د. أحمد الحطاب - عباد الله وعباد المشايخ

كثيرةٌ هي الآيات في القرآن الكريم التي تنتهي بعبارات من قبيل : "أفلا تعقلون" أو "لعلكم تعقلون" أو "إن كنتم تعقلون" أو "لقومٍ يعقلون". و آياتٍ أخري في القرآن الكريم تنتهي بعبارة "لايعقلون". فما هو المقصود من هذه العبارات المرتبطة بفعل "عَقَلَ"؟

وعندما نبحث عن معنى فعل "عَقَلَ" في القواميس والمعاجم العربية، نجد أن هذا الفعلَ مرتبطٌ بالإدراك والفهم. أي عندما نقول : "فلانٌ عَقَلَ الشيءَ"، فهذا يعني أن هذا الفلانَ أدرَكَ أو فَهِمَ ماهِيَةَ هذا الشيء. وإذا كان الشيءُ ماديا، يكون قد أدرَكَ أو فهِمَ صفاته وخصائصِه التي تميِّزه عن أشياء أخرى. وإذا كان الشيءُ معنويا، يكون قد كوَّن فكرةً معيَّنةً عنه.

ورجوعا إلى الآيات التي تنتهي بعبارات "أفلا تعقلون" أو "لعلكم تعقلون" أو "إن كنتم تعقلون" أو "لقومٍ يعقلون" والآيات التي تنتهي بعبارة "لا يعقلون"، فما هو المقصود من وجود فعل "عَقَلَ" في نهاية آيات كثيرة في القرآن الكريم؟

المقصود هو أن اللهَ، سبحانه وتعالى، عندما وهب العقلَ لبني آدم، وهبَه ليتمَّ استعمالُه استعمالا صائبا، وبالأخص، لإدراك كلامِ الله في القرآن الكريم والاحاطة بمعانيه وسياقِه ومقاصدِه.

فعندما يقول، سبحانه وتعالى "أفلا تعقلون"، فإنه يتساءل لماذا لم يستعمل الناسُ عقولَهم بينما ما قاله، سبحانه وتعالى، في الآيات التي تنتهي ب"أفلا تعقلون"، واضحٌ وضوح الشمس.

وعندما يقول، سبحانه وتعالى، "لعلكم تعقلون"، فإنه يريد أن يُخبرَنا بأنه كان على الناس أن يستعملوا عقولَِهم ليُدرِكوا ما أراد الله، عزَّ وجلَّ، أن يُدرَكَ.

وعندما يقول، سبحانه وتعالى، "إن كنتم تعقلون" و "لقومٍ يعقلون"، فإنه، سبحانه وتعالى، يريد أن يُخبرنا أن كلامَه موجَّهٌ لناسٍ، من المفروض، أن يستعملوا عقولَهم لإدراك ما يجب أن يُدركوه.

أما عندما تنتهي آياتُ القرآن الكريم ب"لايعقلون"، فإنه، سبحانه وتعالى، يريد أن يُحبرَنا بأن كلامَه مُوجَّهٌ لناس ليس لهم عقولُ يفكرون بها أو يتعمَّدون تجميدها لإنكار ما صدر عن الله، عزَّ وجلَّ، من كلام.

وكيفما كان الحالُ، كل هذه الآيات تبيِّن أهمِّيةَ العقل في إدراك كلام الله، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (ص، 29). "أُولُو الْأَلْبَابِ" هم الناس الذين لهم عقول نيِّرة ومستنيرة.

قد يتساءل القارئُ عن ما هي علاقةُ عنوان هذه المقالة الذي هو "عباد الله وعباد المشايخ" بما تقدَّم من توضيحاتٍ حول العقل.

أنا شخصيا أقول إن هناك علاقة وطيدة بين هذه التوضيحات وعنوان هذه المقالة. علاقةٌ يُثبتها العقل نفسُه إذا ما تمعَّن في عُمق الأشياء. لماذا؟

لأن كثيرا من الناس، وعلى رأسِهم المسلمون، نسوا أو تناسوا أن الإسلامَ، كدينٍ سماوي، نزل على الرسول محمد (ص) من خلال الوحي. والوحي هو القرآن الكريم الذي فصَّل فيه، سبحانه وتعالى، كل ما يحتاجه الناسُ في حياتهم الدينية والدنيوية. إذن، القرآن الكريم هو، في الحقيقة، نهجُ حياةٍ بشقَّيها الديني والدنيوي. فطالما القرآن الكريم هو نهج حياةٍ، فمن المنطقي أن يكونَ نبراسَا للناس نحو حياةٍ يسود فيها الخير.

لكن، إنه لمِن المؤسف، أن ينسى أو يتناسى المسلمون أن لديهم نبراسا يُضيئ طريقَهم ويُوجِّهه إلى الخير. وهذا النسيان أو التناسي ليسا جديدين. بل اشتكى منهما الرسول (ص) في عهدِه، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَـٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (الفرقان، 30)، أي أن الناسَ، عوض أن يتمسَّكوا بالقرآن الكريم، كنهج حياةٍ، يقود إلى السير في الطريق المستقيم، هجروه وانشغلوا بماديات الدنيا وما تدرُّه عليهم من منافع عابرة.

بل بعد وفاة الرسول (ص)، تفرَّق الدين إلى مذاهب وطوائف وفرق. وكل مذهب وكل طائفة وكل فرقة لها شيوخها وعلمائها وفقهائها بينما الدين واحد أوحد كوحدانية الله، سبحانه وتعالى. الدين الذي أراده الله لعباده، منذ أن بعث أول رسول، نوح عليه السلام إلى محمد (ص)، خاتم الرُّسل والأنبياء، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ (الشورى، 13).

والطامة الكبرى، هي أن هذه المذاهب والطوائف والفرق تتناحر فيما بينها وتتطاحن، أي أن كل مذهب وكل طائفة وكل فرقة تدَّعي أن فهمَها للدين هو الصحيح، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى: "مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (الروم، 32). "وَكَانُوا شِيَعًا"، أي فرَّقوا الدينَ إلى مذاهب وطوائف وفرق. "بِمَا لَدَيْهِم فَرِحُونَ"، أي فرحون بأن فهمَهم للدين هو الصحيح. ويقول، سبحانه وتعالى، كذلك: "إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (الأنعام، 159). وقد ازداد وسيزداد هذان التَّناحرُ والتَّطاحُنُ حدَّةً وشدَّةً بواسطة شبكات التَّواصل الاجتماعي.

وطامَّة الطامات حدثت حينما أنجبت هذه المذاهب والطوائف والفرق ناسا فهموا الدينَ بغُلُوٍّ كبير، أي الذين فهموا الدينَ بتطرُّفٍ كبيرٍ حيث أمسكوا العصا التي تمثِّل هذا الدين ليس من الوسط ولكن من أطرافها حيث يوجد التَّشدُّد الديني بجميع أشكاله.

أما الكارثة العُظمى، فهي تَوَفُّرُ كل مذهب وكل طائفة وكل فرقة على أتباعٍ كُثُرٌ هاجسُهم الوحيد هو فرض فهمِهم للدين على الآخرين بطريقة أو أخرى.

أما كارثة الكوارث هي أن هؤلاء الأتباع، عوضَ أن يعتبروا أنفسهم عباداً لله، فإنهم ينسون القرآن والسُّنَّة والرُّسُلَ ليُصبحوا عباداً للمشايخ والفقهاء والعلماء. بل ليس على طرف ألسنتِهم إلا هؤلاء المشايخ والفقهاء والعلماء. وقد ذهب بعض الأتباع إلى حدِّ تقديس المشايخ واعتبارهم معصومين من الخطأ. هذا إن لم يعتبر هؤلاء الأتباعُ مشايخَهم ممَّن سيشفعون لهم عند الله يوم الحساب.

هذا النوع من البشر موجودٌ في جميع البلدان الإسلامية بكثرة. لكن يجب تصنيفُهم إلى نوعين. نوع أول واعي، أي له مستوى جيِّد من الثقافة الدينية، وأحيانا، من الثقافة العامة. ونوع ثاني لا يتوفَّر لا على ثقافة دينية ولا على ثقافة عامة بحيث يكون تديُّنُه مبنيا على فهمٍ سطحي للدين وعلى القيل والقال والتقليد الأعمى.

وإذا كان النوع الثاني معذورا بحُكم أمِّيتِه وجهله لحقيقة الدين، فالنوعُ الأول غير معذور، على الإطلاق، لأنه واعي ومثقف، أي يُميِّز بين الخير والشر وبين الحق والباطل وبين الطيب والخبيث…

لكن هذا النوع الأول من الأتباع، رغم ثقافته، فإنه مسلوب الإرادة والعقل، علما أن هؤلاء الأتباع يعرفون، حقَّ المعرفة، أن مشايخَهم بشرٌ يصيبون ويُخطئون. لكنهم، بفَرط تقديسِهم لهؤلاء المشايِخِ، أصبحوا مِلكا لهم، بمعنى أنهم لا يتحرَّكون إلا بأمرٍ منهم.

وبصفة عامة، العالم الإسلامي مليء بالمشايخ وأتباع هؤلاء المشايخ. المشايخ يُشنِّجون العقولَ ويجمِّدونها لمنعها من التَّفكير. وإذا فكَّرت العقول، فسلاح المشايخ لإسكاتِها هو التَّخويف والوعيد والتَّرهيب.

أما الأتباع، فعوض أن يكونوا عبادا لله، فإنهم يدينون فقط بما يقوله مشايخُهم، ويالتالي، يصبحون عباداً لهؤلاء المشايخ. وهذا هو السببُ الذي دفعني إلى عنونةِ هذه المقالة ب"عباد الله وعباد المشايخ".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى