عند الأصيل والشمسُ تَمَصَّصُ رِيقها، التقيتُ الأديبَ زَكي مُبارك على شاطئ دِجلة، عند مقام سيدنا الخَضِر بجانب الكرخ من بغداد. كان يُسند ظهره إلى أصل شجرة صغيرة لا تكاد تُلقي عليه شيئاً من الفَيّ؛ لتفرُّق أغصانها وقلّة أوراقها، مُفترشاً الأرض، مُلتحفاً الأغصان وظلّها غير الظليل..
سلّمتُ على الرّجل بصوت خفِيض، فما أجاب، فأعدت الكرّة بنَبرة أعلى، فانتبه من فكرته، واستقبلني بشطر وجهه، ثمّ عاد لأفكاره وأوهامه، بعد أن تمتم بردّ السلام.
قلتُ له: أيّها الدّكاترة مُبارك، يا أستاذَ الأُستاذين، وسيّدَ الناثرين.. ما لي أراكَ في الأرض وأنت من أهل السّماء؟! وما الذي أهبطك من بيتك الذي حُزته في رَبَض الجنّة بعفو ربّك ورحمته التي وسعت كلّ شيء؟! ولِم أنت في بغداد الرشيد، لا في قاهرة المُعزّ؟!
لم يلتفت الرجل إليّ، واكتفى بإخراج لُفافة تبغ (سيجارة) ودسّها في فمه دون أن يُشعلها، كأنّه لا يقوى على ذلك. عدل الرجل نظّارتَه السّميكة التي كان بعضُ أصدقائه من العراقيين يتندّرون عليها بالقول: «ما هذه النظّارة، يا دكتور.. كأنّها كعب اسْتِكانَة شاي عراقيّ ممّا تُحبّ؟!»..
والتفت إليّ قائلاً: أمّا الأرض والسماء، فلأهل الجنّة ما ليس لغيرهم من السياحة في مَلَكوت الله، تبارك وتعالى. وأمّا بيتي الذي في ربض الجنّة، فهو حبيب إلى النفس (لا ريب!)؛ إذ كان عطيّة الربّ على ما قاسيتُ من ظُلم وهَضم في بلدي ومن أهل قرابتي.
ولبغداد في نفسي ما لذلك البيت من المكانة، سوى أنّها ليست بخالدة خلود الجنّة، وإن كانت من جنان الله في الأرض. ألَم تقرأ مُناجاتي لها في كتابي «عبقريّة الشريف الرضيّ» يوم قلت: «هذا كتابي، أقدِّمهُ بيميني في تَهيّبٍ واستحياء، فإن رضيتِ عنه؛ فذلك لُطف ورِفق، وإن غضبت عليه؛ فلستِ أوّل حسناء تجحد الجميل!
اصنعي في ودادي مِن التنكّر والتقلّب ما شاءَ لك الدلال. أما أنا، فأشهدُ أنّك صنعتِ بقلبي وعقلي ما عجزَت عنه القاهرة وباريس.
أنتِ مظلومةٌ، يا بغداد.. وأنا مظلوم، يا بغداد.. والظلمُ يجمعُ بينَ القلوب. نصرك الله ونصرني، ورعاك ورعاني، إنه سميع مُجيب، وعليك مِنّي السلام!».
أجبت: بلى، يا سيّدي.. قرأت قولك ذاك، واحتفيت به غاية الحفاوة!
قال: فهذا تأويل ما سألتَ عنه، من اختيار بغداد، رغم ما قد تعلم من عِشقي للقاهرة وأهلها.
قلت: فهل تجد على أهلك المصريين شيئاً، وتحفظ خيراً منه لأهلي العراقيين؟!
قال: نعم، وألف نعم.. جئتكم يوم جئتكم مُبتعثاً للتدريس في معاهدكم العلميّة، فاحتفى أهلُك بي، وأنزلوني ما أستحقّ، ولا أقول: وزيادة، فأنت تعلم إدلالي بنفسي وبما عندي من الفكر والعلم والأدب.. ثمّ إنّهم قلّدوني أعلى وسام في البلد.. «وسام الرافدين»، فهل فعل شيئاً من هذا المصريّون، وهم أهلي؟!
قلت: لكن، ما السبب برأيك، وأنت اليوم في دار الحقّ، فلا تقول إلا الحقّ؟
قال: هي خصومات، لا تخفى على مثلك!
قلت: كأنّك تشير إلى خصوماتك مع طه حسين والعقّاد والمازنيّ وغيرهم من رؤوس المدارس الأدبيّة المعاصرة؟!
قال: ومَن غيرهم؟!
أفيجوز أن ألقى من أُستاذي وصديقي طه هذا الكنود، يوم أشار إلى كتابي «النثر الفنيّ» قائلاً: «كتابٌ من الكُتب، ألّفه كاتبٌ من الكُتّاب»؟! أيُجحد كاتب مثلي، ويُنكَّر كتاب كالنثر الفنيّ؟!
قلت: لا، والله.. يا أستاذ، هو حيف وظلم!
لكنّك قلت عن الرجل في سَورة غضب: «لو جاعَ أولادي؛ لشويت طه وأطعمتهم لحمه».. ألا تراها سقطة لا تليق بك، وأنت المتأسّي بالصوفيّة، المعجب بأخلاقهم وآدابهم؟!
قال: أوَ يغيب عن مثلك ما في القول من كِناية، وما وراءه من باعث؟!!
أمّا الباعث، فقد فصلني طه من الجامعة المصريّة، وما وقف معه يومَ طُرد هو من عمادة الجامعة ذاتها غيري. وأما الكناية، فلا تخفى على شاعر مثلك.. ونعم، لو جاع أولادي، لسلقتُ طه بلساني وشويته بقلمي، وأطعمت أولادي ما يعود عليّ من أجور مقالات هجائه تلك، وقد فعلت!
قلت: سبحان الله، آلمني ما حصل بينكما وما حصل بينك وبين العقّاد والمازنيّ، والآن فهمت قولك يوماً: «ولدتني أمّي، فأُضيف إلى الوجود خيرٌ جديد وشرّ جديد»، فما منّا أحد إلا ويتردّد في حياته بين حالين: خير وشرّ!
لكن، قُل لي، يا دكاترة: ما ذاك الإعلان الذي نشرته «روز اليوسف» عام 1932م عن لُفافات التبغ؟!!
هنا، تبسّم الرجل ضاحكاً، وقال: هل أنت حفيّ بالتنقير عن هَناتي، والنبش في هفواتي، أيّها العراقيّ؟! حسبتك على ودّ العراقيين لي، ما غيّرت ولا بدّلت!
قلت: معاذ الله، يا أستاذ.. لكنّها أشياء في النفس، تُترجم عن انبهاري بشخصكم الباهر، وأدبكم السائر، ورفضي لما يشوّش على صورتكم في الخاطر، وهذا معك ومع خصومك ممّن أحبّ، ولا أخفيك!
قال: يا ابن أخي، فهل قرأتَ ما كتبتُ تحت صورة السجائر في ذلك الإعلان؟
قلت: نعم!
كانت رسالةً كَتبتها بيدك إلى القُرّاء، بخطّ رُقعة أنيق، تقول فيها عن سجائر «ألف ليلة - كريازي»: «التدخينُ ضَلال، ولكنّه يُحتمل؛ إذا قُدّم إليك عن أيدٍ مصريّة من شركة مثل شركة كريازي، وقد استحليتُ دُخانها ممثّلاً في سجاير ألف ليلة التي ذكّرتني بما في ألف ليلة من ضلال، وعفا الله عمّن علّمني التدخين!».
قال: طيّب، فهل قصّرت في رسالتي تلك؟!
قلت: لا، سيّدي.. ولا ينسى مثلُك التذكيرَ بالرشاد والحضّ عليه عند ذكر الضّلال، فأنت من أصحاب القلوب، وإن كان قولك من باب تحسين القبيح. لكن، ما فعل الله بك عليها، وهي الضلال كما بيّنت؟
قال، وهمّ بالمغادرة نافضاً ما علق بسرواله من الغُبار: قد غفرَ الله لي هذه وما سواها، وهو أرحم الراحمين..
ألقى الرجل عليّ السلام، فإذا صوته يختلط بصوت المُمرضة، توقظني لبعض شأن العلاج، من غفوة لم تطل على كُرسيّ وضعته عند أقدام أمي، رحمها الله.. قُرب شبّاك مُطلّ على دجلة ومقام الخَضِر، في مدينة الطبّ بجانب الرُّصافة من بغداد، عائداً إلى التسبيح والاستغفار ودعوات ضارعة.
