جميل أن يأتي باحث كندي فيكتشف أن عبد الحميد ابن باديس هو زعيم القومية الجزائرية ومفكر الإصلاح، هو ردٌّ كافٍ و شافٍ على المشَوِّشِين على المدرسة الباديسية القائلين بأن عبد الحميد ابن باديس طلب الجنسية الفرنسية، ردٌّ لم يأتِ من أبناء بلده و للأسف، في هذه القراءة المختصرة معلومات قيمة جدا عن الإمام عبد الحميد ابن باديس أوردها الباحث الكندي "أندري ديرلك" في كتابه بعنوان: عبد الحميد ابن باديس مفكر الإصلاح وزعيم القومية الجزائرية، قدمه وترجمه مازن بن صلاح مطبقاني، وهو كتاب يكشف فيه صاحبه تأثر بن باديس بالفكر الأصولي في مصر، وكيف نشأت "المعارضة" داخل جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، مبرزا كذلك أهمية علم الاجتماع الإسلامي في نبذ الانقسام الطائفي في الجزائر، وتحديد مفهوم الإيديولوجية الاجتماعية الإسلامية لبناء مجتمع فوق قواعد أقرها الدين
فكتاب أندري ديرلك هو رسالة دكتوراه قدمها الباحث من معهد الدراسات الإسلامية جامعة ماك غيل McGill مونتريال كندا في مارس 1971 وترجمها وقدمها مازن بن صلاح مطبقاني ونشرت الترجمة عن عالم الأفكار في طبعتها الأولى لسنة 2013 يأتي قبل صدور كتاب الدكتور عبد الله حمادي الذي تحت عنوان ابن باديس سيرة ومسيرة صدرت طبعته الأولى في 2017، لاسيما والباحثان تكلما عن العائلة الباديسية، وكانت لكل واحد منهما رؤية خاصة، ولعل البعض اطلع على ما جاء به الدكتور عبد الله حمادي، ولذا لا يسمح المجال لإعادة ما كتبه هو، من اجل التركيز على ما كشفه الباحث الكندي أندري ديرلك من حقائق حول عائلة عبد الحميد ابن باديس، فمن مدينة قسنطينة العريقة انطلقت شرارة حركة ابن باديس، ولو لم يكن لعائلة ابن باديس تلك المكانة الخاصة لما تمكن ابن باديس من الانطلاقة في حركته العلمية، ولما تمكن من الانتقال إلى الزيتونة لتلقي العلم هناك، ولما أمكنه من نشر مشروعه الإصلاحي وإحداث التغيير في المجتمع المسلم، بعدما استبدل الاستعمار الفرنسي المؤسسات التي اعتمدت على مبادئ الدين بتلك التي استعيرت من" الفرنجة"، في ظل الصراع الذي كان قائما وما يزال بين التقليديين والتحديثيين وموقف الإصلاحيين من هذين الاتجاهين، لإعادة بناء ظهور فكرة الإصلاح كرد فعل في وجه التحديث، وإعادة الاعتبار للإسلام في الجزائر.
وكما جاء في الصفحة 140 من كتاب أندري ديرلك، فقد وافق "القبّان" بن باديس (محمد كحّول) الجد الأعلى لعبد الحميد بن باديس على الخدمة تحت ظل الحكم الفرنسي في جماعة المدينة عام 1838 وعام 1848 عندما استبدل حاكم قسنطينة الأهلي بأول رئيس بلدية فرنسي، واستمر محمد كحول مستشارا بلديا، وتم تثبيت ابنه المكّي بن باديس، جد عبد الحميد بن باديس في منصب قاضي مقاطعة قسنطينة، واختير القاضي فيما بعد ليتحدث عن شرق الجزائر أمام لجنة لُوهُونْ للتحقيق Le Hon، وتمتع المكي بن باديس مثل أبيه بثقة مكتب شؤون الأهالي، وبعد وفاة محمد كحول استمر حميدة بن باديس عمّ عبد الحميد ومصطفى بن باديس والد عبد الحميد في خدمة فرنسا، وقد كوّن حميدة تكوين العلماء وعين قاضيا لمدينة قسنطينة، أما والد بن باديس فقد اختار التجارة فزادت ثروته على ثروة أسرته، ليتم تعيينه مندوبا ماليا عن قسنطينة في عام 1902، ثم منحه وسام الشرف في عام 1919، إلى أن نال لقب الأغا في عام 1929 مقابل خدماته لفرنسا، وفي عام 1933 أصبح مصطفى بن باديس باش آغا المدينة، ومات وهو خادم لفرنسا، أما عن عبد الحميد بن باديس فقد ترعرع في بيت بن جلول وتولت أمه تعليمه، بعدها سلم للشيخ محمد بن مالوس (المدّاسي) العالم الكبير الذي كان مسيده (مدرسته) خلف مسجد سيدي لخضر المخصص لأبناء الأثرياء، ولما أصبح الوجود الأوروبي في قسنطينة جليا عند بداية القرن العشرين، بدأ المستوطنون يؤثرون تدريجيا في حياة السكّان الجزائريين، وحدث تغير في المدينة.
وكان هذا التغير قد أقلق الإمام عبد الحميد ابن باديس، فكان كلما مر من أمام القلعة الحفصية التي كانت تحمي المدينة إلا وتذكر معركة " لا بريش" la breche التي شهدت الكولونيل كومْبَسْ combes يضرب مدينة قسنطينة عام 1838 وكانت عيناه ما تنفكان تلمحان مسجد الباي الذي أصبح كاتدرائية المدينة، لكن والده أراد إبعاده فدبر له فكرة السفر الى تونس لمواصلة تعليمه، وهناك ارتبط ابن باديس بالسلفية، حيث كانت تتواجد مدارس كثيرة هناك، وتعتبر المدرسة الصادقية من أبرز المدارس في تونس إلى جانب المدرسة الخلدونية التي عرفت بميولها للسلفية، وقد وفرت في مكتبتها مؤلفات حول الأصولية، وفي هذه المدرسة بالذات اكتشف ابن باديس الأصولية، التي أكد أعضاؤها ولاءهم لأفكار العروة الوثقى، في الوقت الذي شهدت الساحة التونسية صراعا كاد أن يكون دمويا بين السلفية التونسية وعلماء الزيتونة التي كما قال المؤرخ غرقوا في العقيدة الخاطئة والجهل بتركهم القرآن واتباعهم مواعظ وتعاليم التيجانية، في الوقت نفسه كان ابن باديس أكثر تأثرا بالإباضيين.
وقد شهدت تنقلات ابن باديس من بلد لآخر واحتكاكه بالمجتمع الإباضية تغيرا، ووقفت عائلته على هذا التغير في سلوكاته الغريبة، حيث صار يعيش حياة الزهد، ولولا حادثة مسجد سيدي لخضر لما عرفه الجمهور، لقد كان عبد الحميد ابن باديس خطيب هذا المسجد يلقي فيه المواعظ ويقدم محاضراته، غير أنه واجه صراعا داخل هذا المسجد عندما أمر مفتي المدينة الشيخ المولود بن الموهوب بطرده من المسجد، لسبب واحد وهو الخلافات التي كانت بينه وبين مصطفى بن باديس والد ابن باديس، وقد عدها مصطفى بن باديس إهانة لعائلته، فكان عليه أن يحول ابنه إلى مسجد سيدي قموش، وهو مسجد العائلة، وكان هذه المرة الأولى التي يدرس فيها الإسلام خارج المدارس الرسمية التي تسيطر عليها الدولة، تجدر الإشارة أن أول مدرسة أسسها عبد الحميد بن باديس هي المدرس الباديسية الكائن مقرها بشارع ألكسيس لامبرت Alexis Lambert، وكان منهجه إصلاحيا في الباديسية، ومن هنا نشبت الحرب الكلامية بين ابن باديس ومفتي المدينة المولود بن الموهوب، فكانت سببا في بداية تشتت الجزائريين وتفرقتهم، وانحراف الشباب عن المنهج الرباني، خاصة وأن ابن باديس كان أكثر تواصلا بالعلماء الإباضيين والزوايا والصوفيين الذين كانون من مؤسسي جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ومنهم أحمد بن عليوة رئيس الطريقة العلاوية، والشيخ قاسم شيخ الطريقة الرحمانية ومفتي الحنفية والمالكية في الجزائر وشيوخ الإباضية، وتوفيق المدني، الطيب العقبي، مبارك الميلي، والعربي التبسي والأمين العمودي، الذين عرفوا فيما بعد بالعلماء غير الرسميين.
ولعل ظهور المعارضة داخل جمعية العلماء المسلمين الجزائريين برزت أنيابها مع بداية 1932 حينما تعرض عضو في اللجنة تأسيس جمعية عمر اسماعيل رئيس اللجنة الدائمة والصديق الحميم للشيخ أحمد بن عليوة للطرد من جمعية العلماء المسلمين الجزائريين لمعارضته الصريحة لرئيس الجمعية عبد الحميد بن باديس، واقترح محمد الحافظي عضو آخر في اللجنة تأسيس جمعية جديدة للجزائريين "السُنّة"، وانسحب 500 عضو من جمعية العلماء المسلمين والتحقوا بالمعارضة، ومن هنا انفجر الجدال حول الإسلام الصّحيح وفشل مشروع التعايش بين الإصلاحيين والتقليديين، وتعمقت الهوة عندما اقترح البشير الإبراهيمي تشكيل حزب "الإصلاحيين" لتطهير الإسلام في الجزائر من بدعه، وهو ما يوحي أنه وقعت خلافات بين بن باديس والإبراهيمي، ثم اتهام الطيب العقبي الشيخ بن عليوة بالشرك مما أجبر بن باديس على إعادة مراجعة مواقفه، خاصة وأن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين كانت في نظر والي الجزائر العاصمة (ميشال) تشكل تهديدا للقانون والنظام في الجزائر، حيث اصدر مرسومين يمنع بهما أعضاء الجمعية من استخدام المساجد الممولة من الدولة لأهداف التعليم والوعظ، فخرج الإصلاحيون إلى الشوارع والمقاهي في مظاهرات واعتقل كثير منهم، وكما جاء في الكتاب فمواقف عبد الحميد بن باديس دفعته الثمن، لدرجة انفصاله عن أبيه الباش آغا مصطفى بن باديس الذي كان ممثلا ماليا ومستشارا بلديا لقسنطينة، وغادر منزل الأسرة، كما كشف المؤلف الخلافات بين بن باديس وبن جلول الذي اتهم الطيب العقبي باغتيال المفتي، لكن في الحقيقة وكما هو مدون فإن محاولة اغتيال عالم قسنطينة كانت مدبرة من الشرطة الفرنسية لتحطيم صورة بن باديس وأتباعه بأي ثمن، كون الرجل أعلن عداءه لفرنسا وحكومتها، وعبر عن آرائه عن حول مسالة الحضارة للجزائريين وكذلك لبقية البشر.
قراءة علجية عيش