الإهداء إلى الكراسي التي سئمت جُلاَّسَهَا ..
زعموا أنّه في مملكة من ممالك الأرض الواسعة وفي زمن ليس بالبعيد قررت الأشياء أن تتكلم لأنها سئمت جمودها وبلغ بها الضيم مبلغا لم تتعوده وسمعت لدى الحيوان أصواتا فقالت: ' نحاكيها'، ولمّا سمعت لغو البشر قالت: 'هذا أجمل وأصلح وأبقى'.
كان للأشياء لغة بينها لا يعرفها إلا هي.. غير أنها قررت أن تسمع صوتها كائنات أخرى. اجتمعت الأشياء عند زعيمها الكرسي الذي كان ملكها. جعلته الأشياء ملكها لأنها رأته لا يحتك إلاّ بعلية البشر حتى صار منهم وصاروا منه.. صار له ذراع وسيقان وظهر.. وألبس من وثير الملابس ما لم تلبسه أشياء أخرى وتاه دلالا بنفسه وتعالى عن الأشياء فخرّت له ساجدة. استقبل الكرسيّ رعاياه الأشياء مثلما يستقبل الملوك رعاياهم بنصف عين ناظرة وبوجه مشيح إلى الناحية الأخرى التي فيها الفراغ وتمطى ومدّ رجليه وتقاعس بظهره الأحدب المحشو جلدا والمكسوّ حريرا.. سارعت الأشياء إلى ساقه تقبّلها وكانت العصا ذات الخشب الرفيع تنظم صفوف الأشياء وتجلس كل واحدة منها في مكانه. كانت الحجارة مغتاظة من هذه العصا التي لا تفوّت فرصة إلاّ وذكرت أنّ معدنها أصيل وأنّها مصقولة القدّ وأنّ الكرسيّ قد يتغزّل بها مرات حتى أنّه يراودها عن نفسها، وقد صرح لها مرة وهي ترتعش بين يديه وتنكسر على كتفيه بأنه من دونها ما كان يمكن له أن يكون. كانت الحجارة تريد أن يكون لها لسان حتى تصبّ جام غضبها أوّل ما تنطق على العصا وعلى لغتها الخشبية لكنّها لن تكون لها الجرأة الكافية على الكرسي فمن يقامر بحياته.. حتّى الحجارة لها حياة تخاف عليها هكذا قالت الحجارة في نفسها وهي تتخذ مجلسها بعيدا عن الكرسيّ.
كانت المرآة أقرب المقرّبات إلى الكرسيّ يقولون وربّ الأشياء أعلم أنّ المرآة أقرب جواريه إليه.. ويدور حديث بين وصيفات القصر أنّ العصا أرادت من غيرتها يوما أن تهشم وجه المرآة لولا أن صرخ فيها الكرسي قائلا: ' إنّها وجهي يا صفيقة الوجه'. كل الأشياء تهيم بالمرآة، تضعف أمامها، وتتجمل لها، وحين تمرّ إلى جانبها تتوقف وتسوي من قاماتها وتعدّل من تكشيرتها، ومنها من ينحني، ومنها من يستقيم، والمرآة تجاري الكلّ ولا تعاند لكنها لا تبادر هي إلى الكلام ولا إلى الحركة وهذه نقطة قوّتها ومجلب احترامها. لا يعرف أحد من أين جاءت المرآة إلى ملك الكرسي. يقال إنّها منحة وهبها الملك له حين خبره على مرّ الأزمان فوفَى وأوْفَى .
انتبهت قنّينة العطر وكانت تجلس قريبا من المرآة إلى صوت العصا وهي تقول: ' اليوم تعرضون على مولانا الكرسي مطالبكم ولكن بشيء من الهدوء.. لا تضجوا ولا تستهتروا.. لا يرمي أحدكم أخاه بأمر إلا رُمي به.. لا تقولوا وأنتم في حضرة مولاكم إلا ما يرضي ويسعد.. لقد كنتم وما زلتم أشياء سعيدة بفضل حكمة الكرسي مولاكم..'.
تكلمت الحجرة دون استئذان وأرادت العصا أن تسكتها، لكن الكرسي أشار بيده أنْ دعيها.. تحركت الحجارة بعنف فارتطمت واصطدمت واهتزت وانتفضت. فهمت الأشياء رسالتها التي هي رسالتهم: نريد أن نمنح ألسنة نتكلم بها فقد سئمنا الإشارة والجمود. نريد لغة كلغة البشر... كانت الفأس هناك من غير عصاها.. مالت على جانبيها وأعادت بشيء من الحدة ما قالته الحجارة.. وتكلمت الملعقة فحركت ذيلها وبطنها وقالت إنها تحتاج لسانا لتقول كفى لمن أكل بها حتّى تكرّش.. والسكين تكلمت فقالت إنها تريد لسانا يمكنها من الحديث لتعزي ذوي من اغتالتهم غدرا ولتكفكف دمع من وأدتهم غيلة.. كانت العصا تضحك كل مرة يبدأ فيها شيء من الأشياء الكلام أو ينتهي فاستفزت جمهور الحضور.. كان في المجلس سيف معلّق لم يكن مدعوا لأنه محرم عليه الكلام في مثل هذه المجالس غير أنه خرج من غمده وقال: أتريدون أن تكون لكم ألسنة لأقطعها لكم ذات مرة؟ نهره الكرسي وأمره أن يدخل إلى غمده ويصمت ففعل.
تمايل الكرسي وأشار بالصمت.. صمتت الأشياء من حوله.. أشار مستغربا كمن يمتلك الحكمة الكاملة وقال: كيف تطالبون لأنفسكم بأشياء ليست لأميركم؟ ألا ترون أنه لا لغة لي غير لغتكم ولا لسان أنطق به ولكني لا أشعر بنقص.. هل تريدون أن تتكلموا وأميركم صامت؟ قالت الحجارة: ما على مولاي أمير الأشياء أن يطلب معنا لسانا ولغة ..قال السيف وقد أطلّ من غمده: على مولانا أن يستشير الملك فربما منحه هذا وربما... منـ..ع..ه.. زمجر الكرسي واهتز واتجه إلى السيف يهدّده: اخرس يا مجرم أنت في هيئة لسان، غير أنك في يد مولاك تصبح للباطل.. أطلّ السيف من الغمد وقد شعر بالإهانة وتمتم كما يتمتم الجبناء من البشر: ولكنك تهينني .. سأرفع أمرك إلى مولاي.. مولاك.. خرج السيف يجرّ وراءه أذيال الغضب والذل من الباب. التفت الكرسي إلى لفيف الأشياء من حوله .. وأشار إلى الكأس وإلى إبريق القمر الخمر فاقتربا منه وصبّ الإبريق ما فيه في الكأس.. تذوق الكأس طعم الشراب وأحّحَ من النشوة قبل أن يرتفع إلى فم الكرسي الزعيم.. شرب الكرسي حتى ترنح وتمايل ورقص بساقيه.. وعندها أيقنت الأشياء أنّ شدّتها فرجت وأنّ مطلبها سيحظى بالقبول.
قال الكرسي: هل تريدون ألسنة لتغنوا بها أم لتهذوا بها أم لتصفوا بها عشيقاتكم أم لتتناحروا بها؟.. ليختر كلّ واحد منكم لسانا واحدا لمعنى واحد.. فليس لي غيرها الساعة هذا ما جمعته طيلة عشرتي مع مولاي كرّم الله قفاه وطيب مقعده الذي هرسني به طيلة سنوات.. فرحت الأشياء وضجت بما تكرم بها عليه مولى نعمتها الكرسي. طلبت الحجارة لسانا للهجاء وقنينة العطر لسانا للثناء والملعقة لسانا للهذيان والكأس لسانا للغزل بالشفاه والفأس طلبت لسانا ممّا تستطيب منه ... طلبت الملعقة لسانا والشوكة لسانا والمرآة لسانا والخاتم والطوق والقدر وقلامة الأظافر وغيرها وغيرها.. وحين أرادت العصا أن تطلب لسانا صدها الكرسي وقال أنت لسان الملك، وحين أرادت الطاولة أن تطلب لسانا صدها وقال لا يعقل أن تتكلمي ومولاي يتكلم بين يديك، وربما اجتمع وعقد المواثيق عليك وربما مرت يده تحتك لتلمس بعض الضيفات.. حين تكلمت الحجارة سمع لصوتها قرقعة وفرّت العصا تختبئ وراء الستار وكالت لها الحجارة من الشتائم ما أسكت بقية الألسن وخرجت تلعن وتسب زمانا تجمدت فيه وما تكلمت ..وحين تكلمت الكأس خاطبت الشفاه بأرق المعاني فقبلتها على بلاغة الكلام ولعنت حرمان عصور الصمت من كلام آسر .. وتكلمت قلامة الأظافر وقالت تخاطب أظافر الآدميين قائلة: يا من تخفون خلف أسواركم وسخ السنين تطهروا. وقالت قنينة العطر لجسم الآدميين: يا من غرقتم في عرق الأيام تطهروا واعبقوا من عطر الزمان ففيه نفح لا يسجن في الأواني.. وقالت الفأس: أيا من تقطعون جذور الأمل وتقصون جذوع الحياة سيأتيكم عصر الغضب. وقال كل شيء لكل شيء كلاما وكل شيء قال لكل آدمي كلاما، وعندها شعرت الأشياء أنها نطقت بصوتها هي لا بأصوات من كانوا ينطقونها.
كانت الأشياء تحيي عكاظياتها تحت سمع الكرسي المنتشي ولما تفرقت من حوله وما بقي حذوه إلا العصا ومرآته الوفية عاد إليه رشده، فاعتدل وحملق في المرآة وقال: ماذا أيتها المليحة هل صار لك لسان؟ قالت: بعفوك يا أمير الأشياء الناطقة. قال: هذا لسانك أجود من مرآي فيك هل ستقولين من هذا للملك؟ قالت: الشعراء سبقوني إليه.. قربها الكرسي إليه فاعتدلت له حتى يرى وجهه.. كان السكر واضحا عليه.. سوّى من حاله بعسر.. وتذكّر أنّ الملك ربّما جاء بعد قليل ليجلس.. ضحك حتى تقاعس قال: سيأتي الملك ويجد كرسيه مترنحا.. لا يهم.. كرسي مترنح لملك سكران.. قعقع بصوته حتى انزعجت لصوته المرآة واهتزت له الوسادة وارتعدت فرائص الزرابي من تحته..اقتربت العصا منه ووشوشت له بلغة الأشياء أنّ الملك قادم.. خشي الكرسي أن يعلم الملك بما تصرف به مع الأشياء ولكنه حزم نفسه واستوى.. دخل الملك ومعه وزيره الأكبر وقائد جنده وأمير الشرط ومن ورائه جاء الأعيان وتجار المحار وجماعة من الشعراء.. جلس الملك ولم يأذن للبقية بالجلوس فظلوا وقوفا مصطفين فريقين.. جاء النادل بالخوان وعليه الثمار وجاءت قينة بالشراب وأخرى بالكأس. كان المجلس ساكتا ولكن الأشياء كانت تتكلم.. التفت الملك إلى أفواه الجماعة فوجدها مقفلة ولكن أذنه كانت تسمع كلاما.. قال: أللخمرة مفعولها ولم تسكب في كأسي؟ أشار الكرسي في غفلة من الملك إلى الأشياء أن تسكت فما ائتمرت بل حكت الوسادة مع الوسادة والزربية لخيوطها والثمرة للثمرة والكأس للكأس وكلها تريد ن يسمعها الملك.. بهت من في المجلس. وصاح الملك: من أنطق هذه الأشياء ومن أذن لها أن تعرب بعد عجمتها؟ من أعطاها ألسنة وحناجر ولغات لتحكي بها؟ قالت الأشياء الموجودة في القصر بألسنتها المختلفة: إنّه الكرسي يا مولاه تكرم علينا حتى ينطق كل منّا بما يريد.. ارتعش الكرسي تحت الملك وانتفض حتى كاد يسقطه.. وقف الملك واستدار للكرسي: أخيانة وغدرا يا موضع أمَانيّ ومربط شرفي؟ انكمش الكرسي حتى كاد ينكسر عضداه.. لم يستطع أن ينبس ببنت شفة.. لكنه رمق الأشياء من حوله.. صاح الملك: إليّ بسيفي.. جاء السيف الأصمّ .. لكنّ الأشياء كانت أسرع منه إلى الكرسي تحميه.. قالت وسادة: أما كفاك تنام علينا بكوابيسك فتثقل رؤوسنا بسخافات أحلامك.. كان رأسك غير صادق الاستدارة.. لم نعرف منك راحة فلقد كان رأسك الأرعن يتحرك كعقرب بوصلة في مهب الريح.. ضجت فينا أفكارنا وأردنا أن نقول لك اذهب ونومك الثقيل بعيدا عنا.. وتكلمت الزرابي المبثوثة هنا وهناك وقالت: سئمنا مشيك علينا بحذائك النتن.. تكلم الحذاء فقال: لا يا أخية إنما النتن من يَلْبِس لا من يُلبس.. اعتذرت الزرابي للحذاء وسحبن أنفسهن من تحته وقلن: لست أنت من نقصد عذرك إنما قصدنا من ارتداك .. هيا أليست لك لغة تحررك؟.. نزع الحذاء نفسه من ساق الملك ومشى بعيدا عنه يطلب نور النهار وريحا تطهره.. وانخلعت من عليه بقية الملابس وبقي عاريا.. جرى إلى الستار حذوه يريد أن يستتر به ولكن الستائر الغاضبة فرت من مواضعها وهي تلعن ليالي اختبأت وراءها أشباح رذائله.. كانت الأحذية تنزع من أرجل جماعته وألبستهم تتخرق فوق ظهورهم وهم لا يفهمون شيئا وتظاهروا أنهم لا يفقهون كلمات الأشياء وهي تلعنهم.. ظلّ الملك عاريا لمدة وظلت زبانيته على خلقها الأوّل.. لم يقبل أيّ شيء من الأشياء أن ينجده إلا السيف والعصا.. قال له السيف: عليك بالكرسي.. اذهب واسترح يا مولاي فالجالس العاري نصف مستور والواقف بَيِّنُ العُرْي.. جلس الملك العاري على الكرسي فانتفض به يمنة ويسرة كفرس جموح وأسقطه.. سأل الملك كرسيّه:.. لكن لماذا لا تألفني.. سكت الكرسي وتمنى أن يكون له لسان يجيب به مولاه.. تذكر أنه ترك للمرآة لسانا آخر كان سيمنحها إياه تودّدا فركب لنفسه لسان المرآة وشعر أنّ الحروف تتدافع إلى حنجرته وتصعد إلى فمه وتلبس لسانه وتندفع إلى شفتيه .. قال الكرسي: لم أتعوّد على عريك هذا من قبل... جلست عليّ وأنت تلبس الحرير وتتزين بالدمقس وتتطيب بالعطور أمّا اليوم فلا أرى فيك غير عورة مقززة وقبح منفّر..
لم يلتفت الملك إلى كلام الكرسي وجلس عليه عنوة والكرسي يراوغه وحين استعصم نادى إليه جماعته من العراة الحفاة وأمرهم بإمساك الكرسي ليجلس عليه.. جرى الجماعة غير آبهين بما هم عليهم وجرى الكرسي تدافع عنه الأشياء.. لكن الأيادي البشرية تمكنت منه وهيـّأته للملك.. هدأ الكرسي لحظة حتى جلس الملك عندها أخرج مساميره فقفز الملك العاري يعوي من الألم.. قرّر الكرسي أن يفكّك لحمته ويقضي على هيئته. لم يكن له من حلّ إلا ذاك.. انفصل كل جزء منه وصار عصا تخبط كالعشواء.. وهجمت الأشياء على الملك المنتفض ففرّ.. جرت خلفه النعال وأجزاء الكرسي والعصا أيضا جرت معهم وانشطرت الجرار وأعانتها الحجارة وجرى كل شيء خلف الملك وحاشيته وجرت الكلمات حرة تتابعهم حتى باب المدينة.. وقف الملك يحيي عند الباب حرس المدينة المذهولين.. ولما وصل العتبة يريد أن يغادر انغلق أمامه الباب ودار المزلاج وجاءت أشياء كثيرة أخرى صامتة عملت عملها .. فالحبل عمل في صمت والأصفاد عملت بصمت وتركت الأشياء لغوها وعادت كما كانت صماء بكماء كي لا يشهد أحد على أحد بشيء ولا يكون أحد منها على أحد شهيدا..
د. توفيق قريرة
القدس العربي
20 – 5-2011
زعموا أنّه في مملكة من ممالك الأرض الواسعة وفي زمن ليس بالبعيد قررت الأشياء أن تتكلم لأنها سئمت جمودها وبلغ بها الضيم مبلغا لم تتعوده وسمعت لدى الحيوان أصواتا فقالت: ' نحاكيها'، ولمّا سمعت لغو البشر قالت: 'هذا أجمل وأصلح وأبقى'.
كان للأشياء لغة بينها لا يعرفها إلا هي.. غير أنها قررت أن تسمع صوتها كائنات أخرى. اجتمعت الأشياء عند زعيمها الكرسي الذي كان ملكها. جعلته الأشياء ملكها لأنها رأته لا يحتك إلاّ بعلية البشر حتى صار منهم وصاروا منه.. صار له ذراع وسيقان وظهر.. وألبس من وثير الملابس ما لم تلبسه أشياء أخرى وتاه دلالا بنفسه وتعالى عن الأشياء فخرّت له ساجدة. استقبل الكرسيّ رعاياه الأشياء مثلما يستقبل الملوك رعاياهم بنصف عين ناظرة وبوجه مشيح إلى الناحية الأخرى التي فيها الفراغ وتمطى ومدّ رجليه وتقاعس بظهره الأحدب المحشو جلدا والمكسوّ حريرا.. سارعت الأشياء إلى ساقه تقبّلها وكانت العصا ذات الخشب الرفيع تنظم صفوف الأشياء وتجلس كل واحدة منها في مكانه. كانت الحجارة مغتاظة من هذه العصا التي لا تفوّت فرصة إلاّ وذكرت أنّ معدنها أصيل وأنّها مصقولة القدّ وأنّ الكرسيّ قد يتغزّل بها مرات حتى أنّه يراودها عن نفسها، وقد صرح لها مرة وهي ترتعش بين يديه وتنكسر على كتفيه بأنه من دونها ما كان يمكن له أن يكون. كانت الحجارة تريد أن يكون لها لسان حتى تصبّ جام غضبها أوّل ما تنطق على العصا وعلى لغتها الخشبية لكنّها لن تكون لها الجرأة الكافية على الكرسي فمن يقامر بحياته.. حتّى الحجارة لها حياة تخاف عليها هكذا قالت الحجارة في نفسها وهي تتخذ مجلسها بعيدا عن الكرسيّ.
كانت المرآة أقرب المقرّبات إلى الكرسيّ يقولون وربّ الأشياء أعلم أنّ المرآة أقرب جواريه إليه.. ويدور حديث بين وصيفات القصر أنّ العصا أرادت من غيرتها يوما أن تهشم وجه المرآة لولا أن صرخ فيها الكرسي قائلا: ' إنّها وجهي يا صفيقة الوجه'. كل الأشياء تهيم بالمرآة، تضعف أمامها، وتتجمل لها، وحين تمرّ إلى جانبها تتوقف وتسوي من قاماتها وتعدّل من تكشيرتها، ومنها من ينحني، ومنها من يستقيم، والمرآة تجاري الكلّ ولا تعاند لكنها لا تبادر هي إلى الكلام ولا إلى الحركة وهذه نقطة قوّتها ومجلب احترامها. لا يعرف أحد من أين جاءت المرآة إلى ملك الكرسي. يقال إنّها منحة وهبها الملك له حين خبره على مرّ الأزمان فوفَى وأوْفَى .
انتبهت قنّينة العطر وكانت تجلس قريبا من المرآة إلى صوت العصا وهي تقول: ' اليوم تعرضون على مولانا الكرسي مطالبكم ولكن بشيء من الهدوء.. لا تضجوا ولا تستهتروا.. لا يرمي أحدكم أخاه بأمر إلا رُمي به.. لا تقولوا وأنتم في حضرة مولاكم إلا ما يرضي ويسعد.. لقد كنتم وما زلتم أشياء سعيدة بفضل حكمة الكرسي مولاكم..'.
تكلمت الحجرة دون استئذان وأرادت العصا أن تسكتها، لكن الكرسي أشار بيده أنْ دعيها.. تحركت الحجارة بعنف فارتطمت واصطدمت واهتزت وانتفضت. فهمت الأشياء رسالتها التي هي رسالتهم: نريد أن نمنح ألسنة نتكلم بها فقد سئمنا الإشارة والجمود. نريد لغة كلغة البشر... كانت الفأس هناك من غير عصاها.. مالت على جانبيها وأعادت بشيء من الحدة ما قالته الحجارة.. وتكلمت الملعقة فحركت ذيلها وبطنها وقالت إنها تحتاج لسانا لتقول كفى لمن أكل بها حتّى تكرّش.. والسكين تكلمت فقالت إنها تريد لسانا يمكنها من الحديث لتعزي ذوي من اغتالتهم غدرا ولتكفكف دمع من وأدتهم غيلة.. كانت العصا تضحك كل مرة يبدأ فيها شيء من الأشياء الكلام أو ينتهي فاستفزت جمهور الحضور.. كان في المجلس سيف معلّق لم يكن مدعوا لأنه محرم عليه الكلام في مثل هذه المجالس غير أنه خرج من غمده وقال: أتريدون أن تكون لكم ألسنة لأقطعها لكم ذات مرة؟ نهره الكرسي وأمره أن يدخل إلى غمده ويصمت ففعل.
تمايل الكرسي وأشار بالصمت.. صمتت الأشياء من حوله.. أشار مستغربا كمن يمتلك الحكمة الكاملة وقال: كيف تطالبون لأنفسكم بأشياء ليست لأميركم؟ ألا ترون أنه لا لغة لي غير لغتكم ولا لسان أنطق به ولكني لا أشعر بنقص.. هل تريدون أن تتكلموا وأميركم صامت؟ قالت الحجارة: ما على مولاي أمير الأشياء أن يطلب معنا لسانا ولغة ..قال السيف وقد أطلّ من غمده: على مولانا أن يستشير الملك فربما منحه هذا وربما... منـ..ع..ه.. زمجر الكرسي واهتز واتجه إلى السيف يهدّده: اخرس يا مجرم أنت في هيئة لسان، غير أنك في يد مولاك تصبح للباطل.. أطلّ السيف من الغمد وقد شعر بالإهانة وتمتم كما يتمتم الجبناء من البشر: ولكنك تهينني .. سأرفع أمرك إلى مولاي.. مولاك.. خرج السيف يجرّ وراءه أذيال الغضب والذل من الباب. التفت الكرسي إلى لفيف الأشياء من حوله .. وأشار إلى الكأس وإلى إبريق القمر الخمر فاقتربا منه وصبّ الإبريق ما فيه في الكأس.. تذوق الكأس طعم الشراب وأحّحَ من النشوة قبل أن يرتفع إلى فم الكرسي الزعيم.. شرب الكرسي حتى ترنح وتمايل ورقص بساقيه.. وعندها أيقنت الأشياء أنّ شدّتها فرجت وأنّ مطلبها سيحظى بالقبول.
قال الكرسي: هل تريدون ألسنة لتغنوا بها أم لتهذوا بها أم لتصفوا بها عشيقاتكم أم لتتناحروا بها؟.. ليختر كلّ واحد منكم لسانا واحدا لمعنى واحد.. فليس لي غيرها الساعة هذا ما جمعته طيلة عشرتي مع مولاي كرّم الله قفاه وطيب مقعده الذي هرسني به طيلة سنوات.. فرحت الأشياء وضجت بما تكرم بها عليه مولى نعمتها الكرسي. طلبت الحجارة لسانا للهجاء وقنينة العطر لسانا للثناء والملعقة لسانا للهذيان والكأس لسانا للغزل بالشفاه والفأس طلبت لسانا ممّا تستطيب منه ... طلبت الملعقة لسانا والشوكة لسانا والمرآة لسانا والخاتم والطوق والقدر وقلامة الأظافر وغيرها وغيرها.. وحين أرادت العصا أن تطلب لسانا صدها الكرسي وقال أنت لسان الملك، وحين أرادت الطاولة أن تطلب لسانا صدها وقال لا يعقل أن تتكلمي ومولاي يتكلم بين يديك، وربما اجتمع وعقد المواثيق عليك وربما مرت يده تحتك لتلمس بعض الضيفات.. حين تكلمت الحجارة سمع لصوتها قرقعة وفرّت العصا تختبئ وراء الستار وكالت لها الحجارة من الشتائم ما أسكت بقية الألسن وخرجت تلعن وتسب زمانا تجمدت فيه وما تكلمت ..وحين تكلمت الكأس خاطبت الشفاه بأرق المعاني فقبلتها على بلاغة الكلام ولعنت حرمان عصور الصمت من كلام آسر .. وتكلمت قلامة الأظافر وقالت تخاطب أظافر الآدميين قائلة: يا من تخفون خلف أسواركم وسخ السنين تطهروا. وقالت قنينة العطر لجسم الآدميين: يا من غرقتم في عرق الأيام تطهروا واعبقوا من عطر الزمان ففيه نفح لا يسجن في الأواني.. وقالت الفأس: أيا من تقطعون جذور الأمل وتقصون جذوع الحياة سيأتيكم عصر الغضب. وقال كل شيء لكل شيء كلاما وكل شيء قال لكل آدمي كلاما، وعندها شعرت الأشياء أنها نطقت بصوتها هي لا بأصوات من كانوا ينطقونها.
كانت الأشياء تحيي عكاظياتها تحت سمع الكرسي المنتشي ولما تفرقت من حوله وما بقي حذوه إلا العصا ومرآته الوفية عاد إليه رشده، فاعتدل وحملق في المرآة وقال: ماذا أيتها المليحة هل صار لك لسان؟ قالت: بعفوك يا أمير الأشياء الناطقة. قال: هذا لسانك أجود من مرآي فيك هل ستقولين من هذا للملك؟ قالت: الشعراء سبقوني إليه.. قربها الكرسي إليه فاعتدلت له حتى يرى وجهه.. كان السكر واضحا عليه.. سوّى من حاله بعسر.. وتذكّر أنّ الملك ربّما جاء بعد قليل ليجلس.. ضحك حتى تقاعس قال: سيأتي الملك ويجد كرسيه مترنحا.. لا يهم.. كرسي مترنح لملك سكران.. قعقع بصوته حتى انزعجت لصوته المرآة واهتزت له الوسادة وارتعدت فرائص الزرابي من تحته..اقتربت العصا منه ووشوشت له بلغة الأشياء أنّ الملك قادم.. خشي الكرسي أن يعلم الملك بما تصرف به مع الأشياء ولكنه حزم نفسه واستوى.. دخل الملك ومعه وزيره الأكبر وقائد جنده وأمير الشرط ومن ورائه جاء الأعيان وتجار المحار وجماعة من الشعراء.. جلس الملك ولم يأذن للبقية بالجلوس فظلوا وقوفا مصطفين فريقين.. جاء النادل بالخوان وعليه الثمار وجاءت قينة بالشراب وأخرى بالكأس. كان المجلس ساكتا ولكن الأشياء كانت تتكلم.. التفت الملك إلى أفواه الجماعة فوجدها مقفلة ولكن أذنه كانت تسمع كلاما.. قال: أللخمرة مفعولها ولم تسكب في كأسي؟ أشار الكرسي في غفلة من الملك إلى الأشياء أن تسكت فما ائتمرت بل حكت الوسادة مع الوسادة والزربية لخيوطها والثمرة للثمرة والكأس للكأس وكلها تريد ن يسمعها الملك.. بهت من في المجلس. وصاح الملك: من أنطق هذه الأشياء ومن أذن لها أن تعرب بعد عجمتها؟ من أعطاها ألسنة وحناجر ولغات لتحكي بها؟ قالت الأشياء الموجودة في القصر بألسنتها المختلفة: إنّه الكرسي يا مولاه تكرم علينا حتى ينطق كل منّا بما يريد.. ارتعش الكرسي تحت الملك وانتفض حتى كاد يسقطه.. وقف الملك واستدار للكرسي: أخيانة وغدرا يا موضع أمَانيّ ومربط شرفي؟ انكمش الكرسي حتى كاد ينكسر عضداه.. لم يستطع أن ينبس ببنت شفة.. لكنه رمق الأشياء من حوله.. صاح الملك: إليّ بسيفي.. جاء السيف الأصمّ .. لكنّ الأشياء كانت أسرع منه إلى الكرسي تحميه.. قالت وسادة: أما كفاك تنام علينا بكوابيسك فتثقل رؤوسنا بسخافات أحلامك.. كان رأسك غير صادق الاستدارة.. لم نعرف منك راحة فلقد كان رأسك الأرعن يتحرك كعقرب بوصلة في مهب الريح.. ضجت فينا أفكارنا وأردنا أن نقول لك اذهب ونومك الثقيل بعيدا عنا.. وتكلمت الزرابي المبثوثة هنا وهناك وقالت: سئمنا مشيك علينا بحذائك النتن.. تكلم الحذاء فقال: لا يا أخية إنما النتن من يَلْبِس لا من يُلبس.. اعتذرت الزرابي للحذاء وسحبن أنفسهن من تحته وقلن: لست أنت من نقصد عذرك إنما قصدنا من ارتداك .. هيا أليست لك لغة تحررك؟.. نزع الحذاء نفسه من ساق الملك ومشى بعيدا عنه يطلب نور النهار وريحا تطهره.. وانخلعت من عليه بقية الملابس وبقي عاريا.. جرى إلى الستار حذوه يريد أن يستتر به ولكن الستائر الغاضبة فرت من مواضعها وهي تلعن ليالي اختبأت وراءها أشباح رذائله.. كانت الأحذية تنزع من أرجل جماعته وألبستهم تتخرق فوق ظهورهم وهم لا يفهمون شيئا وتظاهروا أنهم لا يفقهون كلمات الأشياء وهي تلعنهم.. ظلّ الملك عاريا لمدة وظلت زبانيته على خلقها الأوّل.. لم يقبل أيّ شيء من الأشياء أن ينجده إلا السيف والعصا.. قال له السيف: عليك بالكرسي.. اذهب واسترح يا مولاي فالجالس العاري نصف مستور والواقف بَيِّنُ العُرْي.. جلس الملك العاري على الكرسي فانتفض به يمنة ويسرة كفرس جموح وأسقطه.. سأل الملك كرسيّه:.. لكن لماذا لا تألفني.. سكت الكرسي وتمنى أن يكون له لسان يجيب به مولاه.. تذكر أنه ترك للمرآة لسانا آخر كان سيمنحها إياه تودّدا فركب لنفسه لسان المرآة وشعر أنّ الحروف تتدافع إلى حنجرته وتصعد إلى فمه وتلبس لسانه وتندفع إلى شفتيه .. قال الكرسي: لم أتعوّد على عريك هذا من قبل... جلست عليّ وأنت تلبس الحرير وتتزين بالدمقس وتتطيب بالعطور أمّا اليوم فلا أرى فيك غير عورة مقززة وقبح منفّر..
لم يلتفت الملك إلى كلام الكرسي وجلس عليه عنوة والكرسي يراوغه وحين استعصم نادى إليه جماعته من العراة الحفاة وأمرهم بإمساك الكرسي ليجلس عليه.. جرى الجماعة غير آبهين بما هم عليهم وجرى الكرسي تدافع عنه الأشياء.. لكن الأيادي البشرية تمكنت منه وهيـّأته للملك.. هدأ الكرسي لحظة حتى جلس الملك عندها أخرج مساميره فقفز الملك العاري يعوي من الألم.. قرّر الكرسي أن يفكّك لحمته ويقضي على هيئته. لم يكن له من حلّ إلا ذاك.. انفصل كل جزء منه وصار عصا تخبط كالعشواء.. وهجمت الأشياء على الملك المنتفض ففرّ.. جرت خلفه النعال وأجزاء الكرسي والعصا أيضا جرت معهم وانشطرت الجرار وأعانتها الحجارة وجرى كل شيء خلف الملك وحاشيته وجرت الكلمات حرة تتابعهم حتى باب المدينة.. وقف الملك يحيي عند الباب حرس المدينة المذهولين.. ولما وصل العتبة يريد أن يغادر انغلق أمامه الباب ودار المزلاج وجاءت أشياء كثيرة أخرى صامتة عملت عملها .. فالحبل عمل في صمت والأصفاد عملت بصمت وتركت الأشياء لغوها وعادت كما كانت صماء بكماء كي لا يشهد أحد على أحد بشيء ولا يكون أحد منها على أحد شهيدا..
د. توفيق قريرة
القدس العربي
20 – 5-2011