د. عامر شارف قراءة في قصيدة "غناء في الغربة" للشاعر حسين عبروس

قصيدة "غناء في الغربة" للشاعر حسين عبروس

*****
عنّيت .. غنيت ..الليالي من كبد
غنّيتُ جرحًا في الدنى
يا روعة الأحزان
في عمر البلد
من أين ، ومتى ترفل حوريّة الغناء في فضاءات هذه الأجواء التي عاشها ويعيشها وسيعيشها الشاعر ؟؟
حسين عبروس وهو الممثل لجميع شعراء العالم وبخاصة شعراء العرب وبخاصّة من الدرجة الثانية شعراء الجزائر ،لكنّ الشاعر كما عهدناه وعلى الأقل يتميّز عن غيره ،ينفخ مزامير الأمل ثائرا مرة ،وغاضبا في كثير من الأحيان ،بين يديه قصيدة أو قصة أو رواية أو خطابا من نوع آخر ،هذا يجرّنا إلى ما هو يأمل ،وإلى ما هو على الأقل محمود من روحه المتمرّدة الثّائرة عن الأنفاس التي بعثرها الأسى على لهب الياس ،قوة تزلزل أعماقهم فينتفضون ،وينفضون الغبار عن أنفسهم ،ليتشبث براية النّضال ،أليس الوحيد الذي ما يزال ينشر إبداعاته على صفحات الجرائد مثلي وأمثال مجموعة محدودة جدًّا قضينا أكثر من ربع قرن عطاءً من دون مقابل .
حسين عبروس شاعرا غنّى ولم يغنِّ الأفراح ،بل غنّى الأحزان وغنّى الآلام ،فلم تنهره ولم توقفه المحن مهما عظمت في هذا الكون ،جلجل مآسيها ،وجلجل مأساة الإنسانية بوحا جميلا ،وتفنن في كيفية البوح ولم يقف مندهشا مثل كثير من خلق
الله ،فهذه الغنائية يريد الشاعر من خلالها أن يحطّم جدران الهمّ والغمّ ،ليبني أسوار الحياة والأمل ،وعلى الأقل مناصرة لحبّ العيش في هذا الكون العظيم بعظمة الفنّان الحسّاس
الرّقيق الإنساني الرّاقي والمفكر الواعي المدرك ،ذلك هو الشّاعر من طبعه وبطبيعته ،فمن هو الشاعر إن لم يكن بلبلا صدّاحًا بين الرّوابي مكمّدا جراحاته التي قد تكونفي كثير من الأحيان سبب هلاكه.
حسين عبروس الشاعر يرى أنّ المآسي يقابلها الغناء /الغربة يقابلها الغناء /بمعنى أنّ القصيدة هي متنفس لهذا الكائن ،وتسابيح لمعادلات شعورية نفسية ،وشعرية تعبّر عن انتفاضة الرّوح وحبذ الحياة على مدىً لا يتوفّر إلا على توقيعات نفحة شاعر.
أفراح ـــــــــــــــــــــــــ غنّيتُ / غنّيتُ
حالة غير عادية ــــــــــــــــ غناء /غربة '' غربة مكان /غربة زمان ''
حياة عادية ـــــــــــــــــــــ انفعالات / استمرارية /تنوّع ــــــــــــــــ عمر البلد
لكنّ الشاعر يؤكّد على الغنائية دائما ليعيش أحلامه الموءودة ولو وحده معانقا أوهامه وإيهامه من نسج خيلائه عبر فضاءات لا تعرف حدودا لها ،وما تلك الأسئلة التي بثّها الشاعر في قصيدته :
ماذا يصير الآن لو غنّى الأمد ؟؟
ماذا يصير الآن لو غنّى البلد ؟؟
هذه الأسئلة هي كلّ ما يترجّاه وكل ما يتمنّاه الشاعر ،وما بين الرّجاء والتّمنّي حيّز دلالي،،فهو يفتّش عن حيّز غنائي بوساطته ينسى الحياة الحقيقيّة المرّة التي تمارس عليه ضغوطاتها ،ولكن كيف ينقلب الكون من إلى صورة أخرى بثنائية ضديّة محمّلة:
اقرأ هنا قلبي تجدْ
وحدي الغريب
لا..لا أحد
ما أعظم أن يعيش الشّاعر حياته غربة ، ويعيش غربته وحيدا من دون مؤانسة ،وهو يتلذذ باحتراقاته /مجازية قول شاعر /لا يدركها إلا من عاش شاعرًا مثله ،وتلظّى بنارها وحده ،ولهذا كان الغناء وهو المنفذ الوحيد والرّكح الوحيد لهذا البلبل الصّدّاح
عبر مواسم الأحزان ،ومراسيم الجنائز ،حاملا رسالاته الشّعرية متأمّلا كينونة وصيرورة العالم الجحيم الذي جعل من البشريّة وقوداً له غير معتبرٍ مشاعرنا الإنسانيّة .
قد يهتدي قلبي هنا
نحو الذي صار الأحدْ
قد يهتدي قلبي هنا
في المسلك المحزون
ما لمّني جرح خلدْ
نتأمّل جيداً إلى أين سيكون الاهتداء ؟؟ ومتى سيكون ؟؟وكيف سيكون ؟؟إنّها المغامرة التي اعتنقها /الفاعل/ الذي أراد أن يصل فتعثّر بين الدّروب الوعرة ،هنا
تمتدّ يد الفقر والحرمان نحو كلّ فردٍ منّا تنخر عظامه نخراً غير مبالية ،وهذا الجهل تكبر مساحته كلّ يوم في جيل كنّا نتمنّى أن يكون خيراً منّا فكان عكس ما تمنّينا ،
هي هذه الفوضى التي سادت فضاءات الضوء بين خطواتنا ،هو المسلك المحزون الذي أفاضت الكأس ليلته همّا وشعراً،وانسحبت خضر ليالينا ،ورغم هذا كلّه ما لمّ الشاعر جرحٌ خلد .
يا شاعر الأحزان في بحر المددْ
غنِّ شطآنك الرفض الأبدْ
غنّ الغريب الموثّق الأسرار
في عمر البلدْ
غنِّ عين الله ترعى بالهوى
عين الأبد
يتأرجح الشاعر على ثنائية جميلة تلك التي نسج على نيرها وسداها جماليّة ترصيع المتن في اختيار صوره الشعريّة الإيحائية،وفي اختيار الألفاظ التي تناسب مهرجان
الإحساس وطيبة البوح الدّافئ تحت ظل صفصاف العذابات والمحن ،ممّا جعله يتنفس بهدوء شاعر وحكيم ،وهو يأخذ حكمته من وحي تجربته ،أن يرى بأمّ عينيه ويسمع مسارح الدّنيا ويتهجّاها في عين الأبد ،وهو يتناول عمر البلد شعراً ،ويتحدّث فيه عنه جاعلا منه موضوعاً لنصّ شعريٍّ متمتّعا بميزات القصيدة التي ما تزال تحافظ على ماء وجهها الخليلي وعبقها، معتمداً على قافية تحمل من الأنين ما تحمل ،وعلى تدويرة يعود عبرها كلما أثقلته الحياة بمآسيها ،ويعود إليها ليستريح كلّ مرّة ، يبصم فيوقّع تحت ما فعلته أحزان البلد ،وعبر ما شاهدته في زوايا
القصائد عين الأبد ،وبخاصّة تلك التي قالت يوم قطعوا أنفاس أهل الكلام إلى اليوم
اقرأ علامات الوقوف القادم
في ليلة المرتدّ بالخوف الذي
أدمى الجلد
في فجر من أهدوك كلّ الأبحر
كي تعبر الخوف الطّويل نحو البلاد الحلم في عمر البلد
ومن يجرؤ مثل هذا الشّاعر الذي يقول أشياءً كثيرة بهذا الإيجاز ،وبلغة تتقاطر بلاغةً وفاءً للمدارس النّقدية القديمة ،ووفاءً للمنهج الأسلوبي أين يمكن للمتلقّي الذي يريد أن يقوم في هذا المقام للإفضاء بما يختلج به الوهج الرّوحي والنّفسي.
فما جدول الوقوف القادم الذي يحمل لنا مفاجآته وللأجيال القادمة لتأريخيّة البلد ؟؟وهي تعيش ليلها المرتدّ بالخوف ،فأين البلاد الحلم في عمر البلد؟؟ هنا يقف المتلقّي على علاقات بين الشكل والكلمة ومعناها من جهة وبين دلالاتها من جهة ثانيّة،حيث الجملة لا تتوقف على ما تمتلك وحدها من دلالة واحدة وفقط أو لغة لا تخرج عن اجتماعيّتها المتواضع عليها داخل مملكة العرش الشعري بل تأخذ دلالات لا منتهية،
فالشاعر يعيّر من أسلوبيته كلّما اصطدم بما لا يوافق انفعالاته وحدس المعنى المتوفر ،بحيث لا يتنازل إلا مع مضامينها الوجدانية أين يمارس في عملية البوح العلاقة الجدليّة بين اللغة والعاطفة ،وهذا ما ليس يعني إمكانية المترادفات في حالة تواجد تخلو من صوفية ابن عربي والحلاج ،فالبحر يتّسع لثنائية الحياة والفناء ،والبلد الحلم يتّسع أيضاً لثنائية اليأس والتّفاؤل ،فالقيمة الجمالية في التّعبير تغدو
مسحة من تزيين واجهة الواقع من طرف الشاعر الذي لم يعد نوّاحاً على البلد ،ولم
يكن نوّاحاً ،وهو يقوم على إيصال الفكرة بشرف الكلمة :
أنت الغريب المتعب الأنباء
في صحوي الجميل
يا موطني
أنت الرّدى من بونة
يا كلّما غنّت هنا وهران في ليلي الغريقْ
يصرّ الشاعر على الغربة في هذا البلد ،وعلى الحياة المتعبة ،أكان في حالة الصحو الجميل أو العكس ،هو نحن ،نحن هو ،لنا أوراق التّلقّي وله نبضات الشعر والحرقة له فصوص الألفاظ التي تبعث فينا ذكرى الموت /القتل العمدي / ولنا التّأثر يا بونة منذ ذاك المساء فلا الشكر شكرته ، ولا الضيف ضيّفته ،لو ترجّينا من بونة يوماً أن تحدّثنا قليلا لقضت عمرها كاملا تحكي ،ولو ترجّينا من وهران ،حتّى وإن كانت الباهية تغنّي وتزغرد على أشلاء أفراح موءودة ،ومتى غنّت هذه الأخيرة وهي التي كانت شهدت جنائز عديدة /بختي بن عودة ،وعبد القادر علّولة.../هكذا كان عمر البلد يعيش محنا في الشرق وأخرى في الغرب عبر سنوات لا أعادها الله .
لغة الشاعر أبرزتْ المكان وهو ما يجعلها تتقلص إلى حدود معيّنة تحدّ ها المناسبتية ،أو لنقل عنصر السببية ،فتحدّ من حرية المتلقي في أحداث القصيدة ككلّ متكامل برغم بساطة الطّرح ،على فنّية تعانقت فيها الفردانية تلك التي ربّما ما لم يتعانق من قبل على أيدي من يتزعّمون فحولة الشعر /أقصد فحولة الحداثة /وهذا يعود إلى اعتماده على الكلمات الشعريّة ،وهذا يعود أيضاً إلى تجربته الشعريةّ
التي امتلكها من قصائده الخليلية التي بدورها منحته الدُّربة.
بستان سرّي في المدى
حتما هنا قد يورق
لحنا على جرحي الدّفين
قد يورق الآن الطّريق
في عمر المواليد الجدد
قد يورق الآن الأمدْ
القصيدة منبر طوّح الشاعر من خلاله مستدركا عالماً عاشه وعايشه بكل ما فيه من أسى وآلام ،ويبقى الحلم هو المعانق الوحيد الذي لا يبعد تفكير الشاعر ولا يغادره أبداً ، ويبقى الأمل ما يشبه غيمة راحلة في سماوات الكون والشعر ،فمتى يتحقق الحلم والأمل ،وقد راودهما ويراودهما عن نفسه علىأن يتحقّقا في المستقبل القريب أو البعيد للأجيال القادمة ،كما أن /قد /هذه قبل الفعل الماضي تفيد التحقيق ،بينما قبل الفعل المضارع لا تفيد إلا ......
القصيدة شجرة خضراء وارفة الظلال تطلع من مفاصلها أزهار التّفاؤل ،وأغان الأحلام، وأناشيد الآمال مثل الربيع من فصول السنة ،ومثل مارس من شهور الربيع ،تتميز عن مثيلاتها بما أودعها الشاعر من نفثات روحه وإبداعاته في تشكيلها ،تورق أملا وحاما وبهاء ،تتدلّى في قمة الاشتهاء ،من ذات الشاعر حين تتعرّى أوراق قلبه في هذا الكون ،وحين يفضحه غناء الحمام البرّيّ على شرفات المساء وهديل الانكسارات مدى عمر البلد
قد يورق الآن الأمدْ
بهذه الخاتمة التّفاؤلية يتوزّع الشاعر حسين عبروس على الدنيا قمراً يضيء،ونهراً
يروي أمواج الظمأ ،فشاعر ألف نافذة وجدار ،وصاحب جلسة مع المتنبّي ،الإنسان المطبوع الذي لا يورد قولا إلا ويكون في أيّ مكان وفي أيّ زمان وفي أيّ حالة ،وفي الأخير نبارك في الشاعر هذا النّضال الدائم لولاك ما حملنا القلم ،فدمت شاعرا فحلا من شعراء الجزائر ..وتبقى أنت الشاعر .
Peut être une image de 1 personne

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى