ليالي العزاء

أما بعد....
انتهت المراسم على خير... انتهت كما أردتَ وخططتَ لها، الليلة هي الليلة الثالثة... أقمتُ لك سرادقا كبيرا يتسع لأكثر من خمسمائة شخص، كان مضاءً بالثريات الكبيرة والكشافات الساطعة، أحضرتُ لك ثلاثة من المقرئين ذائعي السيط في بلادنا، تلوا آيات من الذكر الحكيم بأصوات عذبة شجية أحيت في القلوب إيمانا كاد يندفن تحت ركام زحام الحياة، وقفتُ في أول الصف كما أردتَ وأخذتُ العزاء ... وقفتُ مرفوع الرأس، رابط الجأش، أنظر بعينين لا ترى في الوجوه غير وجهك، ولا تسمع في هذا الصخب اللا متناهي غير صوتك، عيناي رغم ذبولهما كانتا لامعتين... غارقتين في بحيرتين صغيرتين من الماء المالح الملتهب، بحيرتان تأبيان عليّ أن تجفا أو تسيلا فينطفئ اللهيب المشتعل في محجري، يتحرك بؤبؤهما في كل مكان يبحث عن موضع وقوفك بين الناس... لكن السيل الجارف من صنوف البشر المقبلين عليك قد ابتلعك فلم أصل إليك.
أشعر أنك هناك... تقف في ركن قصي تراقب المشهد من بعيد وتهز رأسك في رضا واستحسان، نعم...كل شيء مضى كما أردت... كما أردت تماما.
رغم أن الناس في هذه النواحي يكتفون بليلة عزاء واحدة إلا أنهم توافدوا علينا يقدمون مواساتهم بقلوب خالصة...و محبة، الجميع يحبونك رغم أنهم لم يخبروك بهذا من قبل، ظلوا جامدين في وجهك، عابسين أمام توددك إليهم، كنت أواسيك حينها بقولي أن الناس ملتهون في شؤونهم فتقول..." الناس فقط يحبون الأقوياء". لكنك لم تكن ضعيفا... كنت قويا رغم هوانك في قلوب بعض الأغبياء.
في كل ليلة بعدما ينتهي المقرءون من ختمتهم وينصرف الناس... أجلس وحيدا وسط السرادق العملاق... أتأمل الثريات الضخمة المعلقة في المنتصف وأتذكرك، أعلم أنك تعشق الكريستال وما يعكسه من ألوان الطيف عندما يمر الضوء خلاله، كنت تقول لي"تأخذني هذه الألوان المتلألئة إلى عالم برّاق أحب البقاء فيه". أنا أيضا... تعلمت منك كيف أصنع لنفسي خيالي الخاص وأبقى فيه، لكنه خيال ليس فيه سواك.
أراقب أطفال القرية في آخر الليل يلعبون تحت الضوء الساطع، أطفالك الثلاثة يشاركونهم اللعب كذلك، يتنقلون بين الكراسي الحديدية المنجدة بقماش القطيفة المطعم بالجلد، السرادق الفارغ أمامهم أصبح ساحة هائلة لممارسة شغبهم وطيشهم اللا محدود، يقفزون هنا وهناك وهم يضحكون، ضحك بريء... يجمع بين السذاجة والتوجس، في عيونهم نظرة حزينة متسائلة... ماذا حدث؟ ...لماذا نحن هنا؟...لماذا تختلف هذه الليالي عن ليالينا العادية؟... هذه الليالي لها رائحة مختلفة ومذاق مربك... لها عبق رطب وبارد تقشعر له أجسادهم الصغيرة... وضجيج مكتوم وكئيب يحفر في القلب نفقا مظلما ويختبئ فيه ، مذاقها مر يترك في الحلق غصة تحبس الأنفاس والكلمات... أولادك يتساءلون بين حين وآخر أين بابا؟ ... لماذا لا يشاركنا هذه الأجواء المختلفة؟ أجواء لا نستشعرها إلا وقت الاحتفالات الكبيرة، هل نحن في احتفال؟!... يتساءلون ببراءتهم المعهودة... أنا كذلك مثلهم... أتساءل... لكنه سؤال مفجوع متألم... هل نحن في احتفال؟
الليلة... أجلس في الزاوية... أراقب عمال الفراشة وهم يهدمون السرادق ويلملمون أشياءهم، يقف معهم بعض من شباب العائلة الصغار، أتأملهم باهتمام... تأخذني الأفكار في كل اتجاه، أتحرر من قيد اللحظة المثقلة بالحزن، أتذكر حالهم في الصبا بوجوههم المعفرة وثيابهم الممزقة، اذكر تعليقاتك الساخرة على بعضهم أبتسم... اجدني بغير إرادة أسرد عليك أحداث الليالي الثلاثة الماضية التي لم تشاركنيها، تقفز النكات والمواقف الساخرة في رأسي فأضحك، تذكرت لحظة كنت أنتظرها منذ أمد... تسارعت دقات قلبي متعجلة كي أحكي لك ما حدث فيها، قلت بمرح... هل تذكر "وردة"؟ تلك الفتاة التي أحببتها رغم تجاهلها لي عاما كاملا، اليوم نظرت لي بعينيها الساحرتين... لحظة لن أنساها لأنني انتظرتها طويلا... كانت واقفة في شرفتها ونحن ذاهبون بك إلى...
انعقد الكلام على لساني، وعلت حلقي غصة، عاد المشهد أمامي من جديد... رأيتني أحمل فوق كتفي تابوتا خشبيا مكشوفا... يرقد بداخله جسد ملفوف بثوب أبيض معقود عند الرأس والوسط والقدمين، عيناي ذاهلتان... وقدماي تسيران ببطء... لا تدريان إلى أين هو ذاهب بنا....
#أمل
١١/ ٢/ ٢٠٢٤

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى