مع التطوُر المُذهل لأوجه حياتنا المعاصرة، انزوى البُسطاء جانباً. أخذوا طرفاً نقيضاً إزاء أغلب التغيرات وسط أجواء ثقافية عاصفةٍ. فالتقنيات ومظاهر العمران والحضارة قد لفظت الحيوات الشعبية دون إهتمامٍ. تحولت إلى(مكب نفايات) للمجتمع في شكل أفكار منحرفةٍ وعلاقات مشبوهةٍ وإسقاط شهواني ورغبوي. باءَ هؤلاء الشعبيون بموروثاتهم كما باءَ أصحاب الخطايا في تاريخ البشرية بما فعلوا. وخلال كلِّ موقع يصل إليه الشعبيون، يجدون( نظرات متعجرفةً ) تجاه كيانهم الهش.
التهميش هو لعنة الناس البسطاء. هم ملعونون لكونهم مقيدين بتلك الدائرة التي تدفعهم إلى الأطراف بلا عودةٍ. وهي لعبة الأنظمة الاجتماعية التي ترى فيهم وجوداً فائضاً عن الحاجة أو لأنَّها أنظمة لم تتصالح مع ماضيها بشكل حضاريٍّ. فالهامش بمثابة اسقاط الوزن النوعي لوجود بعض الفئات من الحياة الانسانية. المهمشون يسيرون وقد طُبعت فوقهم الوصمات الإجتماعية غير المحببة stigmas. لم يظهروا كما ينبغي لهم الظهور على غرار الفئات الأخرى. لقد وقعوا ضحية الفرز الاجتماعي طوال الوقت. حتى أنَّ كلمة ( شعبي ) أضحت مساويةً للإزدراء، وكأنَّها سُبة في جبين هؤلاء الناس. وجرت على ألسنة المتكلمين جيئةً وذهاباً ضمن مواقف التحقير.
وهذه عملية تاريخية لم تكن لتحدث بسهولةٍ، فهناك آليات التهميش التي هي دائرة بقوة في البيئات المختلفة. على سبيل التوضيح: سنجد هناك ربطاً بين الشعبيين والشكل، سواء أكان هذا الشكل زيّاً أم تصرفاً ما أم كلاماً بعينه. فالملابس عبارة عن تصنيف اجتماعي ثقافي يميزهم دون سواهم. والأفعال تدخل بهم في باب فرز الفئات المتباينة، حتى وإنْ لم يكن مصدرُها هؤلاء الناس. والكلام يعطي فرصة للتطفل وإبداء التندر بأحوالهم. وتوخذ العبارات من الأفواه كمادة اجتماعية تلوكها الألسن طوال الوقت.
لقد أُطلق عليهم باللهجة الدارجة " ناس بيئة"، أي ليسوا متحضرين بما فيه الكفاية، وهم مجرد مجموعات بدائية لم تبلغ حياتنا الراقية درجة واحدة. وهناك كمٌ من السخرية حول أساليب الكلام الخاصة بهم، وهو أمر معروف في الثقافة العامة. وليس بعيداً عن ذلك تقسيم فئات المجتمع إلى فئات حضريةٍ وفئات شعبية، فئات مودرن وفئات أقل حداثة. ومع حركة المجتمعات تتمركز الفئات الأعلى فوق هرم السلطة وتستولى على كافة الإمتيازات.
لكن وقف الفنان محسن أبو العزم ضد( الوصمة الاجتماعية ) التي تلحق بهؤلاء الشعبيين، أدخلهم إلى لوحاته الفنية على نحو مُدهش. جعل لهم وجوداً جمالياً كما لو لم يكونوا من قبل. كاشفاً مواطن الطرافة والتلقائية والحضور الشفاق والانسجام والحقائق في تفاصيلهم الإنسانية. أول ما يتبادر إلى الأذهان هو ثراء عالم الشعبيات حد الإدهاش، حيث يموجُ بالحراك والأحداث اليومية. إنه مُضمخ بالمشاعر والإحتفاء بالحياة.
إنَّ جنة الملعون بهذا المعنى هي حياته النوعية التي يجد فيها سلواه ومعناه. ليست هناك معان مثلما توجد عند الشعبيين، هذا الكرنفال- بلغة ميخائيل باختين- الذي يجسدونه في الأتراح والأفراح والمناسبات والطقوس. هل هؤلاء مثل أسماك البحر يشعرون بأعماق حياتهم داخل المياة، وإذا خرجوا منها، فقد العالم مذاقه وجدواه؟!
البساطة
إطار الحياة الشعبية هو البساطة. وليست البساطة افتعالاً، لكنها ممارسة عفوية من غير تكلف. تجد أحدهم يعبر عن عواطفه وأفكاره كما هي نازعاً عنها الزينة والنكهات الفاقعة. وقد تجد عائلة تسير بشكل طلق ومن غير محاذير محاطة بالهدوء والسكينة. ويعرفون أن ذلك هو كنزهم الثمين الذي إن فقدوه تحولت الحياة من فورها إلى حجيمٍ.
البساطة مقولة في كيفية العيش لا نظرة ثابتة إلى العالم. نحن كائنات نتفنن ونحس أيما إحساس بماهية العيش. أنْ تكون بسيطاً يعني أنْ تتفهم حدودك في الحياة وأن ترسم حدود الحياة وجودها معك. التبادل الذي يشعر به الإنسان لا أحد غيره. وإذا كانت الحياةُ تلقي إليك هُموماً بلا معنى، فالبساطة ستخفف من تلك الوطأة. البساطة هي الحماية التي تقي الشعبيين من غوائل التزييف والإفتعال. لأنَّ إفتعالاً سيحتاج إلى اكسسوارات وأقنعة وحركات مرهقة من التبديل، بينما التبسُط يقودنا إلى وضع الأشياء والعلاقات والأحداث في حجمها الطبيعي.
ذهبت عائلة إلى التصوير لتوثيق تلك اللحظة البسيطة من الوجود. الجميع منتظر التعبير عن نفسه بكل انطلاق، الأم والأب والأطفال.. ذهبوا هكذا بلا ترتيب. وقد حرصت اللوحة على إظهار المصور، كي يكون المشهد تفاعلياً قدر المستطاع. اللوحة وثيقة بالفعل: فليس مطلوباً من أصحاب الصورة عادةً غير اظهار الابتسام وأخذ وضعية جمالية، غير أن أشخاص اللوحة هاهنا أضفوا على الصورة واقعية بسيطة. جعلوا من الصورة ذاتها منظراً جمالياً، أضفوا عليها غلالة من روحهم الخفيفة. ليس من تكلف ولا من ثبات، تركوا أنفسهم - مع إمكانية التصوير خلال أية لحظة- إلى الحوار واللحظات المشتركة.
البساطة ليست بُعداً فلسفياً يأتي ويروح عند حاجتنا العقلية إليه، لكنها بمثابة التعبير المباشر عن الحد الأقصى والأدنى من الحياة. في وقت واحد يجتمع الطرفان على حالةٍ هي الأوضح: العيش البسيط كما يتجلى في أدق التفاصيل. ربما من يعش في ظروف معقدةٍ ظاناً كونه مستمتعاً بالحياة قد ضل طريقه نحو معناها. فلا لا يستطيع إدراك الحياة غير الإنسان الذي يتبسط في خوض تجاربها. هي كامنة في أبسط التفاصيل بالقوة والحيوية ذاتهما الموجودتين في أعقد الأشكال.
لا تتطلب الحياة كلَّ التراكم المعقد للإحساس بروحها الحقيقي. الشعبيون يصلون إلي جذور هذا الروح، لكونهم نائمين على بساطتها مباشرةً. وليس هناك ضرورة لأنْ يحدث عقد رسمي بين الناس والحياة، فهم منغمسون فيها دون شعور، هم أحد جوانبها دون رسميات ولا عموميات. فلسفة الحياة في تاريخ البشرية أنها العالم الذي لا نراه، رغم أنه يشكلنا من رأسنا حتى أخمص أقدامنا، أي يشكل كل وجودنا بملء الكلمة.
تبدو الحياة كذلك في الكلام، وتبدو في الحركة، وتبدو في الفكرة، وتبدو في الإنسان، وتبدو في الحيوان وتبدو في النبات والجماد، وتبدو هكذا في الزمان وتحولاته. الحياة كلُّ ذلك منذ وجودها إلى هذه اللحظة، فهي تتداعى وتطلق روحها عبر كل مكان. الشعبيون يقولون: أنت الحياة، فلا تنسى ذلك: أنت الحقيقة الحية، فعليك بالحفاظ عليها. كُن بسيطاً، ففي البساطة يجري وجودك الإنساني إلى الرمق الأخير.
الاشياء الصغيرة
لا يهتم الشعبيون بالأشياء الكبيرة، لأنَّها أشياء غير معنيين بها، الأشياء الصغيرة هي التي يتعاملون معها بحرية ونزق. بل الأشياء الكبيرة تصغر لدرجة التلاشي. فليست الأصالة فيما هو عظيم دائما بالمقاييس المادية أو الطبقية. ولكن الأشياء الدقيقة ( البسيطة ) التي لا تكاد ترى بعيون الفلاسفة والمفكرين هي مصدر الحياة. كل النباتات العملاقة تبدأ ببذرة لا تكاد تُرى. ولماذا تعبير" لا تكاد هكذا"؟ فهي بالفعل لم تُر، حيث توارى الثري، وتأخذ دورتها في الخفاء، حتى أصبحت وارفةً وممتدةً.
يمكن للشعبيين أنْ يطلقوا مشاعرهم الحميمة خلال أي وقت، فمجرد الاحتفاء بطقوس الصيام مع وجود الأطفال والمظاهر ينعشُ رغبات الحياة. إنَّ المناسبات البسيطة يحتفلون بها بطريقةٍ خاصةٍ أكثر من سواهم، يهتمون بكل التفاصيل على أنها أشياء تستحق كل المعاني المعطاة لها. من الأشياء الصغيرة، تأتي أعظم العواطف. لأن البهجة واحدةٌ لا تتجزأ، قد يكون مصدرُها شيء بسيط، غير أنه سيترك أثراً بعيداً.
العُرس قد يكون فضاء للسعادة والبهجة بحجم المكان والزمان، بل ويمثل حدثاً في حد ذاته على مستوى الاحياء الشعبية. لا لأنَّ فلاناً سيتزوج من إبنة علان، ولكن لأنَّ هناك مشاركة نابعة من الإحساس العام بالعواطف المتبادلة. إن الشعبيين يعيشون كما لو كانوا يعطون جل وجودهم للآخرين. المشاعر والعواطف هي الغذاء الحقيقي لهكذا مناسبات. ولا يخلو الأمر من براح الرغبات والعراك والأهواء وانطلاق الكوامن بالمثل.
الشعبيون يتربصون بالأشياء الصغيرة لجعلها قوتهم اليومي الذي لا يمتلكون شيئاً دونه. التوافه ونثار الحياة هي التي تكمل دائرة العيش. لا يذهبون وراء فكرة مجردة ولا يدمنون كلاماً معسولاً، فهم يدمنون فنون العيش البسيط. إذ يمكن أن تخرج من بين أصابعهم النحيلة أزهاراً، وقد تنبثق من كلماتهم الدارجة ينابيع العواطف والمشاعر، وربما يخرج من بينهم عالمٌ زاخر بالواقع العظيم. كل الشعبيات مليئة حتى الحواف بالآمال المتطلعة للأجمل.
ملح الأرض
يجري على ألسنة الشعبيين لفظا ( العيش والملح )، وهما حد الكفاف إنْ صح التعبير. فليس هناك ما هو أدنى من الخبز والملح كمادة غذائية أولية. ولكن اللفظين يعكسان أساس الحياة. أي يعطيان مساحة للحياة، كي تنطلق بوافر دلالتها بين هؤلاء الناس.
البسطاء يُقبلُون خبز الحياة وكفى. ويطلقون عليه النعمة الإلهية: نعمة العيش. وعلى الرغم من وجود النَّفَس المقدس في المعاني، إلاَّ أنه قد يكون مغموساً بالقهر في أحايين كثيرة. وكأن القول بالعيش والملح زفرة لا بسمة، آهة لا فكرة. وسواء أكان هذا النَفس أم ذاك، فالشعبيون هم ملح الأرض. وليس غريباً أنْ يكون الملح معبراً عن العشرة والعيش والتضامن والقوة والتقدير والتماسك والوفاء والولاء والحب.
العيش ... أي الخبز بمعناة المتوحد مع دلالة الحياة بين أهل مصر. والعيش في الثقافة الشعبية المصرية متوارث منذ الفراعنة القدماء. هو (الخبز الشمسي) الذي كان يوضع تحت عين الشمس الحارقة في منتصف النهار حتى ينضُج. وعين الشمس كانت مقدسة في ديانة أخناتون، فهي مصدر الحياة التي تهبها للناس وهي مصدر انضاج الخبر في الوقت نفسه. ومن ثم جاءت لفظة العيش لتعبر عن وحدة مادة الخبر ومادة الانضاج( الإله).
وربما هذا هو سبب أن الطعام الشعبي في مصر ينتشر في الشوارع تحت الشمس وفي الهواء الطلق. في محاولة تاريخية سرية لإستعادة الحس الشعبي إزاء المعنى الدارج للعيش وعلاقته بالسماء. كما أن العيش( الخبز) مصنوع من القمح أو الحنطة وهي رمز للخير والنماء والانبعاث من العدم إلى الوجود، من الموت إلى الحياة.
ويصر المصري إذا وجد قطعةَ خبزٍ على الأرض أن يحملها بعيداً عن دهس الناس. ذلك تعظيماً للجانب المقدس فيها وتبجيلاً لمصدر الحياة من خلالها. وتمثل القطعة نفسها مادة للحلف، إذْ يحلف بها أغلط الايمان في أموره الاعتيادية ( عليَّ النعمة) ممسكاً قطعة خبر. ويرى الحرمان منها بمثابة الحرمان من الوجود، ويعتبر إياها رمزاً لعقد الصلات القوية بين الناس، وهي صلات يستحيل أن تنفصم طالما بينهم ( عيش وملح ) كما يقال.
لا شيء هناك
يقف الشعبيون كأشجار عتيدة في المجتمعات العربية. هم الروح الذي تتنفسه البيئة والثقافة منذ أزمنة سحيقة. حتى تحول الناس البسطاء إلى مَعلّم من معالم البلد الذين يجدون فيها. فمصر لها معالم أثرية وتاريخية ولكن لا تنفصل تلك المعالم عن وجود الشعبيين. فهم آثار حية متحركة مازالت واسعة الانتشار في الأحياء المهمشة والأرياف النائية.
هناك من لا يستطيع التعرف على بعض المجتمعات إلاَّ إذا تعرف على الفئات الشعبية. ففيهم تكمن الأصول التي يتتبع من خلالها كيف يعيش الناس. لأن المجتمعات ذات الطابع الشعبي تكون حضارتها صيغةً عبقرية تتوائم مع الجذور بشكل منطو على مفارقةٍ. الماضي حيث تمتد موروثاته البعيدة والحداثة التي توجد في مظاهر عصرية واضحة. تماماً مثل المرأة الطاعنة في السن عندما تضع مساحيق الجمال المعاصرة، وهي مساحيق لا تخفي قسمات الأصالة، ولكنها تعطيها عمقاً ووقاراً. تلك الأصالة الكامنة في الروح والعقل حيث لن تتلاشى، ولكنها تطل من وراء المظاهر.
أبداً لا يخفى علينا كون الشعبيين يفسرون حقائق الحياة. إذ ضمن أعماق الحياة، تكمن خطوات شعبية بعيدة الأثر. ففي الموسيقى لا تتلاشى الإيقاعات الشعبية، لأنها هي التي تميز أصالة الشعوب. ومهما تطورت الموسيقى ومهما تنوعت، فالإيقاع الشعبي يظل متفرداً. لأنه يعبر عن رؤى العالم الخاصة بأصحابها، هو البصمة الوراثية الباقية مع زوال معالم الثقافة المادية. وبالتالي ستكون الموسيقى مزيجاً من القديم والمعاصر، ستكون روحاً محلقاً لا يتوقف عن التحليق عبر الأزمنة المختلفة، فالموسيقى والإيقاعات الشعبية شديدة الجاذبية وقوية التأثير.