مذكرات ج 22
الظهور امام الجمهور
دعتني اللجنة المنظمة لاحياء ذكرى رحيل الشاعر الرائد محمود البريكان فقلت لهم ساشترك بالسرد لا الشعر فارفقوا اسمي ضمن الدراسات .كان دوري متاخرا في قاعة عتبة بن غزوان الضيقة وسط العشار وقد بدا الجمهور القليل متململا من الشعر الذي يصعب هضمه .لكني اقتطعت صفحات قليلة من كتابي ( البريكان مجهر على الاسرار وجذور الريادة ) لاتلوها امامهم .ولم تمض دقائق على بدء قراءتي حتى فاجاني المقدم الكاتب جاسم العايف بان وقتي قد نفذ وعلي توديع المنصة فقلت له ( احتاج دقيقة فقط لاكمل الفكرة ) فرفض .ورايت بعض الحاضرين يقفون ويدلون باحتجاجهم ويرغبون بان اكمل فلم يوافقهم الراي .. بعدها التقت معي اكثر من فضائية على هامش الجلسة لاحدثهم عن البريكان .اذكر اني خاطبت العايف محتجا ( بلد يضيع فهل تؤثر دقيقة واحدة ).بعد اشهر اخبرني صديقي علي عبد النبي بان العايف كتب عني في احد كتبه ( باني مت بعد مغادرتي السجن بسبب مادة سمية زرقت بها اثناء الاعتقال حسب قول اهلي واصدقائي على حد قوله ).حين اطلعت على المعلومة في الكتاب قصدته بالفيسبوك واخبرته معلقا باني حي ارزق لكنه تصورني مدعيا واصر على موقفه .بعدها نشرت بفكاهة عن الحادث على حسابي وقلت يميتونني وانا حي , ولا ادري كيف اهتدى الاديب الفقيد لصفحتى وكتب معلقا بكلام جارح وبانه لو كان كلامي حقيقيا فعلي ان اشكره لاني نكرة وهو من ذكرني .صديقي الاديب ع القريب من العايف عاتبته لماذا لم تخبره باني حي وقد قرات حوارنا فقال ( فضلت تاجيل الامر ! ) , وهو سلوك مؤسف اتمكن من تفسيره لكني لا اود توصيفه هنا .مر العايف قبيل رحيله شبه محدودب ذات مساء ثقيل الخطى وكنت بمقهى مكشوف على الشارع وكان يرتدي قاطا بيجيا فقلت لصاحبي ( انظر هذا الذي حرمني من دقيقة لاوضح فكرتي والذي اماتني وهما ).كنت لا اعرف الاستاذ جاسم العايف (1944 -2019 ) فبحثت عنه وعلمت بانه كان سجينا في سجن الحلة المركزي 1965 حيث بدا النشر وانه سجين سياسي عام 1964, (شيوعي ) وقد نشرفي مجلات و صحف عدة وعمل في بعضها وتصدر اللجنة الثقافية في اتحاد ادباء البصرة واصدر كتابين (دراسات في الادب والفن والفكر وقراءة اولى .. مقالات ) وان اغلب الادباء يحترمونه .عندها تجردت من غضبي وسامحته ولا ادعي ان تصرفيه انمحى تاثيرهما بنفسي .يظهر ان الانسان عندما تباغته الحقيقة يصعب عليه تحمل اعبائها وان النادرين من يواجهونها بشجاعة الوعي .الكثير من المهرجانات الثقافية وجلسات الذكرى او الادبية هي لون من الاستعراض يظهر فيه الجمهور جامدا مثل كائن مخدر يعمه الوجوم .وانت تستغرب من قوة التفاعل في المهرجانات للشعر الشعبي وفقره بمهرجانات الفصيح .مؤخرا اميل للتصور بان 90 بالمئة منها هي احفاد جثثية لسوق عكاظ .احيانا تدفعك نزوة غامضة للظهور يصعب تفسير اسبابها منها ذلك الضحى الذي القيت فيه قصيدة نظمية من الشعر المقفى .في احدى القاعات بكليات باب الزبير بساحة سعد وقفت خلف الات موسيقية صغيرة وكبيرة كما في احتفالات الجاز والتقطت لي صورة وانا امسك المايكروفون المعلق بعمود رفيع اسود , كل من رأها حسبني اغني .كان الجمهور من طلاب وطالبات صاخبا وربما دفعوا كرها لحضور مناسبة وطنية يستهجنونها ,حال شبيه بالاجتماعات الحزبية المكررة الفارغة التي سأمها الناس .حييت الجمهور ناظرا كل طالب فرحا بملاطفة طالبة حبيبة او مقربة .وذكرت العنوان ( الاخوة كراموزوف ) فصاح احدهم ( اعد ) فاجبته ( وماذا اعيد هل العنوان ؟ ) .طالما كررت ذكر هذا الموقف الفكاهي فالطالب عبّر عن روح ظريفة , ربما كان جل همه ان يستقطب نظرة فتاة او ضحكة طالب ولا يعنيه شعر او فصاحة .ثم قرات قصيدتي المختزلة الغامضة(تعوي الجماجم هل رأيت حجارةذئبية رنت لغير المعولوتصوف الشبقي من املاقهوانفت رغم سنا ورقة مخمل ).في مهرجان اخر رأيت حضورا غفيرا تحتل المقاعد الاولى عمائم سوداء وبيضاء ومسؤولون ومتكرشون , فبرقت بذهني فكرة قديمة هي ان نتلو ما يزعج ايام الاحتفالات المفرغة التي كان يقيمها النظام السابق , ثلاثون عاما من ( فلسطين عربية و شعب شعب كله بعث ويعيش ويسقط وخلي عارف يلحك نوري او حافظ ) ثلاثون عاما من رايات تلوّح ومعقلون يهزجون واياد احمرت من التصفيق .. انتهت لفراغ عميق .لقوة الحضور طلبت من المشرف ان اقرا قصيدة ومن محاسن الديمقراطية الشكلية انهم لا يطلبون قصيدتك للفحص قبل الالقاء فقرأت( وعاد حرملة للبار موضعهريش الطيور ودم النحر يثملهومر الف يزيد في شوارعنااشك نحميه حقا ام سنقتلهانت للحرية مولاي ثرتوالنحر كل يوم عدنا وكربلاءباسمك انترست جيوب الفاسدينومن فساد المال كلهم ابرياءبرلمان وبرلمان وبرلمانوضاع صوت الحرة (يا بن الطلقاء)اظن باليابان الردته جرىواحنة ظلينة بطالة وكهرباء ).وجدت القصيدة صدى ووقف الكثير مصفقين .كنت ارددها في الباصات والمحال ومواقع اخرى كثيرة فلما كثر طالبوها طبعت مئات النسخ منها على ورق بحجم الكف واختصرت الجهد بالتوزيع .لكن ما جرى بعدها كان لافتا , فكان المشرفون على المهرجانات غالبا يعتذرون مني لان الوقت لم يسمح بمشاركتي حسب زعمهم , حتى اسرّ لي البعض يوما ( انت بعد قصيدتك عن حرملة والبرلمان صار شبه اجماع خفي على تجنب القائك ).وتأكد ذلك حين قال مسؤول كبير في جلسة ودية مبتسما بحضوري ( انتبهوا لاستاذ كاظم فان اعتلى منصة فسيحرجنا بقذف البرلمان ) .
***
مذكرات ج 25
نظرة للامام...
منزل النساء ومطار بامرني.
تلك كانت سنة 1979 كان قد مضى عام على زجي في القوات المسلحة , لم يخطر في بالي يوما ان اكون عسكريا فمنذ ان سمعت وانا صغير بان الجيش يأمرك ان تحفر حفرة ثم يكرهك على ردمها كرهت العسكر, وكان اخي ضمن وحدة مدفعية لا يمل من قص حكايا عن وحدته حتى اصابنا السأم من قصصه.
ومن طبعي السلام لهذا نشأت على كره مسبق للجيش .
حتما الان لي اراء مختلفة فلا تتمكن دولة من الوجود بلا جيش قوي .
لكن مدة خدمتي بالجيش استغرقت 8 سنوات بسبب الحرب...قلت لو تسرحت فلا ابقي اي اثر لاي شيء بلون الخاكي.
كنت من عام اطلق سراحي من سجن ابي غريب وبعد اسبوعين وجدتني ضمن لواء 33 الفوج السابع قوات خاصة .. ولانا نتبع البحرية فكان النزول يوميا ببزة بيضاء .
انها 1979 حيث تم نقل فوجنا من الشعيبة الرملية الى محافظة دهوك اقصى الشمال نحاذي تركيا .
عسكرنا بمطار بامرني كانت رحلة مضنية من الشعيبة في البصرة للشمال من موقع الصهر الى اراضي الثلج وكنت بتركيبي حساسا من البرد فتخيل حالي وانا انتقل مع بعض جنود سريتي بالايفا المكشوفة.
كنا نسميهم ( العصاة ) اولئك الذين حاربوا عقودا لاجل الحرية والكرامة , ضحايا بعض القرارات البريطانية الجائرة ,وكان اخي قد سبقني هنا قبل سنوات وروى لي صورا عن الرعب والانتهاكات التي كانت تمارس ضد الاكراد , فاية اطلاقة من قرية يتم حرقها تماما , أي رعب هذا .
هناك اقتنيت مجموعة (منزل النساء ) للكاتب البصري المبدع محمد خضير :
(وعبر راسينا القريبين كان ينتقل شلال من الاصوات الساكنة الواخزة على وسادة محشوة بالنواح وبصراخ الورثين المستبعد وباحتضارات الكائنات التائهة: شخير ابي وتنهدات امي وصرير الابواب واذان كل فجر وصياح الديكة ونباح الكلاب وهمهمات العجائز ثم تكسير العيدان في التنور وارتطام العجين بالراحات الماهرة بحة الامهات المزكومات الحبالى والمتخمات بغازات الكراث والفجل وماء الانهارالمسدودة اهازيج جامعي التمر وصفعات الاجسام العارية لماء الانهار الممتلئة بالحشائش الهلاهل والدرابك والطبول الولائم العشائرية وطلقات البنادق القديمة انبجاس الدم انسحاق الحنطة والرز في الجاون ونخل الطحين بالمناخل ودوران الرحى الصخرية المنقرة صليل الاساور والقلائد والاقراط والخلاخل لطم الصدور وقع القباقيب الخشبية صرير المهد الادعية والتلاوات والاهازيج...).
مثل هذا المقطع قراته هناك في دهوك فخفف عني الانصهار .
رايت في هذه المجموعة قصصا بنهج متفرد تمثل بخصوصية القاموس والايقاع ودقة التكثيف وروح الشعر .
واذكر في مناسبة ما تحاورت مع الشاعر الرائد البريكان فقال ( محمد خضير تفاءلت به واوصيت ان ازود بنصوص انشرها له في مجلة ( الفكر الحي ) .
من سجن ابي غريب الى عسكري بالكمندوز لشاب شاعر لم يتشاجر يوما حتى براحة اليد .
وكنا نعلم بان الاكراد يحبوننا نحن اهالي البصرة قيل لحفاوة استقبالنا للبرزاني قائدهم يوم زارها .
فكيف ساقتل كرديا , لهذا ابتكرت حيلة نجحت , فاقنعتهم ان نظري ضعيف فتم اعفائي من الاشتراك في الكمائن الليلية , فاشعل الفانوس في خيمتي وحيدا واوقد مدفأتي الصدئة واقضي الليل اقرأ فيما يكمن اصحابي تحت الثلج في انتظار اكراد ليقتلوهم او ياسرون .
ربما كنت الوحيد في وحدتي من يقرأ كتبا فلفت ذلك نظر جندي فقال لي ( انت تقرا سارتر لو تدري ما سيفعل بك ضابط الاستخبارات لو علم بذلك ) كنت حينها اتابع ثلاثيته دروب الحرية .
حين استقر جسدي في دهوك كانت الحركة الكردية في خمول , لهذا بعد ان نوزع القصعة,( كنت ضمن الطباخين ) ,امضي مشيا لساعة بحزامي حربة فقط بين بساتين العنب والتفاح والمشمش وغيرها , بساتين هجرها اهلها , كنت اقطف فاكهة واحدة كل عشرين مترا فلما اصل موقعي الذي ساعود منه يكون لدي نصف كيس تمن من الفاكهة فاضعها في مجرى ماء مبرد ونستحم على الحجر البهي ونعود .
من خيمتي في السليمانية سمعت جنديا يبكي ويشهق في التاسعة ليلا , ثم رايت احدا يضع اقدام جندي بماء ساخن فتخرج مثلجة ... ما حدث ان سريتنا قصدت اكرادا مسلحين وحذرهم الدليل من عاصفة ثلجية لكن الآمر لم يقتنع وامر الجنود بالتقدم فتمكن منهم الكرد المسلحون وتساقط الرجال بين جريح وقتيل ومعاق ولم ينقذ الموقف الا فوج من الحرس الجمهوري نقل من بغداد بالطائرات ليعالج الموقف .
كنت اتنزه وحدي في غابات دهوك..ملبدا بالظلال...منتشيا بجمال الاشجار ...ولاول مرة ارى اشجار الجوز شامخة باماكن مرتفعة.
جذبتني الربايا والمرتفعات وسجائر المقاتلين الكرد يضعونها داخل قصبة مثقبة مغطاة بطاقية خشبية كي لا يستهدفهم القناصون لضوء الجمر.
هناك شرعت بكتابة اراء نقدية حول قصيدة النثر...تجمعت بدفتر ضاع مني..
كنت مختصا بالمطبخ بسلخ الخرفان..التي نستولي عليها من الكرد الهاربين..
كنت اتسلى بكتابة زهيريات
( مايلة
عطشان حبك سراب الما روة مايله
وخمر الغرور بدليلك غيرة ومايلة..
كلبك الي ومن تمر عينك لهم مايلة
...الخ ).
وكتبت العديد من الابوذيات ذكرت فيها المناطق الدهوكية مثل سولاف وسرسنك وغيرها.
وربما الطرق المتعرجة في الجبال هي من ارهبتني فقلت ان غادرت فلن ازور الشمال الذي لم ازره حتى 2024.
فجرا نباغت القرى مدججين لكنا خلال سنة لم نمسك كرديا واحدا..النساء وحدها من نرى.
وكم اشعر بالخجل للان فيوم عودة فوجنا للبصرة كنا نطلق في الوديان عبثا وقد جاريت الجنود واطلقت مثلهم على الفراغ
***
نظرة الى الامام مذكرات ج26
الفنان رعد الحجاج والبقال الكهل.
كانت اللوحة المعلقة في غرفة الاستقبال كبيرة نسبيا.. رسمت باسلوب يحاكي السريالية.. قلت في نفسي ان هذا الفنان رعد يملك موهبة وسطية كان اول لقاء مع الفنان التشكيلي رعد الحجاج في مرسمه وسط ساحة ام البروم قريبا من تمثال العامل الذي يقف بشموخ رافعا مطرقة ثقيلة.كان مرسمه محاذيا لمحل استاذي في الابتدائية الشاعر المترجم علي عبد الكريم الذي يقع في زقاق ضيق مغلق. سألت رعد الحجاج(هل تخرجت من معهد او كلية الفنون) فاجابني باحتدام (لماذا تتصورون بان خريجي المعاهد الفنية وحدهم من يرسمون).يتمتع الحجاج (1967-2019) بروح الفكاهة واناقة المظهر والانفة والكتمان وهو شاطر في حقل مصالحه..وهو مؤمن بلا تشنج. وكنت اخشى واحثه (عليك ان تنجز اعمالا مهمة ولا تتوزع.).وكنا حين نكثر الحوار حول ماتيس وبيكاسو يقول (ان هناك فنانين عظماء لا تركزون عليهم).بعد السقوط بقليل اسس الكاتب عبد الرؤوف الشريفي ورعد الحجاج صحيفة المدى ودعاني لان اكون مديرا فيها.لم نكن نملك مالا ولا خبرة صحفية كل ما في الامر كان يسوطنا الاصرار لنتنفس بعد عقود من الكبت الصحفي والثقافي.بعدها شاركت معهما بصحيفة (صدى الناس)التي صدر منها عدد واحد ب حث من الرجل المسن حسن الخفاجي. ومرت السنوات وعملت مراسلا في صحيفة حوار فدعوت رعد الحجاج ليعمل معنا بصور كاركاتيرية. قدم لنا صورا كاريكاتورية تميزت بتعملق الاجساد والاشياء.كان عبد الرؤوف ورعد صديقين قديمين درسا في جامعة الموصل فتخصص رؤوف بالترجمة ورعد بالعلوم الفيزياوية.وكنا نحن الثلاثة من محلة واحدة.فكنا نلتقي باستمرار.اسس رعد الحجاج(جماعة حضور للفن) مهتمة بالرسوم الكاركاتورية..وقد فازت احدى لوحاته من منظمة ثقافيه في كندا.كان السكن يشكل لرعد ازمة حادة بعد السقوط كلف من ديوان المحافظة باقامة جدارية واكتملت ونصبت على الجدار الخلفي لشركة نفط الجنوب في شارع دينار.كانت الجدارية تنويعا من الفسيفساء وتظهر فيها صورة السياب الا ان قطعا منها بدأت تتهاوى بمرور الايام.كنت اتمنى ان يصمم تمثالا يخلده كتمثال العامل الذي انجزه الفنان البصري عبدالرضا بتور وصار التمثال علامة دالة على ام البروم. لكن تلك الجدارية اكسبت رعد مالا مكنه من شراء منزل بعد طول عناء. البقال الكهلهي لوحة عرضها علينا مع لوحات واقعية بنفس الحجم انا وعبد الرؤوف الشريفي وكانت مرسومه على الورق المقوى وهي متقنة توازنا والوانا ..هي لكهل بقال يرتدي دشداشة عتيقه وجيبه منتفخ..حاولنا ان نخمن ماذا كان يخبئ فيه..يبدو البقال خارج عالم السوق.. غارقا بعوالم اخرى تعصر وجهه المغضن غيمة من الحزن واضحة يجلس امام المخضرات والفواكه.تلك اللوحات من الواقعية المحدثة هي افضل ما انتجه الفنان رعد فطلبتها منه وقلت له (ساكتب عنها) فاهداني اياها وما تزال معلقه على جدار منزلي.كم تمنيت ان يطور التشكيلي رعد من فنه الواقعي.. لكنه توزع وتفرع فأثر ذلك على فنه. في ايام الحصار عمل نحاتا في ورشة صديقنا صباح.. كان نحته على الابواب الخشبية مميزا.. حيث النباتات المتنوعه وانواع الزواحف والطيور والازهار وغيرها.. كانت اعمالا متقنه تمنيت ان يتطور فيها.لكنه كان سريع التحول هوسا بالتنوع والتجديد. وفيما كنا ننتظر منه ونحثه لاقامة معارض له او نحت يخلد وسط المدينه كان يتردد. في تلك الليلة الكارثية اوصل صديقه الى شارع بغداد فدهستهما عجلة مسرعه.في اليوم الثاني كنا نحن اصدقاؤه الثلاثه انا ورؤوف وعلي عبد النبي نحاول ان نتماسك ونحن نرى جثمانه يغادرنا للابد وكنت اردد ابيات لي في ضميري (فان الخطى المبطئة تضيع صبحا). بهذا سينضم الفقيد رعد لقافلة الادباء والفنانين الذي قضوا مبكرا تاركين اعمالهم بيد القدر.
***
- نظرة الى الامام مذكرات ج 28
موجة دينيةفي التسعينيات تصاعدت موجة دينية ربما كان احد اسبابها تاثير المرجع الشيعي محمد صادق الصدر الذي كان يخطب يوم الجمعة وهو يرتدي الكفن كاشارة لتحدي قسوة النظام السابق قبل اغتياله سنة 1999.وكان عدد كبير من الشباب مهتما بزواج المتعة وبعضهم يقصدني لاكتب لهم صيغتها الشرعية .لست روزخونا لكني طبعي لا ارد طلبا .. ولاحظت ان بعضهم حتى في الحرم الجامعي يحاول اقناع الفتاة التي يريدها بحجج شرعية .لم استغرب ففي تاريخنا العربي طالما ( انتصب السيف وسالت الدماء ) لتفسيرات منتقاة للقرآن الكريم .وقد يكون الحكم الشرعي مقيدا ولكن البعض يجعله مطلقا .فقد ابيح لاول مرة التدخين في رمضان لضرورة قصوى ثم رايت شيوخا يدخنون بتلذذ امام الصائمين.كان احد معارفي يهمه من الدين اللطم واللطميات (وهي قصائد ومرثيات حسينية تقرأ على المنابر مصحوبة بالضرب على الصدور ) مواساة لاهل البيت فتراه يدرب صغيره ذا الثلاثة اعوام على ذلك فتراهما معا طيلة اليوم يلطمان .والتحق في حوزة علمية في النجف ليدرس العقائد ويكون شيخا بعمامة بيضاء , كان ممتليء الجسم ببشرة سوداء حائلة .لكنه عاد بعد شهر لي لاعلمه اوليات اللغة وقد كلفه شيخه ان ينسخ كتيبا ليتحسن خطه وقراءته.من خلال هذا الرجل تعرفت على اخيه الاصغر منه وكان اشد سوادا منه ويتمتع بالصمت والهدوء والحزن المطبق .كانت غرفتي وحيدة فقيرة في السطح وهي التي وصفتها باحدى قصائدي( في السطح عندي كهفينضج فيه سأمياو صخب الكؤوس والحوار ).هذا الشاب الاصغر من اخيه كان يكتب الشعر الشعبي وله قدرة فائقة باختلاق الطرفة , كان روحا نقيا لا يعرفه الا من يقترب منه .فتصلبت اواصر صداقتنا وكان يقصدني فنقبع في العلية ليلا في تلك السنة التي هاجمت العراق الطائرات الامريكية .كنا نسهر على ضوء خافت فقد امرونا بحجب النوافذ واطفاء الاضواء وكأن منزلي البسيط مقر للدبابات .وفيما كان رعب عاصفة القاذفات المتسلسلة يهزالبيوت كنا نرتجل شعرا ساخرا بلهجة دارجة فاقول بيتا فيجيبني, وكنت اسجل ما نرتجل فاذكر منها( يا طلي مايك حمه ) فاجابني فورا ( كوم اسبح وفضها ) في حفلة من القهقهات متواصلة .انتقل صاحبي وعائلته لمنزل في حي الحسين جهلت عنوانه وعلمت فيما بعد بمقتله .فقد كان اخوه مولعا بتربية الحمام فتشاجر لاجلها مع جار له وذهب صاحبي ليستقصي ويعالج الموقف اذا بمن تشاجر مع اخيه الاصغر يفتح نيران رشاشته من السطح ويرديه قتيلا .في مرة دعاني رجل شاب بقال لاعلمه القراءة والكتابة في منزله , في اليوم الثاني رايت امراة معتمة بعمامة نسوية سوداء تدخل علينا وبيدها رضيع وضعته بعد تحية مختزلة في حجري وقالت( مولاي انه لا يتوقف عن الصراخ فاقرا عليه ) , فاستغربت ونظرت تلميذي فاشار لي بما يعني نفذ ثم ناقش .فوضعت يدي عليه وقرات بعض الايات وقلت لها ( سيشفى بعون الله ).في اليوم الاخر كيس من السكر والشاي وعلب السجائر وغيرها قدمته قائلة ( ببركاتك طاب ) , كنا بوضع حصار خانق وليس يسيرا اقتناء علبة سجائر .فقال صاحبي ساعة انفردنا ( امي تعتقد بان السادة يشفون اكثر من الطبيب ).لست ادري كيف تصورتني سيدا اشفي المرضى .عشرات من النساء والرجال كلفوني اعلمهم القراءة والكتابة , اما لكي يقرؤوا القران والادعية او للتهيؤ للالتحاق بالحوزات العلمية الدينية بالنجف.واذكر اتى لي رجل بعمر الخمسينيات لاعلمه اساسيات اللغة قبيل السقوط كان كريما معي وبعد شهر فيما كنت ادرسه بمنزله سمعت هرجا لامراة فقال بشبه صرخة ( لا دراسة بعد اليوم ) , كانت تعاني من مس عضال .وكان طالب علم حوزي جار لي قد عرّفه علي وكان يزورنا اثناء الدرس احيانا ومعه كتب كلف بشرائها له واستغربت ان بعض الكتب فلسفية او نحوية كابن عقيل في شرح الالفية وهي لا تنفعه ولا يتمكن من قراءتها , ذات يوم اخبرني الرجل بان الطالب الحوزي احتاج مبلغا فاهداه كل تلك الكتب ليبيعها ويستلم ثمنها .بعد السقوط شاهدت طالبي الرجل البدين ابيض البشرة يتوجه لديوان المحافظة بوجه دائري معتما بعمامة بيضاء كبيرة.ومن الغرائب ان طالب الحوزة انتقل من محلتنا وفقدت اثره وقيل انه مات , لكني بعد السقوط سمعت له محاضرة وهو على المنبر الحسيني ما يؤكد انه حي يرزق .في تلك المرحلة سمعت يوما بشيخ قيل انه متفوق بالقاء الدروس النحوية فعرفت عنوانه وقصدته في احد جوامع البصرة .التقيت بطلابه قبل وصوله وبعضهم جيران وسألتهم اسئلة نحوية بسيطة بالاعراب فاحتدموا وقالوا انت تستفزنا فاستغربت وثلّجت فيهم التوتر واتى الشيخ استاذهم وهو يضع عمامة سوداء , رجل في الثلاثينيات بهي الوجه هاديء وكان يلقي عليهم محاضرات من بن عقيل وهو المستوى الذي يدرس في كليات الاداب .وبعد توقف الدرس التقيته منفردا وقال انه مزدحم ولا وقت لي معه سوى ربع ساعة فاخبرته ان معلومات طلابه شحيحة فكيف تلقي مثل هذه المحاضرات عليهم فاجاب ( نحن اعلنا بان من يتقدم للدرس يجب ان يكون مؤهلا).بعد اسبوع قصدت الرجل وفقا لموعد مسبق كان لديه وقت اضافي فقال لي انه يلقي محاضرات بجوامع عدة بمناطق متفرقة ويحصل من كل ذلك على ثمن زهيد وهو اب لطفلين وقد نال الماجستير من ايران وهو بانتظار معادلة شهادته من وزارة التعليم العالي .سالته عن نقطة مركزية في نظرية الحركة الجوهرية لصدر المتالهين الشيرازي وهي ( رغم ان الروح ليست مادة فان لها نسبا ماديا ) فقلت له اليست هذه الفكرة هي نفسها فكرة ماركسية ( الروح مادة متطورة ) فاحالني لعالم فارسي لاتعمق بالبحث في هذه النظرية التي قراتها في كتاب ( فلسفتنا ) لمحمد باقر الصدر
***
الظهور امام الجمهور
دعتني اللجنة المنظمة لاحياء ذكرى رحيل الشاعر الرائد محمود البريكان فقلت لهم ساشترك بالسرد لا الشعر فارفقوا اسمي ضمن الدراسات .كان دوري متاخرا في قاعة عتبة بن غزوان الضيقة وسط العشار وقد بدا الجمهور القليل متململا من الشعر الذي يصعب هضمه .لكني اقتطعت صفحات قليلة من كتابي ( البريكان مجهر على الاسرار وجذور الريادة ) لاتلوها امامهم .ولم تمض دقائق على بدء قراءتي حتى فاجاني المقدم الكاتب جاسم العايف بان وقتي قد نفذ وعلي توديع المنصة فقلت له ( احتاج دقيقة فقط لاكمل الفكرة ) فرفض .ورايت بعض الحاضرين يقفون ويدلون باحتجاجهم ويرغبون بان اكمل فلم يوافقهم الراي .. بعدها التقت معي اكثر من فضائية على هامش الجلسة لاحدثهم عن البريكان .اذكر اني خاطبت العايف محتجا ( بلد يضيع فهل تؤثر دقيقة واحدة ).بعد اشهر اخبرني صديقي علي عبد النبي بان العايف كتب عني في احد كتبه ( باني مت بعد مغادرتي السجن بسبب مادة سمية زرقت بها اثناء الاعتقال حسب قول اهلي واصدقائي على حد قوله ).حين اطلعت على المعلومة في الكتاب قصدته بالفيسبوك واخبرته معلقا باني حي ارزق لكنه تصورني مدعيا واصر على موقفه .بعدها نشرت بفكاهة عن الحادث على حسابي وقلت يميتونني وانا حي , ولا ادري كيف اهتدى الاديب الفقيد لصفحتى وكتب معلقا بكلام جارح وبانه لو كان كلامي حقيقيا فعلي ان اشكره لاني نكرة وهو من ذكرني .صديقي الاديب ع القريب من العايف عاتبته لماذا لم تخبره باني حي وقد قرات حوارنا فقال ( فضلت تاجيل الامر ! ) , وهو سلوك مؤسف اتمكن من تفسيره لكني لا اود توصيفه هنا .مر العايف قبيل رحيله شبه محدودب ذات مساء ثقيل الخطى وكنت بمقهى مكشوف على الشارع وكان يرتدي قاطا بيجيا فقلت لصاحبي ( انظر هذا الذي حرمني من دقيقة لاوضح فكرتي والذي اماتني وهما ).كنت لا اعرف الاستاذ جاسم العايف (1944 -2019 ) فبحثت عنه وعلمت بانه كان سجينا في سجن الحلة المركزي 1965 حيث بدا النشر وانه سجين سياسي عام 1964, (شيوعي ) وقد نشرفي مجلات و صحف عدة وعمل في بعضها وتصدر اللجنة الثقافية في اتحاد ادباء البصرة واصدر كتابين (دراسات في الادب والفن والفكر وقراءة اولى .. مقالات ) وان اغلب الادباء يحترمونه .عندها تجردت من غضبي وسامحته ولا ادعي ان تصرفيه انمحى تاثيرهما بنفسي .يظهر ان الانسان عندما تباغته الحقيقة يصعب عليه تحمل اعبائها وان النادرين من يواجهونها بشجاعة الوعي .الكثير من المهرجانات الثقافية وجلسات الذكرى او الادبية هي لون من الاستعراض يظهر فيه الجمهور جامدا مثل كائن مخدر يعمه الوجوم .وانت تستغرب من قوة التفاعل في المهرجانات للشعر الشعبي وفقره بمهرجانات الفصيح .مؤخرا اميل للتصور بان 90 بالمئة منها هي احفاد جثثية لسوق عكاظ .احيانا تدفعك نزوة غامضة للظهور يصعب تفسير اسبابها منها ذلك الضحى الذي القيت فيه قصيدة نظمية من الشعر المقفى .في احدى القاعات بكليات باب الزبير بساحة سعد وقفت خلف الات موسيقية صغيرة وكبيرة كما في احتفالات الجاز والتقطت لي صورة وانا امسك المايكروفون المعلق بعمود رفيع اسود , كل من رأها حسبني اغني .كان الجمهور من طلاب وطالبات صاخبا وربما دفعوا كرها لحضور مناسبة وطنية يستهجنونها ,حال شبيه بالاجتماعات الحزبية المكررة الفارغة التي سأمها الناس .حييت الجمهور ناظرا كل طالب فرحا بملاطفة طالبة حبيبة او مقربة .وذكرت العنوان ( الاخوة كراموزوف ) فصاح احدهم ( اعد ) فاجبته ( وماذا اعيد هل العنوان ؟ ) .طالما كررت ذكر هذا الموقف الفكاهي فالطالب عبّر عن روح ظريفة , ربما كان جل همه ان يستقطب نظرة فتاة او ضحكة طالب ولا يعنيه شعر او فصاحة .ثم قرات قصيدتي المختزلة الغامضة(تعوي الجماجم هل رأيت حجارةذئبية رنت لغير المعولوتصوف الشبقي من املاقهوانفت رغم سنا ورقة مخمل ).في مهرجان اخر رأيت حضورا غفيرا تحتل المقاعد الاولى عمائم سوداء وبيضاء ومسؤولون ومتكرشون , فبرقت بذهني فكرة قديمة هي ان نتلو ما يزعج ايام الاحتفالات المفرغة التي كان يقيمها النظام السابق , ثلاثون عاما من ( فلسطين عربية و شعب شعب كله بعث ويعيش ويسقط وخلي عارف يلحك نوري او حافظ ) ثلاثون عاما من رايات تلوّح ومعقلون يهزجون واياد احمرت من التصفيق .. انتهت لفراغ عميق .لقوة الحضور طلبت من المشرف ان اقرا قصيدة ومن محاسن الديمقراطية الشكلية انهم لا يطلبون قصيدتك للفحص قبل الالقاء فقرأت( وعاد حرملة للبار موضعهريش الطيور ودم النحر يثملهومر الف يزيد في شوارعنااشك نحميه حقا ام سنقتلهانت للحرية مولاي ثرتوالنحر كل يوم عدنا وكربلاءباسمك انترست جيوب الفاسدينومن فساد المال كلهم ابرياءبرلمان وبرلمان وبرلمانوضاع صوت الحرة (يا بن الطلقاء)اظن باليابان الردته جرىواحنة ظلينة بطالة وكهرباء ).وجدت القصيدة صدى ووقف الكثير مصفقين .كنت ارددها في الباصات والمحال ومواقع اخرى كثيرة فلما كثر طالبوها طبعت مئات النسخ منها على ورق بحجم الكف واختصرت الجهد بالتوزيع .لكن ما جرى بعدها كان لافتا , فكان المشرفون على المهرجانات غالبا يعتذرون مني لان الوقت لم يسمح بمشاركتي حسب زعمهم , حتى اسرّ لي البعض يوما ( انت بعد قصيدتك عن حرملة والبرلمان صار شبه اجماع خفي على تجنب القائك ).وتأكد ذلك حين قال مسؤول كبير في جلسة ودية مبتسما بحضوري ( انتبهوا لاستاذ كاظم فان اعتلى منصة فسيحرجنا بقذف البرلمان ) .
***
مذكرات ج 25
نظرة للامام...
منزل النساء ومطار بامرني.
تلك كانت سنة 1979 كان قد مضى عام على زجي في القوات المسلحة , لم يخطر في بالي يوما ان اكون عسكريا فمنذ ان سمعت وانا صغير بان الجيش يأمرك ان تحفر حفرة ثم يكرهك على ردمها كرهت العسكر, وكان اخي ضمن وحدة مدفعية لا يمل من قص حكايا عن وحدته حتى اصابنا السأم من قصصه.
ومن طبعي السلام لهذا نشأت على كره مسبق للجيش .
حتما الان لي اراء مختلفة فلا تتمكن دولة من الوجود بلا جيش قوي .
لكن مدة خدمتي بالجيش استغرقت 8 سنوات بسبب الحرب...قلت لو تسرحت فلا ابقي اي اثر لاي شيء بلون الخاكي.
كنت من عام اطلق سراحي من سجن ابي غريب وبعد اسبوعين وجدتني ضمن لواء 33 الفوج السابع قوات خاصة .. ولانا نتبع البحرية فكان النزول يوميا ببزة بيضاء .
انها 1979 حيث تم نقل فوجنا من الشعيبة الرملية الى محافظة دهوك اقصى الشمال نحاذي تركيا .
عسكرنا بمطار بامرني كانت رحلة مضنية من الشعيبة في البصرة للشمال من موقع الصهر الى اراضي الثلج وكنت بتركيبي حساسا من البرد فتخيل حالي وانا انتقل مع بعض جنود سريتي بالايفا المكشوفة.
كنا نسميهم ( العصاة ) اولئك الذين حاربوا عقودا لاجل الحرية والكرامة , ضحايا بعض القرارات البريطانية الجائرة ,وكان اخي قد سبقني هنا قبل سنوات وروى لي صورا عن الرعب والانتهاكات التي كانت تمارس ضد الاكراد , فاية اطلاقة من قرية يتم حرقها تماما , أي رعب هذا .
هناك اقتنيت مجموعة (منزل النساء ) للكاتب البصري المبدع محمد خضير :
(وعبر راسينا القريبين كان ينتقل شلال من الاصوات الساكنة الواخزة على وسادة محشوة بالنواح وبصراخ الورثين المستبعد وباحتضارات الكائنات التائهة: شخير ابي وتنهدات امي وصرير الابواب واذان كل فجر وصياح الديكة ونباح الكلاب وهمهمات العجائز ثم تكسير العيدان في التنور وارتطام العجين بالراحات الماهرة بحة الامهات المزكومات الحبالى والمتخمات بغازات الكراث والفجل وماء الانهارالمسدودة اهازيج جامعي التمر وصفعات الاجسام العارية لماء الانهار الممتلئة بالحشائش الهلاهل والدرابك والطبول الولائم العشائرية وطلقات البنادق القديمة انبجاس الدم انسحاق الحنطة والرز في الجاون ونخل الطحين بالمناخل ودوران الرحى الصخرية المنقرة صليل الاساور والقلائد والاقراط والخلاخل لطم الصدور وقع القباقيب الخشبية صرير المهد الادعية والتلاوات والاهازيج...).
مثل هذا المقطع قراته هناك في دهوك فخفف عني الانصهار .
رايت في هذه المجموعة قصصا بنهج متفرد تمثل بخصوصية القاموس والايقاع ودقة التكثيف وروح الشعر .
واذكر في مناسبة ما تحاورت مع الشاعر الرائد البريكان فقال ( محمد خضير تفاءلت به واوصيت ان ازود بنصوص انشرها له في مجلة ( الفكر الحي ) .
من سجن ابي غريب الى عسكري بالكمندوز لشاب شاعر لم يتشاجر يوما حتى براحة اليد .
وكنا نعلم بان الاكراد يحبوننا نحن اهالي البصرة قيل لحفاوة استقبالنا للبرزاني قائدهم يوم زارها .
فكيف ساقتل كرديا , لهذا ابتكرت حيلة نجحت , فاقنعتهم ان نظري ضعيف فتم اعفائي من الاشتراك في الكمائن الليلية , فاشعل الفانوس في خيمتي وحيدا واوقد مدفأتي الصدئة واقضي الليل اقرأ فيما يكمن اصحابي تحت الثلج في انتظار اكراد ليقتلوهم او ياسرون .
ربما كنت الوحيد في وحدتي من يقرأ كتبا فلفت ذلك نظر جندي فقال لي ( انت تقرا سارتر لو تدري ما سيفعل بك ضابط الاستخبارات لو علم بذلك ) كنت حينها اتابع ثلاثيته دروب الحرية .
حين استقر جسدي في دهوك كانت الحركة الكردية في خمول , لهذا بعد ان نوزع القصعة,( كنت ضمن الطباخين ) ,امضي مشيا لساعة بحزامي حربة فقط بين بساتين العنب والتفاح والمشمش وغيرها , بساتين هجرها اهلها , كنت اقطف فاكهة واحدة كل عشرين مترا فلما اصل موقعي الذي ساعود منه يكون لدي نصف كيس تمن من الفاكهة فاضعها في مجرى ماء مبرد ونستحم على الحجر البهي ونعود .
من خيمتي في السليمانية سمعت جنديا يبكي ويشهق في التاسعة ليلا , ثم رايت احدا يضع اقدام جندي بماء ساخن فتخرج مثلجة ... ما حدث ان سريتنا قصدت اكرادا مسلحين وحذرهم الدليل من عاصفة ثلجية لكن الآمر لم يقتنع وامر الجنود بالتقدم فتمكن منهم الكرد المسلحون وتساقط الرجال بين جريح وقتيل ومعاق ولم ينقذ الموقف الا فوج من الحرس الجمهوري نقل من بغداد بالطائرات ليعالج الموقف .
كنت اتنزه وحدي في غابات دهوك..ملبدا بالظلال...منتشيا بجمال الاشجار ...ولاول مرة ارى اشجار الجوز شامخة باماكن مرتفعة.
جذبتني الربايا والمرتفعات وسجائر المقاتلين الكرد يضعونها داخل قصبة مثقبة مغطاة بطاقية خشبية كي لا يستهدفهم القناصون لضوء الجمر.
هناك شرعت بكتابة اراء نقدية حول قصيدة النثر...تجمعت بدفتر ضاع مني..
كنت مختصا بالمطبخ بسلخ الخرفان..التي نستولي عليها من الكرد الهاربين..
كنت اتسلى بكتابة زهيريات
( مايلة
عطشان حبك سراب الما روة مايله
وخمر الغرور بدليلك غيرة ومايلة..
كلبك الي ومن تمر عينك لهم مايلة
...الخ ).
وكتبت العديد من الابوذيات ذكرت فيها المناطق الدهوكية مثل سولاف وسرسنك وغيرها.
وربما الطرق المتعرجة في الجبال هي من ارهبتني فقلت ان غادرت فلن ازور الشمال الذي لم ازره حتى 2024.
فجرا نباغت القرى مدججين لكنا خلال سنة لم نمسك كرديا واحدا..النساء وحدها من نرى.
وكم اشعر بالخجل للان فيوم عودة فوجنا للبصرة كنا نطلق في الوديان عبثا وقد جاريت الجنود واطلقت مثلهم على الفراغ
***
نظرة الى الامام مذكرات ج26
الفنان رعد الحجاج والبقال الكهل.
كانت اللوحة المعلقة في غرفة الاستقبال كبيرة نسبيا.. رسمت باسلوب يحاكي السريالية.. قلت في نفسي ان هذا الفنان رعد يملك موهبة وسطية كان اول لقاء مع الفنان التشكيلي رعد الحجاج في مرسمه وسط ساحة ام البروم قريبا من تمثال العامل الذي يقف بشموخ رافعا مطرقة ثقيلة.كان مرسمه محاذيا لمحل استاذي في الابتدائية الشاعر المترجم علي عبد الكريم الذي يقع في زقاق ضيق مغلق. سألت رعد الحجاج(هل تخرجت من معهد او كلية الفنون) فاجابني باحتدام (لماذا تتصورون بان خريجي المعاهد الفنية وحدهم من يرسمون).يتمتع الحجاج (1967-2019) بروح الفكاهة واناقة المظهر والانفة والكتمان وهو شاطر في حقل مصالحه..وهو مؤمن بلا تشنج. وكنت اخشى واحثه (عليك ان تنجز اعمالا مهمة ولا تتوزع.).وكنا حين نكثر الحوار حول ماتيس وبيكاسو يقول (ان هناك فنانين عظماء لا تركزون عليهم).بعد السقوط بقليل اسس الكاتب عبد الرؤوف الشريفي ورعد الحجاج صحيفة المدى ودعاني لان اكون مديرا فيها.لم نكن نملك مالا ولا خبرة صحفية كل ما في الامر كان يسوطنا الاصرار لنتنفس بعد عقود من الكبت الصحفي والثقافي.بعدها شاركت معهما بصحيفة (صدى الناس)التي صدر منها عدد واحد ب حث من الرجل المسن حسن الخفاجي. ومرت السنوات وعملت مراسلا في صحيفة حوار فدعوت رعد الحجاج ليعمل معنا بصور كاركاتيرية. قدم لنا صورا كاريكاتورية تميزت بتعملق الاجساد والاشياء.كان عبد الرؤوف ورعد صديقين قديمين درسا في جامعة الموصل فتخصص رؤوف بالترجمة ورعد بالعلوم الفيزياوية.وكنا نحن الثلاثة من محلة واحدة.فكنا نلتقي باستمرار.اسس رعد الحجاج(جماعة حضور للفن) مهتمة بالرسوم الكاركاتورية..وقد فازت احدى لوحاته من منظمة ثقافيه في كندا.كان السكن يشكل لرعد ازمة حادة بعد السقوط كلف من ديوان المحافظة باقامة جدارية واكتملت ونصبت على الجدار الخلفي لشركة نفط الجنوب في شارع دينار.كانت الجدارية تنويعا من الفسيفساء وتظهر فيها صورة السياب الا ان قطعا منها بدأت تتهاوى بمرور الايام.كنت اتمنى ان يصمم تمثالا يخلده كتمثال العامل الذي انجزه الفنان البصري عبدالرضا بتور وصار التمثال علامة دالة على ام البروم. لكن تلك الجدارية اكسبت رعد مالا مكنه من شراء منزل بعد طول عناء. البقال الكهلهي لوحة عرضها علينا مع لوحات واقعية بنفس الحجم انا وعبد الرؤوف الشريفي وكانت مرسومه على الورق المقوى وهي متقنة توازنا والوانا ..هي لكهل بقال يرتدي دشداشة عتيقه وجيبه منتفخ..حاولنا ان نخمن ماذا كان يخبئ فيه..يبدو البقال خارج عالم السوق.. غارقا بعوالم اخرى تعصر وجهه المغضن غيمة من الحزن واضحة يجلس امام المخضرات والفواكه.تلك اللوحات من الواقعية المحدثة هي افضل ما انتجه الفنان رعد فطلبتها منه وقلت له (ساكتب عنها) فاهداني اياها وما تزال معلقه على جدار منزلي.كم تمنيت ان يطور التشكيلي رعد من فنه الواقعي.. لكنه توزع وتفرع فأثر ذلك على فنه. في ايام الحصار عمل نحاتا في ورشة صديقنا صباح.. كان نحته على الابواب الخشبية مميزا.. حيث النباتات المتنوعه وانواع الزواحف والطيور والازهار وغيرها.. كانت اعمالا متقنه تمنيت ان يتطور فيها.لكنه كان سريع التحول هوسا بالتنوع والتجديد. وفيما كنا ننتظر منه ونحثه لاقامة معارض له او نحت يخلد وسط المدينه كان يتردد. في تلك الليلة الكارثية اوصل صديقه الى شارع بغداد فدهستهما عجلة مسرعه.في اليوم الثاني كنا نحن اصدقاؤه الثلاثه انا ورؤوف وعلي عبد النبي نحاول ان نتماسك ونحن نرى جثمانه يغادرنا للابد وكنت اردد ابيات لي في ضميري (فان الخطى المبطئة تضيع صبحا). بهذا سينضم الفقيد رعد لقافلة الادباء والفنانين الذي قضوا مبكرا تاركين اعمالهم بيد القدر.
***
- نظرة الى الامام مذكرات ج 28
موجة دينيةفي التسعينيات تصاعدت موجة دينية ربما كان احد اسبابها تاثير المرجع الشيعي محمد صادق الصدر الذي كان يخطب يوم الجمعة وهو يرتدي الكفن كاشارة لتحدي قسوة النظام السابق قبل اغتياله سنة 1999.وكان عدد كبير من الشباب مهتما بزواج المتعة وبعضهم يقصدني لاكتب لهم صيغتها الشرعية .لست روزخونا لكني طبعي لا ارد طلبا .. ولاحظت ان بعضهم حتى في الحرم الجامعي يحاول اقناع الفتاة التي يريدها بحجج شرعية .لم استغرب ففي تاريخنا العربي طالما ( انتصب السيف وسالت الدماء ) لتفسيرات منتقاة للقرآن الكريم .وقد يكون الحكم الشرعي مقيدا ولكن البعض يجعله مطلقا .فقد ابيح لاول مرة التدخين في رمضان لضرورة قصوى ثم رايت شيوخا يدخنون بتلذذ امام الصائمين.كان احد معارفي يهمه من الدين اللطم واللطميات (وهي قصائد ومرثيات حسينية تقرأ على المنابر مصحوبة بالضرب على الصدور ) مواساة لاهل البيت فتراه يدرب صغيره ذا الثلاثة اعوام على ذلك فتراهما معا طيلة اليوم يلطمان .والتحق في حوزة علمية في النجف ليدرس العقائد ويكون شيخا بعمامة بيضاء , كان ممتليء الجسم ببشرة سوداء حائلة .لكنه عاد بعد شهر لي لاعلمه اوليات اللغة وقد كلفه شيخه ان ينسخ كتيبا ليتحسن خطه وقراءته.من خلال هذا الرجل تعرفت على اخيه الاصغر منه وكان اشد سوادا منه ويتمتع بالصمت والهدوء والحزن المطبق .كانت غرفتي وحيدة فقيرة في السطح وهي التي وصفتها باحدى قصائدي( في السطح عندي كهفينضج فيه سأمياو صخب الكؤوس والحوار ).هذا الشاب الاصغر من اخيه كان يكتب الشعر الشعبي وله قدرة فائقة باختلاق الطرفة , كان روحا نقيا لا يعرفه الا من يقترب منه .فتصلبت اواصر صداقتنا وكان يقصدني فنقبع في العلية ليلا في تلك السنة التي هاجمت العراق الطائرات الامريكية .كنا نسهر على ضوء خافت فقد امرونا بحجب النوافذ واطفاء الاضواء وكأن منزلي البسيط مقر للدبابات .وفيما كان رعب عاصفة القاذفات المتسلسلة يهزالبيوت كنا نرتجل شعرا ساخرا بلهجة دارجة فاقول بيتا فيجيبني, وكنت اسجل ما نرتجل فاذكر منها( يا طلي مايك حمه ) فاجابني فورا ( كوم اسبح وفضها ) في حفلة من القهقهات متواصلة .انتقل صاحبي وعائلته لمنزل في حي الحسين جهلت عنوانه وعلمت فيما بعد بمقتله .فقد كان اخوه مولعا بتربية الحمام فتشاجر لاجلها مع جار له وذهب صاحبي ليستقصي ويعالج الموقف اذا بمن تشاجر مع اخيه الاصغر يفتح نيران رشاشته من السطح ويرديه قتيلا .في مرة دعاني رجل شاب بقال لاعلمه القراءة والكتابة في منزله , في اليوم الثاني رايت امراة معتمة بعمامة نسوية سوداء تدخل علينا وبيدها رضيع وضعته بعد تحية مختزلة في حجري وقالت( مولاي انه لا يتوقف عن الصراخ فاقرا عليه ) , فاستغربت ونظرت تلميذي فاشار لي بما يعني نفذ ثم ناقش .فوضعت يدي عليه وقرات بعض الايات وقلت لها ( سيشفى بعون الله ).في اليوم الاخر كيس من السكر والشاي وعلب السجائر وغيرها قدمته قائلة ( ببركاتك طاب ) , كنا بوضع حصار خانق وليس يسيرا اقتناء علبة سجائر .فقال صاحبي ساعة انفردنا ( امي تعتقد بان السادة يشفون اكثر من الطبيب ).لست ادري كيف تصورتني سيدا اشفي المرضى .عشرات من النساء والرجال كلفوني اعلمهم القراءة والكتابة , اما لكي يقرؤوا القران والادعية او للتهيؤ للالتحاق بالحوزات العلمية الدينية بالنجف.واذكر اتى لي رجل بعمر الخمسينيات لاعلمه اساسيات اللغة قبيل السقوط كان كريما معي وبعد شهر فيما كنت ادرسه بمنزله سمعت هرجا لامراة فقال بشبه صرخة ( لا دراسة بعد اليوم ) , كانت تعاني من مس عضال .وكان طالب علم حوزي جار لي قد عرّفه علي وكان يزورنا اثناء الدرس احيانا ومعه كتب كلف بشرائها له واستغربت ان بعض الكتب فلسفية او نحوية كابن عقيل في شرح الالفية وهي لا تنفعه ولا يتمكن من قراءتها , ذات يوم اخبرني الرجل بان الطالب الحوزي احتاج مبلغا فاهداه كل تلك الكتب ليبيعها ويستلم ثمنها .بعد السقوط شاهدت طالبي الرجل البدين ابيض البشرة يتوجه لديوان المحافظة بوجه دائري معتما بعمامة بيضاء كبيرة.ومن الغرائب ان طالب الحوزة انتقل من محلتنا وفقدت اثره وقيل انه مات , لكني بعد السقوط سمعت له محاضرة وهو على المنبر الحسيني ما يؤكد انه حي يرزق .في تلك المرحلة سمعت يوما بشيخ قيل انه متفوق بالقاء الدروس النحوية فعرفت عنوانه وقصدته في احد جوامع البصرة .التقيت بطلابه قبل وصوله وبعضهم جيران وسألتهم اسئلة نحوية بسيطة بالاعراب فاحتدموا وقالوا انت تستفزنا فاستغربت وثلّجت فيهم التوتر واتى الشيخ استاذهم وهو يضع عمامة سوداء , رجل في الثلاثينيات بهي الوجه هاديء وكان يلقي عليهم محاضرات من بن عقيل وهو المستوى الذي يدرس في كليات الاداب .وبعد توقف الدرس التقيته منفردا وقال انه مزدحم ولا وقت لي معه سوى ربع ساعة فاخبرته ان معلومات طلابه شحيحة فكيف تلقي مثل هذه المحاضرات عليهم فاجاب ( نحن اعلنا بان من يتقدم للدرس يجب ان يكون مؤهلا).بعد اسبوع قصدت الرجل وفقا لموعد مسبق كان لديه وقت اضافي فقال لي انه يلقي محاضرات بجوامع عدة بمناطق متفرقة ويحصل من كل ذلك على ثمن زهيد وهو اب لطفلين وقد نال الماجستير من ايران وهو بانتظار معادلة شهادته من وزارة التعليم العالي .سالته عن نقطة مركزية في نظرية الحركة الجوهرية لصدر المتالهين الشيرازي وهي ( رغم ان الروح ليست مادة فان لها نسبا ماديا ) فقلت له اليست هذه الفكرة هي نفسها فكرة ماركسية ( الروح مادة متطورة ) فاحالني لعالم فارسي لاتعمق بالبحث في هذه النظرية التي قراتها في كتاب ( فلسفتنا ) لمحمد باقر الصدر
***