محمد محمد مستجاب - علاء الديب..عصير الحياة

سبعة سيدخلون الجنة، أولهم يوسف إدريس لأنه يوسف إدريس، وسابعهم بهاء طاهر لأنه نقي وبهي وطاهر، وفي المنتصف يقف محمد مستجاب والذي سيدخلها لأنه أبي، ثم الخامس والسادس الراحلين خيري شلبي وإبراهيم إصلان، يسبقهم علاء الديب: لأنه حنون وطيب وبشوش وأبن ناس طيبين ولأن اسمه علاء الدين حب الله الديب.
لكن الحياة لا تكفتي بأن تكون ابن ناس طيبين، يجب أن تثبت ذلك، لذا فإن علاء الديب، ابن المعادي ومصر القديمة، المتجول في أحياء البساتين وصقر قريش وطرة البلد حتي حلوان، والذي خاض الحياة بالطول والعرض، عمل وتغرب في وطنه، ثم سافر وتغرب في غربته، وبين الغربتين، ظل صامتاً كما عاهدناه، لكنه أثناء عمله وسفره وغربته واغترابه وحزنه ووحدته، يظل في يده قلم كلماته كالمرزبة تطيح وتطير العقل، وفي عقله أفكار مخروطة ومسبوكة كقطع الآلماظ لو طبقت لاصبح ذلك الوطن من الوطان العظمية، وفي قلبه أحلام قديمة لم تتحقق، أحلام تناغشه وتراوده كما تراودنا جميعاً – نحن الكتّاب والمثقفين - حلم قديم يتحقق ببطء لذا اصبح ملك من ملوك الكتابة.
علاء الديب: المهموم والمصلوب على ورقة بيضاء، مفرود ظهره على جذع قلم يكتب العسل المر، فهو الإنسان والفنان والمترجم والمتابع والشائك والمشتبك والمسافر والمغضوب عليه وجابر خاطر الآلف من الكتّاب المصريين والعرب، المهموم كجدتي، والمبتهل كأمي، والصادق كأطفالنا، والحاد كأبي، والحنون كرضوان الواقف على أبواب الجنة.
هكذا يعيش بيننا علاء الديب، يعيش دون أن نشعر به، يراقبنا ويحللنا ويفتتنا ونتحول إلى كلمات فى مقالاته ورواياته وكتبه، ومع أنه يتنفس نفس الهواء الخانق ويأكل نفس الأكل المسمم ويشرب نفس الماء الملوث، ألا إنه يترك كل هذا ويكتب، يكتب وهو يكاد عقله يجن، وذهنه يشت، لكنه مؤمن ومتمسك بأمل ضعيف واهن، وهو أن هذا الوطن يستحق أكثر وأكثر من أبنائه ولأبنائه.
علاء الديب الذي يحلو لنا كل فترة زمنية أن نحاصره، من الداخل ومن الخارج، نضيق عليه المسارب والمداخل ونحاول أن نخنقه لعله يموت ونستريح، لكنه يعود، لا يشهر قلمه في وجه من هاجموه، ولا يضغط عليهم كلماته فيموتون بين سطوره، لان قلبه كبير وعقله متسع وصدره لا يسطيع فأر ان يعبث به، لذا يعود - يعود بعد ما نفعله به - بنفس هدوءه وبنفس قلمه وسمرته المصرية وذقنه البيضاء وسيجارته الغلبانه ودخانها الكثيف ويكتب، يكتب وهو مرتدي ثوب علماء علم النفس، يشرَّح ما يحدث في عقليه أبناء هذا الوطن، قامت ثورة وحلم بها، لكنه شاهدها وهي تسرق وتضيع وتنهزم، شعر بالموت وأعلن الحداد والموت نهائياً في نكسة 67، شعر أن الوطن يتغير فلا الصباح صباح ولا الليل ليل، الكل يتقافز والكل يطنطن والكل يهبش ويحلب من البقرة ومن الأحلام والكل يتطاول، وهو هاديء، لا يثير معارك، مرفأه كلمة توقظ العقل وطعامه اليومي جملة تسد جوع البطن، طريقه مفروش بالروايات التى قرأها فعلمنا منه أن هذا الوطن مليء بالموهبين، لذا يظل مقاله " عصير الكتب" من أشهر المقالات التى عرفتنا بالكثيرين من كتابنا العظام، ولكنه لم يكن يرتدي قفاز ناقد متحزلق ومتقعر بالكلمات والمصطحات، لكنه يتعامل معك بالزائقة، يبين لك جواهر الروايات، ويهديك عقود من زبرجد القصص القصيرة، ينبهك ان الكتاب الفلاني يستحق أن يقرأ وأن الكتاب الآخر لم تختمر عجينه كلماته بعد، يجذبك من أذنك ويقول لك انصت ما بتلك الكلمات من حس موسيقي دافيء، وسلاسة وشعرية موسيقية، وأن هذه المجموعة القصصية أو الديوان الشعري يجب أن تحتفظ به في مكتبتك.
علاء الديب، لم أراه ولم التقي به، لكنني اشم رائحة سنوات من المرارة والحزن في كلماته، ريقه الناشف باستمرار غضباً مما يحدث، وتصبح المصيبة مصيبتين عنده، لأنه عاش ثورتين، ثورة شاهدها وهو طفل صغير وتذوق حلمها وامسك به ثم تم سرقتها وهزيمة بدنها، وها هو ينبهنا بكلماته منذ خمسين عاما، نحن الذين نعيش ثورة يناير، الثورة تحلم بكم، وسوف تسرق منكم، من منا سوف يصبح علاء الديب مرة أخري، من منا سوف يكتب كلمات حادة كي نفيق الآن، كي نتحد، وكي لا تسرق أحلام ثورتنا الوليدة.
انظر له وهو يميل برأسه على كف يده الذي تحمل سلاحه، قلمه، وابتسامة عذبة على شفتيه، ابتسامة الهدوء الأبدي، وابتسامة المرار الذي نحيا فيه، منذ سنوات بعيدة ينبهنا علاء الديب بإن نقف لحظات قبل المنحدر، بعد ان ارتطمنا بالأرض وتبعثر الوطن، لكننا نهضنا بثورة ادهشت العالم، فهل تتكرر مأساة علاء الديب معنا.
علاء الديب الذي كتب كلمات، حزينة ومحيرة وكئيبة وصادقة، صدق الدم النازف من جرح جديد، تلك الكلمات التى اصبحت بديلا عن الانتحار، فهو يحمل بداخله الآلف الاسئلة، كل يوم يولد له سؤال، وعلامة إستفهام في عقله تتضخم وتكبر حتي تكاد تفتك بعقله وقلمه وتشق قلبه نصفين، يسأل نفسه، في حب كبير لهذا الوطن ولناسه ولما يحدث له، يريد أن تتحول اسئلته وكلماته لطلقات رصاص – لا كي تقتلنا – لكن كي نفيق، كي نعلم، كي لا يأكلنا البرشام والحشيش والاوهام وأولاد الافاعي والمتقافزين والمزيفين، يسأل في صمت الرهبان وهدوء الأنبياء: ماذا حدث للناس وللبلد؟ من أين لإنسان يشعر ويفكر أن يحتمل في حياته كل هذه التقلبات والتغيرات؟
علاء الديب الذي يكتب كلماته بدم، ساخن، طازج، قاني، ينزفه كل يوم، دم متجدد كأنه نيل لا ينقطع ولا يجف، دم لا يتخنثر ولا يباع ولا يسرق، دم مصري قديم عمره الآف السنوات، دم بني أعمده معابد وقصور وقلاع ومات في البرد القارص، دم صنع منه رغيف عيش وكان لحمه هو الغموس، دم سال على الجسور والكباري والصحاري والجبال، دم مصري، شفيف، حقيقي، ليصبح دم علاء الديب، دمنا نحن- المصريين، المغتربين والمغربين، في وطننا، بسبب الجوع المفروض على البطون وعلى العقول، جوع ممتد ومولود معنا ويكتب في شهادة ميلادنا بعنوان: المصريين.
لذا إذا اردت ان تشاهد ميتاً يسير ويتحرك ويكتب بيننا فإنه علاء الديب، ولكن ستكتشف انه اكثرنا حرية واكثرنا إنسانية وأكثرنا حباً لهذا الوطن العظيم والقديم أيضاً.
ولأن علاء الديب مثقف حقيقي ومن نوع خاص، فهو يعلم مقدار التخلف والقبح الذي اصبحنا عليه، ولأنه ليس مزيفاً، لا يريد أن يجمل الكلمات أو أن يضحك علينا، حيث يسير علاء الديب بمثل " يابخت من بكاني وبكي عليه ولا ضحكني وضحك الناس عليه"، فمن المؤلم حقًا أن تكون مثقفًا في بلد يكره العلم والثقافة ويطرد النابهين من أبنائه ولا يأبه بوجودهم، فهكذا هو علاء الديب، ذلك المثقف الذي قرأ وعايش التجارب الحية، الذي أدرك حجم المآسي التي يعيش فيها، وأدرك لأي مدى عمق الطين والوحل الذي يسير فيه، لكنه وسط كل هذا الوحل والعفن يبحث عن المعاني الحقيقة الواضحة التى تجعله عالياً يطاول نجوم السماء، ويأتي بقمر جديد غارق برائحة زهر الليمون، وشمس تحمل أيام وردية، وتمر أيامها على أطفال بلا دموع، وبذلك تصبح سطوره ممتدة على نول الوطن، بخيوط مشدودة، يصنع منها ثوباً من نسمات الهواء واشعة الضوء كي يصير ثوباً حقيقياً نتدثر به من برد طوبة وجنون امشير ورعونة بوؤنة، فيصبح لنا ثوباً مصرياً مغزول بيد مصرية ومن خيوط مصرية ولجسد مصري، مكتوب على هذا الثوب: يجب أن نبكي من أجل كل شئ، ولكن..ليكن بكاؤنا جيدا، نبكي من الأنف ومن الركب، نبكي من خلال السرة.. ومن الفم، هكذا نعيش بكلمات تجعلك تفكر، تخربش عقلك، تجرح قلبك، تعبث في صدرك، تقلقك في مشيتك وسعيك في طريق الحياة.
أن علاء الديب لا يردم على ما يمر أمامه، أو يبكي ويلطم الخدود على ما يشاهده ويلمسه، فمثلا كتابه " وقفة قبل المنحدر" ليست مذكراته الخاصة، بل هي مذكرات وطن ومثقفيه، مذكرات تهزك بعنف، كاشفة، حادة، دون ضجيج ودون صراخ، فقط مذكرات بها كشف حساب لوطن سرق أمام أهله، ورواياته صخور عملاقة، مابين السيرة الذاتية والبوح والفضفضة، صخور من الحقائق والاحاسيس والكائنات، يروي فيها معاناته وأفكاره، صخور ترثي الوطن والاحلام العظيمة والعمر المسلوب.
علاء الديب اسفنجة تشربت كل بؤس الوطن وامتصت كل الذل والقهر والوحدة والحزن والعذاب، كي يعيش بالكتابة لانها بديلا عن الانتحار، لذا يقول : أرى شرخ الزجاج الذي بدأ دقيقا ثم اتسع، الشرخ الذي لا يرتق ولا يجبر، آراه وهو يتكون في نفسي، بهذه الكلمات الغارقة بنقاط الدم الساخن الحار الطازج، فهو الموجوع والحائر والمنهزم والمنكسر والميت: موت الإنسان والحلم والطموح والثورة والشعب والوطن.
علاء الديب المتلبس كل المثقفين المهزومين والذي حمل على عاتقه تقدم بلاده وعلو وطنه، لكن الحمل ضغط عليه وكاد يخنقه ويقتله أيضاً، بلغته السلسلة الناعمة والجارحة والحادة واللينة والصادقة، الغارقة في كآبه كابية، لكنها حقيقية، فلا نحزن او نغضب منها، فعندما كتب سيرته الذاتية، هذا الفن المراوغ، أبدع فيها لأنه كتب سيرتنا نحن المصريين.
لذا فأن كتبه صادمة لكنها صادقة، جارحة لكنها تعالج وتشفي، مقلقة لكنها تجعلك فائق ومستيقظ ومنتنبه لكل ما يدرو حولك، تضعك في بؤرة الوطن والأحداث، ليصبح قلبلك وعقلك خلية نحل لا تهدأ ولا تستكين، هكذا هي كتابته وكلماته المؤرقة، قاسية قسوة الزمن وحادة حدة الأيام وقاتلة بقوة الجهل والتخلف الذي نعيشه.
وإذا رأيت ما بين السطور وفواصل الكلمات ستعلم انه يخفي اكثر مما كتب، كلماته حزينة جدا، ومؤلمة جدا، وحادة وجارحة جدا، يكره التخلف ويعتبره أهم عدو له، يراه اخطبوط هائل بألف ذراع كلما قطع ذراع ظهر مائة، هذا التخلف الذي يقابله في كل لحظات حياته وفي كل الأماكن التى يتحرك فيها، لكن هذه المواجهة لم تجعله ينفر ويكره الوطن، بل جعلته منتمياً ومحباً وحالماً ومتمساً بتراب هذا الوطن مهما حدث ومهما تضخم هذا الاخطبوط ومهما تطاولت وكثرت اذرعه.
ورغم أن معظم كتابات علاء الديب بها كمية كبيرة من اليأس، والجراح، والصديد، لكن عندما تنتهي منها تشعر بشيء غريب، تشعر أن هذا الهاديء قد كتب ما تحب أن تكتبه أو تقوله أو تقرأه، دون الدخول في معارك مع اللغة ودون أن يطنطن بكلمات مكررة، إنه فاهم ومدرك لكل ما يحدث حولنا، وتلك هي الميزة والكارثة، فكتاباته كتابه الحزن والوحدة، يكتب عن حال مصر الأبدى الذى لا يتغير، فيكفي أن نقرأ له هذا المقطع: أري شرخ الزجاج الذي بدأ دقيقاً ثم اتسع، الشرخ الذي لا يرتق ولا يجبر، أراه وهو يتكون في نفسي، بذلك الأحساس المرهف العالي، يسير بيننا ويحيا عمنا الكبير علاء الديب والذي اتمني نحن عيال هذا اليوم، ان نقيم له مادبة ووليمة كبري، احتفاءاً به، وبكلماته، وبأنفاسه التى ترثينا وترثي وطننا المصري الجميل، وتجعلنا – نحن - نبكي حباً له وفيه.

محمد محمد مستجاب
أعلى