" بين القدم والرأس تجري حدود الثقافة، فالنعلُّ واقع والرأس سلطة ما... ويصحُ العكس كذلك "
" إن أدنى أهل النار عذاباً، ينتعل بنعلين من نارٍ، يغلي دماغه من حرارة نعليه ".. حديث نبوي
" وإذا أصبح المفكر بُوقاً، يستوي الفكر عندها والحذاءُ "... نزار قباني
النِعال رمز للهندام والمكانة الجارية بين الناس، تُلبس عادةً للزينة وبث الخيال لا مجرد أحذية متعلقة بالزي. وليس معقولاً أنْ يهتريء نعلٌّ دون تغييره بأفضل من سواه. كما أنَّ النعال ترتبط بالرأس ارتباطاً وثيقاً، فالشخصيات اللامعة تتغيَّ انتقاء الأحذية إلتصاقاً بأسلوب العيش. وهو ما يعكسُ نظامَ التصورات ورؤى العالم وصور العلاقات بين البشر. تبدو النعال قويةً للمشي ولامعة للغواية وتاركة للأثر رمزياً ومادياً، إنّها العلامة المجسّدة لوجودنا بشكل مختلفٍ إلى حدٍ ما. عندما يقف داخلها القدم، يشعر الإنسان بالثبات والفاعلية، وقد يشعر في المقابل بالضعف أو التأرجح أو الضعة حين لا يمتلئ ثقةً بوجودها الرمزي.
من هذا الباب، يطرح كيان" النعل" تناقضاً مع فكرة " الهامة " فوق أكتاف البشر. هذه الرأس التي تدور في الذروة لدى القوى النافذة داخل المجتمعات. أي تومئ فكرة الهامة إلى" صاحب المعالي" من البشر، صاحب ( المنصب- السلطة – المكانة – الثروة- الأيديولوجيا )، فهو شخصٌ يُمارس استعلاءً ورفعةً وهيمنةً وسلطةً إزاء الأخرين. يعبر القرآن عن ذلك المستوى في كلمة "هامان" على خلفية التحدث عن فرعون وجنوده.
وتتضح الرأسُ قصداً لدى" هامان" وتتضح تباعاً المكانة التي أخذها في ظل الفرعون، وبخاصة عندما حرص القرآن على ذكر هامان مع سياق الفرعون. وليس ثمة "صاحب معال" لا يستدعي حد الأدنى تجاه الأعلى ضمنياً. إذْ تظل العلاقة كـ" أوتار ثقافيةٍ " مشدودةٍ بين الطرفين، وقد استحضرت تراث المجتمعات وتحولاتها.
هي إذن ثنائية ( الرأس والقدم/ الهامة والحذاء ) المتغلغلة في تاريخ مجتمعاتنا الإنسانية، حيث يعبر النعل عن تدني الشأن، انحدار المكانة، الانحطاط، بينما الرأس هي الرأس المدبر، الرأس المفكر، الرأس المؤدلج، الرأس المقدس. الرأس كمركز لشخص متعال ينظر إلى الناس شذراً وبلا مسافة ممكنة. والصلة بينهما عملية إشكالية تجر معاني وقضايا طريفة حول الإنسان والواقع والتاريخ. والنعل والرأس( ارشيفان) ضمن متون الذاكرة الثقافية التي لا تنسى.
أرشيف النعال عادةً هو الصندوق الأسود لثقافة لجارية بعمق التاريخ محتفظاً بكافة ممارسات الحياة وأشكالها. حتى في اللهجة الدراجة، يقول الإنسان خلال بعض المواقف: لا أعرفُ راسي من رجلي، وذلك عندما يعيش حالة من الفوضى والاضطراب. وتجاه درجة التشبع من أوضاع معينة، يُقال بالمثل: لقد انغمس فلانٌ في كذا وكذا من راسه إلى ساسه. أو بصيغةٍ أخرى، تشبع – في هكذا مرحلة - من رأسّه إلى أخمُص قدميه!!
أشار القرآن إلى النعال كرمز للتدنيس( عدم الاستحباب) ( فاخلعْ نعليك إنك بالوداي المقدس طوى) " طه "12. والقرآن يخاطب النبي موسى في مقام التبجيل والامتثال، أي في مقام الحضور والمعيَّة لا الانفراد بالذات عبر مكانٍ ما، وأنَّه لا ينبغي أنْ يكون هناك رمز مُدنّس. وبهذا يشجب القرآن الثقافة التي درجت على جعل النعل ملبُوساً لأغراض أقل مما ترتفع بالهامةِ إلى أعلى. فلئن كانت السماءُ هي رمز الطهرانية والنقاء والخلوص والعلو، فالأرض تعكسُ ظلالاً قاتمةً يجب أنْ تكون آثارها كذلك. والنعل حين يرتبط بهكذا معنى، سيُقلل من التعالي المفترض.
خلع النعال هو الاجراء العملي السريع دون تفكير طالما صادر من مصدر أعلى، حيث كان موسى بالوادي المقدس، أرض سيناء. ويحتمل الخلع الإلقاء جانباً لكل نعل من شأنه ألّا يليق بالإنسان هاهنا. فلا تجتمع ( القداسة والنجاسة ) في مكان واحد، وبخاصة أنها حالة واضحة تحت عين الإله. وتظهر هذه الفكرة في الضمير العائد على موسى ( إنك )، وهو معبر عن الاشارة إلى احتمال عدم المعرفة. أي عدم معرفة موسى بالمكان المقدس الذي يوجد فيه. ولكن عدم معرفة موسى وضعف إدراكه لهكذا معنى، لا يعني ترك الأمر للمصادفة. ومن ثمَّ كان حرص القرآن على التعبير بخلع النعال عن دلالة التقديس. وهو معنى خفيف الوقْع بدلاً من استعمال ألفاظ نقيضة تخص النجاسة أو المغايرة. وسبق القرآن أمر خلع النعلين بأن ذكر الذات الإلهية: " إنّي أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى". وقيل إن الرب أمره بذلك، لأن نعليه كانا مصنوعين من جلد حمار ميت. وهو تقليل آخر من شأن النعلين.
أولاً: دلالة النعال مدنّسة في وضعٍ خاصٍ عليه أنْ يكون وضعاً مقدّساً. وخلع النعلين إشارة إلى تعالٍّ من نوع إلهي ما. فالنعلان يرمزان إلى تدني خارج السياق، فلا يليق دخول موقع له سمات نوعية بهذا الشكل، وأنهما لا يستقيمان مع ميتافيزيقا المكان. والأديان التوحيدية لها توقيف متعال للأماكن والأشخاص والأفكار والأشياء عن طريق المواقع المقدسة التي يحظر فيها لبس النعال.
ثانياً: لا تُخلع النعال إلاّ لأمر جلل يستحقُ التوقف عنده. والتوقف هو قدرتنا نحن البشر على الإستثناء. فليس نخلع - في كل الأحوال العادية- نعالاً غير مقدسةٍ. وهذا فحواه أنَّ الاستثناء يجب أنْ يقابلة استثناءٌ بالمثل. وجاء نص القرآن بصيغة الأمر بلا نقاش ( اخلع نعليك ). لأن المقدس ليس مصدره الفعل بل مصدره صاحب الأمر وبالتالي قد تخفى معانيه وتبعاته غير المباشرة على الإنسان.
ثالثاً: ربما تُخلع النعال من أجل رأس تستحق ضرباً مبرحاً بها. وهذه ظاهرة مرتبطة بتحولات ثقافية متأخرة من جهة ( الانتعال مصادفة ) إلى ( خلع الانتعال عن قصد) انتظاراً لمواقف يتم استعمال النعال فيها. فالنعل غدا ( وسيلةً ما بعد حداثية post modern instrument ) للحط من قدر المضروب به. كما أنه خضع لتسييسٍ ما، عندما يُستعمل فعلياً في استهداف هامة أحدهم ضمن مواقع مرموقة.
رابعاً: هناك مماثلة طريفة بين النعل وصاحب المعالي، فصاحب المعالي يستعمل المنصب الذي ينزرع فيه كالنعل الذي يرتديه الإنسان. فالمنصب يقي الشخص من هجير المجتمعات المتخلفة، ويحمي صاحبه من غوائل الأحوال ويكون شوكه في حلق الخصوم. تماماً مثل النعال التي تصبح رمزاً لضرب الآخرين والتقليل من شأنهم.
خامساً: ارتداد معنى المنصب إلى وحدة دلالة المعالي مع درجة التصرفات والسلوكيات العامة. فلئن كان أصحاب المعالي يحتذون السلطة تجاه الجماهير، فلا يليق بهم إلا الأحذية. فالحذاء يقابل الحذاء لا أقل من ذلك. ولعلَّ هذا ما جعل الأحذية الطائرة في وجوه بعض الساسة أمراً مفسراً في دلالة الضرب بالحذاء لكل صاحب سلطةٍ غير قادر أنْ يكون إنساناً بملء الكلمة.
وبالرجوع إلى التاريخ، تعكس المشائية دلالة الانتعال فلسفياً منذ قدماء اليونان. وصحيح كانت هناك شخصيات تنتعل أحذية وتلبس واقياً للارجل عند الفراعنة، حيث ظهرت النعال بأشكال مختلفة ومزركشة ولاقت مشاهد رائعة لدى الملوك والكهنة والشخصيات المهمة وكانت تُحفظ بأشكالها القشيبة ضمن متعلقات المومياء - أثناء الدفن والتحنيط - ايذانا بالحياة بعد الموت، ولكنها لم تكن نعالاً قادرة على التواجد فكرياً على صعيد نسقي. فالنعال قشيبة في حضرة الملوك الفراعنة وكانت أحذية الملك توضع في مقدمة رؤوس الأعداء الذين ينال منهم الفرعون صاحب القداسة.
وطالما كانت هناك خيوط من الصراع والحروب، فسرعان ما تراجعت طرافة المعاني وباتت تحتاج إلى حفر آخر حول وجودها التاريخي. فالنعال الفرعونية كانت تنقل تراتب أصحاب السلطة وتحدد مواقع الملوك، وهو شأن دال على ( فرز لاهوتي سياسي) مازال معمولاً به حتى اللحظة. لقد جاءت النعال الفرعونية وثائق قديمة بقيت سارية طوال التاريخ وبإمكانها أن تفسر كثيراً من الأحداث والظواهر الاجتماعية. ومن الطرافة بمكان الالتفات إلى وجودها الثقافي داخل هذه العصور السحيقة من وعينا البشري.
أما فلسفة المشائية، فهي كلمة آتية من اللغة اليونانية Peripatetikos، إذ اشارت إلى اجتماع مجموعة من التلاميذ مع المعلم أرسطو للمشي والتعلم واستعراض المعارف العقلية والعلمية. والانتعال – كموضوع للتحليل- كان جزءاً من هذا الطقس الفلسفي. ثمة مشاهد كثيرة تصور هؤلاء الفلاسفة هم يسيرون منتعلين نعالاً مناسبة لتلك العملية. من هنا، ظهر مفهوم الفيلسوف المشّاءperipatetic ، هذا الرجل الذي يتخذ من رجليه وسيلة لفتح آفاق الفكر. وهو من يمشي مع اصدقاء الحكمة، أي يمشي مع الحياة مستعرضاً المعارف والمعلومات والحوارات والأسئلة. وذلك بدلاً من التأمل المنعزل في مكان مغلق خارج التاريخ.
إنَّ النعال في الفكر الفلسفي كانت مفاتيج لجغرافيا الأفكار. فالشعوب التي تجيد فنون المشي شعوبٌ تستطيع تجديد النظر إلى العالم والأشياء. إن المشي يفهمنا ضمنيا وظيفة النعال، وكم كانت هي ذات أهمية بالنسبة للإنسان المفكر على نحو من الأنحاء. وكأنَّ النعال، إذ تغطي الأرجل إنما تعطينا مستوى آخر من الوجود.
وفي حساسية اللغة العربية ما يكشف دلالة النعل: انتعل الإنسان نعلاً، أي مارس فعلاً عكس تعرية القدم، لقد لبس حذاءً للمشي والحركة. وانتعل الملابس (ارتدى ملابسه) التي كانت فارغة منه. انتعلت الأرض الأشياء، أي لبست تضاريس الأشياء ظلالها. فكما هو معروف عند منتصف النهار، ترتدي الأشياء الظلال التي توجد تحتها. وهنا تمثل اللغة مستوى من أعمق الدلالة الفورية فالارتداء هو فعل الهوية. عندما تتماثل الأشياء مع ظلالها فهذا عمل الهوية على الأصالة. فالشيء يساوي نفسه. واللغة تقف عند الدرجة الصفر للنعل باعتباره قدماً لصيقاً بالأرض. وتستقطب مفرداته كماً من السخرية والحط من شأن الناس عن طريقه. وبخاصة عندما يفرغ من قدرته على الإعلاء بنا كحذاء.
لعلنا نلاحظ أنَّ الثقافة العربية تعطي الانتعال وجوداً فورياً. فهي تربطه بالأفعال التي يراها ويمارسها الإنسان ضمن الزمان والمكان. وهناك بالطبع مستويات أخرى توضحها النعال من استخدام الإستعارات المعبرة عنها. وهنا كم من الأنماط الثقافية لفكرة النعل وكذلك الاسقاطات التي تعود إلى أعماق التاريخ والحياة. والنعال بذلك تضعنا فكرياً على حواف التطورات التي تستغرق المجتمعات وتندمج في حركة الأفكار الفلسفية من عصر إلى آخر. فإذا كانت النعال للأقدام، فهي كذلك لتغليف الصور العقلية والإعتراض ولسياسات التمرد والاختلاف ولفتح طرق جديدة للعقل وفهم التراث.