تعتبر مبادئ آراء أهل المدينة الفضيلة من بين أنجح أعمال الفارابي؛ حيث تم نشره أولا في سنة 1895م وتمت طباعته عدة مرات وترجم إلى لغات أوروبية عديدة، وقد ركز عليه العديد من الطلاب من أجل توضيح آراء الفارابي حول مواضيع خاصة، أو بالأحرى تقديم قراءة عامة حول أفكاره.
إذ إنه رغم عدم تداوله كأساس للأدب الثانوي، فإنه لا يمكن لأحد الجزم بأنه تم فهم مغزى (المبادئ)؛ لأن النص تم تناوله كمصدر doxographique حيث إن الفرد يرجع إلى (المبادئ) من أجل استقراء رأي الفارابي فيما يخص بعض القضايا كعلم الكون والسياسة. وبالتأكيد فإن النص يضم في الحقيقة مقاطع موجزة وواضحة تتناول هذه الإشكاليات. الشيء الذي يطرح سؤالا: لماذا كتب الفارابي مثل هذا النص معلَّقاً؟ وبطريقة أخرى لماذا يعتبر المبادئ معالجة بسيطة لمثل هذا الكم الهائل من الأسئلة المتنوعة؟ وقد قُدمت بعض الاقتراحات في هذا النطاق لكن لم تصل إلى تقرير مقنع. لهذا سيكون من الراجع القول بأن الدراسات التي أنجزت حول (المبادئ) جعلت منه مرجعاً معتمداً، إلا أنها فشلت في شرحه وتحليله كعمل فلسفي.
وفي هذا الصدد سأقدم تحليلاً للنص نفسه، وسأتطرق لثلاثة جوانب: البنية، ومجموعة من مواضيع مختارة ذات أهمية بالنسبة للعمل ككل. الافتراض خلال التحليل إذاً سيكون بأن العناصر المكونة للنص والتي تَم تناولها ليست اعتباطية. فبالعكس، كما نعلم فإن الفارابي ألف (المبادئ) بعناية خاصة، حيث إنه أخذ وقتا طويلاً لكتابته، بالإضافة إلى إحداث تغييرات جديدة للنص. لهذا فإن الترتيبات والمميزات الشكلية للنص يمكن لها أن تفيدنا في معرفة مغزاه ومكانته في فلسفة الفارابي.
عنوان الكتاب
دعنا نبدأ بعنوان العمل الذي نادراً ما يستشهد به كلية؛ إذ إنه بدلاً من ذلك فإن العمل غالباً ما يترجم إلى (الدولة المثالية) أو (الفارابي حول الدولة المثالية).
هذه الترجمة المختصرة -دون شك- تشجع الاستعمال المتداول (للمبادئ) في السياق الخاص. حيث تدل على أن العمل مخصص بالدرجة الأولى للسياسة. في حين يبدو أنه يؤكد الفرضية التي تم الأخذ بها خلال العقود الأخيرة بأن الفارابي له اهتمام خاص بالقضايا السياسية ويعتبر مؤسس الفلسفة السياسية في الإسلام.
سنتطرق إلى تفاصيل هذه الفرضية فيما بعد. لكن الآن دعنا نركز على العنوان نفسه. حيث إنه بمجرد ملاحظتنا للعنوان يتبين أن العمل كلية مخصص للسياسة. فالفارابي في الحقيقة لا يبدو أنه سيصف مجتمعا فاضلا (المدينة الفاضلة). كما أنه لا يريد مخاطبة الأشخاص المنتسبين إلى هذه الجماعة أهل المدينة الفاضلة. لكن كان همه وصف ما يؤمن أو ما يجب أن يؤمن به أفراد هذه المدينة الفاضلة في مجموعة من المواضيع التي سيتم تناولها في (المبادئ).
وقد استعمل الفارابي تعبيرين للوصول إلى ذلك:
التعبير الأول (رأْي) وجمعها آراء. هذا المصطلح على مستوى الفهم ناقص من متطلبات المعرفة الصالحة، فالفارابي استعمل كلمة (رأي) لدلالة على فكرة ما (كما في اللغة الإغريقية doxo أو اللاتينية opinion). رأي يعني حول حاجة ما، يعني إبداء هذا أو ذاك ولكن مع عدم القدرة على إعطاء تفسير لهذه القناعة. لهذا فإن مصطلح (رأي) له قيمة إبستمولوجية محدودة. حيث إن من له رأي ليست له دراية فلسفية حول ما يجب اعتقاده، لكون اعتقاده لا يلائم الشروط المؤسسة الموضوعة في التحليل الخارجي، إنه موضع الانغماس في البلاغة أو المنطق فقط. حيث إن الفارابي يجمع بين هذه النظم المكملة للبرهنة الفلسفية مع الدين واللاهوت.
لهذا فإنه شيء مفاجئ بأن يستعمل الفارابي كلمة آراء لعنوان هذا العمل. الشي الذي جعل مجموعة من النقاد يزعمون بأن العمل يعكس القناعة الفلسفية الأصيلة للفارابي. لهذا ومن هذه الوجهة فإن العمل كان له أن يشكل من أفكار مقبولة، والتي يمكن الدفاع عنها. الشيء الذي سيساعد هدفاً سياسياً ما وسيتناسب مع القدرات الفكرية للمتطلعين عليه.
ومن جديد فإن هذا النقد يؤكد فكرة كون الفارابي -من الدرجة الأولى- مفكراً سياسياً. وبالتالي فهي تقدم نقدا لاذعاً للعنوان.
لم يتحدث الفارابي فقط عن (آراء) من أجل رسم هدف هذا النص وإنما عن (مبادئ) أيضا. لهذا فإن القارئ يجب عليه الفهم بأنه سيكون عملا متضمنا ليس لآراء مقبولة أو قناعات علمية قبلية وإنما لبيانات تتقاطع مع معايير الفلسفة.
أن الفارابي لم يستخدم كلمة مبادئ في أي من المقاطع من أجل الإشارة إلى الاعتقادات المؤقتة أو المؤهلة. ولكن الكلمة تحيل دائما إلى المبادئ المطلقة التي لا تحتاج لأية شروحات. وتماشياً مع العادة الفلسفية فقد استعمل الكلمة في سياقين: في الأنثولوجيا ontology. لمبادئ الموجودات والإبستمولوجية لمبادئ المعرفة. نجد تحليلا للمبادئ ontological خاصة في السياسة المدنية. أما النوع الثاني من التحليل عن المبادئ فقد تم تناوله في كتاب البرهان الذي انغمس فيه الفارابي في التحليل الخارجي.
هذه المبادئ الإبيستمولوجية والتي تفيدنا، يتناول كتاب (المبادئ) فيها مبادئ المعرفة أو الفكر. لكونها كلمة المفتاح الأولى لفهم العنوان ككل. وتبدو تسمية الفارابي للعمل بمبادئ آراء أهل المدينة الفاضلة من النظرة الأولى pleonastics ولكن في الحقيقة كلتا الكلمتين (مبادئ) و(آراء) ضروريتان. من وجهة أولى فاستعماله (آراء) يشير إلى كون العمل يسعى إلى إثارة مجموعة من المستمعين بحيث يتناول مواضيع ذات مصلحة عامة، كما يسعى إلى استحواذ أعضاء آخرين. ومن وجهة ثانية، تؤكد على أن الفارابي لا ينفصل عن الخطاب الفلسفي. حيث إنه لا ينوي تناول هذه المواضيع على مستوى الآراء أي المستوى البلاغي أو القناعات المنطقية. وإنما هدفه هو إعطاء مبادئ فلسفية لكل الأسئلة التي يتضمنها العمل. لهذا فإن (آراء) مواطني المدينة الفاضلة يمتلكون معيارا رزينا وأساسيا للمعرفة العلمية.
بنية الكتاب
يدفعنا هذا الفهم للعنوان إلى طرح سؤال حول المواضيع التي تتطلب معالجة فلسفية. الشيء الذي سيحيلنا إلى النقطة الثانية:
التطرق إلى المواضيع التي تم تناولها في المبادئ وكيفية تنظيم هذه المواضيع. بحيث إن الفارابي نفسه أعطى وقتاً للبنية ومحتوى العمل. وهذا يبدو جلياً من حيث التنظيم المحكم للعمل في ثلاثة عناصر. واستناداً لمصادرنا فإن الفارابي ألف نصاً منسقاً وقسم المخطوطة تدريجيا إلى تسعة عشر بابا.
ولكن بعد مرور سنوات عاد إلى نفس النص وقام بتعديلات عليه، حيث قسمه إلى ستة فصول. وباعتبار هذا التعديل الأخير نجد البنية التالية (للمبادئ):
1- القضية الأولى.
2- علم الكون مثلاً العالم superlunary
3- العالم superlunary
4- الجنس البشري.
5- المدينة الفاضلة.
6- اعتقادات مواطني المجتمعات المتخلفة.
إلا أن التقسيم إلى ستة فصول يعطي انطباعاً عاماً حول العمل ككل. حيث إن المواضيع الحالية للنص تتبين خلال قراءة معينة. وتبين هذه القراءة أنه في حين كون الفصل الثاني والثالث يتناولان موضوعا بسيطا، فإن الفصول الأخرى (5و6) تتناول مواضيع عدة متنوعة. هنا تفاصيل مدققة حول الفهرس والتي تكشف عن هذا التنوع:
1- القضية الأولى
المميزات، مثل الكمال، الوحدة، المعرفة (فصل 1)
2- العالم
أ- لكل الأشياء بما في ذلك العدل (الفصل2)
ب- العالم حالته اللامستقرة وتشكيلته من المادة إلى الشكل (فصل 4-5)
ج- بنية العالم superlunary (فصل 6-7)
د- تأثير العالم supralunary على العالم sublunary وأصل العناصر والأشجار والحيوانات والإنسان (فصل8)
هـ- النشوء والفساد في العالم sublunary (فصل9)
الجنس البشري
أ- الروح والملكات (التغذية، الإدراك الحسي، الخيال، الفكر، الرغبة) تعاون الملكات في الحصول على المعرفة (فصل10)
ب- الجسم وأعضاؤه، التناسل (فصل 11)
ج- الفكر، الأشياء الواضحة، الذكاء بما في ذلك الإرادة وحرية الاختيار، كسب ديناميكية الفكر، ثم السعادة كالنتاج الأخير للفكر. (فصل13)
د- الخيال، مميزاته وطبيعته، النبوة.(فصل 14)
المدينة الفاضلة
أ- ضرورتها: بنيتها، مؤسسها (فيلسوف، رسول) الحكام المتعاقبون، اختلافها مع المجتمعات المتخلفة (فصل15)
ب- المكافأة والعقاب بعد الحياة: السعادة الدائمة كهدف ونتيجة المدينة الفضيلة، العقاب الدائم أو الدمار كنتيجة المجتمعات المتخلفة.
ج- الفلسفة والدين: وجودها في المدينة الفاضلة، المعرفة الفلسفية والدلالة الدينية. (فصل17)
آراء مواطني المجتمعات المتخلفة
أنواع من الأخطاء المتنوعة (فصل18-17)
لهذا فالنص يتناول مجموعة من المواضيع المختارة متسلسلة من القضية الأولى، العالم، الجنس البشري، القوى السيكولوجية والجسمية للإنسان، النبوة والجماعة إلى آخره مثلا الحكم الذي ينتظر الإنسان ما بعد الموت.
هذا الغنى للمواضيع يعتبر مثيراً ومذهلاً كذلك. حيث يجعلنا أمام سؤال ما نوع (المبادئ)؟ عن ماذا يبحث الفارابي حقيقة؟
ماهي الأهداف الإبستيمولوجية التي توجد في عقله؟ ماهي العوامل أو النماذج التي جعلته يختار هذه السلسلة من المواضيع؟
هذه الأسئلة من وجهة نظري لم تتم بعد الإجابة عليها بطريقة مرضية. حيث لم يتم اعتبار بنية المبادئ ومكانتها في العادة الفلسفية بشكل معقول.إذ لا نجد أي عمل يقوم بأية مقارنة. هذا ينطبق ليس فقط على الأعمال بالعربية قبل أو خلال عيش الفارابي، وإنما أيضا على الأعمال الإغريقية القديمة الكلاسيكية. كما أنه ليس من المفاجأة أننا فشلنا في الحصول على نصوص مماثلة لكون البنية والتصور الموضوعي (للمبادئ) فشلا في ملاءمة عادات وأنواع الكتابات الفلسفية، وأيضا لم يلاحظا التمييز الحاصل بين الفلسفة التطبيقية والنظرية. ولكن بدلا من ذلك فقد جمع العمل مجموعة من الأسئلة مأخوذة من الميتافيزيقية والفيزياء والسياسة والأخلاق دون الاهتمام بالجوانب الأخرى، مثل المنطق أو الرياضيات اللذين لم يتم التطرق إليهما.
لهذا ربما يجب البحث عن نماذج بعيدا عن الحدود المرسومة للفلسفة الأدبية. حيث إن (Richard frank) قدم اقتراحا مثمرا رغم عدم تتبعه لمعرفة من العادة اللاهوتية أو بصفة مدققة مادة معروفة بأصول الدين، حيث إن هذه المادة لها قواعدها وقناعتها التي تتضمن عدة مواضيع. وهي: الله وصفاته، والجنس البشري، والتصرفات الإنسانية، وقواعد السياسة الإسلامية والإيمان بيوم البعث. وهي المواضيع التي تم تناولها في كتاب المبادئ من طرف الفارابي.
الشي الذي يدفعنا إلى الشك بوجود ارتباط بين كتاب (المبادئ) وتعقد المواضيع المتناولة في أصول الدين. هذا لا يعني أنه يمكن تسمية أي عمل لاهوتي خاص مشابه لعمل الفارابي. إذ إن معرفتنا لسياقه الفكري لا يعد شيئا بليغا. نعلم أنه كان عالما بعلم اللاهوت لفترة عيشه أو على الأقل التطور اللاهوتي في بغداد خلال فترته. ويمكن أن نفترض أنه كان عالما بأعمال المعتزلة. لكن مع عدم التوفر على أي دليل من هذه الأعمال فإنه من المستحيل أن نؤكد على ما كان قد اطلع عليه.
وللبحث عن أساس للمقارنة يجب الرجوع إلى تلك النصوص عن فترة الفارابي التي نحن مطلعون عليها الشيء الذي يمكن أن يعطينا على الأقل فكرة عن كتاب أصول الدين.
لهذا دعنا نبدأ هذا التذكير بعمل لأبي الحسن الأشعري(935-324) حيث كان من بين معاصري الفارابي وقد شغل في العراق مثله. لكن هذا طبعا لا يتضمن أي تقاطع بينهما، في الحقيقة -استنادا لما نعرفه- فإن أحدهما لم يعرف أي شيء عن الآخر، حيث إن أهم أعمال الأشعري لم تعد للأسف موجودة، ولكن لدينا من مذكراته كتاب (اللماع في الرد على أهل الزيغ والبداع) التي تعطي مدخل إلى الحديث: الحوار اللاهوتي للمرحلة.
العناوين التالية للعمل ترتكز شأن كتاب (المبادي) على بنية وتنظيم العمل.
بنية كتاب الأمة
الله
1- وجوده، دليل حدود الأشياء في هذا العالم (فصل 3-6)
2- صفاته
أ- القراءة، الوحدة، القوة إلى غير ذلك(فصل 26-12-9-7)
الانحراف عن فعالية التأمل المنطقي(فصل 11-10)
ب- المعرفة والإرادة
ج- إرادة الخالق تشمل كل شيء (49-67)
د- صورة الله بعد الموت(68-81)
الله والتصرفات الإنسانية
1- قدر الله وخلقه للتصرفات المكتسبة من طرف البشر (فصل 82-121)
2- قدرة الجنس البشري على الحركة (64-122)
3- العدالة الإلهية (79-165)
الإيمان والذنب
المكافأة والعقاب في حياة ما بعد الموت.
حكم المدينة (200،193)
العمل الثاني الذي يمكن أن يكون ذا أهمية بالنسبة لهدفنا هو كتاب التوحيد لأبي منصور الماتريدي (333-944). هذا العمل أيضا تم خلال فترة عيش الفارابي رغم بعض الاختلاف الجغرافي لكون الماتريدي لم يعش في العراق ولكن في سمرقند.
كتاب التوحيد كان موثقاً فقط في مخطوط واحد. لهذا لسنا متأكدين من أن الشكل الذي وصل إلينا به النص يمثل النسخة الأصلية في كل عدد (مثلا تفتقد محور حول حكم المدينة) رغم ذلك فإنه من الضروري الاطلاع على فهرس وبنية العمل:
بنية كتاب التوحيد
1- نظرية المعرفة.(ص3-21)
2- العالم بنيته ونشأته.(ص25-33)
3- الله.
أ- دلائل وجوده. (ص6-34)
ت- الأشياء المنسوب إليه بما في ذلك رؤية الله فيما بعد الموت. (ص37-137)
ج- نقد للآراء المختلفة.
4- النبوة. (ص271-340)
5- الله والحركات الإنسانية. (ص50)
أ- الحركات الإلهية. (51-343)
ب- الحركات الإنسانية. (351457)
ج- أفعال الخالق. (488-514)
6- الذنب والعقاب فيما بعد الحياة. (ص98-517)
7- الإيمان. (ص42-601)
النموذج الثالث نجده عند أبي المعالي الجويني (1085-458). كتبه فيما بعد منتصف القرن الخامس/ الحادي عشر. ولكن سيخدمنا لا محالة لكونه مازال في العادة اللاهوتية الإسلامية القديمة المعروفة في بعض الأحيان بالقديم أو على الأقل هذا هو حال النص الذي يهمنا هنا. كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد:
بنية كتاب الإرشاد:
1- نظرية المعرفة. (ص3-16)
2- العالم.
بنيته ونشأته. (ص17-27)
3- الله.
أ- دلائل وجوده. (ص9-28)
ب- صفاته. (ص3-164)
ج- رؤية الله فيما بعد الموت. (ص86-166)
4- الله والحركات الإنسانية.
أ- الله يخلق الحركات. (ص187- 214)
ب- استطاعة الجنس البشري على الحركة. (ص215-565)
ج- الله يفعل ما هو صحيح.
5- النبوة بما في ذلك سلسلة من المواضيع المقتبسة من العادات الدينية. (ص70-302)
6- ما بعد الحياة
أ- وجودها (ص80-371)
ب- مكافأة وعقاب الجنس البشري. (ص95-381)
7- الإيمان وبعت الإنسان. (ص396-409)
8- حكم المدينة. (34-410)
دليل كتاب الملة
كما يبين هذا التحليل المختصر فإن هناك بنية متوازنة بين هذه الأعمال. وهذا ينطبق على أعمال الكلام ولكن بعض التعديلات أحدثت، أي بالنسبة للمبادئ. هناك أيضا نجد تحليلا لكل المواضيع الأساسية المتناولة في أصول الدين. هذه المواضيع ستكون لنا فرصة تناولها في وقت لاحق وهي: الله، العالم، الحركة والمعرفة الإنسانية، النبوة. المجتمع، وإيمان الفرد بما بعد الحياة.
هذا التطابق لا يمكن أن يكون مصادفة ولكن توحي بأن الفارابي عندما كان بصدد تأليف هذا العمل قد عمل تلقائيا على اقتباس التسلسل البنيوي وكذا الموضوعات من كتاب أصول الدين. وليس أيضا مقتطفا معزولا وإنما دليل آخر في كتابات الفارابي الذي يمكن له أن يدلنا على معرفة الارتباط الموجود بين المبادئ وأصول الدين. هذا الدليل أعطاه الفارابي نفسه عندما ناول مواضيع معروفة من السياق اللاهوتي، حيث يعكس العلاقة بين الأعمال الفلسفية واللاهوتية.
هذا يوجد في كتاب الملة وليس في المبادئ.
هناك يبين بدقة مميزات الملة الفاضلة وما هو الدور الذي يمكن لمثل هذه الديانة أن تؤديه في المدينة. هذا الشرح يرتكز على تقديمه المسبق عند بداية العمل لتعبير (الدين).
هذه الفقرة الأولى تعطي ملاحظات ضرورية لنا، حيث إن التقديم يبدأ كما يلي: الدين يشتمل على آراء وأفعال مبنية ومرتبطة بمتطلبات تم إعلانها من طرف الحاكم الأول لمدينته. وقد عمق في هذه الفكرة تحته عندما أقام هذا التمييز في الملة الفاضلة هناك آراء حول الأشياء النظرية وآراء حول الأشياء الإرادية. وقد قام بتحليل هذا بشكل ملموس بذكر سلسلة من الأسئلة التي تجد جوابا في الدين. تعتبر اللائحة جد طويلة ولكن تمكن من تلخيص المواضيع المعروضة للنقاش هنا. وكما ذكرنا سابقا فإن اللائحة تنقسم إلى محورين: الآراء ذات الطبيعة النظرية، والآراء التي تتعلق بالقضايا العملية.
إلى الآراء النظرية ينتمي:
1- وصف الله.
2- وصف الروحانيين بما في ذلك حركاتهم.
أ- نشأة وبنية العالم.
ب- خلق أجسام مادية متنوعة.
ج- الترتيب التناسقي والعناية الإلهية بالأشياء.
د- علاقة الأشياء المادية بالإله والروحانيين.
3- خلق الجنس البشري.
روحه وقدرته على التفكير.
النبوة والوحي.
السعادة كجزاء ما بعد الحياة والشقاء كعقاب ما بعد الموت
بينما الآراء العملية تتناول:
الأنبياء، الملك، الرؤساء، تقارير حديثة وقديمة لما قاموا به.
إيمانهم بحياة ما بعد الموت (البعث) وإيمان أفراد المدينة التابعين لهم.
تقارير حول شر أعمالهم.
هذه اللائحة من المواضيع تقرأ كفهرس بالنسبة للمبادئ، هذا يؤكد ما قد اقترحته المقارنة التي قمنا بها مع كتاب (الكلام)، بنية وتصور كتاب (المبادئ) كانت مسطرة في برنامج النقاشات اللاهوتية المعاصرة. بالطبع هذا لا يعني أن (المبادئ) نفسه هو عمل لاهوتي. حقيقة كون الفارابي قد تناول جل الأسئلة المهمة للدين لا يعني أنه طبق ذلك على طرق ومصالح اللاهوتيين. وهذا سيتضح عندما نقرأ الفقرة الأولى حول الدين في كتاب الملة.
حيث علمنا بأن الآراء التي تنتمي إلى الدين يمكن تحديدها بطريقتين: إما عن طريق التعبيرات التي تنطبق مع الواقع وتوحي إلى الأشياء نفسها، أو عن طريق التعبيرات التي تعتبر تقليدا ومشابهة لهذه التصريحات. في الحالة الأولى فإن التعبيرات تتعلق بالحق، وفي الحالة الثانية مثال الحق هو المحصل عليه فقط. ولكن كلا النوعين من التعابير ضروريان من أجل تفادي الضلالة، لهذا فإن الدين الفاضل يجب أن يعطي مدخلا إلى الحق ومثال الحق معا. حيث يمكن لنا الحديث عن الحق عندما نعرف شيئا بتيقن إما على أساس معرفة قبلية أو عن طريق البرهان.
وقد ذهب الفارابي في هذا إلى القول بأن الدين الفاضل يقوم بتقليد الفلسفة؛ لكون الاثنين يتضمنان الجانب النظري والجانب العملي. ولكن الفرق بين الدين والفلسفة يتجلى في الطريقة التي يعبرون بها عن القضايا النظرية والعملية، فالفلسفة تبحث عن البراهين والكليات. أما الدين فعلى خلاف ذلك، لا يمكن له أن يعطي براهين، ولكن يمكن أن يعطي كليات، ولكن بشكل محدود.
المواضيع اللاهوتية في كتاب (المبادئ) يمكن لهذا الدليل ألا ينطبق هنا. بحيث إنه بهذه المعلومات من كتاب الملّة يبدو واضحاً ما أراده لعمله حول مبادئ الاعتقادات لمواطني المدينة الفاضلة، مهمة ذلك هو الاستناد على المرجعية اللاهوتية وتناول هذه المواضيع التي لها أهمية بالنسبة للاهوتيين والمعتقدات الدينية. لكن هذا يمكن القيام به ليس من وجهة نظر محدودة للاهوت، ولكن باعتماد الكليات والمبادئ التي تم اكتشافها في الفلسفة.
هذا بنوع من الغموض يجعل المبادئ في ضوء جديد لتفسير الهدف والمنطق المتضمن في العمل. حيث إن النص الآن لا يبدو متداولاً ربما للتنازل التي قام بها القارئ المخاطب ولكن (ك.Treatise) التي تم تأليفها بعناية حيث كان هدفها أخذ سلسلة القضايا المتضمنة في أصول الدين، وباعتبار المبادئ الأولى وجهة نظر لاهوتية.
إن كان هذا الحال، فإن السؤال المطروح إذن: هل المشابهة بين كتاب المبادئ والنصوص اللاهوتية المحللة فوق مختصرة للظواهر البنيوية؟ ولكن إن كان الفارابي يقصد بذلك الدخول في أصول الدين فإنه يمكن أن يكون قد تأثر بالمشاكل التي عالجها اللاهوتيين والحلول التي قدموها لهذه المشاكل. لكن هذا السؤال لا يمكن الإحاطة به في هذا التحليل ولكن يستحق دراسة محقة خاصة به. لكن في هذا السياق يمكن أن نعطي بعض الإرشادات التي يمكن أن تساعدنا من أجل الكشف عن ذلك. في الحقيقة نجد مجموعة من المقاطع في كتاب المبادئ التي توحي بأن الفارابي كان منشغلا في الحقيقة بالآراء اللاهوتية.
سأعطي مثالين مختصرين هنا، كل منهما يمكن أن يفهم كارتباط بوضعية المتكلمين.
المثال الأول يوجد في فهرس العمل عند تحليل القضية الأولى. خاصة وأن هذا التحليل يعتمد على العادة الفلسفية، أغلبية ما ذكر ربطه مباشرة مع مصادر نيوبلاتون أو أرسطو هذا هو الحال. مثلاً مع الادعاء بأن القضية الأولى هي كامل، وأبدية، ومستقرة (مبادئ1،1،1)، بالإضافة إلى مميزات القضية الأولى كالفكر(1،1،6-1،1،14) و(المعشوق الأول1،1،15) ولكن على امتداد هذه الظاهرة الفلسفية فإن الفارابي أسس الأفكار التي لا يمكن ربطها بالعادة الفلسفية، وتبدو مألوفة في السياق اللاهوتي. لا نجد فقط تحليل حول صفات الفرد للقضية الأولى. (مثلا المعرفة، الحكمة، الحقيقة، الحياة، 1،1،7،13) وإنما المقطع الذي يؤكد فيه بأن القضية الأولى تعتبر في مصدر الأشياء وفرضها للتنظيم عليهم (1،2،2). الأولى ما تبقى من صفات الشر التي تم تتبعها برشاقة من طرف المتكلمون، أما الثانية فتسعى للكشف عن كون الله لا يخطئ أو ما يسمى بالتعديل والتجوير.
مثال يعكس نوعا من التقارب، التناول الذي قام به الفارابي في الفصل الأخير حول المدينة في كتاب المبادئ. إذ بدأ بوصف للمدينة الفاضلة (14،1،15) وانتقل إلى تناول بعض الأخطاء التي توجد في مجموعة من المجتمعات المتخلفة (.18،1،19،9). من جديد هذا يمكن تفسيره كوراثة الفلسفية للفارابي وفي هذه الحالة أفكار من العادة المثالية التي ترجع إلى الجمهورية. ولكن الفارابي لا يبدو مسروراً لإعادة آراء Plato حول الدولة. على خلاف ذلك، فقد أدمج منظوراً جديدا وغير متوقع بجمع تحليل عدة مجتمعات مع ما بعد الموت. لهذا نقرأ بأن الذين يعيشون في المدينة الفضيلة هم الذين سيحققون السعادة ولكن الذين يعيشون في المجتمعات المتخلفة يجب عليهم أن يتوقعوا نهايتهم أو التعرض لمجموعة من أشكال العذاب. من جديد يبدو أنه لا جدوى في محاولة شرح هذا باعتماد العادة الفلسفية ولكن تبدو فقط ما يمكن أن نتوقع في السياق اللاهوتي. بالنسبة للاهوتي سيبدو شيئاً غامضاً اعتبار عدة مجتمعات sub specie aeternatatis نفس الشيء يبدو جليا تحقيق الخلاص لمجتمع واحد(مجتمعه). الذي يمتلك الحقيقة، في الحين أن العقاب سيكون مصير الآخرين لارتكابهم عدة أخطاء وبدع، هذا بالضبط الموقف الذي تبناه الفارابي.
وفي هذا النطاق يمكن للفرد التحدث عن نسخة مباشرة لتعابير اللاهوتية من جانبه. حيث إن المعيار الذي قاس به المجتمعات يبقى فلسفيا. حيث رتب المجتمعات، ليس كما يمكن لتحضير لاهوتي أن يفعل باعتماد صحة أو عدم صحة آرائهم وقناعتهم وإنما بحصولهم على المعرفة وعيشهم موازنة مع المبادئ الأخلاقية.
هذه اللائحة من الأفعال يمكن التوسع فيها، حيث إن كتاب المبادئ يتضمن عدة مقاطع والتي ترتبط مباشرة أو غير مباشرة بالحالات التي تم تداولها مع علم اللاهوت الإسلامي.
هدفنا إذن لم يكن تحليل أو التعليق على مقاطع خاصة في كتاب المبادئ، وإنما فهم المبادئ ككل وتحديد سياقه. هذا السياق كما رأينا تم كشفه استناداً على أعمال كتاب أصول الدين. أؤكد مرة أخرى بأن تصوري (ليس أن المبادئ هو عمل لاهوتي) لكن بالأصح اتحاد الأوامر، الفارابي ألّف هذا كعمل فلسفي، لكن الفرد ينوي تناول المواضيع بشفافية كتحديات مأخوذة من علم اللاهوت.
هذه الخاتمة تم الوصول إليها استناداً إلى كتاب المبادئ ومحددات كتاب الملة، ومقارنة بعدة أعمال من طرف العديد من المتكلمين على مستوى كل من البنية والمحتوى. يمكن أن نؤكد شيئاً أخيراً حول مبتغى الفارابي بملاحظة عميقة للعنوان، لهذا أعتبر أننا قمنا بتحويل محددات هذا العنوان إلى مصطلحات اللاهوتية الإسلامية. لهذا فإن مواطني المدينة الفاضلة مع مصطلح الأمة في حين أن آراء أهل المدينة الفضيلة سيتطابق على الدين.
إن كان هذا صحيحا فإن مبادئ آراء أهل المدينة الفاضلة ليس إلا طبعة لأصول الدين.
* باحث وأكاديمي ألماني
إذ إنه رغم عدم تداوله كأساس للأدب الثانوي، فإنه لا يمكن لأحد الجزم بأنه تم فهم مغزى (المبادئ)؛ لأن النص تم تناوله كمصدر doxographique حيث إن الفرد يرجع إلى (المبادئ) من أجل استقراء رأي الفارابي فيما يخص بعض القضايا كعلم الكون والسياسة. وبالتأكيد فإن النص يضم في الحقيقة مقاطع موجزة وواضحة تتناول هذه الإشكاليات. الشيء الذي يطرح سؤالا: لماذا كتب الفارابي مثل هذا النص معلَّقاً؟ وبطريقة أخرى لماذا يعتبر المبادئ معالجة بسيطة لمثل هذا الكم الهائل من الأسئلة المتنوعة؟ وقد قُدمت بعض الاقتراحات في هذا النطاق لكن لم تصل إلى تقرير مقنع. لهذا سيكون من الراجع القول بأن الدراسات التي أنجزت حول (المبادئ) جعلت منه مرجعاً معتمداً، إلا أنها فشلت في شرحه وتحليله كعمل فلسفي.
وفي هذا الصدد سأقدم تحليلاً للنص نفسه، وسأتطرق لثلاثة جوانب: البنية، ومجموعة من مواضيع مختارة ذات أهمية بالنسبة للعمل ككل. الافتراض خلال التحليل إذاً سيكون بأن العناصر المكونة للنص والتي تَم تناولها ليست اعتباطية. فبالعكس، كما نعلم فإن الفارابي ألف (المبادئ) بعناية خاصة، حيث إنه أخذ وقتا طويلاً لكتابته، بالإضافة إلى إحداث تغييرات جديدة للنص. لهذا فإن الترتيبات والمميزات الشكلية للنص يمكن لها أن تفيدنا في معرفة مغزاه ومكانته في فلسفة الفارابي.
عنوان الكتاب
دعنا نبدأ بعنوان العمل الذي نادراً ما يستشهد به كلية؛ إذ إنه بدلاً من ذلك فإن العمل غالباً ما يترجم إلى (الدولة المثالية) أو (الفارابي حول الدولة المثالية).
هذه الترجمة المختصرة -دون شك- تشجع الاستعمال المتداول (للمبادئ) في السياق الخاص. حيث تدل على أن العمل مخصص بالدرجة الأولى للسياسة. في حين يبدو أنه يؤكد الفرضية التي تم الأخذ بها خلال العقود الأخيرة بأن الفارابي له اهتمام خاص بالقضايا السياسية ويعتبر مؤسس الفلسفة السياسية في الإسلام.
سنتطرق إلى تفاصيل هذه الفرضية فيما بعد. لكن الآن دعنا نركز على العنوان نفسه. حيث إنه بمجرد ملاحظتنا للعنوان يتبين أن العمل كلية مخصص للسياسة. فالفارابي في الحقيقة لا يبدو أنه سيصف مجتمعا فاضلا (المدينة الفاضلة). كما أنه لا يريد مخاطبة الأشخاص المنتسبين إلى هذه الجماعة أهل المدينة الفاضلة. لكن كان همه وصف ما يؤمن أو ما يجب أن يؤمن به أفراد هذه المدينة الفاضلة في مجموعة من المواضيع التي سيتم تناولها في (المبادئ).
وقد استعمل الفارابي تعبيرين للوصول إلى ذلك:
التعبير الأول (رأْي) وجمعها آراء. هذا المصطلح على مستوى الفهم ناقص من متطلبات المعرفة الصالحة، فالفارابي استعمل كلمة (رأي) لدلالة على فكرة ما (كما في اللغة الإغريقية doxo أو اللاتينية opinion). رأي يعني حول حاجة ما، يعني إبداء هذا أو ذاك ولكن مع عدم القدرة على إعطاء تفسير لهذه القناعة. لهذا فإن مصطلح (رأي) له قيمة إبستمولوجية محدودة. حيث إن من له رأي ليست له دراية فلسفية حول ما يجب اعتقاده، لكون اعتقاده لا يلائم الشروط المؤسسة الموضوعة في التحليل الخارجي، إنه موضع الانغماس في البلاغة أو المنطق فقط. حيث إن الفارابي يجمع بين هذه النظم المكملة للبرهنة الفلسفية مع الدين واللاهوت.
لهذا فإنه شيء مفاجئ بأن يستعمل الفارابي كلمة آراء لعنوان هذا العمل. الشي الذي جعل مجموعة من النقاد يزعمون بأن العمل يعكس القناعة الفلسفية الأصيلة للفارابي. لهذا ومن هذه الوجهة فإن العمل كان له أن يشكل من أفكار مقبولة، والتي يمكن الدفاع عنها. الشيء الذي سيساعد هدفاً سياسياً ما وسيتناسب مع القدرات الفكرية للمتطلعين عليه.
ومن جديد فإن هذا النقد يؤكد فكرة كون الفارابي -من الدرجة الأولى- مفكراً سياسياً. وبالتالي فهي تقدم نقدا لاذعاً للعنوان.
لم يتحدث الفارابي فقط عن (آراء) من أجل رسم هدف هذا النص وإنما عن (مبادئ) أيضا. لهذا فإن القارئ يجب عليه الفهم بأنه سيكون عملا متضمنا ليس لآراء مقبولة أو قناعات علمية قبلية وإنما لبيانات تتقاطع مع معايير الفلسفة.
أن الفارابي لم يستخدم كلمة مبادئ في أي من المقاطع من أجل الإشارة إلى الاعتقادات المؤقتة أو المؤهلة. ولكن الكلمة تحيل دائما إلى المبادئ المطلقة التي لا تحتاج لأية شروحات. وتماشياً مع العادة الفلسفية فقد استعمل الكلمة في سياقين: في الأنثولوجيا ontology. لمبادئ الموجودات والإبستمولوجية لمبادئ المعرفة. نجد تحليلا للمبادئ ontological خاصة في السياسة المدنية. أما النوع الثاني من التحليل عن المبادئ فقد تم تناوله في كتاب البرهان الذي انغمس فيه الفارابي في التحليل الخارجي.
هذه المبادئ الإبيستمولوجية والتي تفيدنا، يتناول كتاب (المبادئ) فيها مبادئ المعرفة أو الفكر. لكونها كلمة المفتاح الأولى لفهم العنوان ككل. وتبدو تسمية الفارابي للعمل بمبادئ آراء أهل المدينة الفاضلة من النظرة الأولى pleonastics ولكن في الحقيقة كلتا الكلمتين (مبادئ) و(آراء) ضروريتان. من وجهة أولى فاستعماله (آراء) يشير إلى كون العمل يسعى إلى إثارة مجموعة من المستمعين بحيث يتناول مواضيع ذات مصلحة عامة، كما يسعى إلى استحواذ أعضاء آخرين. ومن وجهة ثانية، تؤكد على أن الفارابي لا ينفصل عن الخطاب الفلسفي. حيث إنه لا ينوي تناول هذه المواضيع على مستوى الآراء أي المستوى البلاغي أو القناعات المنطقية. وإنما هدفه هو إعطاء مبادئ فلسفية لكل الأسئلة التي يتضمنها العمل. لهذا فإن (آراء) مواطني المدينة الفاضلة يمتلكون معيارا رزينا وأساسيا للمعرفة العلمية.
بنية الكتاب
يدفعنا هذا الفهم للعنوان إلى طرح سؤال حول المواضيع التي تتطلب معالجة فلسفية. الشيء الذي سيحيلنا إلى النقطة الثانية:
التطرق إلى المواضيع التي تم تناولها في المبادئ وكيفية تنظيم هذه المواضيع. بحيث إن الفارابي نفسه أعطى وقتاً للبنية ومحتوى العمل. وهذا يبدو جلياً من حيث التنظيم المحكم للعمل في ثلاثة عناصر. واستناداً لمصادرنا فإن الفارابي ألف نصاً منسقاً وقسم المخطوطة تدريجيا إلى تسعة عشر بابا.
ولكن بعد مرور سنوات عاد إلى نفس النص وقام بتعديلات عليه، حيث قسمه إلى ستة فصول. وباعتبار هذا التعديل الأخير نجد البنية التالية (للمبادئ):
1- القضية الأولى.
2- علم الكون مثلاً العالم superlunary
3- العالم superlunary
4- الجنس البشري.
5- المدينة الفاضلة.
6- اعتقادات مواطني المجتمعات المتخلفة.
إلا أن التقسيم إلى ستة فصول يعطي انطباعاً عاماً حول العمل ككل. حيث إن المواضيع الحالية للنص تتبين خلال قراءة معينة. وتبين هذه القراءة أنه في حين كون الفصل الثاني والثالث يتناولان موضوعا بسيطا، فإن الفصول الأخرى (5و6) تتناول مواضيع عدة متنوعة. هنا تفاصيل مدققة حول الفهرس والتي تكشف عن هذا التنوع:
1- القضية الأولى
المميزات، مثل الكمال، الوحدة، المعرفة (فصل 1)
2- العالم
أ- لكل الأشياء بما في ذلك العدل (الفصل2)
ب- العالم حالته اللامستقرة وتشكيلته من المادة إلى الشكل (فصل 4-5)
ج- بنية العالم superlunary (فصل 6-7)
د- تأثير العالم supralunary على العالم sublunary وأصل العناصر والأشجار والحيوانات والإنسان (فصل8)
هـ- النشوء والفساد في العالم sublunary (فصل9)
الجنس البشري
أ- الروح والملكات (التغذية، الإدراك الحسي، الخيال، الفكر، الرغبة) تعاون الملكات في الحصول على المعرفة (فصل10)
ب- الجسم وأعضاؤه، التناسل (فصل 11)
ج- الفكر، الأشياء الواضحة، الذكاء بما في ذلك الإرادة وحرية الاختيار، كسب ديناميكية الفكر، ثم السعادة كالنتاج الأخير للفكر. (فصل13)
د- الخيال، مميزاته وطبيعته، النبوة.(فصل 14)
المدينة الفاضلة
أ- ضرورتها: بنيتها، مؤسسها (فيلسوف، رسول) الحكام المتعاقبون، اختلافها مع المجتمعات المتخلفة (فصل15)
ب- المكافأة والعقاب بعد الحياة: السعادة الدائمة كهدف ونتيجة المدينة الفضيلة، العقاب الدائم أو الدمار كنتيجة المجتمعات المتخلفة.
ج- الفلسفة والدين: وجودها في المدينة الفاضلة، المعرفة الفلسفية والدلالة الدينية. (فصل17)
آراء مواطني المجتمعات المتخلفة
أنواع من الأخطاء المتنوعة (فصل18-17)
لهذا فالنص يتناول مجموعة من المواضيع المختارة متسلسلة من القضية الأولى، العالم، الجنس البشري، القوى السيكولوجية والجسمية للإنسان، النبوة والجماعة إلى آخره مثلا الحكم الذي ينتظر الإنسان ما بعد الموت.
هذا الغنى للمواضيع يعتبر مثيراً ومذهلاً كذلك. حيث يجعلنا أمام سؤال ما نوع (المبادئ)؟ عن ماذا يبحث الفارابي حقيقة؟
ماهي الأهداف الإبستيمولوجية التي توجد في عقله؟ ماهي العوامل أو النماذج التي جعلته يختار هذه السلسلة من المواضيع؟
هذه الأسئلة من وجهة نظري لم تتم بعد الإجابة عليها بطريقة مرضية. حيث لم يتم اعتبار بنية المبادئ ومكانتها في العادة الفلسفية بشكل معقول.إذ لا نجد أي عمل يقوم بأية مقارنة. هذا ينطبق ليس فقط على الأعمال بالعربية قبل أو خلال عيش الفارابي، وإنما أيضا على الأعمال الإغريقية القديمة الكلاسيكية. كما أنه ليس من المفاجأة أننا فشلنا في الحصول على نصوص مماثلة لكون البنية والتصور الموضوعي (للمبادئ) فشلا في ملاءمة عادات وأنواع الكتابات الفلسفية، وأيضا لم يلاحظا التمييز الحاصل بين الفلسفة التطبيقية والنظرية. ولكن بدلا من ذلك فقد جمع العمل مجموعة من الأسئلة مأخوذة من الميتافيزيقية والفيزياء والسياسة والأخلاق دون الاهتمام بالجوانب الأخرى، مثل المنطق أو الرياضيات اللذين لم يتم التطرق إليهما.
لهذا ربما يجب البحث عن نماذج بعيدا عن الحدود المرسومة للفلسفة الأدبية. حيث إن (Richard frank) قدم اقتراحا مثمرا رغم عدم تتبعه لمعرفة من العادة اللاهوتية أو بصفة مدققة مادة معروفة بأصول الدين، حيث إن هذه المادة لها قواعدها وقناعتها التي تتضمن عدة مواضيع. وهي: الله وصفاته، والجنس البشري، والتصرفات الإنسانية، وقواعد السياسة الإسلامية والإيمان بيوم البعث. وهي المواضيع التي تم تناولها في كتاب المبادئ من طرف الفارابي.
الشي الذي يدفعنا إلى الشك بوجود ارتباط بين كتاب (المبادئ) وتعقد المواضيع المتناولة في أصول الدين. هذا لا يعني أنه يمكن تسمية أي عمل لاهوتي خاص مشابه لعمل الفارابي. إذ إن معرفتنا لسياقه الفكري لا يعد شيئا بليغا. نعلم أنه كان عالما بعلم اللاهوت لفترة عيشه أو على الأقل التطور اللاهوتي في بغداد خلال فترته. ويمكن أن نفترض أنه كان عالما بأعمال المعتزلة. لكن مع عدم التوفر على أي دليل من هذه الأعمال فإنه من المستحيل أن نؤكد على ما كان قد اطلع عليه.
وللبحث عن أساس للمقارنة يجب الرجوع إلى تلك النصوص عن فترة الفارابي التي نحن مطلعون عليها الشيء الذي يمكن أن يعطينا على الأقل فكرة عن كتاب أصول الدين.
لهذا دعنا نبدأ هذا التذكير بعمل لأبي الحسن الأشعري(935-324) حيث كان من بين معاصري الفارابي وقد شغل في العراق مثله. لكن هذا طبعا لا يتضمن أي تقاطع بينهما، في الحقيقة -استنادا لما نعرفه- فإن أحدهما لم يعرف أي شيء عن الآخر، حيث إن أهم أعمال الأشعري لم تعد للأسف موجودة، ولكن لدينا من مذكراته كتاب (اللماع في الرد على أهل الزيغ والبداع) التي تعطي مدخل إلى الحديث: الحوار اللاهوتي للمرحلة.
العناوين التالية للعمل ترتكز شأن كتاب (المبادي) على بنية وتنظيم العمل.
بنية كتاب الأمة
الله
1- وجوده، دليل حدود الأشياء في هذا العالم (فصل 3-6)
2- صفاته
أ- القراءة، الوحدة، القوة إلى غير ذلك(فصل 26-12-9-7)
الانحراف عن فعالية التأمل المنطقي(فصل 11-10)
ب- المعرفة والإرادة
ج- إرادة الخالق تشمل كل شيء (49-67)
د- صورة الله بعد الموت(68-81)
الله والتصرفات الإنسانية
1- قدر الله وخلقه للتصرفات المكتسبة من طرف البشر (فصل 82-121)
2- قدرة الجنس البشري على الحركة (64-122)
3- العدالة الإلهية (79-165)
الإيمان والذنب
المكافأة والعقاب في حياة ما بعد الموت.
حكم المدينة (200،193)
العمل الثاني الذي يمكن أن يكون ذا أهمية بالنسبة لهدفنا هو كتاب التوحيد لأبي منصور الماتريدي (333-944). هذا العمل أيضا تم خلال فترة عيش الفارابي رغم بعض الاختلاف الجغرافي لكون الماتريدي لم يعش في العراق ولكن في سمرقند.
كتاب التوحيد كان موثقاً فقط في مخطوط واحد. لهذا لسنا متأكدين من أن الشكل الذي وصل إلينا به النص يمثل النسخة الأصلية في كل عدد (مثلا تفتقد محور حول حكم المدينة) رغم ذلك فإنه من الضروري الاطلاع على فهرس وبنية العمل:
بنية كتاب التوحيد
1- نظرية المعرفة.(ص3-21)
2- العالم بنيته ونشأته.(ص25-33)
3- الله.
أ- دلائل وجوده. (ص6-34)
ت- الأشياء المنسوب إليه بما في ذلك رؤية الله فيما بعد الموت. (ص37-137)
ج- نقد للآراء المختلفة.
4- النبوة. (ص271-340)
5- الله والحركات الإنسانية. (ص50)
أ- الحركات الإلهية. (51-343)
ب- الحركات الإنسانية. (351457)
ج- أفعال الخالق. (488-514)
6- الذنب والعقاب فيما بعد الحياة. (ص98-517)
7- الإيمان. (ص42-601)
النموذج الثالث نجده عند أبي المعالي الجويني (1085-458). كتبه فيما بعد منتصف القرن الخامس/ الحادي عشر. ولكن سيخدمنا لا محالة لكونه مازال في العادة اللاهوتية الإسلامية القديمة المعروفة في بعض الأحيان بالقديم أو على الأقل هذا هو حال النص الذي يهمنا هنا. كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد:
بنية كتاب الإرشاد:
1- نظرية المعرفة. (ص3-16)
2- العالم.
بنيته ونشأته. (ص17-27)
3- الله.
أ- دلائل وجوده. (ص9-28)
ب- صفاته. (ص3-164)
ج- رؤية الله فيما بعد الموت. (ص86-166)
4- الله والحركات الإنسانية.
أ- الله يخلق الحركات. (ص187- 214)
ب- استطاعة الجنس البشري على الحركة. (ص215-565)
ج- الله يفعل ما هو صحيح.
5- النبوة بما في ذلك سلسلة من المواضيع المقتبسة من العادات الدينية. (ص70-302)
6- ما بعد الحياة
أ- وجودها (ص80-371)
ب- مكافأة وعقاب الجنس البشري. (ص95-381)
7- الإيمان وبعت الإنسان. (ص396-409)
8- حكم المدينة. (34-410)
دليل كتاب الملة
كما يبين هذا التحليل المختصر فإن هناك بنية متوازنة بين هذه الأعمال. وهذا ينطبق على أعمال الكلام ولكن بعض التعديلات أحدثت، أي بالنسبة للمبادئ. هناك أيضا نجد تحليلا لكل المواضيع الأساسية المتناولة في أصول الدين. هذه المواضيع ستكون لنا فرصة تناولها في وقت لاحق وهي: الله، العالم، الحركة والمعرفة الإنسانية، النبوة. المجتمع، وإيمان الفرد بما بعد الحياة.
هذا التطابق لا يمكن أن يكون مصادفة ولكن توحي بأن الفارابي عندما كان بصدد تأليف هذا العمل قد عمل تلقائيا على اقتباس التسلسل البنيوي وكذا الموضوعات من كتاب أصول الدين. وليس أيضا مقتطفا معزولا وإنما دليل آخر في كتابات الفارابي الذي يمكن له أن يدلنا على معرفة الارتباط الموجود بين المبادئ وأصول الدين. هذا الدليل أعطاه الفارابي نفسه عندما ناول مواضيع معروفة من السياق اللاهوتي، حيث يعكس العلاقة بين الأعمال الفلسفية واللاهوتية.
هذا يوجد في كتاب الملة وليس في المبادئ.
هناك يبين بدقة مميزات الملة الفاضلة وما هو الدور الذي يمكن لمثل هذه الديانة أن تؤديه في المدينة. هذا الشرح يرتكز على تقديمه المسبق عند بداية العمل لتعبير (الدين).
هذه الفقرة الأولى تعطي ملاحظات ضرورية لنا، حيث إن التقديم يبدأ كما يلي: الدين يشتمل على آراء وأفعال مبنية ومرتبطة بمتطلبات تم إعلانها من طرف الحاكم الأول لمدينته. وقد عمق في هذه الفكرة تحته عندما أقام هذا التمييز في الملة الفاضلة هناك آراء حول الأشياء النظرية وآراء حول الأشياء الإرادية. وقد قام بتحليل هذا بشكل ملموس بذكر سلسلة من الأسئلة التي تجد جوابا في الدين. تعتبر اللائحة جد طويلة ولكن تمكن من تلخيص المواضيع المعروضة للنقاش هنا. وكما ذكرنا سابقا فإن اللائحة تنقسم إلى محورين: الآراء ذات الطبيعة النظرية، والآراء التي تتعلق بالقضايا العملية.
إلى الآراء النظرية ينتمي:
1- وصف الله.
2- وصف الروحانيين بما في ذلك حركاتهم.
أ- نشأة وبنية العالم.
ب- خلق أجسام مادية متنوعة.
ج- الترتيب التناسقي والعناية الإلهية بالأشياء.
د- علاقة الأشياء المادية بالإله والروحانيين.
3- خلق الجنس البشري.
روحه وقدرته على التفكير.
النبوة والوحي.
السعادة كجزاء ما بعد الحياة والشقاء كعقاب ما بعد الموت
بينما الآراء العملية تتناول:
الأنبياء، الملك، الرؤساء، تقارير حديثة وقديمة لما قاموا به.
إيمانهم بحياة ما بعد الموت (البعث) وإيمان أفراد المدينة التابعين لهم.
تقارير حول شر أعمالهم.
هذه اللائحة من المواضيع تقرأ كفهرس بالنسبة للمبادئ، هذا يؤكد ما قد اقترحته المقارنة التي قمنا بها مع كتاب (الكلام)، بنية وتصور كتاب (المبادئ) كانت مسطرة في برنامج النقاشات اللاهوتية المعاصرة. بالطبع هذا لا يعني أن (المبادئ) نفسه هو عمل لاهوتي. حقيقة كون الفارابي قد تناول جل الأسئلة المهمة للدين لا يعني أنه طبق ذلك على طرق ومصالح اللاهوتيين. وهذا سيتضح عندما نقرأ الفقرة الأولى حول الدين في كتاب الملة.
حيث علمنا بأن الآراء التي تنتمي إلى الدين يمكن تحديدها بطريقتين: إما عن طريق التعبيرات التي تنطبق مع الواقع وتوحي إلى الأشياء نفسها، أو عن طريق التعبيرات التي تعتبر تقليدا ومشابهة لهذه التصريحات. في الحالة الأولى فإن التعبيرات تتعلق بالحق، وفي الحالة الثانية مثال الحق هو المحصل عليه فقط. ولكن كلا النوعين من التعابير ضروريان من أجل تفادي الضلالة، لهذا فإن الدين الفاضل يجب أن يعطي مدخلا إلى الحق ومثال الحق معا. حيث يمكن لنا الحديث عن الحق عندما نعرف شيئا بتيقن إما على أساس معرفة قبلية أو عن طريق البرهان.
وقد ذهب الفارابي في هذا إلى القول بأن الدين الفاضل يقوم بتقليد الفلسفة؛ لكون الاثنين يتضمنان الجانب النظري والجانب العملي. ولكن الفرق بين الدين والفلسفة يتجلى في الطريقة التي يعبرون بها عن القضايا النظرية والعملية، فالفلسفة تبحث عن البراهين والكليات. أما الدين فعلى خلاف ذلك، لا يمكن له أن يعطي براهين، ولكن يمكن أن يعطي كليات، ولكن بشكل محدود.
المواضيع اللاهوتية في كتاب (المبادئ) يمكن لهذا الدليل ألا ينطبق هنا. بحيث إنه بهذه المعلومات من كتاب الملّة يبدو واضحاً ما أراده لعمله حول مبادئ الاعتقادات لمواطني المدينة الفاضلة، مهمة ذلك هو الاستناد على المرجعية اللاهوتية وتناول هذه المواضيع التي لها أهمية بالنسبة للاهوتيين والمعتقدات الدينية. لكن هذا يمكن القيام به ليس من وجهة نظر محدودة للاهوت، ولكن باعتماد الكليات والمبادئ التي تم اكتشافها في الفلسفة.
هذا بنوع من الغموض يجعل المبادئ في ضوء جديد لتفسير الهدف والمنطق المتضمن في العمل. حيث إن النص الآن لا يبدو متداولاً ربما للتنازل التي قام بها القارئ المخاطب ولكن (ك.Treatise) التي تم تأليفها بعناية حيث كان هدفها أخذ سلسلة القضايا المتضمنة في أصول الدين، وباعتبار المبادئ الأولى وجهة نظر لاهوتية.
إن كان هذا الحال، فإن السؤال المطروح إذن: هل المشابهة بين كتاب المبادئ والنصوص اللاهوتية المحللة فوق مختصرة للظواهر البنيوية؟ ولكن إن كان الفارابي يقصد بذلك الدخول في أصول الدين فإنه يمكن أن يكون قد تأثر بالمشاكل التي عالجها اللاهوتيين والحلول التي قدموها لهذه المشاكل. لكن هذا السؤال لا يمكن الإحاطة به في هذا التحليل ولكن يستحق دراسة محقة خاصة به. لكن في هذا السياق يمكن أن نعطي بعض الإرشادات التي يمكن أن تساعدنا من أجل الكشف عن ذلك. في الحقيقة نجد مجموعة من المقاطع في كتاب المبادئ التي توحي بأن الفارابي كان منشغلا في الحقيقة بالآراء اللاهوتية.
سأعطي مثالين مختصرين هنا، كل منهما يمكن أن يفهم كارتباط بوضعية المتكلمين.
المثال الأول يوجد في فهرس العمل عند تحليل القضية الأولى. خاصة وأن هذا التحليل يعتمد على العادة الفلسفية، أغلبية ما ذكر ربطه مباشرة مع مصادر نيوبلاتون أو أرسطو هذا هو الحال. مثلاً مع الادعاء بأن القضية الأولى هي كامل، وأبدية، ومستقرة (مبادئ1،1،1)، بالإضافة إلى مميزات القضية الأولى كالفكر(1،1،6-1،1،14) و(المعشوق الأول1،1،15) ولكن على امتداد هذه الظاهرة الفلسفية فإن الفارابي أسس الأفكار التي لا يمكن ربطها بالعادة الفلسفية، وتبدو مألوفة في السياق اللاهوتي. لا نجد فقط تحليل حول صفات الفرد للقضية الأولى. (مثلا المعرفة، الحكمة، الحقيقة، الحياة، 1،1،7،13) وإنما المقطع الذي يؤكد فيه بأن القضية الأولى تعتبر في مصدر الأشياء وفرضها للتنظيم عليهم (1،2،2). الأولى ما تبقى من صفات الشر التي تم تتبعها برشاقة من طرف المتكلمون، أما الثانية فتسعى للكشف عن كون الله لا يخطئ أو ما يسمى بالتعديل والتجوير.
مثال يعكس نوعا من التقارب، التناول الذي قام به الفارابي في الفصل الأخير حول المدينة في كتاب المبادئ. إذ بدأ بوصف للمدينة الفاضلة (14،1،15) وانتقل إلى تناول بعض الأخطاء التي توجد في مجموعة من المجتمعات المتخلفة (.18،1،19،9). من جديد هذا يمكن تفسيره كوراثة الفلسفية للفارابي وفي هذه الحالة أفكار من العادة المثالية التي ترجع إلى الجمهورية. ولكن الفارابي لا يبدو مسروراً لإعادة آراء Plato حول الدولة. على خلاف ذلك، فقد أدمج منظوراً جديدا وغير متوقع بجمع تحليل عدة مجتمعات مع ما بعد الموت. لهذا نقرأ بأن الذين يعيشون في المدينة الفضيلة هم الذين سيحققون السعادة ولكن الذين يعيشون في المجتمعات المتخلفة يجب عليهم أن يتوقعوا نهايتهم أو التعرض لمجموعة من أشكال العذاب. من جديد يبدو أنه لا جدوى في محاولة شرح هذا باعتماد العادة الفلسفية ولكن تبدو فقط ما يمكن أن نتوقع في السياق اللاهوتي. بالنسبة للاهوتي سيبدو شيئاً غامضاً اعتبار عدة مجتمعات sub specie aeternatatis نفس الشيء يبدو جليا تحقيق الخلاص لمجتمع واحد(مجتمعه). الذي يمتلك الحقيقة، في الحين أن العقاب سيكون مصير الآخرين لارتكابهم عدة أخطاء وبدع، هذا بالضبط الموقف الذي تبناه الفارابي.
وفي هذا النطاق يمكن للفرد التحدث عن نسخة مباشرة لتعابير اللاهوتية من جانبه. حيث إن المعيار الذي قاس به المجتمعات يبقى فلسفيا. حيث رتب المجتمعات، ليس كما يمكن لتحضير لاهوتي أن يفعل باعتماد صحة أو عدم صحة آرائهم وقناعتهم وإنما بحصولهم على المعرفة وعيشهم موازنة مع المبادئ الأخلاقية.
هذه اللائحة من الأفعال يمكن التوسع فيها، حيث إن كتاب المبادئ يتضمن عدة مقاطع والتي ترتبط مباشرة أو غير مباشرة بالحالات التي تم تداولها مع علم اللاهوت الإسلامي.
هدفنا إذن لم يكن تحليل أو التعليق على مقاطع خاصة في كتاب المبادئ، وإنما فهم المبادئ ككل وتحديد سياقه. هذا السياق كما رأينا تم كشفه استناداً على أعمال كتاب أصول الدين. أؤكد مرة أخرى بأن تصوري (ليس أن المبادئ هو عمل لاهوتي) لكن بالأصح اتحاد الأوامر، الفارابي ألّف هذا كعمل فلسفي، لكن الفرد ينوي تناول المواضيع بشفافية كتحديات مأخوذة من علم اللاهوت.
هذه الخاتمة تم الوصول إليها استناداً إلى كتاب المبادئ ومحددات كتاب الملة، ومقارنة بعدة أعمال من طرف العديد من المتكلمين على مستوى كل من البنية والمحتوى. يمكن أن نؤكد شيئاً أخيراً حول مبتغى الفارابي بملاحظة عميقة للعنوان، لهذا أعتبر أننا قمنا بتحويل محددات هذا العنوان إلى مصطلحات اللاهوتية الإسلامية. لهذا فإن مواطني المدينة الفاضلة مع مصطلح الأمة في حين أن آراء أهل المدينة الفضيلة سيتطابق على الدين.
إن كان هذا صحيحا فإن مبادئ آراء أهل المدينة الفاضلة ليس إلا طبعة لأصول الدين.
* باحث وأكاديمي ألماني