د. أحمد الحطاب - التَّديُّن عندما يختلط بالتَّنميط والعادة

التَّنميط stéréotypie عبارة عن وجود أفكار idées أو مواقف attitudes أو تصرُّفات actes أو أقوال paroles غير مبنية على أساس، ويُحاوِل مَن يؤمن بها أن يُعمِّمَها على جميع الناس بدون سابقِ تفكيرٍ أو تأمُّلٍ. مثلا، حينما يقول شخصٌ ما : "أعضاء الجماعات المحلية كلهم فاسدون" أو "البرلمان مؤلَّفٌ من المنافقين" أو سكان هذه القرية كلهم شْلاَهْبِيَ"، فهذه أحكامٌ مُنمَّطة jugements steréotypés. والمُنمِّطُ، أي الشخص الذي يكون التنميط هو سبيلُه في الحياة، لا يملك أيَّ دليل يُثبت ما يفكِّر فيه أو ما يتَّخذه من مواقف أو ما يقوم به من تصرفات أو ما ينطق به من أقوال. كل ما في الأمر أن المُنمِّطَ سمع أقوالا أو رأى آخرين يتَّخذون مواقف من شيءٍ ما أو تصرَّفوا تصرُّفا معينا. فالمُنمِّط لا يبدل أي جُهدٍ للتَّأكُّد من هذه الأشياء. بل إنه يسعى لتعميمها على جميع الناس أو فئةٍ معينةٍ من الناس.

وللإشارة، إن جلَّ الأحاديث اليومية التي تدور بين عموم الناس، وخصوصا في المقاهي، لا تخلو من تنميطٍ ولو كان المتحدِّثون من العقلاء. لماذا؟ لأن الأحاديثَ العامة والمتداولة، غالبا ما يكون محتواها، منبثقا من القيل والقال والأحكام المُسبقة préjugés.

أما العادة، فهي كل الأقوال أو الأفعال أو التَّصرُّفات التي تعوَّد الناسُ على القيام بها دون أدنى تفكيرٍ مسبقٍ. والعادات منتشرة بكثرةٍ في كل المجتمعات، علما أن كثيراً منها يتضارب مع القيم الإنسانية ومع العقل ومع الدين. بل إن العادات قد تطغى على القيم وعلى العقل وعلى الدين لتصبح نوعا من الثقافة التي تُتَوَارَثُ من جيلٍ إلى آخر.

بعد هذه التوضيحات الضرورية لإدراك المغزى من هذه المقالة، دعونا ندخل في صُلب موضوع هذه المقالة التي تحمل عنوانَ "التَّديُّن عندما يختلط بالتَّنميط والعادة".

التَّديُّن هو الطريقة التي، بواسطتها، يتمُّ تطبيق دينٍ معيَّن على أرض الواقع، أي نقلُ هذا الدين من المستوى النظري إلى المستوى العملي. وهنا، لا بد من التَّذكير أن هذا النقلَ من المستوى النظري إلى المستوى العملي، يتطلَّبُ فهمَ هذا الدين فهماً تاما يُتيح للمُطبِّقِ أن يُمارسَه بسهولة. وهذا الفهمُ غير مُتاحٍ لجميع الناس وبنفس الدرجة.

وهذا يعني أن الناسَ البُسطاء، وخصوصا الأمِّيين منهم، يعتمدون في تديُّنهم على القيل والقال وترديد ما يقوله الآخرون والتقليد الأعمى لما يقوم به الفقهاء من تصرُّفات. هذه الفئة من الناس، هي التي يختلط تديُّنُها بالتنميط والعادة. وقد يبلغ هذا التنميطُ وتِكرارُ العادة مستوياتٍ مبالغٌ فيها، عندما يصبحُ التَّديُّنُ، كما سبق الذكرُ، عبارة عن ثقافة مُتوارثة مخالِفة للعقل وللدين.

ولعل أسوأَ حالةٍ، في هذا الصدد، هي أن يمتزجَ الدينُ بالعادات والتقاليد السيئة التي، في الحقيقة، تسيء للدين وتُحرِّفه عن مقاصده. بل إن هذا الخلط بين التنميط الديني والعادات والتقاليد السيِّئة قد يقود، أحيانا، إلى خلقِ دينٍ موازي لا علاقةَ له بالدين الأصلي المنزَّل من عند الله على رسوله محمد (ص).

