د. أحمد الحطاب - الإنسانُ مُكرَّم عند الله

عندما نبحث في المعاجم والقواميس عن معنى فعل "كَرَّمَ" الذي مصدرُه "تكريم"، نجد أن هذا المعنى يرمُز إلى التَّعظيم والتَّفضيل والتَّشريف والتَّمييز والتَّقدير والتبجيل.

والتكريم يحدث في المجتمعات التي تعترف بالإنسان كمواطنٍ مُنتِجٍ ينعم بكرامته في مشهدٍ سياسي محرِّكُه الأساسي هو الديمقراطية. والإنسان، كمواطنٍ مُنتِجٍ، يُكرَّم عندما يتميَّز بإنجازاتِه الفكرية، سواءً الأدبية أو العِلمية. والتَّكريم تقوم به البلدان الراقية، الضاربة جذورُها في أعماق الحضارة والتَّمدُّن.

لكن يجب علينا أن نُميِّزَ بين التِّكريم الإلهي والتَّكريم البشري. التَّكريم البشري قد يُتوَّج بجوائز مادية ومعنوية. وقد يُشرِّف ويُعظِّم ويُقدِّر… لكنه لن يبلغَ التَّكريم الإلهي الذي خصَّ به، سبحانه وتعالى، بني آدم. لماذا؟

أولا، لأن اللهَ، سبحانه وتعالى، نفخ في جسم الإنسان جزأً من روحِه (جزءٌ من روحه وليس كلَّ روحه) ليكون إنسانا واعيا يتفاعل مع محيطِه المادي والمعنوي، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (الحجر، 29). "سَوَّيْتُهُ"، أي أكملتُ بُنيانَه. "وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي"، أي بثَثْتُ فيه جزأً من روحي. والتَّكريم بلغَ هنا أوجَه حين خاطب الله، سبحانه وتعالى، الملائكةَ وأمرهم أن يسجدوا لآدم (سجود تقدير وتشريف وليس سجود عبادة) قائلاً : "وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ" (البقرة، 34). أهناك تكريمٌ أكثر من هذا؟

ثانيا، يقول، سبحانه وتعالى، في الآية رقم 4 من سورة التين : "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ"، أي في أحسن هيئة أو أحسن صورة أو أحسن صورة مكتمِلة. وقد يُفهَم من كلمة "تقويم" أن اللهَ، سبحانه وتعالى، خلق الإنسان وأحسن خلقَه ليتأقلمَ مع جميع ظروف الأوساط، المادية منها والمعنوية، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى: "الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (الانفطار،7). "فَعَدَلَكَ"، أي وهب لجسمك جميعَ الصفات والمؤهِّلات ليعيشَ فوق سطح الأرض.

ثالثا، إن أحسنَ تكريمٍ خصَّ به اللهُ، سبحانه وتعالى، بني آدم، هو جعلُ الإنسان إنساناً عاقلا وناطقا، أي وهبَ الإنسانَ العقلَ والنُّطقَ، بمعنى أنه جعل منه إنسانا يُفكِّر بالعقل ويعبِّر عن أفكاره بالكلام. وبفضل العقل والنُّطق، الإنسان يتعلَّم، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى: "عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ" (العلق، 5)، خلافا لكل المخلوقات الحية، وخصوصا، الحيوانات التي تتصرَّف في أوساط عيشها بالغريزة، أي أن اللهَ، سبحانه وتعالى، مكَّنها من كل ما يجعلها تحيا، تأكل وتشرب وتنام وتتناسل وتساهم في استمرار التَّوازُنات الطبيعية ويستفيد من بعضها كثيرٌ من الناس. والعقلُ والنُّطقُ هِبتان من اللهِ، عزَّ وجلَّ، للإنسان وحده، من دون الكائنات الحية الأخرى، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (الإسراء، 70).

وهذا دليلٌ لا غبارَ عليه بأن الإنسانَ محبوبٌ عند الله، عزَّ وجلَّ، وله مكانةٌ عالية عند الله. ولو لم يكونوا بنو آدم محبوبين عند الله، لما أرسل لهم رُسُلاً ليُخرجهم من ظلمات الجهل إلى نور الحق والإيمان. ولو لم يكن آدم وذرِّيتُه محبوبين عند الله، سبحانه وتعالى، ما كان ليتوبَ على آدم بعد ارتكابه خطيئةَ قَطف التَّمرة من الشجرة الممنوعة، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" (البقرة، 37). وكان اللهُ، سبحانه وتعالى، قد أحاط بعنايته آدمَ وزوجَه حواء إذ أسكنهما الجنَّةَ مُنبِّها إياهما بعدم الاقتراب من الشجرة الممنوعة. لكن آدمَ خالف أمرَ الله، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَـٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (البقرة، 35).

وآياتُ القرآن الكريم التي تُكرِّم الإنسانَ كثيرةٌ، أذكرُ من بينها الآيتين التاليتين :

1.وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (النحل، 18). والنعمة، في هذه الآية، ليست فقط النِّعمة المادية، بل كذلك النِّعمة المعنوية. الرحمة نِعمة، والمغفرة نعمة، والتَّوأب نعمة، وراحة النفس نعمة، والطمأنينة نعمة، والفرح نعمة، والسعادة نعمة… وفعلا، النِّعَمُ التي أنعمَ بها اللهُ، سبحانه وتعالى، غلى الناس منذ أن خلق آدمَ إلى يومنا هذا لا تُحصى. من نِعمه، كذلك، أنه يغفرُ الذنوبَ كلها إلا أن يُشرَكَ به، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا" (النساء، 116).

2."قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" (الزمر، 53). في هذه الآية، الله، سبحانه وتعالى، يُخاطب عبادَه. وعبادُه هم بنو آدم. ومضمونُ ما خاطب ويخاطب به اللهُ عبادَه، هو طَمأنتُهم بأنه، سبحانه وتعالى، قادرٌ على أن يغفرَ لهم ذنوبَهم ولو بالغوا (أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ) في اقتراف هذه الذنوب.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى