تشابهها أو تطابقها مع العالم الواقعيّ الذي نعيش فيه نحن القراء. إنها تأتي، حصرًا، من كيانها ذاته، المصنوع من كلمات، ومن تنظيم رؤى المكان والزمان ومستوى الواقع التي تؤلفها”.
ماركيز فنان السّرد بجدارة. وأكاد أجزم أنّ سنواته الطويلة في الكتابة الصحفية عزّزت لديه من القدرة الفطرية اللازمة لكلّ كاتب أيًا كان: القدرة على تبيان ما هو مثير، ما هو دراميّ، ما هو صالح للمادة الأدبية. فالصحافة تصقل هذه القدرة وتطوّرها إلى أبعد الحدود، باعتبار أنّ الصحافة تكسب رزقها اليوميّ من “المثير والهام والجدير بالنشر”. وحتى حين يخبرك ماركيز بالنهاية منذ البداية مثل “تسجيلات موت معلن”، حين نعرف أنّ سانتياغو قد قُتل وقتلته معروفون، إلا أنّ التشويق لا يخفت للحظة. وفي “الحب في زمن الكوليرا” يثبت ماركيز مجدًدا أنه عدّاء ماهر للمسافات الطويلة، حيث يروي قصة عاشق عنيد لا يتنازل عن محبوبته إلى أن يستردّها في خريف عمرهما، لكنها بنظري لم تكن يومًا قصة عن الحب؛ فماركيز حمّل على قصة الحبّ الغريبة هذه ما يريد قوله عن الزمان والمكان اللذيْن تجري فيهما الأحداث، فيما يبرز الزمن مرة أخرى كلاعب مركزيّ في تقنياته السردية.
مات ماركيز وهو شبه منقطع عن العالم الخارجيّ بسبب مرضه، ولكنه سيظلّ يحوم فوق رؤوسنا، هو وشبحه وأدبه، كما يليق بأيّ ساحر يصبغ الواقع بألوان زاهية وأخرى مظلمة، كي يقول شيئًا أو اثنين عن الطبيعة البشرية.
* نقلا عن موقع علاء حليحل