وما يزيد في الطين بلَّةً هو أن المنمِّطين، إضافةً إلى اختلاط تديُّنهم بالتنميط، يظنون أن العادات والتقاليد السيِّئة هي جزءٌ لا يتجزَّأُ من التَّديُّن. حينها، يغيب المنطقُ ويصبح الدينُ، عن قصدٍ أو عن غير قصدٍ، عُرضةً للتَّشويش والتَّحريف. وقد تصبح ممارساتُه مجرَّدَ تصرُّفات ميكانيكية actes mécaniques يتم تكرارُها بدون فائدة بفعل الرتابة la routine وليس من أجل التَّعبُّد والتَّقرُّب من الله.

من بين هذه العادات والتقاليد السيئة، المترتِّبة عن التنميط تقصير اللباس وإطالة اللحية وتغطية الرأس بعَمامة إلى أن أصبح كثيرٌ من الناس يظنون أن هذه العادات جزءٌ لا يتجزَّأُ من الدين. وفيما يلي، هذه بعض الأدلة تُبيِّن بأن نوعيةَ وشكلَ اللباس لا علاقةَ لهما بالدين. لماذا؟

1.لأن اللجوءَ إلى اللباس، في الأصل، وخصوصا عند الإنسان العاقل البِدائي، كان يهدف، أولا وقبل كل شيءٍ، لحماية الجسم من قساوة العوامل البيئية المناخية. ولما تطوَّر فكرُ الإنسان، تحوَّلَ اللباسُ من مجرَّد حماية للجسم إلى وسيلةٍ للزينة.

2.ولما نزلت الرسالات السماوية على الرسل، وعلى رأسها، رسالة الإسلام، أصبح اللباس سترا للعورة وليس لباسا مقترنا بدين معين. والدليل على ذلك أن البشريةَ جمعاء، من شمال الأرض إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربِها، ترتدي لِباسا يستر العورة. وهذا اللباس يختلف شكلا ونوعا من بلدٍ إلى آخر، حسب العادات والتقاليد، وحسب العوامل المناخية.

3.ارتداء اللباس ناتِجٌ، إذن، عن ثقافةٍ وحضارةٍ معينتين، قبل أن يكون مرتبطا بدين معيَّن. والدليل على ذلك أن ناسَ بعض القبائل الإفريقية لا يزالوا إلى يومنا هذا ينشطون طيلةَ حياتهم اليومية عُراةً من قمة رؤوسهم إلى أخمص قدميهم. لكنهم يُغطُّون أعضاءَهم التناسلية بقطعة من القُماش. وإذا عرفنا أن ناسَ هذه القبائل وثنيون، فتغطيتُهم لجزءٍ من عوراتهم نابعٌ من الاحتشام.

4.ولهذا، فتغطية العورة سببُه الاحتشام la pudeur أو الحياء décence. والدين سار على هذا النهج لأن تغطيةَ العورة كان يُعمل بها منذ القِدم. وحتى آدم وحواء، عندما خالفا أمرَ الله بأكلهم من الشجرة، ظهرت لهما عوراتُهما لكنهما سرعان ما بحثا عن ورق الجنة لتغطية عورتيهما، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ ،(الأعراف، 22).

والطامة الكبرى تَحدث عندما يبلغ الخلطُ بين الدين والتنميط والعادة درجةً كبيرةً يصعب معها التَّمييزُ بين ما هو دينٌ وما هو تنميطٌ أو عادة. وهنا، قد يظهر دينٌ موازيٌ للدين الحق، جزءٌ منه حقا دينٌ وجزءٌ آخر لا علاقةَ له بالدين. في هذه الحالة، يزداد الأمرُ تعقيداً عندما ينتقل الدينُ الموازي من جيل لآخر عبر الآباء والأجداد، ويصبح ثقافةً قائمةَ الذات.

وفيما يلي هذه بعض مظاهر الدين الموازي الذي ابتدعه الناسُ على مرِّ الزمان، المُترتِّبة (المظاهر) عن تنميطٍ سيء وعادات سيئة :

1.هذا هو ما يحدث، مثلا، بالنسبة لزيارة القبور وقراءة القرآن عليها. إنها عادةٌ متوارثة بين الأجيال، أي انتقلت من جيلٍ إلى آخر ولا علاقةَ لها بالدين. بل لها علاقة بالدين المُوازي المُختلِطِ بالتنميط والعادة. في هذه الحالة، فالدين الموازي يصبح وسيلةً لنقل أشياء لا تمتُّ بصلةٍ للدين كالاعتقاد بأن الميِّتَ يسمع وأن القرآنَ المقروء على قبره يصلُ إليه ويُخفِّف عنه العذاب. في حق هذه الفئة من الناس، يقول، سبحانه وتعالى : "وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" (التوبة، 102).

2.والتنميط السيء والعادات السيئة تعجُّ بهما المجتمعات الإسلامية، أذكر من بينها، على الخصوص :

-محاولة التَّقرُّب من الله عن طريق وسائط بشرية من الأولياء والصالحين والذين أصبحوا منذ زمان في عِداد الأموات.

-زيارة الأضرحة وتقديس قبور مَن هم مدفونون فيها

-الصراخ والبكاء المفرط في عزاء الميت

-اللجوء إلى العرَّافين والمُشعودين والسَّحرة واعتبارهم من الأشخاص الخارقين للعادة والقادرين على تحقيق المعجزات من زواجٍ وإنجاب الأطفال والتَّوسُّع في الرزق والحصول على فُرص العمل…

-اللجوء إلى التمائم amulettes والتَّعاويذ talismans ظنّاً أن لها القدرة على حماية الناس من العين والسِّحر والحسد والنميمة…

-اللجوء إلى الرِّياء من طرف كثيرٍ من الناس في العبادة والصدقة لجلب انتباههم وجعلهم يقولون "فلانٌ من الأشخاص الصالحين" أو "فلانٌ كثير الكرم". وبصفةٍ عامةٍ، الرياء هو الأقدام على عمل ليس للتَّقرُّب من الله ولكن من أجل أن يراه الناس. في حق هذا النوع من البشر، يقول، سبحانه وتعالى : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ…" (البقرة، 264)

قبل أن أختِمَ هذه المقالة، ما أريد أن أُثيرَ له الانتباهَ هو أن الدينَ كان دائما يتضارب مع التنميط والعادات والتقاليد، وخصوصا، السيئة منها، وذلك منذ أول رسول، نوح عليه السلام، بعثه الله للناس لإخراجهم من ظلمات الجهل إلى نور الحق والإيمان. بل إن كثيرا من الرسل عانوا الأمرَّ بسبب تشبُّث الأقوام الغابرة بالأديان التي وجدوا آباءَهم يمارسونها بما فيها من تنميطٍ وعادات وتقاليد سيئة، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَىٰ عَذَابِ السَّعِيرِ" (لقمان، 21).

أن يميلَ الإنسان إلى أهوائه، هذا شيءٌ طبيعي. لماذا؟ لأن طبيعةَ الإنسان تتأرجح بين الخير والشر، أي تارةً يميل إلى استعمال عقله في الاتجاه الصحيح، فتكون أقوالُه وأعمالُه كلها تصبُّ فيما هو صالحٌ. وتارةً يستعمِل عقله في اتجاهٍ مُجانبٍ للصواب، فيستسلم لأهوئه، فيكون التنميط واللجوء إلى العادات والتقاليد السيئة، هما اللذان يرسمان طريقَه، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "قُل لَّا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (المائدة، 100).

وإلى يومنا هذا، لا يزال الدينُ الإسلامي يعاني من تداخل الدين مع التنميط والعادات والتقاليد السيئة. وحينما يختلط التَّطرُّف الديني بالتنميط والعادات والتقاليد، فتلك هي الطامَّة الكبرى! يكفي أن ننظرَ ما اقترفته داعٍش من جرائم في سوريا والعراق وليبيا، واليوم، ما يقترفُه طالبان من ظُلمٍ في أفغانستان!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى