سُئل الشهيد غيفارا عن الحب، فأجاب:
"الثائر الحقيقي يقوده شعور عظيم من الحب، حب الإنسانية والعدالة والحقيقة. من المستحيل تصوُّر ثائرٍ أصيل من دون هذه الميزة تحديداً"..
" قل لي حاجة، أي حاجة" عنوان قصة حُبٍّ استثنائية؛ عنوانٌ، بل مفتاحُ علاقة حب داخل الزنزانة.. كلماتٌ بسيطة مُنتقاة بتلقائية من ألبوم أغاني "شرقيّة" أسّست لتضحية "غربيّة" مُؤثرة واستثنائية..
كُنّا، الرفيقان جوهاري نور الدين والطاهر الدريدي وأنا، بثلاث غُرف/زنازين منعزلة بدهليز منسيّ (يحتوي على ثلاث غرف فقط) بالمركز الاستشفائي الجامعي ابن رشد (CHU) المعروف ب"موريزكو" بمدينة الدار البيضاء. وكان إضرابنا عن الطعام اللاّمحدود قد تجاوز حتى ذلك الحين خمس (05) سنوات. كان لا يتردّد على دهليزنا غير عناصر الحراسة ومرؤوسيهم وعناصر DST وRG وطاقم التمريض (الممرضون والممرضات والأعوان). كانت الزيارة ممنوعة بالمطلق وكذلك الكتابة والقراءة والفسحة كذلك، لأننا كنا مُقيّدين باستمرار، أيّ ليل نهار، الى الأسِرّة وخاضعين للتأكيل القسري بواسطة مسبارٍ (SONDE GASTRIQUE) عبر الأنف وإلى المَعِدة وآلات طبّية خاصة..
وبعد عملية فرار فاشلة وتوقيف الإضراب عن الطعام من طرف الرفيق الدريدي، صيف 1989، وبقائه بنفس الغرفة/الزنزانة؛ ولأن سقف غرفة/زنزانة الرفيق جوهاري تطلّب حينه إصلاحات كبرى بسبب تسرُّب المياه العادمة، اضطرت الجهات المُمْعنة في تعذيبنا/تقتيلنا إلى نقل الرفيق جوهاري إلى غرفتي/زنزانتي. كان ذلك في شهر يناير 1990.
إنه شعاع أملٍ غذّى صمودنا ومقاومتنا رغم أعداء الأمل والحياة..
كم تملّكنا الفرح والتفاؤل (رُبّ ضارّة نافعة)..!!
وكم سعِدنا بدفء اللقاء والتواصل غير المباشرين رغم اقتسام الغرفة/الزنزانة الواحدة. كان كلُّ واحد منا مقيدا الى سريره ولا يمكنه الاقتراب من رفيقه. والحديث هنا يعني الرفيقين جوهاري وأحراث. أما الرفيق الدريدي وبعد استشهاد الرفيق عبد الحق شبادة، فقد تم تنقيله والرفاق بسجن لعلو بالرباط الى السجن المركزي بالقنيطرة، في حين تشبثنا نحن بمعركة الشهيدين بوبكر ومصطفى من أجل خلق "قُنيْطِرات" أخرى، أي تحسين شروط الاعتقال بسجن بولمهارز بمراكش وبكافة السجون وليس فقط بالسجن المركزي بالقنيطرة. علما أن جل سجون الذل والعار قد استقبلت العديد من المعتقلين السياسيين إثر الانتفاضة الشعبية في يناير 1984..
ولأن التجربة تصنع "المستحيل"، لم تكن الحراسة المُشدّدة وما رافقها من حذر تمنعنا من التّخلّص من القيد. لقد علّمتنا الحاجة (الحاجة أُمّ الاختراع/الإبداع) انتزاع الأصفاد وقت ما كُنا نشاء. وذلك ما ساعد الرفيق الطاهر الدريدي على تنفيذ عملية الفرار، خاصة وكسبنا ودّ وتعاطف جلّ عناصر الحراسة الطيبين..
ما كان جديد عالمنا/زمننا الغابر المكسو بالحزن والرتابة والمخضب برائحة الموت؟
إنه قدوم ممرضة شابة وجميلة، كانت تحيتها بهية وابتسامتها بلسم لجرح مميت..
كُنا من خلال "استخباراتنا" الخاصة لا نُفوّت فرصة ضبط ما يجري حولنا. وفي غضون حوالي يومين أو ثلاثة، كان بين أيدينا يعض عناصر ملف ممرضتنا القادمة من المجهول..
علمنا بسرعة البرق أنها قادمة من مدينة سيدي قاسم ومستقرة بدرب غْلّْفْ وأن تعيينها الأول كان بدهليزنا المرفوض من طرف باقي العاملين بالمركز الاستشفائي الجامعي "موريزكو"..
كان التعيين بدهليزنا، دهليز الموت، عبارةً عن إجراء عقابي..
يوما، لم تحضر "ضيفتنا" الى غرفتنا/زنزانتنا رغم وجودها بالدهليز، فطرح علينا ذلك سؤال "لماذا؟"..
كُنا حسّاسين للغاية، لدرجة قياس ما يجري "ببيض النّمْل"..
في اليوم الموالي، ومباشرة بعد إطلالتها الصباحية الأولى، سجّلنا استغرابنا بلطف؛ واقترحنا عليها من باب الاستفزاز الكاذب عدم رغبتنا في حضورها/رؤيتها إذا كُنّا مصدر إزعاجٍ لها، خاصة والروائح الكريهة المنبعثة من غرفتنا/زنزانتنا وما نمثله من خطورة سياسية، بل إجرامية حسب ادعاءات وتمثلات مرؤوسيها. وللإشارة، فقد كنا نقضي حاجتنا الطبيعية فوق الأَسِرّة ولا مجال أمامنا بسبب القيد للذهاب الى الحمام أو المراحيض أو حتى المشي أو الوقوف. وحتى الآن، نعاني ضعف التوازن في المشي والجري بسبب المكوث المفروض (alités) لما يفوق ست (06) سنوات..
كان ردُّ ممرضتنا هادئا. اعتذرَت بصدقٍ مُبهر وفاجأتنا باستعدادها تقديم خدمات غير ما هو مفروض عليها..
كم كنا "محظوظين"، والى اليوم أعترف أني "محظوظ"..
كان تواصلنا معها فيما بعد يزداد عمقا وثقة واكتمل ملفنا حولها..
علمنا أنها قدِمت مباشرة من منطقة "بيشة" بالسعودية بعد أن توصلت من عائلتها ببرقية (télégramme) أخبرتها بوفاة والدها. كان الخبر زائفا من أجل السماح لها بالعودة، لأنها كانت مرتبطة بعقدة لمدة ثلاث سنوات. فعندما تخرّجت من معهد الصحة بالقنيطرة، فُرض عليها الانتظار. وبعد مُدّة قصيرة ارتبطت كبعض خريجات فوجها بعقدة مع وزارة الصحة السعودية، وكانت الفرصة الأولى لاشتغالها بمنطقة بيشة النائية..
مباشرة بعد التحاقها بالمغرب، سافرت رُفقة والدتها الى مدينة الدار البيضاء. وعندما التحقت بمقر العمل، كانت وجهتها ورغما عنها دهليزنا "المشؤوم". وقبل أن تغادر مكتب الحارس العام، شنّف أسماعها هذا الأخير بتعليمات تهديدية صارمة، من مثل "حذاري من عديان سيدنا" و"انتبهي لشراستهما وعدوانيتهما" و"إياك والاقتراب منهما"...
التحقت بدهليزنا مرتبكة والخوف يخنقها. تساءلت عن أي "ذنب" ارتكبت..
اختلطت عليها الأشياء، هل تعود الى بيشة بالسعودية أم تلتحق بدهليزنا المرعب؟
عندما حصلَتْ على شهادة البكالوريا بمدينة سيدي قاسم وقبل ان تلتحق بمعهد التمريض، تسجّلت بشعبة الفلسفة بكلية الآداب بمدينة القنيطرة. وذلك وبحسّ تجربتها بشعبة الفلسفة، اختارت الأصعب، أي الاحتراق بالنار..
إنها الفلسفة وعشق الفلسفة وضريبة الفلسفة..
لقد توقعت من خلال تجربتها بالجامعة والخطاب الحاقد للحارس العام وجود طلبة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب. وبذكائها الملحوظ، استطاعت في ظرف وجيز أن تستكشف فضاء عملها وأن تدرك موطئ القدم المناسب لها..
من جانبنا، نور الدين وانا، لم نتوقف عن توجيهها ومساعدتها على ضبط إيقاع الدهليز وعتمته. وبذلك ربحنا ممرضة مناضلة في صمت..
أغْنينا فيما بعد ملفها الشخصي، وصرنا أقرب الى أمها وأبيها والى أخويها الفقيد عبد السلام وعز الدين وباقي أفراد العائلة...
لقد انفتحت على عالمنا بشهية نضالية متميزة..
وبالنظر الى أقدميتنا، أي ما يزيد عن خمس سنوات، ربطنا علاقات متينة مع عناصر الحراسة. وقد توطدت هذه العلاقات بعد صمودنا إثر عملية فرار الرفيق الطاهر الدريدي..
ونادرا ما كانت تمكت عناصر الحراسة بغرفتنا/زنزانتنا بسبب الروائح الكريهة، بالإضافة الى الثقة التي اكتسبناها بعد إدانتنا لعملية فرار رفيقنا الانفرادية والمفاجئة..
وفي ظل ذلك، أتيحت الفرصة أمام الطاقم الطبي للتواصل معنا بدون إزعاج أو ضغط. وفي كثير من الأحيان، كان التواصل يتم بعيدا عن أعين عناصر الحراسة وبعلمهم..
وإذاك، كانت فرصة ممرضتنا لتكثيف التواصل معنا وتلبية مطالبنا، ومنها توفير الجرائد والمجلات والكتب تحت ملابسها الداخلية.. ومن بين الكتب النادرة التي استطاعت توفيرها لنا كتاب "دار بريشة أو قصة مختطف" لمؤلفه المهدي المومني التّجْكاني (الطبعة الأولى سنة 1987)..
وقد وصلت قمة تضحية رفيقتنا أو ممرضتنا لما قبلت بفرح مقترح/مهمة زيارة عائلتي بمدينة مراكش..
وضعنا خُطة مُحكمة، خاصة أنها الزيارة الأولى لسفيرتنا الى مراكش. وتفاديا لأي مفاجأة غير سارّة، مثل مراقبة بيت الأُسرة من طرف الأعين الجاحظة والمبثوثة بكل مكان، كانت الوجهة بعيدة، أي منزل أختي سعيدة بدرب "سيدي بوحربة" بحي حارة الصورة..
لقد صنعنا الحدث. وصلت بطلتنا بأمان وتحدّت الخوف والرعب ليتمّ استقبالها كجندية عائدة من أرض المعركة بعد أن قدّمت أوراق اعتمادها المكتوبة بدمنا ودموعنا (دموع القوة) والمُتضمِّنة لإشارات معروفة فقط لدى الأُسرة الصغيرة تفاديا لأي شكوك أو حذر..
غمرت الفرحة قلوب أفراد أسرتي الصغيرة، وخاصة قلبي أمي وأبي، وعمت الفرحة الصامتة الأجواء. وتساءل الجميع: أي جرأة وأي شهامة هذه؟ كيف تُنسج هذه الملحمة في ظل القمع والحصار والترهيب...؟
وجوابنا: إنهم أبناء شعبنا الأحرار، وإنهن بنات شعبنا الحرائر، يصنعن/يصنعون "المعجزات"..
بعد شُحّْ المعلومة حول ظروفنا بدهاليز "موريزكو"، ولما يزيد عن خمس سنوات، تمكنت عائلتي من معرفة تفاصيل أيامنا، ليلا ونهارا، وكذلك "روتيننا" اليومي، بما في ذلك قضاء حاجتنا فوق الأَسِرّة وروائحنا الكريهة التي تُشْتمّ عن بُعد كيلومترات..
اطمأنّت عائلتي على مصيري عندما صِرت بين ذراعي حمامةٍ بيضاء وُلِدت هكذا فجأة. وتنافست الوالدة والوالد عن أيهما أحق بالفوز في "معركة" الدعاء لي بالخير والنصر..
وكتعبير مراكشي عن الحفاوة وحسن الضيافة والاعتراف بالجميل، بل والتضحية، زُيِّنت يدا حمامتنا بالحناء. وهو المؤشر الأول الدال على نجاح "مغامرتنا" المحسوبة..
صباح يوم اثنين من شهر غشت 1990، بل وطيلة أيام الرحلة، الجمعة والسبت والأحد، وخاصة ليلة الأحد/الاثنين، لم تر جفوننا النوم. كنا ننتظر سفيرتنا على أحر من الجمر، ولم تفارق الاحتمالات السيئة أذهاننا. كان فشل المهمة واردا طبعا وكذلك الإصابة بمكروه..
فُتح باب الغرفة/الزنزانة أخيرا، فكانت الابتسامة المعهودة والحناء أجمل تعبير عن هزم الجلاد والسجان معا. كنا ننتصر دائما، لأننا "محظوظان"، بل قويان..
لم نكن في حاجة الى شكر ممرضتنا الجميلة، لأنها باتت واحدة منا. استمر عطاؤها المادي والمعنوي بدون حدود وبسخاء مُنقطع النّظير. واخترنا لها لقب أسماء تفاديا لأي هفوة من طرفنا قد تكشف طبيعة علاقتنا بها. وللإشارة، فابنتنا البكر تحمل اسم أسماء تكريما للأم/الرفيقة المناضلة نعيمة الزيتوني واعترافا بتضحيتها..
وفي أحد أيام شهر شتنبر 1990، تم نقل الرفيق جوهاري الى غرفة الرفيق الدريدي بعد نقل هذا الأخير الى السجن المركزي بالقنيطرة..
رُبّ ضارّة نافعة، لقد أتيحت الفرصة أكثر أمام أسماء لتبوح بالكثير من أسرارها. وتُوّج ذلك في وقت وجيز بالحكاية الجميلة " قُلْ لي حاجة، أيٍّ حاجة"..
كان مساء يوم 12 أكتوبر 1990 هادئا، ومما زاد من سكونه تجمّع عناصر الحراسة بركن بدهليزنا للاستمتاع بلعبة الورق (jeux de cartes). علما أنه عند طرق باب الدهليز، كانت عناصر الحراسة تلتحق وبسرعة فائقة بغرفنا/زنازيننا لتمُرّ جولة المراقبة بسلام..
كان المساء ساكنا بالدهليز وبغرفتي/زنزانتي، وربما بالعالم أجمع. وعندما دخلت أسماء ازداد السكون سكونا، بل ازداد الخرس خرسا؛ وهو ما حدا بها لقول: " قُلْ لي حاجة، أيٍّ حاجة"..
وبنات وأبناء جيلي، جيل الأغاني الشرقية، يعرفون/فن بدون شك تتمّة الأغنية الساحرة..
"قل لي حاجة أي حاجة قل بحبَّك قل كرهتك
قول قول قول وما يهمّكشِ حاجة..."..
كان حِسُّ الرياضيات حاضرا (فْهمْتها طايْرة)؛ فكان يوم الجمعة 12 أكتوبر 1990 تاريخ ميلاد علاقتنا المُستمرّة، علاقة نضالية أكثر من أيِّ شيءٍ آخر..
هي رفيقتي الآن ودائماً الى جانب أسماء (مراكش) وسامية (مراكش) ويونس (شفشاون)..
إننا ننتصر دائماً، لأننا أقوياء ولأننا نحب قضية شعبنا..
وإلى بوح آخر...
"الثائر الحقيقي يقوده شعور عظيم من الحب، حب الإنسانية والعدالة والحقيقة. من المستحيل تصوُّر ثائرٍ أصيل من دون هذه الميزة تحديداً"..
" قل لي حاجة، أي حاجة" عنوان قصة حُبٍّ استثنائية؛ عنوانٌ، بل مفتاحُ علاقة حب داخل الزنزانة.. كلماتٌ بسيطة مُنتقاة بتلقائية من ألبوم أغاني "شرقيّة" أسّست لتضحية "غربيّة" مُؤثرة واستثنائية..
كُنّا، الرفيقان جوهاري نور الدين والطاهر الدريدي وأنا، بثلاث غُرف/زنازين منعزلة بدهليز منسيّ (يحتوي على ثلاث غرف فقط) بالمركز الاستشفائي الجامعي ابن رشد (CHU) المعروف ب"موريزكو" بمدينة الدار البيضاء. وكان إضرابنا عن الطعام اللاّمحدود قد تجاوز حتى ذلك الحين خمس (05) سنوات. كان لا يتردّد على دهليزنا غير عناصر الحراسة ومرؤوسيهم وعناصر DST وRG وطاقم التمريض (الممرضون والممرضات والأعوان). كانت الزيارة ممنوعة بالمطلق وكذلك الكتابة والقراءة والفسحة كذلك، لأننا كنا مُقيّدين باستمرار، أيّ ليل نهار، الى الأسِرّة وخاضعين للتأكيل القسري بواسطة مسبارٍ (SONDE GASTRIQUE) عبر الأنف وإلى المَعِدة وآلات طبّية خاصة..
وبعد عملية فرار فاشلة وتوقيف الإضراب عن الطعام من طرف الرفيق الدريدي، صيف 1989، وبقائه بنفس الغرفة/الزنزانة؛ ولأن سقف غرفة/زنزانة الرفيق جوهاري تطلّب حينه إصلاحات كبرى بسبب تسرُّب المياه العادمة، اضطرت الجهات المُمْعنة في تعذيبنا/تقتيلنا إلى نقل الرفيق جوهاري إلى غرفتي/زنزانتي. كان ذلك في شهر يناير 1990.
إنه شعاع أملٍ غذّى صمودنا ومقاومتنا رغم أعداء الأمل والحياة..
كم تملّكنا الفرح والتفاؤل (رُبّ ضارّة نافعة)..!!
وكم سعِدنا بدفء اللقاء والتواصل غير المباشرين رغم اقتسام الغرفة/الزنزانة الواحدة. كان كلُّ واحد منا مقيدا الى سريره ولا يمكنه الاقتراب من رفيقه. والحديث هنا يعني الرفيقين جوهاري وأحراث. أما الرفيق الدريدي وبعد استشهاد الرفيق عبد الحق شبادة، فقد تم تنقيله والرفاق بسجن لعلو بالرباط الى السجن المركزي بالقنيطرة، في حين تشبثنا نحن بمعركة الشهيدين بوبكر ومصطفى من أجل خلق "قُنيْطِرات" أخرى، أي تحسين شروط الاعتقال بسجن بولمهارز بمراكش وبكافة السجون وليس فقط بالسجن المركزي بالقنيطرة. علما أن جل سجون الذل والعار قد استقبلت العديد من المعتقلين السياسيين إثر الانتفاضة الشعبية في يناير 1984..
ولأن التجربة تصنع "المستحيل"، لم تكن الحراسة المُشدّدة وما رافقها من حذر تمنعنا من التّخلّص من القيد. لقد علّمتنا الحاجة (الحاجة أُمّ الاختراع/الإبداع) انتزاع الأصفاد وقت ما كُنا نشاء. وذلك ما ساعد الرفيق الطاهر الدريدي على تنفيذ عملية الفرار، خاصة وكسبنا ودّ وتعاطف جلّ عناصر الحراسة الطيبين..
ما كان جديد عالمنا/زمننا الغابر المكسو بالحزن والرتابة والمخضب برائحة الموت؟
إنه قدوم ممرضة شابة وجميلة، كانت تحيتها بهية وابتسامتها بلسم لجرح مميت..
كُنا من خلال "استخباراتنا" الخاصة لا نُفوّت فرصة ضبط ما يجري حولنا. وفي غضون حوالي يومين أو ثلاثة، كان بين أيدينا يعض عناصر ملف ممرضتنا القادمة من المجهول..
علمنا بسرعة البرق أنها قادمة من مدينة سيدي قاسم ومستقرة بدرب غْلّْفْ وأن تعيينها الأول كان بدهليزنا المرفوض من طرف باقي العاملين بالمركز الاستشفائي الجامعي "موريزكو"..
كان التعيين بدهليزنا، دهليز الموت، عبارةً عن إجراء عقابي..
يوما، لم تحضر "ضيفتنا" الى غرفتنا/زنزانتنا رغم وجودها بالدهليز، فطرح علينا ذلك سؤال "لماذا؟"..
كُنا حسّاسين للغاية، لدرجة قياس ما يجري "ببيض النّمْل"..
في اليوم الموالي، ومباشرة بعد إطلالتها الصباحية الأولى، سجّلنا استغرابنا بلطف؛ واقترحنا عليها من باب الاستفزاز الكاذب عدم رغبتنا في حضورها/رؤيتها إذا كُنّا مصدر إزعاجٍ لها، خاصة والروائح الكريهة المنبعثة من غرفتنا/زنزانتنا وما نمثله من خطورة سياسية، بل إجرامية حسب ادعاءات وتمثلات مرؤوسيها. وللإشارة، فقد كنا نقضي حاجتنا الطبيعية فوق الأَسِرّة ولا مجال أمامنا بسبب القيد للذهاب الى الحمام أو المراحيض أو حتى المشي أو الوقوف. وحتى الآن، نعاني ضعف التوازن في المشي والجري بسبب المكوث المفروض (alités) لما يفوق ست (06) سنوات..
كان ردُّ ممرضتنا هادئا. اعتذرَت بصدقٍ مُبهر وفاجأتنا باستعدادها تقديم خدمات غير ما هو مفروض عليها..
كم كنا "محظوظين"، والى اليوم أعترف أني "محظوظ"..
كان تواصلنا معها فيما بعد يزداد عمقا وثقة واكتمل ملفنا حولها..
علمنا أنها قدِمت مباشرة من منطقة "بيشة" بالسعودية بعد أن توصلت من عائلتها ببرقية (télégramme) أخبرتها بوفاة والدها. كان الخبر زائفا من أجل السماح لها بالعودة، لأنها كانت مرتبطة بعقدة لمدة ثلاث سنوات. فعندما تخرّجت من معهد الصحة بالقنيطرة، فُرض عليها الانتظار. وبعد مُدّة قصيرة ارتبطت كبعض خريجات فوجها بعقدة مع وزارة الصحة السعودية، وكانت الفرصة الأولى لاشتغالها بمنطقة بيشة النائية..
مباشرة بعد التحاقها بالمغرب، سافرت رُفقة والدتها الى مدينة الدار البيضاء. وعندما التحقت بمقر العمل، كانت وجهتها ورغما عنها دهليزنا "المشؤوم". وقبل أن تغادر مكتب الحارس العام، شنّف أسماعها هذا الأخير بتعليمات تهديدية صارمة، من مثل "حذاري من عديان سيدنا" و"انتبهي لشراستهما وعدوانيتهما" و"إياك والاقتراب منهما"...
التحقت بدهليزنا مرتبكة والخوف يخنقها. تساءلت عن أي "ذنب" ارتكبت..
اختلطت عليها الأشياء، هل تعود الى بيشة بالسعودية أم تلتحق بدهليزنا المرعب؟
عندما حصلَتْ على شهادة البكالوريا بمدينة سيدي قاسم وقبل ان تلتحق بمعهد التمريض، تسجّلت بشعبة الفلسفة بكلية الآداب بمدينة القنيطرة. وذلك وبحسّ تجربتها بشعبة الفلسفة، اختارت الأصعب، أي الاحتراق بالنار..
إنها الفلسفة وعشق الفلسفة وضريبة الفلسفة..
لقد توقعت من خلال تجربتها بالجامعة والخطاب الحاقد للحارس العام وجود طلبة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب. وبذكائها الملحوظ، استطاعت في ظرف وجيز أن تستكشف فضاء عملها وأن تدرك موطئ القدم المناسب لها..
من جانبنا، نور الدين وانا، لم نتوقف عن توجيهها ومساعدتها على ضبط إيقاع الدهليز وعتمته. وبذلك ربحنا ممرضة مناضلة في صمت..
أغْنينا فيما بعد ملفها الشخصي، وصرنا أقرب الى أمها وأبيها والى أخويها الفقيد عبد السلام وعز الدين وباقي أفراد العائلة...
لقد انفتحت على عالمنا بشهية نضالية متميزة..
وبالنظر الى أقدميتنا، أي ما يزيد عن خمس سنوات، ربطنا علاقات متينة مع عناصر الحراسة. وقد توطدت هذه العلاقات بعد صمودنا إثر عملية فرار الرفيق الطاهر الدريدي..
ونادرا ما كانت تمكت عناصر الحراسة بغرفتنا/زنزانتنا بسبب الروائح الكريهة، بالإضافة الى الثقة التي اكتسبناها بعد إدانتنا لعملية فرار رفيقنا الانفرادية والمفاجئة..
وفي ظل ذلك، أتيحت الفرصة أمام الطاقم الطبي للتواصل معنا بدون إزعاج أو ضغط. وفي كثير من الأحيان، كان التواصل يتم بعيدا عن أعين عناصر الحراسة وبعلمهم..
وإذاك، كانت فرصة ممرضتنا لتكثيف التواصل معنا وتلبية مطالبنا، ومنها توفير الجرائد والمجلات والكتب تحت ملابسها الداخلية.. ومن بين الكتب النادرة التي استطاعت توفيرها لنا كتاب "دار بريشة أو قصة مختطف" لمؤلفه المهدي المومني التّجْكاني (الطبعة الأولى سنة 1987)..
وقد وصلت قمة تضحية رفيقتنا أو ممرضتنا لما قبلت بفرح مقترح/مهمة زيارة عائلتي بمدينة مراكش..
وضعنا خُطة مُحكمة، خاصة أنها الزيارة الأولى لسفيرتنا الى مراكش. وتفاديا لأي مفاجأة غير سارّة، مثل مراقبة بيت الأُسرة من طرف الأعين الجاحظة والمبثوثة بكل مكان، كانت الوجهة بعيدة، أي منزل أختي سعيدة بدرب "سيدي بوحربة" بحي حارة الصورة..
لقد صنعنا الحدث. وصلت بطلتنا بأمان وتحدّت الخوف والرعب ليتمّ استقبالها كجندية عائدة من أرض المعركة بعد أن قدّمت أوراق اعتمادها المكتوبة بدمنا ودموعنا (دموع القوة) والمُتضمِّنة لإشارات معروفة فقط لدى الأُسرة الصغيرة تفاديا لأي شكوك أو حذر..
غمرت الفرحة قلوب أفراد أسرتي الصغيرة، وخاصة قلبي أمي وأبي، وعمت الفرحة الصامتة الأجواء. وتساءل الجميع: أي جرأة وأي شهامة هذه؟ كيف تُنسج هذه الملحمة في ظل القمع والحصار والترهيب...؟
وجوابنا: إنهم أبناء شعبنا الأحرار، وإنهن بنات شعبنا الحرائر، يصنعن/يصنعون "المعجزات"..
بعد شُحّْ المعلومة حول ظروفنا بدهاليز "موريزكو"، ولما يزيد عن خمس سنوات، تمكنت عائلتي من معرفة تفاصيل أيامنا، ليلا ونهارا، وكذلك "روتيننا" اليومي، بما في ذلك قضاء حاجتنا فوق الأَسِرّة وروائحنا الكريهة التي تُشْتمّ عن بُعد كيلومترات..
اطمأنّت عائلتي على مصيري عندما صِرت بين ذراعي حمامةٍ بيضاء وُلِدت هكذا فجأة. وتنافست الوالدة والوالد عن أيهما أحق بالفوز في "معركة" الدعاء لي بالخير والنصر..
وكتعبير مراكشي عن الحفاوة وحسن الضيافة والاعتراف بالجميل، بل والتضحية، زُيِّنت يدا حمامتنا بالحناء. وهو المؤشر الأول الدال على نجاح "مغامرتنا" المحسوبة..
صباح يوم اثنين من شهر غشت 1990، بل وطيلة أيام الرحلة، الجمعة والسبت والأحد، وخاصة ليلة الأحد/الاثنين، لم تر جفوننا النوم. كنا ننتظر سفيرتنا على أحر من الجمر، ولم تفارق الاحتمالات السيئة أذهاننا. كان فشل المهمة واردا طبعا وكذلك الإصابة بمكروه..
فُتح باب الغرفة/الزنزانة أخيرا، فكانت الابتسامة المعهودة والحناء أجمل تعبير عن هزم الجلاد والسجان معا. كنا ننتصر دائما، لأننا "محظوظان"، بل قويان..
لم نكن في حاجة الى شكر ممرضتنا الجميلة، لأنها باتت واحدة منا. استمر عطاؤها المادي والمعنوي بدون حدود وبسخاء مُنقطع النّظير. واخترنا لها لقب أسماء تفاديا لأي هفوة من طرفنا قد تكشف طبيعة علاقتنا بها. وللإشارة، فابنتنا البكر تحمل اسم أسماء تكريما للأم/الرفيقة المناضلة نعيمة الزيتوني واعترافا بتضحيتها..
وفي أحد أيام شهر شتنبر 1990، تم نقل الرفيق جوهاري الى غرفة الرفيق الدريدي بعد نقل هذا الأخير الى السجن المركزي بالقنيطرة..
رُبّ ضارّة نافعة، لقد أتيحت الفرصة أكثر أمام أسماء لتبوح بالكثير من أسرارها. وتُوّج ذلك في وقت وجيز بالحكاية الجميلة " قُلْ لي حاجة، أيٍّ حاجة"..
كان مساء يوم 12 أكتوبر 1990 هادئا، ومما زاد من سكونه تجمّع عناصر الحراسة بركن بدهليزنا للاستمتاع بلعبة الورق (jeux de cartes). علما أنه عند طرق باب الدهليز، كانت عناصر الحراسة تلتحق وبسرعة فائقة بغرفنا/زنازيننا لتمُرّ جولة المراقبة بسلام..
كان المساء ساكنا بالدهليز وبغرفتي/زنزانتي، وربما بالعالم أجمع. وعندما دخلت أسماء ازداد السكون سكونا، بل ازداد الخرس خرسا؛ وهو ما حدا بها لقول: " قُلْ لي حاجة، أيٍّ حاجة"..
وبنات وأبناء جيلي، جيل الأغاني الشرقية، يعرفون/فن بدون شك تتمّة الأغنية الساحرة..
"قل لي حاجة أي حاجة قل بحبَّك قل كرهتك
قول قول قول وما يهمّكشِ حاجة..."..
كان حِسُّ الرياضيات حاضرا (فْهمْتها طايْرة)؛ فكان يوم الجمعة 12 أكتوبر 1990 تاريخ ميلاد علاقتنا المُستمرّة، علاقة نضالية أكثر من أيِّ شيءٍ آخر..
هي رفيقتي الآن ودائماً الى جانب أسماء (مراكش) وسامية (مراكش) ويونس (شفشاون)..
إننا ننتصر دائماً، لأننا أقوياء ولأننا نحب قضية شعبنا..
وإلى بوح آخر...