عقيل هاشم - نقد رواية العوالم السبع للروائي عبد الجبار الحمدي سردية أعترافية– التحدي الوجودي للذات

بما أن الرواية اليوم أصبحت الشغل الشاغل لجمهور عريض من الكتاب من حيث التأثير وسرد المزيد من الحكايات وجمهورها صار أكبر وأعمق وأوسع، بعد أن بلغ الإنتاج الروائي مستوى فاق حجم التوقعات بكثير، لما تنطوي على ذلك بعد تنويري في أكثر من مجال، الرواية اليوم تنطوي على سردية متطورة أدواتها وعناصر تشكيلها السردي من الداخل.. الهم الذاتي الوجودي.. ، بما يحقق تقدما ميدانيا في فعاليات الحراك الجمالي والفني للرواية وتفتح سبل التواصل مع المرجعيات المتاحة داخل بنية تفاعلية تنتخب منها ما يشحن الكيانات السردية المؤلفة للرواية بمزيد من القوة والتجلي، ويدفعها في اتجاه ما يتيسر لها من جرأة وبسالة في تجاوز الأطر المعتادة، والثوابت السائدة في إمكانات ثرية وخصبة تجعل من الرواية وسيلة طليعية للتنوير والتحديث.

1716562871446.png

الكاتب عبد الجبار الحمدي كتب روايته -عوالم السبع- بشغفٍ، ليخوض غمار التسريد، مستفيدا من إرثه الحكائي من القصة والرواية الغني والمتنوع، ومحاولا تأصيل هذا الشكل الأدبي، وعمد إلى تبني الرواية كنمط تعبيري يتفاعل من خلالها مع واقعه ورؤية العالم، والعالم الغرائبية متخذا من السرد آلية لإيصال صوته؛ انخراطا في قضايا مجتمعه وأمّته، مستفيدا في ذلك من مختلف المنهاج الفنية والمعرفية في رفد مشروعه السردي وقد استلهم العرفان في تجاربه للنّهَل منها، وقد ارتهنت سردياته بطبيعة السياق التاريخي والثقافي لمرحلة التسريد في تلازم جدليٍّ مع الأسئلة الفنية المثارة في كل سياق على حدة..
وتأتي هذه الرواية حسب سياقاتها التاريخية، إلى استحضار المكوِّن العرفاني في تفسير جملة من الاسئلة في سياقنا الراهن، نزوعاً يكاد يتشكل بوصفه ظاهرة.
ويبدو لي أن الرواية الحديثة ستكون من أكثر الأجناس الثقافية والأدبية استجابة لمثل هذا الجدل والتحول باتجاه ولادة رواية جديدة تنبثق من رحم التراجيديا الإنسانية، ومن قلب الفاجعة التي عشناها ونعيشها كل يوم.
لا سيما وان البشرية اليوم، تمر بأزمة خطيرة، ومنعطف تاريخي كبير (سياسي ثقافي اجتماعي)، ربما يعاد فيه تشكيل العالم وفق أسسٍ جديدة. فقد اهتز العالم، واهتزت معه المجتمعات الإنسانية، أمام الرعب الذي فرضته العولمة على الناس في كل مكان، ووجدت فيه جميع الدول والمجتمعات، غنيها وفقيرها، شمالها وجنوبها، نفسها في حالة استسلام فجائعي أمام سلطة فكرية نفسية -داخلية غير متوقعة –ظاهرة الاغتراب -.
ومن هنا، ندرك أن العالم سيشهد تغيراً كبيراً في المفاهيم والقيم، وربما تلزمنا الحاجة لإعادة تشكيل الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فقد أشعرنا هذا التمزق والاستلاب بأننا حقاً متساوون في كل شي، تماماً مثلما نشعر بأننا، بصفتنا بشراً، متساوون أمام سلطة هذا الخوف الجديد، وأن العالم الذي كنا نقول إنه قرية صغيرة قد أصبح اليوم أسرة واحدة، وأننا جميعاً -أفراداً وحكومات ومؤسسات- نتحمل مسؤولية مشتركة لحماية الكائن الإنساني، والحفاظ على انسانيته التي تتعرض كل يوم إلى خطر التدمير بسبب السلطات العالمية والقاهرة.. الفكرية والاجتماعية والدينية - غير العقلانية وغير الإنسانية التي تمارسها الأنظمة المحكمة دوليا في مصائر الشعوب.
ومن اجل الخلاص من هذا الشرور ارى ان نمارس التطهير من كثير من نوازع الكراهية والتعصب والانغلاق وسيكون هو الحل..
أما هذا التباعد الاجتماعي الذي لم تألفه مجتمعاتنا بعد. وأعتقد أن ثيمات جديدة ستتكرس في المتون السردية، اقرأ منها ثيمة التباعد الاجتماعي التي بدأنا نمارسها على الرغم عنا،
وثيمة العزلة التي سبق للرواية أن تناولتها، لكنها هنا عزلة من نوع جديد عاشها البشر في كل مكان..
وقد ترتبط بثيمة العزلة ثيمة قريبة منها، وهي ثيمة الخوف بأبعادها المختلفة، وهو خوف من المجهول والموت والخرافة. وقد يضرب الخوف البنية الاجتماعية من خلال الخوف من الآخر الذي عبر عنه مرة الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر بمقولته الوجودية الشهيرة «الآخرون هم الجحيم»، أو مقولة هوبز بذئبية الإنسان. لكني أعتقد أن نزعة إنسانية هيومانية تقوم على مبادئ الغيرية والإيثار ستتكرس لمواجهة أي انزلاق نحو الاستذئاب البشري، والخوف المتطرف من الآخر، وهو ما نجده اليوم من إحساس مشترك بمصائر الآخرين، المتمثل بالدور الشجاع الذي تنهض به الامم ,
ويخيل لي أن هذا المناخ سيعطي ضوءاً أخضر للرواية السيرية، ورواية المذكرات واليوميات، بما توفره حالة العزلة من فرصة للانتباه إلى مركزية الذات المتأملة، فلسفياً ووجودياً، في المصير البشري، وثنائية الحياة والموت، ووضع الإنسان داخل هذا الكون الغامض. وربما سيعود التركيز على توظيفات تيار الوعي والسرد السيكولوجي والمونولوج الداخلي والرواية الاعترافية. وسيكون هناك موقع متميز لعالم الطفولة والصبا والأسرة، ربما للتعويض غن غياب التواصل الإنساني
اهمية الرواية أنها تقارب قضية بالغة الأهمية في موضوع الهجرة والنزوح والهوية والانتماء والوطن والحرب وتفكيك الدولة والمصير، ولكل وحدة موضوعية من هذه الوحدات كيانها الإنساني الكبير، المتعلق بجملة هائلة من المفاهيم والرؤى والأفكار والقيم، وهي بحاجة إلى وعي وخبرة وتجربة ومعرفة كي تبلغ مستواها المطلوب.
عنوان الرواية العوالم السبع للروائي عبد الجبار الحمدي والمرتبطة فنيا بالرواية الحديثة من حيث كونها تسبر غور المفاهيم الوجودية والعرفانية وباطن الشخصيات،
فقد جاء في المقدمة :
(البشر خلق موسوم بعاهة التمرد وعدم الايمان بالخالق الواحد انهم كتلة من التناقضات فحتى الذي يعبدونه ربا خوفا وطمعا فمن يعرف الحقيقة في عالم تتمركز الاصفاد بين رجالات يمثلون السلطة يحكمون بأيدي من حديد على كل من يهدد ملكهم ونفوذ امتدادهم في بقائهم على راس السلطة سواء ملوك او رؤساء ولاة او خلفاء مرجعيات او قساوسة .فعالمنا سادي سحاقي مثلي الديوث فيه هو من يتسيد التعاليم...)
تتحدى الرواية كثيرا من التصورات والمعتقدات والقناعات في شكل أدبي، يحتكم للإبداع وحرية الكاتب ، والحديث في تفصيلاتها وما يجري فيها محدود جدا، ولذا؛ يحق للكاتب أن يحاول ملء هذه الفراغات حسب تصوراته وخياله الجامح، حيث تناقش المسكوت عنه من الثوابت الدينية ، وهي في النهاية نص أدبي إبداعي يخضع للمعايير الأدبية لا غير.
نجح الكاتب في إيصال المطلوب للقارئ بالمختصر المفيد دون إطالة أو إسهاب.
تميزت لغة الرواية بجمالها وشاعريتها ، وجاءت عنصرا فاعلا يحسب للرواية، وعامل جذب للقارئ، بالإضافة إلى السرد السلس الممتع ، ونقل القارئ إلى عوالم غيبية بما فيها من إثارة ومتعة وروعة. تهيمن على الرواية الحوارات الداخلية ،فقد لجأ الكاتب إلى تقنية الميتا – نصية حيث يتعاقد مع القارئ على كتابة حكاية يروي سرديتها شخصياتها ذاتهم، وهي تأتي كرد فعل في زمن بدأ يشهد حراكا ووعيا
تضمنت الرواية مجموعة من الفصول المتعددة ، واعتمدت على الراوي العليم الذي تسلم زمام الحكي على مدار الرواية، وأتاح الفرصة لبعض الأصوات أن تتحدث فقط، لتعرض تجربتها أو معلوماتها أو اهتماماتها مع الحياة
(اني اقف اليوم على اعتاب بوابات عالم واسع لقيط بالتأكيد الحرام فيه سدادة قنينة لزجاجة رميت في بحر ركبه وولج باطنه زبد السنين التي كانت بداية الخليقة بعد ان محيت ذاكرته لكثرة ما ابتلع من قصص وروايات وامصار عصور ...قد رمى بي على اعتاب ملجا لا ادري لم, لكني اعلم جيدا من اكون فانا لست ذلك المخلوق الذي جاء من العتمة الى النور المزيف لكني جئت من العدم والطلمة حاملا النور شعلة دليل لنفسي لا اخجل ابدا منها او ما يطلق عليها من الذين يعرفون خلفيتي)
في رواية الحمدي يستطيع المتلقي أن يجد ذاته المتعبة أو النافذة إلى عوالم الروح بسلاسة لغوية فيها من جدل يقيتي ما يتوق له القارئ. وأن يضيء كثيرا من الزوايا –الملجا-المعتم وأن يخترقَ جدران الألم ليصل إلى الإنسانية الحالمة والروح النقية..
لقد أتت الرواية بعنوان "عوالم سبعة" والقارئ المتمعنُ في هذا العنوان لا يفوته أن ينتبه إلى أنَّ الكاتب يسهبُ كثيرا في البحثِ عن دلالاتها العرفانية ، فهو يختصرُ المسافة نحو المعنى بما يكفي لترسيخه. ثم إن هذا العنوان يصلُ بالقارئ إلى أنَّ الكاتب يترك روايته مفتوحة فهو لا يؤمن بالنهاياتِ المطلقة بل يجنحُ إلى النهاية النسبية غير المنتمية إلى سياقٍ بعينه.
الكاتب في هذا النص امتلك رؤيةُ وقدرة على ترسيخ اللغة وصياغتها في قالبٍ يصل به إلى النافذةِ التي تطل على القلوب والعقول معا , وحاول ان يتجردُ من الواقعِ ليستعمل مفردات تخرجُ عن صمتها المعتاد ليتكلم كل جزء فيها ويخلق ما يريده هو أن يكون، أما رؤية فهي تتجاوز الزمن وحدود الجغرافيا لتنهضَ بالقارئ إلى تعميقِ فكرة العرفان بين البشرية لينصب نفسه سفيرا- الأمل والحياة والروح.
وهذا هو التطرفُ الأجمل والفكرةُ الأكثرُ انصياعا للقلب ويطمح إلى التوفيق بين الديانات جميعها والكشف عن معناها العميق بواسطة معرفة باطنية وكاملة .
وما يلفت في هذه الإشارات الصوفية أنها جاءت في كثير من الأحيان غير مباشرة بل بالإيحاء وهذا بما لا يترك مجالا للشك بأن الكاتب يبثُّ روح السلام والمحبة في نصه الروائي ومن خلال شخصيته المركزية –حنظل عسل-.
أما الوطن في الرواية فيتعدى حدود الأرض والمكان ليصبح روحا تتنقلُ في أرجاء الوجعِ الذي ينتمي له البطل في الأصل فيصطاده حزنا خلف حزن ووجعا خلف وجع ولا يفوته أن يصل إلى عمقٍ آخر من أعماق الوطن- وهذا ما أسميه متلازمة الوطن-.
.(خرج محظوظ مصدوما كيف تعقدت الامور لم لم تسير حسب ما أراد لها كيف ظهرت هذه العجوز في حياتي فجأة والتي قلبت موازين حساباتي ,,, ياللجحيم كيف للقدر ان يسير بغير المتوقع , كيف لي ان انسى اني تحت مجهر لا يمكن ان يغفلون عن مراقبتي وانا على قطعة زجاجة اختبار منظورة حذرني حنظل الاسود من قبل عن الغرور لكني لم اخذ بنصيحته ...اللعنة علبيك فشلت في ان اكون سيدك وسيد كل من حسبته صديق لي ...اللعنة)

1716562973483.png

الكاتب استطاع ان يعمق من الرؤية المكانية في هذه الرواية، مشيرا إلى أن المكان –مدينة مليلية وسبته التي تسيطر عليها اسبانيا وتعد جزء من المغرب -يشكل البعد الرؤيوي لشبكة العلاقات التي تتظافر لتشييد المكان، الذي تجري فيه الأحداث بفعل الشخصيات، فالمكان ليس مجرد تشكيل للمادة والأشياء في صورة تدرك لذاتها، إنما هي تظهر في النص من خلال زوايا نظم رؤى لتعبر عن انبثاق عالم كامل له حركته ومجاله الانفعالي. وقد قسّم السعدون بحثه إلى رؤية تشكيلية ورؤية سينمائية.
(في تفس الليلة التي غادر فيها اصدقائه جلس يفكر كثيرا في سؤال كان يلح عليه ونسي ان فتنة تنتظره وذاك ما اخبره البرنس حين همس له في اذنه ...ترى ماهي مقاييس العقيدة التي يمكنها ان تسيطر على عقل الانسان وتجعل حياته تسير ضمن منهج ثابت ...اهو عقل ام الفطرة ....)
واخيرا ان رواية «العوالم السبع» سردية مكتنزة بالواقعية -الفنتازيا، التي رسم معالمها الكاتب بمهارة عالية، فمنحنا مشاهد متشابكة ومتداخلة حد الغموض، لكن معالمها واضحة وخيوطها ممدودة بمهارة وحرفية باذخة.
وقد توقف الكاتب طويلا عند الشخصية الروائية –حنظل العسل- في هذه الرواية « الشخصية المحورية» والتي تحظى بعناية الراوي كلي العلم أولا ، ثم الراوي الذاتي في ما بعد بوصفها مركز الفعل السردي في الرواية، فهي فعلا مركز الحدث الروائي وجوهر الحبكة السردية.
كما يشير الكاتب الحمدي إلى أن الرواية لم تتوقف عند حدث مركزي، خاصة أن العنوان لربما يوحي بذلك، بل هناك امتدادات سردية تفضي إلى تفرعات كثيرة، داخلية وخارجية تتلاحم مع بعضها في إطار حبكة تشكلت أبعادها من رؤية العالم المستقبلية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى