كتابه "رؤى معرفية" محاولة لجعل الفلسفة محسوسة
كامل الهاشمي: الإنسان موجود ذو ثلاثة أبعاد في وحدة واحدة
حاوره – جعفر الديري:
سيد كامل الهاشمي عالم دين بحريني مهتم بالفلسفة الإسلامية، شغلته المعرفة الفلسفية منذ نعومة أظفاره وكانت النجوم تغريه بالتفكير الدائم في الكون وحقيقة الوجود. ظل لفترة من عمره يبحث عن صيغة فكرية فلسفية يحاول من خلالها تقديم ما هو خاص به من فكر وتوجهات حتى إذا منّ الله سبحانه وتعالى عليه بافتتاح الباب الذي ظل يطرقه كثيرا، تمكن أخيرا الخروج بتلك الصيغة التي كونت له عالمه ومشروعه الخاص الذي يتحرك من خلاله وهي صيغة عمادها مناح ثلاثة، الأول: بناء الأساس العقلي للفرد أو للانسان المسلم، الثاني بناء الاطار المشاعري والوجداني والنفسي والثالث بناء الاطار الحركي والعملي ومجال الممارسات.
هذه الصيغة - بحسب ما يصف أيضا - هي الفضاء الذي تحرك فيه كتابه الجديد «رؤى معرفية» والذي يكتسب أهميته لكونه يؤطر الصيغة السابقة ويدفع الى التفكير بأساليب جديدة في ايصال المعرفة والفلسفة الاسلامية، وهي طريقة تعتمد على الصورة التي تزيل الكثير من تعقيدات القول ومبهماته. وفي اللقاء الآتي إضاءة على مشروع الهاشمي الفكري وعلى كتابه الجديد...
مرحلة الاستقبال
* هل لنا أن نتعرف - بداية - على مشروع سيد كامل الهاشمي والفئات التي يتوجه اليها بخطابه؟
- هذا السؤال يعود بي إلى استعراض البدايات الفكرية والنشاط والانتاج الفكري وهو ما يعود بي بدوره الى مرحلة الاستقبال. فكل انسان يمر بهذه المرحلة التي كلما كانت وسيعة وعريضة ومتنوعة كانت مرحلة الارسال فيها أكثر تنوعاً وشمولية. في مرحلة الاستقبال التي أراها بدأت منذ تعلمي الكتابة والقراءة بل منذ أن تعلمت التفكير في الأشياء من حولي وقد بدأت منذ الصغر منذ أن وعيت الحياة ربما كان ذلك في العام السادس أو السابع من عمري حين كنت أفكر في الأشياء وأتطلع في النجوم وأقرأ قراءة مبكرة في مجلات الأطفال حين جمعت أعداداً كثيرة منها وكنت أوفر الكثير من أموالي كي أستطيع شراء الكثير من الكتيبات التي تمثل قصصاً وحكايات وحتى أسئلة فلسفية. فكانت قراءاتي متعددة في الشأن الفلسفي والأدبي والاجتماعي وفي علم النفس، وفي العلميات والأمور التقنية، في الدوريات التي كنت أقتنيها اسبوعيا وشهريا الى أن وصلت الى مرحلة توجيه المعرفة والمعلومة وهي المرحلة التي بدأت بالحوزة في العام 1980 بعد الانتهاء من الدراسة الثانوية. ففي هذه المرحلة بدأ شيء من التركيز- لا أقول انه تكون لدي مشروع تحددت معالمه ولكنه بدأ بالتركز أكثر بمعنى أنه تكوّن لدي ميل أكثر ناحية الدراسات الفلسفية والتعمق فيها وبحثها في أوجهها المختلفة وتناول مختلف الأبحاث من وجهة نظر فلسفية فكنت أخوض في الفقه والنحو والأصول ولكن بعقلية فلسفية، الى بداية التسعينات حين بدأ مشروعي بالتبلور في وضعه في اطار كما وضعته في كتابي الجديد «رؤى معرفية» وهو أن أعمل على مشروعي من مناح ثلاثة الأول بناء الأساس العقلي للفرد أو للانسان المسلم الثاني بناء الاطار المشاعري والوجداني والنفسي ومن ثم بناء الاطار الحركي والعملي ومجال الممارسات. وتلك فكرة أخذتها من فكرة فلسفية تتحرك وتقول بأن العوالم الوجودية التي يمثلها الانسان هي عوالم ثلاثة: عالم العقل وعالم المثال وعالم الحس، ليكون عندنا ثلاثة أجزاء لجهاز واحد، فكيف باستطاعتنا ايجاد هذه الأجزاء الثلاثة وكيف نعيد تركيبها بالشكل الصحيح؟! لأنها عادة ما تركّب بشكل خاطئ فلابد من أن نفككها أولا ثم نعيد تركيبها بشكل صحيح ثم نبدأ بالاستفادة منها ضمن عملية تركيبية توازن بين هذه الأبعاد الثلاثة وهو ما مثّل خلاصة مشروعي الذي أتحرك عليه اليوم في مختلف كتاباتي سواء كانت سياسية أو فكرية أو فلسفية، فلدي رؤية دائمة للتحرك على أساس أن هذا الانسان موجود ذو ثلاثة أبعاد في وحدة واحدة.
في الحج
* ومتى بدأت حكاية كتابكم الجديد «رؤى معرفية» وما خصوصيتها؟
* كنت أواجه مشكلة بعد تدفق سيل الأفكار عن هذه الرؤية التي اكتشفتها وكان ذلك في فترة الحج الى بيت الله الحرام في العام 1996 اذ تبلورت لدي الرؤية بشكل واضح وبدأت بحل أول مشكلة من خلال أول صورة رسمتها. بمعنى أن الأفكار كانت كثيرة وكنت أجد كلما أردت كتابة موضوع أن الأفكار تتسع والموضوع الذي يبدأ ورقة يتحول الى وريقات والوريقات الى مقال والمقال الى دراسة والدراسة الى كتاب، وليس من المعقول أن أحول كل فكرة أود طرحها الى كتاب اذ سأجد أنا شخصيا صعوبة في طرحها وكذلك المتلقي سيجد صعوبة في استيعابها فخطرت في بالي فكرة تحويل الفكرة الى صورة على أساس اختزال ألف كلمة في صورة واحدة وقد بدأتها فعلاً اذ كانت البداية في الحج في العام 1996 كما ذكرت حين وفقت الى اكتشاف موقع الصورة.
تصوير المعرفة
* توجهك الى الصورة هذا، هل يمكن تعميمه؟ وماذا عن المعرفة الحسية هل ووجهت بالرفض فعلا من قبل الثقافة الاسلامية؟
- إنني أتوجه من هذا الكتاب الى تصوير المعرفة، ليكون لدينا قسم أو مجال يسمى المعرفة التصويرية التي تقوم عليها اليوم الثقافة الحديثة من سينما ومسرح ومن أفلام ودراما اذ ان كلها تقوم على تحويل المعرفة الى صورة، اذ وجدت أننا في هذا المجال متخلفون جدا، في الوقت الذي نجد فيه القرآن الكريم يحفزنا لهذا الاتجاه، فالقرآن الكريم مشحون بالصور، كقوله تعالى «مثلُهُم كمثلِ الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون» (البقرة: 17) «أيودُّ أحدكم ان تكون له جنة من نخيل وأعناب» (البقرة: 266) اذ إنه دائما ما يجعل الانسان في صورة حسية، ان تتمثل قدرة القرآن الكريم - وهو من عند رب العزة والجلال- في تحويل المفردات المعنوية المجردة الى صور محسوسة يتفاعل معها الانسان على أساس أن الأفق الحسي هو أول الآفاق التعليمية التي توجد في كل البشر. وأيضا نحن نبدأ بالأفق الحسي فكأننا نعالج طفلا في احدى رياض الأطفال فلا نرده الى المجردات بل الى الحسيات ثم ننتقل من الحسيات الى المثاليات التي يوجد فيها بعض التجرد وبعض الحسية ثم ننتقل الى العالم المجرد عالم ادراك العقل للكليات. وأنا أيضا جئت من هذا السياق وحاولت أن أرتب معرفتي ونتائجي بطرحها بهذا الشكل. فكما ذكرت، فنحن نحاول أن ننزل المعرفة من معرفة مجردة الى معرفة حسية وهو الأسلوب التربوي، اذ اننا تارة نتكلم عن العملية التعليمية وتارة نتكلم عن العملية التربوية. فمسار العملية التربوية يبدأ من أسفل الى أعلى بخلاف العملية التعليمية التي تبدأ من أعلى الى أسفل بمعنى أنه توجد قناعات للانسان وهذه القناعات تتحول الى مشاعر ومن ثم الى ممارسات بينما أنت توجد في العملية التربوية ممارسات عند الانسان ربما لا يفقه حتى هو ما سببها، فتقول لابنك مثلا قم عند الساعة السادسة صباحا ونم عند الساعة الحادية عشرة فهو يتعود على النظام الذي تريد أن يتعود عليه ولكنك لم توصله اليه كفكرة وانما ممارسة. وهي التي سيشتاق اليها الانسان لأنه تعود عليها حين أصبحت عادة سلوكية وحين تحولت الى شوق انتقلت الى قناعة فكرية. فالمعرفة التي أريد انتاجها معرفة تخاطب الشخص الذي أريد أن يبنى من أسفل الى أعلى. ذلك أن لدينا نوعين من الاشكالات، اشكالات تربوية واشكالات معرفية وفي هذا الكتاب تطرقت الى اشكاليتين حين عالجتهما على أساس أن الكتاب كتاب تربوي ومعرفي، تربوي من حيث استخدام الصورة في ايجاد قناعات لدى القارئ يبلورها الى مشاعر ومن المشاعر الى الممارسات وهو من جهة أخرى حاول أن يعالج اشكالات معرفية من حيث كون هذا الانسان كتلة واحدة من الجسم ومن الحس أم هو حس وشعور أم هو حس وشعور وعقل وتلك هي الرؤية التي طرحتها. ولكن عندما نتحدث عن الجانب الحسي فان مسألة الحسية المعرفية واجهت انتكاستين خطيرتين في مسار الثقافة الاسلامية، المرحلة الأولى تتمثل في تخلّي الفلاسفة والمتكلمين وعلماء الاسلام التقليديين عما نسميه بالمعارف الحسية كالكيمياء والفيزياء والتكنولوجيا والطب التي كانت متداولة الى عهد الرئيس الشيخ ابن سينا. بعد ذلك ومنذ فترة الشيخ ملا صدرا وما تلاه وجدنا احتقارا لهذا الجانب الحسي بمعنى أن الفيلسوف لا بد أن ينشغل بالمجردات فلا يشتغل في الحسيات، لأن الحسيات تنتمي الى عالم زائل لا يتناسب مع شأن الفيلسوف وهذه نظرة خاطئة وكانت مسئولة عن تأخير الفكر الاسلامي الى أن أصبح فكرا معياريا فبدلا من أن ينتهي الى عقليات محددة يتفق عليها البشر كافة انتهى الى حسيات مجردة، فالثقافة المعيارية التي انتجت في الاسلام منذ القرن الخامس الهجري الى يومنا هذا هي ثقافة في الوسط فلا هي ثقافة سمعية يمكن التأكد منها بالحس ولا هي ثقافة عقلية متفق عليها بين كل البشر فهي مختصة في أكثر الأحوال بالمسلمين أو ربما بطائفة منهم.
مشكلة التعليم
* قرأت في الكتاب "أن حقيقة الوجود الانساني نفسه ظلت تشغل الفكر الانساني". ولا أتصور أن أحدا منا لم تطرأ على باله هذه الفكرة، ولكن تبدو أهميتها في هذا الوقت بالذات فكيف استطعت تقريبها من الأذهان أكثر؟
- هذا السؤال يمكن أن يفتح المجال للكلام عن مشكلات التعليم اليوم، والتي كتب فيها الكثير والتي بدأت تتوجه اليها المناهج التربوية بشكل كبير. وهي مشكلات التعليم وبتعبير أدق مشكلات التعبير. ومشكلة التعليم تعني أننا عندما نحاول تقديم معلومة الى شخص ما. فلنبدأ من أولى المراحل فحتى فيما يسمى بمراحل التعليم توجد كتب تعلم التفكير للمراحل الأساسية. بمعنى آخر أن مهمة تعليم التفكير أو التعليم ليست مهمة ترتبط بالثانوية أو الاعدادية أو الجامعة ولا حتى بالابتدائية بل إنها تبدأ من البيت، إذ إن الطفل الذي يعلم التفكير بشكل صحيح ومنطقي سيخرج الى المجتمع ويمارس دوره في الروضة بشكل منطقي وسيذهب بعد ذلك الى الاعدادية والثانوية وغيرها ويتعامل مع الأشياء على أساس أن هذا انسان يملك نسبة من القدرة ونسبة من العجز، فإذاً لن أتعامل معه على أساس أنه انسان مطلق ولا أتعامل معه عل أساس أنه انسان غير قادر فهو انسان به قدرة وبه عجز. فهذه الصورة وهذا النمط من التفكير حين يأخذه الطفل في البيت من أبيه... حين يقول له أنا أحقق لك بعض الأشياء وبعض الأشياء غير قادر على تحقيقها لك، لماذا؟ لأن تحقيق كل الأشياء معناه أنني افترض نفسي قادرا على كل شيء وهذا ليس واقعياً، وألا أحقق لك أي شيء معناه أنني أفترض نفسي بخيلا وهذه صفة ينبغي ألا تكون في الأب. فيضع له المعايير الفكرية في البداية، وهي معايير ستمشي مع الطفل وتنمو ليحولها من معايير حسية الى معايير تدخل في العلاقات العاطفية، فالحب والبغض سيضعهما أيضا ضمن اطارهما الصحيح. وبعد ذلك سيضع الحقائق العقلية، أن يثبت شيئاً أو ينفي شيئاً ضمن منطق العقل، وجود كوكب آخر خارج المجموعة الشمسية لن يكون شيئا لا يقبله عقل الانسان المسلم كما كان لا يقبله عقل الانسان الأوروبي قبل خمسمئة عام لأنه لا منافاة بين ذلك وبين العقل ولأن العقل تربى على أساس أن هناك محتملات ليس بالضرورة أن ندركها بالحس ولكن العقل لا يمانع من وجودها. أما وجود اله ثان فإن العقل أيضا يقول لا، فأنا أيضا لا أدركه ولا أحسه ولكن عقلي يقول إنه ليس من الممكن لأنه «لو كان فيهما آلهة الا الله لفسدتا» أو أي دليل عقلي آخر أتمسك به، فسنجد أن عملية التفكير نرجع اليها عملية تعليم المعرفة التي تبدأ من تعليم قواعد التفكير، بينما تبدأ في الفلسفة الإسلامية من تعليم قواعد الوجود. وهذا كما ذكرت وكما أشار حتى بعض الفلاسفة من المسلمين كالشيخ جواد آملي خطأ وقع في الفسلفة الإسلامية وليس في المعرفة الدينية. فالسؤال الأول هو سؤال المعرفة وليس سؤال الوجود وسؤال المعرفة ينقسم الى ثلاثة أقسام، وهي هل هناك واقع ووجود أم لا؟ فاذا أجبنا على هذا السؤال بلا فلن تتبقى للمعرفة أية قيمة اما اذا أجبنا على هذا السؤال بنعم انتقلنا الى السؤال الثاني وهو أنه بعد اثبات وجودات الأشياء واثبات وجود ما - الذي هو منطلق ديكارت في التفكير أنا افكر إذاً أنا موجود - فالأفترض أني أنا موجود، بعد ذلك هل هناك وسيلة لأن أدرك هذا الوجود أم لا؟ اذا قلت لي لا توجد وسيلة فأيضا سؤال المعرفة مغلق، فالوجود موجود ولكن ليست لدي وسيلة، فالكواكب موجودة ولكن ليس عندي ميكرسكوب يستطيع أن يكتشفها، فنحن نقول إن الواقع موجود ولدينا وسيلة لادراك هذا الواقع ثم السؤال الثالث وهو أنه بعد اثبات هذه الوسيلة هل أنها تثبت الواقع على ما هو عليه أم لا؟ ويجب أن نجيب على هذا السؤال بنعم فنحن لدينا واقع ولدينا وسيلة لادراك هذا الواقع والوسيلة تدرك هذا الواقع على ما هو عليه.
فلسفة محسوسة
* فهل نستطيع القول ان الكتاب محاولة لتوضيح مباحث الفلسفة وتجلياتها؟
- هو كذلك، فالفلسفة المجردة التي كان يصعب على الناس التعامل معها كثيرا حاولت أن أجعلها محسوسة وكذلك استخدمت الصورة من جهة أخرى لتحديد عناصرها، وسيجد القارئ دائما في الكتاب كله في الخمسة والخمسين ورقة المرسومة ثلاثية حاضرة ولماذا هذه الثلاثية لأنها أقل الجمع، اذ إن أقل جمع يتعامل معه الانسان ويستطيع أن يحفظه هو هذه الثلاثية.
تراث ضخم
* أودُّ منك أن تضيء لنا أكثر العبارة التي ذكرتها في الكتاب وهي "إن ما حملته الفلسفة الإسلامية طوال عهودها من معارف وتصورات عن حقائق الوجود يمثل ثروة معرفية كبيرة وغنية لم تعكس لحد اليوم في تراثنا الفكري والمعرفي بشكل عام".
- انها لمشكلة كبيرة كنت أحاول ومازلت أحاول تقديم شيء فيها وهو أنني شعرت من خلال دراستنا الطويلة للفلسفة في الحوزات أننا نتعامل مع تراث معرفي كبير ونتاج - ليس طبعا 1500 عام من عمر الإسلام لأننا نعرف أن الفلسفة الإسلامية هي امتداد للفسلفة اليونانية والفلسفة اليونانية تشكل بدايات التفلسف الانساني المكتوب فعندنا على أقل تقدير أكثر من خمسة آلاف عام - يدرسه الانسان في الحوزات وكأنه يجد عنده رصيد من مبلغ ضخم ولكن ليس هناك مشروع تجاري لاستثماره لأنه لا أحد يتعامل مع هذه البضاعة غير قلة قليلة في أسواق نادرة محدودة جدا كما هو اليوم عندنا في حوزة قم فحسب، فقد انحصرت الفلسفة في كل العالم الإسلامي في حوزة قم وشيء بسيط في حوزة مشهد وحوزة أصفهان وهذا معناه أن هذا التراث الكبير الضخم سيقل المعتنون به شيئا فشيئاً في الوقت الذي يشكل فيه هذا التراث لحد اليوم اجابات على أسئلة قائمة، فنحن حينما نرجع الى ديكارت سنجده قد طرح منظومة فلسفية ومات وهو يحمل أسئلة لم تحل وأفضل من كتب في هذا الشأن هو مهدي حائري الذي تخصص في فلسفة ديكارت والذي بين أن ديكارت توقف عند الكثير من المشكلات التي حلت في الفلسفة الإسلامية من قبل الحمل وبساطة الوجود والحركة الجوهرية فلو كان هذا التواصل موجوداً بين الشرق والغرب لكان هناك امكان لاستفادة الاثنين.
رؤى معرفية
السيد كامل الهاشمي:
"لقد أردت من خلال هذه المخططات والأوراق الفلسفية، أن أقدم للقارئ صورة مختصرة وواضحة عن مباحث الفلسفة الإسلامية في تجلياتها المختلفة، وفي ضوء النظرية التي تبنتها هذه الفلسفة بشأن الوجود والله والإنسان والعالم، فما حملته الفلسفة الإسلامية طوال عهودها من معارف وتصورات بشأن حقائق الوجود، يمثل ثروة معرفية كبيرة وغنية، لم تعكس - مع الأسف - لحد اليوم في تراثنا المعرفي والفكري بشكل عام، وربما كان من مظاهر الحيف والجور الذي لاقته هذه الفلسفة، أنها صورت كمجرد فلسفة غيبية لاهوتية لا تُعنى إلا بالبحث عن الحقائق الغيبية غير المنظورة وغير المحسوسة، وفي واقع الأمر أن مثل هذا التصور كان مجانباً للصواب أشد المجانبة، ففي الفلسفة الإسلامية نجد غنى وتنوعاً كبيرين، يتسعان ليشملا كل مناحي الوجود وأبعاده كما سيتضح لنا لاحقاً.
وانطلاقاً من ذلك سيلاحظ القارئ الكريم، أنني حاولت أن تستوعب المخططات والرسوم التي حواها هذا الكتاب شئوناً وقضايا حياتية تمتّ إلى الدرس الفلسفي بمعناه الأعم، والذي يشمل الله والإنسان والآخرة، وهي الثلاثية التي تنتظم تحتها كل مفردات الوجود؛ كما أن القارئ سيلاحظ أنني لم أقصر البحث في أي مخطط من المخططات، أو في أية ورقة من الأوراق على بعد منفرد من أبعاد الوجود، وذلك لأنني حاولت أن أعيش الوضوح في فكرتي عن الحقيقة الوجودية، وأسعى بكل جد للتعامل معها كما هي، من دون أن أفرض على هذه الحقيقة قصوراتي المعرفية وتقصيراتي العلمية، ولأجل ذلك أعتقد أن هذه الأوراق الفلسفية وما حملته من أفكار وتصورات، ستمنح لقارئها قدرة أكبر على تفهم وإدراك الكثير من مطالب الفلسفة، كما صيغت في المسار الفلسفي الإسلامي وعلى يد مجموعة كبيرة من الفلاسفة أمثال الكندي، الفارابي، ابن سينا، صدر المتألهين، وغيرهم من فلاسفة الإسلام.
وعلى رغم كوني أصف مضمون ما أطرحه من فلسفة بصفة «الإسلامية»، فإن ذلك لا يعني أبداً أنها فلسفة تنتمي إلى مرجعية دينية تفصلها عن أن تكون فلسفة عقلية لكل الناس، لأننا نرى أن الفلسفة في حقيقتها جهد معرفي يقوم به العقل الإنساني، الذي زوّده الله خالق العقل بقدرات شمولية تتيح لكل عاقل من الناس - إذا ما استخدم عقله ووظفه بشكل صحيح في استلهام العلم والمعرفة - أن يدرك هذه الحقائق الفلسفية الوجودية، ومن هنا نحن نرى أن النفس الإنسانية خلقت بشكل يسمح لها أن تنطلق في آفاق المعرفة العقلية إلى نقطة توحّد واتفاق، كما أنها تنطلق في آفاق الحركة الوجودية إلى نقطة وجودية واحدة، تلتقي عليها وتتوحد وهي الله عز وجل بوصفه الموجود الذي تتفق كل الموجودات في البدء منه والانتهاء إليه، ويهمني أن أنبه إلى أن كل واحد من هذه التصويرات وما رافقها من توضيحات مختصرة للغاية، جعلت في الأساس كدروس توضيحية مصورة تعتمد محاولة اختزال الفكرة ضمن صورة واحدة محددة الأجزاء، ما يمكّن القارئ لها أو الناظر فيها من سهولة استيعاب المضمون الأصلي للفكرة، ويبقى بعد ذلك المجال مفتوحاً أمام التوسع في شرح هذه التصويرات، والرجوع إلى مصادر ومراجع تتعلق بالصورة الأصل، وهذه المهمة تركناها للمدرس أو الشارح الذي سيهتم بإيضاح الأفكار التي انطوت عليها هذه التصويرات، ما يشكل منها وسائل إيضاح لمنظومة فكرية متكاملة في الثقافة الإسلامية، وقد يكون من المهم جداً لمن يريد أن يستوضح أبعاد الفكر الإسلامي، في مجالاته المختلفة - بشكل خاص ومعمق - أن يستوعب الأفكار المطروحة عبر هذه التصاوير، لأنها أرادت أن تحتل موقع القواعد الأساسية التي يقوم عليها بناء الفكر الإسلامي، أو هي بمثابة خلفيات ضرورية لتفهم وإدراك أبعاد الرؤية الإسلامية في المجالات المختلفة.
وربما يواجه القارئ بعض الصعوبة والتعقيد في إدراك بعض مطالب هذا الكتاب، لاشتمالها على مطالب فلسفية وعقلية، إلا أننا كنا مضطرين لذلك، ولم يكن بالإمكان تجاوز الحديث عن هذه المطالب، وذلك لأنها تشكل جزءاً من الصورة المعرفية للفكر الإسلامي، والتي أردنا إبرازها كمنظومة معرفية مترابطة الأجزاء ومتكاملة الأبعاد، وهي على رغم صعوبتها وتعقيدها فإنها تبقى جزءاً من النسيج المعرفي في الإسلام، وتحتل حيّزاً غير صغير من منظومته المعرفية، وهو ما يوجب على الإنسان أن يترقّى في مستواه المعرفي من أجل أن يستوعبها ويهضمها، وقد وصف الرسول الأكرم (ص) الإسلام بأنه دين عميق، يحتاج إلى توفر عدّة معرفية وافية للإنسان، وقوة إدراكية كافية، من أجل أن يتمَّ له استيعاب بعض أبعاده، فقال (ص) كما روي عنه: «إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، ولا تُكرِّهوا عبادة الله إلى عباد الله فتكونوا كالراكب المُنْبَتِّ الذي لا سفراً قطع ولا ظهراً أبقى» (محمدي الريشهري: ميزان الحكمة، ج2، ص1104). وأيّاً يكن فإنني أدع صوري المعرفية وشروحاتها تقدّم للقارئ ما أتبناه من رؤى وتصورات، على أمل أن أكون قد وفّقت في تبسيط وإيصال المعلومة الفلسفية والمعرفية، بكل تجلّياتها وأبعادها إلى التيار المثقف من شبابنا ومحبي العلم والمعرفة".
الجوهر الإنساني في مداراته الأربعة:
"لا يمكن لحركة الإنسان ومساراته العملية أن تفهم إلا حينما نستطيع أن نتفهم طبيعة العلاقات التي ينشئها هذا الإنسان مع كل ما يمكن أن يرتبط معه بعلاقة ما، وإذا ما أردنا أن نحصر تلك العلاقات فإننا سنجد أنها تتمحور حول أربعة محاور، هي ما أردنا أن نتحدث عنه، ونعطي توضيحاً مختصراً لطبيعة علاقة الإنسان بكل واحد من هذه المحاور الأربعة، التي يمكن أن تستقطب اهتمامه وحركته بالقول:
1- محورية الذات: هذا هو المدار الأول الذي يمكن للإنسان أن يدور في فلكه، فلا يخرج عنه ولا ينفلت من أسره وإكراهاته، وما ينتج عن اتخاذ الذات محوراً وهيمنتها على توجهات الإنسان، هو تعتيم الرؤية وضياع المقاييس المعرفية عند الإنسان، وهذا ما أفصح عنه الذكر الحكيم حينما عقب اتخاذ الذات محوراً بالصفات التي توحي بافتقاد العلم والمعرفة، قال تعالى: «أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضلُّ سبيلاً» (الفرقان: 43 - 44)، وقال: «أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون» (الجاثية: 23 - 24).
2 - محورية المجتمع: يتخذ بعض الناس بل ربما كثير من الناس من المجتمع مداراً ومحوراً لكل أفكارهم وقيمهم وممارساتهم، فالمجتمع هو الذي يزودهم بتلك الأمور وهو الذي يصيغ لهم مسارهم الحياتي وتوجهاتهم المعيشية، وقد تتمثل هيمنة المجتمع من خلال الوجهاء والكبراء، أو من خلال الآباء والأجداد، أو من خلال الأطر والمؤسسات، والتي تبلور وترسخ كلها قيماً ومسارات يصعب على الفرد الخروج منها، وقد ألمح القرآن الكريم إلى الكثير من مظاهر الهيمنة الاجتماعية وعمد إلى تفتيت مكوناتها واستلابها مشروعية فرض الرأي اللامعقول، فقال في ذمها: «وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداءً صم بكم عمي فهم لا يعقلون» (البقرة: 170 - 171).
3 - محورية الطبيعة: المدار الثالث الذي يدور حوله أكثر الناس ويستهويهم، هو مدار الطبيعة بكل تنوعاتها ومجالاتها، ويصطلح عليها القرآن الكريم بـ «الدنيا» أو «العاجلة»، فيقول تعالى: «كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة» (القيامة: 19 - 20)، ويقول: «وتأكلون التراث أكلا لما وتحبون المال حباً جماً» (الفجر: 20 - 21)، ويقول: «زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب» (آل عمران: 14)، وأهم ما تفرزه محورية الدنيا في تفكير الإنسان هو السطحية في التفكير، ولذلك يتحدث الله تعالى عن غالبية الناس بالقول: «وعْد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون» (الروم: 6 - 7).
4 - محورية الله تعالى: إذا ما اتخذ الإنسان من الله عز وجل محوراً".
المصدر: صحيفة الوسط البحرينية: العدد: 840 | الخميس 23 ديسمبر 2004م الموافق 15 جمادى الأولى 1441هـ.
كامل الهاشمي: الإنسان موجود ذو ثلاثة أبعاد في وحدة واحدة
حاوره – جعفر الديري:
سيد كامل الهاشمي عالم دين بحريني مهتم بالفلسفة الإسلامية، شغلته المعرفة الفلسفية منذ نعومة أظفاره وكانت النجوم تغريه بالتفكير الدائم في الكون وحقيقة الوجود. ظل لفترة من عمره يبحث عن صيغة فكرية فلسفية يحاول من خلالها تقديم ما هو خاص به من فكر وتوجهات حتى إذا منّ الله سبحانه وتعالى عليه بافتتاح الباب الذي ظل يطرقه كثيرا، تمكن أخيرا الخروج بتلك الصيغة التي كونت له عالمه ومشروعه الخاص الذي يتحرك من خلاله وهي صيغة عمادها مناح ثلاثة، الأول: بناء الأساس العقلي للفرد أو للانسان المسلم، الثاني بناء الاطار المشاعري والوجداني والنفسي والثالث بناء الاطار الحركي والعملي ومجال الممارسات.
هذه الصيغة - بحسب ما يصف أيضا - هي الفضاء الذي تحرك فيه كتابه الجديد «رؤى معرفية» والذي يكتسب أهميته لكونه يؤطر الصيغة السابقة ويدفع الى التفكير بأساليب جديدة في ايصال المعرفة والفلسفة الاسلامية، وهي طريقة تعتمد على الصورة التي تزيل الكثير من تعقيدات القول ومبهماته. وفي اللقاء الآتي إضاءة على مشروع الهاشمي الفكري وعلى كتابه الجديد...
مرحلة الاستقبال
* هل لنا أن نتعرف - بداية - على مشروع سيد كامل الهاشمي والفئات التي يتوجه اليها بخطابه؟
- هذا السؤال يعود بي إلى استعراض البدايات الفكرية والنشاط والانتاج الفكري وهو ما يعود بي بدوره الى مرحلة الاستقبال. فكل انسان يمر بهذه المرحلة التي كلما كانت وسيعة وعريضة ومتنوعة كانت مرحلة الارسال فيها أكثر تنوعاً وشمولية. في مرحلة الاستقبال التي أراها بدأت منذ تعلمي الكتابة والقراءة بل منذ أن تعلمت التفكير في الأشياء من حولي وقد بدأت منذ الصغر منذ أن وعيت الحياة ربما كان ذلك في العام السادس أو السابع من عمري حين كنت أفكر في الأشياء وأتطلع في النجوم وأقرأ قراءة مبكرة في مجلات الأطفال حين جمعت أعداداً كثيرة منها وكنت أوفر الكثير من أموالي كي أستطيع شراء الكثير من الكتيبات التي تمثل قصصاً وحكايات وحتى أسئلة فلسفية. فكانت قراءاتي متعددة في الشأن الفلسفي والأدبي والاجتماعي وفي علم النفس، وفي العلميات والأمور التقنية، في الدوريات التي كنت أقتنيها اسبوعيا وشهريا الى أن وصلت الى مرحلة توجيه المعرفة والمعلومة وهي المرحلة التي بدأت بالحوزة في العام 1980 بعد الانتهاء من الدراسة الثانوية. ففي هذه المرحلة بدأ شيء من التركيز- لا أقول انه تكون لدي مشروع تحددت معالمه ولكنه بدأ بالتركز أكثر بمعنى أنه تكوّن لدي ميل أكثر ناحية الدراسات الفلسفية والتعمق فيها وبحثها في أوجهها المختلفة وتناول مختلف الأبحاث من وجهة نظر فلسفية فكنت أخوض في الفقه والنحو والأصول ولكن بعقلية فلسفية، الى بداية التسعينات حين بدأ مشروعي بالتبلور في وضعه في اطار كما وضعته في كتابي الجديد «رؤى معرفية» وهو أن أعمل على مشروعي من مناح ثلاثة الأول بناء الأساس العقلي للفرد أو للانسان المسلم الثاني بناء الاطار المشاعري والوجداني والنفسي ومن ثم بناء الاطار الحركي والعملي ومجال الممارسات. وتلك فكرة أخذتها من فكرة فلسفية تتحرك وتقول بأن العوالم الوجودية التي يمثلها الانسان هي عوالم ثلاثة: عالم العقل وعالم المثال وعالم الحس، ليكون عندنا ثلاثة أجزاء لجهاز واحد، فكيف باستطاعتنا ايجاد هذه الأجزاء الثلاثة وكيف نعيد تركيبها بالشكل الصحيح؟! لأنها عادة ما تركّب بشكل خاطئ فلابد من أن نفككها أولا ثم نعيد تركيبها بشكل صحيح ثم نبدأ بالاستفادة منها ضمن عملية تركيبية توازن بين هذه الأبعاد الثلاثة وهو ما مثّل خلاصة مشروعي الذي أتحرك عليه اليوم في مختلف كتاباتي سواء كانت سياسية أو فكرية أو فلسفية، فلدي رؤية دائمة للتحرك على أساس أن هذا الانسان موجود ذو ثلاثة أبعاد في وحدة واحدة.
في الحج
* ومتى بدأت حكاية كتابكم الجديد «رؤى معرفية» وما خصوصيتها؟
* كنت أواجه مشكلة بعد تدفق سيل الأفكار عن هذه الرؤية التي اكتشفتها وكان ذلك في فترة الحج الى بيت الله الحرام في العام 1996 اذ تبلورت لدي الرؤية بشكل واضح وبدأت بحل أول مشكلة من خلال أول صورة رسمتها. بمعنى أن الأفكار كانت كثيرة وكنت أجد كلما أردت كتابة موضوع أن الأفكار تتسع والموضوع الذي يبدأ ورقة يتحول الى وريقات والوريقات الى مقال والمقال الى دراسة والدراسة الى كتاب، وليس من المعقول أن أحول كل فكرة أود طرحها الى كتاب اذ سأجد أنا شخصيا صعوبة في طرحها وكذلك المتلقي سيجد صعوبة في استيعابها فخطرت في بالي فكرة تحويل الفكرة الى صورة على أساس اختزال ألف كلمة في صورة واحدة وقد بدأتها فعلاً اذ كانت البداية في الحج في العام 1996 كما ذكرت حين وفقت الى اكتشاف موقع الصورة.
تصوير المعرفة
* توجهك الى الصورة هذا، هل يمكن تعميمه؟ وماذا عن المعرفة الحسية هل ووجهت بالرفض فعلا من قبل الثقافة الاسلامية؟
- إنني أتوجه من هذا الكتاب الى تصوير المعرفة، ليكون لدينا قسم أو مجال يسمى المعرفة التصويرية التي تقوم عليها اليوم الثقافة الحديثة من سينما ومسرح ومن أفلام ودراما اذ ان كلها تقوم على تحويل المعرفة الى صورة، اذ وجدت أننا في هذا المجال متخلفون جدا، في الوقت الذي نجد فيه القرآن الكريم يحفزنا لهذا الاتجاه، فالقرآن الكريم مشحون بالصور، كقوله تعالى «مثلُهُم كمثلِ الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون» (البقرة: 17) «أيودُّ أحدكم ان تكون له جنة من نخيل وأعناب» (البقرة: 266) اذ إنه دائما ما يجعل الانسان في صورة حسية، ان تتمثل قدرة القرآن الكريم - وهو من عند رب العزة والجلال- في تحويل المفردات المعنوية المجردة الى صور محسوسة يتفاعل معها الانسان على أساس أن الأفق الحسي هو أول الآفاق التعليمية التي توجد في كل البشر. وأيضا نحن نبدأ بالأفق الحسي فكأننا نعالج طفلا في احدى رياض الأطفال فلا نرده الى المجردات بل الى الحسيات ثم ننتقل من الحسيات الى المثاليات التي يوجد فيها بعض التجرد وبعض الحسية ثم ننتقل الى العالم المجرد عالم ادراك العقل للكليات. وأنا أيضا جئت من هذا السياق وحاولت أن أرتب معرفتي ونتائجي بطرحها بهذا الشكل. فكما ذكرت، فنحن نحاول أن ننزل المعرفة من معرفة مجردة الى معرفة حسية وهو الأسلوب التربوي، اذ اننا تارة نتكلم عن العملية التعليمية وتارة نتكلم عن العملية التربوية. فمسار العملية التربوية يبدأ من أسفل الى أعلى بخلاف العملية التعليمية التي تبدأ من أعلى الى أسفل بمعنى أنه توجد قناعات للانسان وهذه القناعات تتحول الى مشاعر ومن ثم الى ممارسات بينما أنت توجد في العملية التربوية ممارسات عند الانسان ربما لا يفقه حتى هو ما سببها، فتقول لابنك مثلا قم عند الساعة السادسة صباحا ونم عند الساعة الحادية عشرة فهو يتعود على النظام الذي تريد أن يتعود عليه ولكنك لم توصله اليه كفكرة وانما ممارسة. وهي التي سيشتاق اليها الانسان لأنه تعود عليها حين أصبحت عادة سلوكية وحين تحولت الى شوق انتقلت الى قناعة فكرية. فالمعرفة التي أريد انتاجها معرفة تخاطب الشخص الذي أريد أن يبنى من أسفل الى أعلى. ذلك أن لدينا نوعين من الاشكالات، اشكالات تربوية واشكالات معرفية وفي هذا الكتاب تطرقت الى اشكاليتين حين عالجتهما على أساس أن الكتاب كتاب تربوي ومعرفي، تربوي من حيث استخدام الصورة في ايجاد قناعات لدى القارئ يبلورها الى مشاعر ومن المشاعر الى الممارسات وهو من جهة أخرى حاول أن يعالج اشكالات معرفية من حيث كون هذا الانسان كتلة واحدة من الجسم ومن الحس أم هو حس وشعور أم هو حس وشعور وعقل وتلك هي الرؤية التي طرحتها. ولكن عندما نتحدث عن الجانب الحسي فان مسألة الحسية المعرفية واجهت انتكاستين خطيرتين في مسار الثقافة الاسلامية، المرحلة الأولى تتمثل في تخلّي الفلاسفة والمتكلمين وعلماء الاسلام التقليديين عما نسميه بالمعارف الحسية كالكيمياء والفيزياء والتكنولوجيا والطب التي كانت متداولة الى عهد الرئيس الشيخ ابن سينا. بعد ذلك ومنذ فترة الشيخ ملا صدرا وما تلاه وجدنا احتقارا لهذا الجانب الحسي بمعنى أن الفيلسوف لا بد أن ينشغل بالمجردات فلا يشتغل في الحسيات، لأن الحسيات تنتمي الى عالم زائل لا يتناسب مع شأن الفيلسوف وهذه نظرة خاطئة وكانت مسئولة عن تأخير الفكر الاسلامي الى أن أصبح فكرا معياريا فبدلا من أن ينتهي الى عقليات محددة يتفق عليها البشر كافة انتهى الى حسيات مجردة، فالثقافة المعيارية التي انتجت في الاسلام منذ القرن الخامس الهجري الى يومنا هذا هي ثقافة في الوسط فلا هي ثقافة سمعية يمكن التأكد منها بالحس ولا هي ثقافة عقلية متفق عليها بين كل البشر فهي مختصة في أكثر الأحوال بالمسلمين أو ربما بطائفة منهم.
مشكلة التعليم
* قرأت في الكتاب "أن حقيقة الوجود الانساني نفسه ظلت تشغل الفكر الانساني". ولا أتصور أن أحدا منا لم تطرأ على باله هذه الفكرة، ولكن تبدو أهميتها في هذا الوقت بالذات فكيف استطعت تقريبها من الأذهان أكثر؟
- هذا السؤال يمكن أن يفتح المجال للكلام عن مشكلات التعليم اليوم، والتي كتب فيها الكثير والتي بدأت تتوجه اليها المناهج التربوية بشكل كبير. وهي مشكلات التعليم وبتعبير أدق مشكلات التعبير. ومشكلة التعليم تعني أننا عندما نحاول تقديم معلومة الى شخص ما. فلنبدأ من أولى المراحل فحتى فيما يسمى بمراحل التعليم توجد كتب تعلم التفكير للمراحل الأساسية. بمعنى آخر أن مهمة تعليم التفكير أو التعليم ليست مهمة ترتبط بالثانوية أو الاعدادية أو الجامعة ولا حتى بالابتدائية بل إنها تبدأ من البيت، إذ إن الطفل الذي يعلم التفكير بشكل صحيح ومنطقي سيخرج الى المجتمع ويمارس دوره في الروضة بشكل منطقي وسيذهب بعد ذلك الى الاعدادية والثانوية وغيرها ويتعامل مع الأشياء على أساس أن هذا انسان يملك نسبة من القدرة ونسبة من العجز، فإذاً لن أتعامل معه على أساس أنه انسان مطلق ولا أتعامل معه عل أساس أنه انسان غير قادر فهو انسان به قدرة وبه عجز. فهذه الصورة وهذا النمط من التفكير حين يأخذه الطفل في البيت من أبيه... حين يقول له أنا أحقق لك بعض الأشياء وبعض الأشياء غير قادر على تحقيقها لك، لماذا؟ لأن تحقيق كل الأشياء معناه أنني افترض نفسي قادرا على كل شيء وهذا ليس واقعياً، وألا أحقق لك أي شيء معناه أنني أفترض نفسي بخيلا وهذه صفة ينبغي ألا تكون في الأب. فيضع له المعايير الفكرية في البداية، وهي معايير ستمشي مع الطفل وتنمو ليحولها من معايير حسية الى معايير تدخل في العلاقات العاطفية، فالحب والبغض سيضعهما أيضا ضمن اطارهما الصحيح. وبعد ذلك سيضع الحقائق العقلية، أن يثبت شيئاً أو ينفي شيئاً ضمن منطق العقل، وجود كوكب آخر خارج المجموعة الشمسية لن يكون شيئا لا يقبله عقل الانسان المسلم كما كان لا يقبله عقل الانسان الأوروبي قبل خمسمئة عام لأنه لا منافاة بين ذلك وبين العقل ولأن العقل تربى على أساس أن هناك محتملات ليس بالضرورة أن ندركها بالحس ولكن العقل لا يمانع من وجودها. أما وجود اله ثان فإن العقل أيضا يقول لا، فأنا أيضا لا أدركه ولا أحسه ولكن عقلي يقول إنه ليس من الممكن لأنه «لو كان فيهما آلهة الا الله لفسدتا» أو أي دليل عقلي آخر أتمسك به، فسنجد أن عملية التفكير نرجع اليها عملية تعليم المعرفة التي تبدأ من تعليم قواعد التفكير، بينما تبدأ في الفلسفة الإسلامية من تعليم قواعد الوجود. وهذا كما ذكرت وكما أشار حتى بعض الفلاسفة من المسلمين كالشيخ جواد آملي خطأ وقع في الفسلفة الإسلامية وليس في المعرفة الدينية. فالسؤال الأول هو سؤال المعرفة وليس سؤال الوجود وسؤال المعرفة ينقسم الى ثلاثة أقسام، وهي هل هناك واقع ووجود أم لا؟ فاذا أجبنا على هذا السؤال بلا فلن تتبقى للمعرفة أية قيمة اما اذا أجبنا على هذا السؤال بنعم انتقلنا الى السؤال الثاني وهو أنه بعد اثبات وجودات الأشياء واثبات وجود ما - الذي هو منطلق ديكارت في التفكير أنا افكر إذاً أنا موجود - فالأفترض أني أنا موجود، بعد ذلك هل هناك وسيلة لأن أدرك هذا الوجود أم لا؟ اذا قلت لي لا توجد وسيلة فأيضا سؤال المعرفة مغلق، فالوجود موجود ولكن ليست لدي وسيلة، فالكواكب موجودة ولكن ليس عندي ميكرسكوب يستطيع أن يكتشفها، فنحن نقول إن الواقع موجود ولدينا وسيلة لادراك هذا الواقع ثم السؤال الثالث وهو أنه بعد اثبات هذه الوسيلة هل أنها تثبت الواقع على ما هو عليه أم لا؟ ويجب أن نجيب على هذا السؤال بنعم فنحن لدينا واقع ولدينا وسيلة لادراك هذا الواقع والوسيلة تدرك هذا الواقع على ما هو عليه.
فلسفة محسوسة
* فهل نستطيع القول ان الكتاب محاولة لتوضيح مباحث الفلسفة وتجلياتها؟
- هو كذلك، فالفلسفة المجردة التي كان يصعب على الناس التعامل معها كثيرا حاولت أن أجعلها محسوسة وكذلك استخدمت الصورة من جهة أخرى لتحديد عناصرها، وسيجد القارئ دائما في الكتاب كله في الخمسة والخمسين ورقة المرسومة ثلاثية حاضرة ولماذا هذه الثلاثية لأنها أقل الجمع، اذ إن أقل جمع يتعامل معه الانسان ويستطيع أن يحفظه هو هذه الثلاثية.
تراث ضخم
* أودُّ منك أن تضيء لنا أكثر العبارة التي ذكرتها في الكتاب وهي "إن ما حملته الفلسفة الإسلامية طوال عهودها من معارف وتصورات عن حقائق الوجود يمثل ثروة معرفية كبيرة وغنية لم تعكس لحد اليوم في تراثنا الفكري والمعرفي بشكل عام".
- انها لمشكلة كبيرة كنت أحاول ومازلت أحاول تقديم شيء فيها وهو أنني شعرت من خلال دراستنا الطويلة للفلسفة في الحوزات أننا نتعامل مع تراث معرفي كبير ونتاج - ليس طبعا 1500 عام من عمر الإسلام لأننا نعرف أن الفلسفة الإسلامية هي امتداد للفسلفة اليونانية والفلسفة اليونانية تشكل بدايات التفلسف الانساني المكتوب فعندنا على أقل تقدير أكثر من خمسة آلاف عام - يدرسه الانسان في الحوزات وكأنه يجد عنده رصيد من مبلغ ضخم ولكن ليس هناك مشروع تجاري لاستثماره لأنه لا أحد يتعامل مع هذه البضاعة غير قلة قليلة في أسواق نادرة محدودة جدا كما هو اليوم عندنا في حوزة قم فحسب، فقد انحصرت الفلسفة في كل العالم الإسلامي في حوزة قم وشيء بسيط في حوزة مشهد وحوزة أصفهان وهذا معناه أن هذا التراث الكبير الضخم سيقل المعتنون به شيئا فشيئاً في الوقت الذي يشكل فيه هذا التراث لحد اليوم اجابات على أسئلة قائمة، فنحن حينما نرجع الى ديكارت سنجده قد طرح منظومة فلسفية ومات وهو يحمل أسئلة لم تحل وأفضل من كتب في هذا الشأن هو مهدي حائري الذي تخصص في فلسفة ديكارت والذي بين أن ديكارت توقف عند الكثير من المشكلات التي حلت في الفلسفة الإسلامية من قبل الحمل وبساطة الوجود والحركة الجوهرية فلو كان هذا التواصل موجوداً بين الشرق والغرب لكان هناك امكان لاستفادة الاثنين.
رؤى معرفية
السيد كامل الهاشمي:
"لقد أردت من خلال هذه المخططات والأوراق الفلسفية، أن أقدم للقارئ صورة مختصرة وواضحة عن مباحث الفلسفة الإسلامية في تجلياتها المختلفة، وفي ضوء النظرية التي تبنتها هذه الفلسفة بشأن الوجود والله والإنسان والعالم، فما حملته الفلسفة الإسلامية طوال عهودها من معارف وتصورات بشأن حقائق الوجود، يمثل ثروة معرفية كبيرة وغنية، لم تعكس - مع الأسف - لحد اليوم في تراثنا المعرفي والفكري بشكل عام، وربما كان من مظاهر الحيف والجور الذي لاقته هذه الفلسفة، أنها صورت كمجرد فلسفة غيبية لاهوتية لا تُعنى إلا بالبحث عن الحقائق الغيبية غير المنظورة وغير المحسوسة، وفي واقع الأمر أن مثل هذا التصور كان مجانباً للصواب أشد المجانبة، ففي الفلسفة الإسلامية نجد غنى وتنوعاً كبيرين، يتسعان ليشملا كل مناحي الوجود وأبعاده كما سيتضح لنا لاحقاً.
وانطلاقاً من ذلك سيلاحظ القارئ الكريم، أنني حاولت أن تستوعب المخططات والرسوم التي حواها هذا الكتاب شئوناً وقضايا حياتية تمتّ إلى الدرس الفلسفي بمعناه الأعم، والذي يشمل الله والإنسان والآخرة، وهي الثلاثية التي تنتظم تحتها كل مفردات الوجود؛ كما أن القارئ سيلاحظ أنني لم أقصر البحث في أي مخطط من المخططات، أو في أية ورقة من الأوراق على بعد منفرد من أبعاد الوجود، وذلك لأنني حاولت أن أعيش الوضوح في فكرتي عن الحقيقة الوجودية، وأسعى بكل جد للتعامل معها كما هي، من دون أن أفرض على هذه الحقيقة قصوراتي المعرفية وتقصيراتي العلمية، ولأجل ذلك أعتقد أن هذه الأوراق الفلسفية وما حملته من أفكار وتصورات، ستمنح لقارئها قدرة أكبر على تفهم وإدراك الكثير من مطالب الفلسفة، كما صيغت في المسار الفلسفي الإسلامي وعلى يد مجموعة كبيرة من الفلاسفة أمثال الكندي، الفارابي، ابن سينا، صدر المتألهين، وغيرهم من فلاسفة الإسلام.
وعلى رغم كوني أصف مضمون ما أطرحه من فلسفة بصفة «الإسلامية»، فإن ذلك لا يعني أبداً أنها فلسفة تنتمي إلى مرجعية دينية تفصلها عن أن تكون فلسفة عقلية لكل الناس، لأننا نرى أن الفلسفة في حقيقتها جهد معرفي يقوم به العقل الإنساني، الذي زوّده الله خالق العقل بقدرات شمولية تتيح لكل عاقل من الناس - إذا ما استخدم عقله ووظفه بشكل صحيح في استلهام العلم والمعرفة - أن يدرك هذه الحقائق الفلسفية الوجودية، ومن هنا نحن نرى أن النفس الإنسانية خلقت بشكل يسمح لها أن تنطلق في آفاق المعرفة العقلية إلى نقطة توحّد واتفاق، كما أنها تنطلق في آفاق الحركة الوجودية إلى نقطة وجودية واحدة، تلتقي عليها وتتوحد وهي الله عز وجل بوصفه الموجود الذي تتفق كل الموجودات في البدء منه والانتهاء إليه، ويهمني أن أنبه إلى أن كل واحد من هذه التصويرات وما رافقها من توضيحات مختصرة للغاية، جعلت في الأساس كدروس توضيحية مصورة تعتمد محاولة اختزال الفكرة ضمن صورة واحدة محددة الأجزاء، ما يمكّن القارئ لها أو الناظر فيها من سهولة استيعاب المضمون الأصلي للفكرة، ويبقى بعد ذلك المجال مفتوحاً أمام التوسع في شرح هذه التصويرات، والرجوع إلى مصادر ومراجع تتعلق بالصورة الأصل، وهذه المهمة تركناها للمدرس أو الشارح الذي سيهتم بإيضاح الأفكار التي انطوت عليها هذه التصويرات، ما يشكل منها وسائل إيضاح لمنظومة فكرية متكاملة في الثقافة الإسلامية، وقد يكون من المهم جداً لمن يريد أن يستوضح أبعاد الفكر الإسلامي، في مجالاته المختلفة - بشكل خاص ومعمق - أن يستوعب الأفكار المطروحة عبر هذه التصاوير، لأنها أرادت أن تحتل موقع القواعد الأساسية التي يقوم عليها بناء الفكر الإسلامي، أو هي بمثابة خلفيات ضرورية لتفهم وإدراك أبعاد الرؤية الإسلامية في المجالات المختلفة.
وربما يواجه القارئ بعض الصعوبة والتعقيد في إدراك بعض مطالب هذا الكتاب، لاشتمالها على مطالب فلسفية وعقلية، إلا أننا كنا مضطرين لذلك، ولم يكن بالإمكان تجاوز الحديث عن هذه المطالب، وذلك لأنها تشكل جزءاً من الصورة المعرفية للفكر الإسلامي، والتي أردنا إبرازها كمنظومة معرفية مترابطة الأجزاء ومتكاملة الأبعاد، وهي على رغم صعوبتها وتعقيدها فإنها تبقى جزءاً من النسيج المعرفي في الإسلام، وتحتل حيّزاً غير صغير من منظومته المعرفية، وهو ما يوجب على الإنسان أن يترقّى في مستواه المعرفي من أجل أن يستوعبها ويهضمها، وقد وصف الرسول الأكرم (ص) الإسلام بأنه دين عميق، يحتاج إلى توفر عدّة معرفية وافية للإنسان، وقوة إدراكية كافية، من أجل أن يتمَّ له استيعاب بعض أبعاده، فقال (ص) كما روي عنه: «إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، ولا تُكرِّهوا عبادة الله إلى عباد الله فتكونوا كالراكب المُنْبَتِّ الذي لا سفراً قطع ولا ظهراً أبقى» (محمدي الريشهري: ميزان الحكمة، ج2، ص1104). وأيّاً يكن فإنني أدع صوري المعرفية وشروحاتها تقدّم للقارئ ما أتبناه من رؤى وتصورات، على أمل أن أكون قد وفّقت في تبسيط وإيصال المعلومة الفلسفية والمعرفية، بكل تجلّياتها وأبعادها إلى التيار المثقف من شبابنا ومحبي العلم والمعرفة".
الجوهر الإنساني في مداراته الأربعة:
"لا يمكن لحركة الإنسان ومساراته العملية أن تفهم إلا حينما نستطيع أن نتفهم طبيعة العلاقات التي ينشئها هذا الإنسان مع كل ما يمكن أن يرتبط معه بعلاقة ما، وإذا ما أردنا أن نحصر تلك العلاقات فإننا سنجد أنها تتمحور حول أربعة محاور، هي ما أردنا أن نتحدث عنه، ونعطي توضيحاً مختصراً لطبيعة علاقة الإنسان بكل واحد من هذه المحاور الأربعة، التي يمكن أن تستقطب اهتمامه وحركته بالقول:
1- محورية الذات: هذا هو المدار الأول الذي يمكن للإنسان أن يدور في فلكه، فلا يخرج عنه ولا ينفلت من أسره وإكراهاته، وما ينتج عن اتخاذ الذات محوراً وهيمنتها على توجهات الإنسان، هو تعتيم الرؤية وضياع المقاييس المعرفية عند الإنسان، وهذا ما أفصح عنه الذكر الحكيم حينما عقب اتخاذ الذات محوراً بالصفات التي توحي بافتقاد العلم والمعرفة، قال تعالى: «أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضلُّ سبيلاً» (الفرقان: 43 - 44)، وقال: «أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون» (الجاثية: 23 - 24).
2 - محورية المجتمع: يتخذ بعض الناس بل ربما كثير من الناس من المجتمع مداراً ومحوراً لكل أفكارهم وقيمهم وممارساتهم، فالمجتمع هو الذي يزودهم بتلك الأمور وهو الذي يصيغ لهم مسارهم الحياتي وتوجهاتهم المعيشية، وقد تتمثل هيمنة المجتمع من خلال الوجهاء والكبراء، أو من خلال الآباء والأجداد، أو من خلال الأطر والمؤسسات، والتي تبلور وترسخ كلها قيماً ومسارات يصعب على الفرد الخروج منها، وقد ألمح القرآن الكريم إلى الكثير من مظاهر الهيمنة الاجتماعية وعمد إلى تفتيت مكوناتها واستلابها مشروعية فرض الرأي اللامعقول، فقال في ذمها: «وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداءً صم بكم عمي فهم لا يعقلون» (البقرة: 170 - 171).
3 - محورية الطبيعة: المدار الثالث الذي يدور حوله أكثر الناس ويستهويهم، هو مدار الطبيعة بكل تنوعاتها ومجالاتها، ويصطلح عليها القرآن الكريم بـ «الدنيا» أو «العاجلة»، فيقول تعالى: «كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة» (القيامة: 19 - 20)، ويقول: «وتأكلون التراث أكلا لما وتحبون المال حباً جماً» (الفجر: 20 - 21)، ويقول: «زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب» (آل عمران: 14)، وأهم ما تفرزه محورية الدنيا في تفكير الإنسان هو السطحية في التفكير، ولذلك يتحدث الله تعالى عن غالبية الناس بالقول: «وعْد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون» (الروم: 6 - 7).
4 - محورية الله تعالى: إذا ما اتخذ الإنسان من الله عز وجل محوراً".
المصدر: صحيفة الوسط البحرينية: العدد: 840 | الخميس 23 ديسمبر 2004م الموافق 15 جمادى الأولى 1441هـ.