#تراجم_نبلاء #أدباء_مصر #بغداد #خصومات_أدبية #أدب_خيالي
سلّمتُ على الرّجل بصوت خفِيض، فما أجاب، فأعدت الكرّة بنَبرة أعلى، فانتبه من فكرته، واستقبلني بشطر وجهه، ثمّ عاد لأفكاره وأوهامه، بعد أن تمتم بردّ السلام.
قلتُ له: أيّها الدّكاترة مُبارك، يا أستاذَ الأُستاذين، وسيّدَ الناثرين.. ما لي أراكَ في الأرض وأنت من أهل السّماء؟! وما الذي أهبطك من بيتك الذي حُزته في رَبَض الجنّة بعفو ربّك ورحمته التي وسعت كلّ شيء؟! ولِم أنت في بغداد الرشيد، لا في قاهرة المُعزّ؟!
لم يلتفت الرجل إليّ، واكتفى بإخراج لُفافة تبغ (سيجارة) ودسّها في فمه دون أن يُشعلها، كأنّه لا يقوى على ذلك. عدل الرجل نظّارتَه السّميكة التي كان بعضُ أصدقائه من العراقيين يتندّرون عليها بالقول: «ما هذه النظّارة، يا دكتور.. كأنّها كعب اسْتِكانَة شاي عراقيّ ممّا تُحبّ؟!»..
والتفت إليّ قائلاً: أمّا الأرض والسماء، فلأهل الجنّة ما ليس لغيرهم من السياحة في مَلَكوت الله، تبارك وتعالى. وأمّا بيتي الذي في ربض الجنّة، فهو حبيب إلى النفس (لا ريب!)؛ إذ كان عطيّة الربّ على ما قاسيتُ من ظُلم وهَضم في بلدي ومن أهل قرابتي.
ولبغداد في نفسي ما لذلك البيت من المكانة، سوى أنّها ليست بخالدة خلود الجنّة، وإن كانت من جنان الله في الأرض. ألَم تقرأ مُناجاتي لها في كتابي «عبقريّة الشريف الرضيّ» يوم قلت: «هذا كتابي، أقدِّمهُ بيميني في تَهيّبٍ واستحياء، فإن رضيتِ عنه؛ فذلك لُطف ورِفق، وإن غضبت عليه؛ فلستِ أوّل حسناء تجحد الجميل!
اصنعي في ودادي مِن التنكّر والتقلّب ما شاءَ لك الدلال. أما أنا، فأشهدُ أنّك صنعتِ بقلبي وعقلي ما عجزَت عنه القاهرة وباريس.
أنتِ مظلومةٌ، يا بغداد.. وأنا مظلوم، يا بغداد.. والظلمُ يجمعُ بينَ القلوب. نصرك الله ونصرني، ورعاك ورعاني، إنه سميع مُجيب، وعليك مِنّي السلام!».
أجبت: بلى، يا سيّدي.. قرأت قولك ذاك، واحتفيت به غاية الحفاوة!
قال: فهذا تأويل ما سألتَ عنه، من اختيار بغداد، رغم ما قد تعلم من عِشقي للقاهرة وأهلها.
قلت: فهل تجد على أهلك المصريين شيئاً، وتحفظ خيراً منه لأهلي العراقيين؟!
قال: نعم، وألف نعم.. جئتكم يوم جئتكم مُبتعثاً للتدريس في معاهدكم العلميّة، فاحتفى أهلُك بي، وأنزلوني ما أستحقّ، ولا أقول: وزيادة، فأنت تعلم إدلالي بنفسي وبما عندي من الفكر والعلم والأدب.. ثمّ إنّهم قلّدوني أعلى وسام في البلد.. «وسام الرافدين»، فهل فعل شيئاً من هذا المصريّون، وهم أهلي؟!
قلت: لكن، ما السبب برأيك، وأنت اليوم في دار الحقّ، فلا تقول إلا الحقّ؟
قال: هي خصومات، لا تخفى على مثلك!
قلت: كأنّك تشير إلى خصوماتك مع طه حسين والعقّاد والمازنيّ وغيرهم من رؤوس المدارس الأدبيّة المعاصرة؟!
قال: ومَن غيرهم؟!
أفيجوز أن ألقى من أُستاذي وصديقي طه هذا الكنود، يوم أشار إلى كتابي «النثر الفنيّ» قائلاً: «كتابٌ من الكُتب، ألّفه كاتبٌ من الكُتّاب»؟! أيُجحد كاتب مثلي، ويُنكَّر كتاب كالنثر الفنيّ؟!
قلت: لا، والله.. يا أستاذ، هو حيف وظلم!
لكنّك قلت عن الرجل في سَورة غضب: «لو جاعَ أولادي؛ لشويت طه وأطعمتهم لحمه».. ألا تراها سقطة لا تليق بك، وأنت المتأسّي بالصوفيّة، المعجب بأخلاقهم وآدابهم؟!
قال: أوَ يغيب عن مثلك ما في القول من كِناية، وما وراءه من باعث؟!!
أمّا الباعث، فقد فصلني طه من الجامعة المصريّة، وما وقف معه يومَ طُرد هو من عمادة الجامعة ذاتها غيري. وأما الكناية، فلا تخفى على شاعر مثلك.. ونعم، لو جاع أولادي، لسلقتُ طه بلساني وشويته بقلمي، وأطعمت أولادي ما يعود عليّ من أجور مقالات هجائه تلك، وقد فعلت!
قلت: سبحان الله، آلمني ما حصل بينكما وما حصل بينك وبين العقّاد والمازنيّ، والآن فهمت قولك يوماً: «ولدتني أمّي، فأُضيف إلى الوجود خيرٌ جديد وشرّ جديد»، فما منّا أحد إلا ويتردّد في حياته بين حالين: خير وشرّ!
لكن، قُل لي، يا دكاترة: ما ذاك الإعلان الذي نشرته «روز اليوسف» عام 1932م عن لُفافات التبغ؟!!
هنا، تبسّم الرجل ضاحكاً، وقال: هل أنت حفيّ بالتنقير عن هَناتي، والنبش في هفواتي، أيّها العراقيّ؟! حسبتك على ودّ العراقيين لي، ما غيّرت ولا بدّلت!
قلت: معاذ الله، يا أستاذ.. لكنّها أشياء في النفس، تُترجم عن انبهاري بشخصكم الباهر، وأدبكم السائر، ورفضي لما يشوّش على صورتكم في الخاطر، وهذا معك ومع خصومك ممّن أحبّ، ولا أخفيك!
قال: يا ابن أخي، فهل قرأتَ ما كتبتُ تحت صورة السجائر في ذلك الإعلان؟
قلت: نعم!
كانت رسالةً كَتبتها بيدك إلى القُرّاء، بخطّ رُقعة أنيق، تقول فيها عن سجائر «ألف ليلة - كريازي»: «التدخينُ ضَلال، ولكنّه يُحتمل؛ إذا قُدّم إليك عن أيدٍ مصريّة من شركة مثل شركة كريازي، وقد استحليتُ دُخانها ممثّلاً في سجاير ألف ليلة التي ذكّرتني بما في ألف ليلة من ضلال، وعفا الله عمّن علّمني التدخين!».
قال: طيّب، فهل قصّرت في رسالتي تلك؟!
قلت: لا، سيّدي.. ولا ينسى مثلُك التذكيرَ بالرشاد والحضّ عليه عند ذكر الضّلال، فأنت من أصحاب القلوب، وإن كان قولك من باب تحسين القبيح. لكن، ما فعل الله بك عليها، وهي الضلال كما بيّنت؟
قال، وهمّ بالمغادرة نافضاً ما علق بسرواله من الغُبار: قد غفرَ الله لي هذه وما سواها، وهو أرحم الراحمين..
ألقى الرجل عليّ السلام، فإذا صوته يختلط بصوت المُمرضة، توقظني لبعض شأن العلاج، من غفوة لم تطل على كُرسيّ وضعته عند أقدام أمي، رحمها الله.. قُرب شبّاك مُطلّ على دجلة ومقام الخَضِر، في مدينة الطبّ بجانب الرُّصافة من بغداد، عائداً إلى التسبيح والاستغفار ودعوات ضارعة.
#تراجم_نبلاء #أدباء_مصر #بغداد #خصومات_أدبية #أدب_خيالي