أ. د. صبري فوزي أبوحسين - كشكول إبداعي لطفل مصري

كانت طفولة (نشأت المصري) في نهاية أربعينيات القرن العشرين، وبداية خمسينياته، وهي فترة نشوء الجمهورية الأولى بعد ثورة يوليو 1952م، حيث هيمنة التيار الاشتراكي، والنزعة القومية العروبية، وكان الطفل فيها متمتعًا بزاد ثقافي كبير عن طريق مجلات وصحف سيارة، وقد أطلعني الحبيب (نشأت المصري) على كشكول عجيب، كشكول بادٍ عليه فعل الزمان، كشكول عمرُه أكبر من عمري بثلاث عشرة سنة! كشكول ستون ورقة أو يزيد من القطع الكبير، مُؤرَّخ في أعلاه بسنة 1958م، وفي غلافه الأمامي عبارة بخط عتيق نصها: (خواطر، تأليف، ذكريات)، وبعدها عبارة: (العدد الأول من مذكراتي)، وفي أسفل غلافه الكبير عبارة(شركة المسلم بالمحلة الكبرى).

1716235116042.png


كان عمر الأستاذ نشأت سنتئذٍ ثلاث عشرة سنة! كيف لتلميذ في مرحلة التعليم الإعدادي أن يخطط هذا التخطيط الثقافي والإبداعي؟ يخطط لكتابة فن الخاطرة، ولممارسة التأليف، ولكتابة الذكريات أو المذكرات؟! نحن إذن أمام تجربة إبداعية طريفة مثيرة تحتاج دراسة نفسية من قبل من يدرسون في علم النفس الإبداعي، ومن يدرسون إبداع الطفل، والتفكير الإبداعي لدى الأطفال ومهاراته، هذا الإبداع الصادر في مرحلة الطفولة العجيبة! ومن يفسرون الإبداع، ويحاولون الوقوف على عوامله ومكوناته ومراحله وتطوراته! ومن عجب أن الطفل (نشأت) هنا سيكون هو أحد الكتاب المبرزين في الكتابة للطفل من بعدُ!

وإن قراءة سيميائية في هذا الكشكول لتدل على أن الفتى(نشأت) ذو خط جميل منسق، وذو قدرة على التعبير اللغوي السليم الواضح، وأنه مثقف، يتابع بعض المجلات، ويسجل منها بعض المقتبسات التي تبنيه، وإن سياحة متدبرة في أعطاف الكشكول لتوحي بذلك وتقرره:

1716235179904.png


باكورة قصصية:

يبدأ هذا الكشكول بقصة وإن شئت قلت رواية قصيرة، معنونةبـ(بعد الفراق: حب وانتقام)
، وقد جاءت في إحدى وأربعين صفحة. وهذه النوفيلا هي التجربة الأولى والبدائية لأديبنا نشأت، وهي أول ما خطه قلمه في أجناس الأدب وأنواعه، وهي دالة على أنه مفطور على السرد، وعنده عشق للحكي والقص، وتسجيل مشاهداته وملاحظاته وخواطره، ومشاعره تجاه الآخرين وعنهم!

وينطلق الفتى(نشأت) من القص المتوسط إلى القص القصير فيبدع أربع قصص قصيرة بعناوين: (عناق الحرمان، مع الصبر، ماضي رجل، البرفسور)!

وتوجد إشارة إلى قصتين بعنوان: (المنافقة)، و(القرار الأخير)، ولا نص لهما بالكشكول!

باكورة مسرحية:

للفتى (نشأت) في هذا الكشكول مسرحية قصيرة بعنوان (خريج في إجازة) ثلاثة مشاهد، ختم نهايتها بشعر، والموجود منها مشهدان فقط، ولها نسخة أخرى معدلة في آخر الكشكول!

النقد الحِرَفي:

ونجد صفحة فارغة بعد ذلك بعنوان(نقد القصة)، وأخرى بعنوان(نقد المسرحية)، وكأنني بالفتى نشأت يمارس النقد الذاتي لأعماله أثناء إبداعها وعقب صياغتها، فهو المتلقي الأول لها، والقارئ الضمني لها، والقارئ الواقعي لها!

والنقد عند كاتبنا فيما أراه (نقد حِرَفي) وأقصد به ذلك النقد الصادر من مبدع والصادر من مثقف، وليس من محترف لمناهج النقد واصطلاحاته، إنه نقد سريع مباشر، موجه، صريح، موجز، يعلن عن الثناء أو الانتقاص حسب انطباعه، وحسب ميزانه المعتمد على قراءة في إبداعات الجنس الأدبي الذي ينقده، إن النقد الحِرَفي نقد من(الأسطى) في الفن لأحد المبتدئين أو المجربين أو الممارسين هذا الفن!

البعد الصحفي

ثم نفاجأ في الكشكول ببعد جديد في شخصية الطفل(نشأت) بعد الصحفي الصغير، فنقف على مشروع مجلة مقترح من خيال الفتى نشأت ومن جهده، بعنوان(فنار الثقافة)، وهي مجلة تشتمل على مقتطفات ثقافية وأدبية منوعة، فيها العلمي، وفيها السياسي، وفيها البعد العالمي، والبعد العروبي، وفيها الرسم الكاريكاتيري! وتجد فيما بعد إعلانًا عن العدد القادم من مجلة فنار الثقافة الذي لم يتم!

[HEADING=2]ثم نجد ملخصات لقصص عالمية مثل قصص(الشتاء، ضجة بلا طائل، لوليم شكسبير، وكتاب القوة للفيلسوف البريطاني برتراند راسل، ومسرحية (تاجر البندقية) لوليم شكسبير، التي تعد من أهم روائع ويليام شكسبير، وفيها مزيج فريد من مشاعر النبل والوفاء والحب للصديق وللزوج، ومثال نادر للتضحية والفداء، وعرض شائق لتلك المشاعر النبيلة في مواجهة نقيضاتها من الخسة والنذالة مع الشح وغياب الضمير، وتصوير حيللصراع الأبدي بين الخير والشر...، ورواية "كازانوفا في بولزانو"، لساندروماراي. وهذه الملخصات تدل على تثقف واع مقصود، مبكر من الفتى نشأت، بروائع الأدب العالمي القصصية والمسرحية والفلسفية! ..[/HEADING]
إن من يطالع(مجلة فنار الثقافة) يلحظ الرؤية الشمولية لوظيفة الصحف والمجلات، والرؤية التكاملية لما ينبغي أن تكون عليه ثقافة المثقف، وأنه نحلة، تقتطف من كل بستان زهرة، لا تقتصر على زهرة واحدة، ولا على تقف عند بستان واحد، بل تتغذى على (كوكتيل) من الفكر والثقافة والعلوم والفنون والآداب! فكان الفتى نشأت هو مدير التحرير، وهو المحرر، وهو المصفف الطباعي لها، وهو الرسام الكاريكاتيري، وهو الشاعر، وهو الزجال بهذه الصحيفة الطفولية المخطوطة! إنه مؤسسة صحفية كاملة في شخص طفل طموح، يريد أن يكون فكان!

ويدلنا هذا الكشكول على أن الفتى نشأت كان يراسل مجلة الأدب التي كان يرؤسها الأستاذ أمين الخولي، ففي الكشكول تسجيل لعنوان مجلة الدب، وهو (مصر الجديدة، 13 شارع العجم)! وقد أبلغني الأستاذ نشأت أنهم كانوا يردون على خطاباته ردا نقديا قاسيًا، وصادمًا، ولكنه كان بالنسبة إليه بانيًا، ودافعًا على التحدي، وتلافي هذه النقود العنيفة! ثم اتصل الشاب (نشأت) بكبريات المجلات والجرائد فيما بعد فقد نشر في مجلة الآداب البيروتية في السبعينيات من القرن العشرين، وكتب في جريدة الأهرام منذ وقت مبكر، وله فيها مقالات دينية، وأشعار!

أزجال بدائية:

من يطالع البروفة الأولى للعدد الأول من مجلة فنار الثقافة يجد الفتى نشأت يخصص قسمًا للأزجال، فنقف على ثمانية أزجال، بعناوين: (عالم الرجل، الأمة العربية، جمهوريتنا العربية، مراتك عملالك، هنا الجزائر، التلميذ الخيبان، بورقيبة والشعب، من وحي الطبيعة)... وهذه الأزجال دالة على البعد الوطني والعروبي في شخصية نشأت المصري!حيث يفرح لحادث الوحدة العربية، فيما عرف بـ(الجمهورية العربية المتحدة بين سوريا و مصر سنة 1958م. يقول الفتى نشأت في تجربته(جمهوريتنا العربية):

الجمهورية العربية فيها عز وحرية

والدنيا إيه هيه من غير الحرية

قامت قومة الأحرار في شدة وعزم وفخار

يطرد غريب الدار عشان فيهم ناس أشرار!

وفي تجربته هنا الجزائر يقول الفتى نشأت:

بشاير بشاير هنا الجزاير

الشعب الثائر أبو دم فاير

جهاد طويل ونضال مات فيه أحرار أبطال

ويبِّن من هذين النصين مدى حب مبدعنا لمفردات العزة والحرية والجهاد والبطولة...



وهكذا من يطالع هذا الكشكول يلحظ أن الدلالة السيميائية الكبرى لهذا الكشكول الإبداعي أن (نشأت المصري) إنسان مغرم بالمعرفة العالمية في جميع أشكالها أدبية وفلسفية وفنية/ محلية وعروبية وعالمية! وما زال هذا ديدنه إلى الآن!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى